مذابح غزّة وسفر التكوين

هل يعقل أنّ سفر التكوين، أوّل أسفار العهد القديم وأحد أسفار موسى الخمسة، استبق/ تنبأ قبل 3000 إلى 5000 سنة قبل الميلاد، بأحداث وقعت في القرن العشرين؛ مثل اغتيال جون وروبرت كنيدي، تفجير أوكلاهوما، انتخاب بيل كلنتون، فضيحة واترغيت، الهولوكوست، هيروشيما، الهبوط على القمر، اغتيال أنور السادات وإسحق رابين…؟

عند الصحافي الأمريكي مايكل دروسنين (1946ـ2020)، صاحب الكتاب الشهير «كود التوراة»، 1997؛ هذا كله، وسواه كثير، لا يعقل فقط، بل هو منصوص عنه في شيفرات سرّية تمكن عالم الرياضيات اللاتفي ـ الإسرائيلي إلياهو ريبس، من كشفها حين حلّ ألغازها المبطنة وفكّ رموزها الخفية، وذلك باستخدام الكمبيوتر وابتكار نظرية «سياقات الحرف متساوي الأبعاد»؛ حيث أخضع 304,805 من حروف سفر التكوني، النسخة العبرية، لمنهجية حذف الهوامش بين الكلمات والفقرات، وحذف عدد من الحروف التي تتكرر عند أية نقطة ابتدائية… وليس هنا مقام الاستفاضة في استعراض الطريقة، ولكن قد يكفي القول بأنّ أبحاث ريبس وزميليه في الجامعة العبرية بالقدس يوآف روزنبرغ ودورون وتزمان، نُشرت سنة 1994 في المجلة العلمية المحكّمة Statistical Science.

هنا انقضّ دروسنين على الملفّ وخرج بكتابه الذي صار، سريعاً كما للمرء أن يتخيل، الأكثر مبيعاً ورواجاً ومراجعة وتعليقاً؛ خاصة وأنه احتوى منذ المقدمة وفي سطوره الأولى، على هذه الحكاية: في 1 أيلول (سبتمبر) سافر إلى دولة الاحتلال، وأوصل رسالة إلى إسحق رابين مفادها أنّ اسم الأخير الكامل يتردد (طبقاً لأبحاث ريبس) مشفّراً في التوراة، مقترناً بكلمات «قاتل سوف يقتلُ» صاحب الاسم، حرفياً. وطالب دروسنين أن يؤخذ التهديد على محمل الجدّ، لأنّ كود التوراة الذي استخلصه ريبس احتوى أيضاً على اغتيال السادات، بل ذكر بالحرف الاسم الأوّل والثاني لقاتل الرئيس المصري الأسبق. التتمة، الدراماتيكية بالطبع، أنّ رابين اغتيل بالفعل بعد سنة، في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995؛ وبالتالي كان صدور «كود التوراة» بمثابة استثمار أقصى لرياضيات ريبس وصحبه.

علماء رياضيات آخرون في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، ترددوا بادئ ذي بدء في تفنيد خلاصات ريبس، لأسباب غير بعيدة عن حساسية الملفّ بالنظر إلى موقع العهد القديم في الوجدان الديني الغربي العريض، ثمّ تأخروا زمناً إضافياً قبل أن يتنادوا للتصدي لتلك الأبحاث على نحو علمي صارم؛ ما اضطرّ مجلة Statistical Science ذاتها إلى نشر مادّة مطوّلة شغلت 45 صفحة، تفنّد بالتفصيل جميع استنتاجات ريبس وشيفراته. الأخير، من جانبه، لم يجد مفرّاً من تنزيه نفسه عن كتاب «كود التوراة»، معتبراً أنه «يتأسس على أرضية مهزوزة ولا قيمة له»؛ لكنه لم يسحب تنظيراته حول الشيفرات التي اكتشفها في العهد القديم، ضمن منهجية «سياقات الحرف متساوي الأبعاد» إياها.

وظلّ محطّ إحراج بالغ أن يفسّر ريبس ما استخلصه كتاب الصحافي الأمريكي حول «هولوكوست نووي» سوف تتعرّض له أرجاء أرض الميعاد خلال الحقبة ذاتها التي ستشهد/ شهدت بالفعل مصافحة ياسر عرفات وإسحق رابين («بعد 4000 سنة من العداء بين العرب واليهود» كما يقول)، ثمّ اغتيال رابين وصعود بنيامين نتنياهو، ولقاء الصحافي مع بنصهيون نتنياهو والد رئيس حكومة الاحتلال، وسخرية الأخير من فكرة وجود كود توراتي يحذر من هولوكوست نووي… والأب وعد بنقل المعلومات إلى ابنه، فرفض الأخير اللقاء مع الصحافي الأمريكي؛ لأنّ «بيبي ليس متصوفاً، وهو عملي للغاية، شديد العناد، وببساطة لا يؤمن بهذا».

ويَعجب دروسنين من قلّة اكتراث نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، رغم أنّ سفر أشعياء، 9: 11ـ14 يقول: «فيرفع الربّ أخصام رصين عليه ويهيج أعداءه/ الأراميين من قدام والفلسطينيون من وراء، فيأكلون إسرائيل بكل الفم. مع كل هذا لم يرتد غضبه، بل يده ممدودة بعد/ والشعب لم يرجع إلى ضاربه ولم يطلب ربّ الجنود/ فيقطع الربّ من إسرائيل الرأس والذنب، النخل والأسل، في يوم واحد»! لكنّ نتنياهو هو نفسه الذي سيقتبس من سفر أشعياء، ولكن يوم 25 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، ويحثّ جنود الاحتلال على اجتياح قطاع غزّة، وقتال العماليق، تحت شعار «نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام».

مناسبة عودة هذه السطور إلى ريبس وشيفرات سفر الخروج هي رحيله مؤخراً في القدس المحتلة، بعد معاناة مع سرطان المعدة. والموادّ التي كُتبت في رثائه، خاصة ما نُشر في الصحافة الإسرائيلية، لم تتقصد منح عالم الرياضيات فضيلة الشكّ في صحّة خلاصاته، بمعنى المصادقة الجزئية أو حتى الكلية على الرسائل المبطنة، فحسب؛ بل شددت عن سابق قصد وتصميم، على أنه إنما كان يُخلص الوفاء لتقليد يهودي قديم حول «النصّ المخفيّ»، وخاصة في أسفار موسى الخمسة.

لا أحد، مع ذلك، تطرق إلى حكاية الهولوكوست النووي، تفادياً أغلب الظنّ لمواجهة هذه المقاربة مثلاً: ما دامت إيران لم تصنع بعدُ قنبلة نووية، ولم تقصف بها دولة الاحتلال؛ فهل يعقل أنّ سفر التكوين تنبأ بحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة من زاوية هولوكوستية بدورها، لكنّ عمادها جرائم الحرب والمذابح والعقاب الجماعي والتجويع والتشريد…؟

وسوم: العدد 1093