ردا «حزب الله» وإيران المؤجلان… لا يردعان عدوان إسرائيل!
لطالما شكل الردع المتبادل أسس الاستقرار وتجنب الصراعات والحروب ـ بفرضية تغليب الحكمة وعقلانية القرارات بناء على دراسة مستفيضة، تعاقب صناع القرار المتهورين وأحزابهم ببنود دستورية رادعة. لذلك شكل الردع، وخاصة بعد انتشار السلاح النووي بعد الحرب العالمية الثانية، عامل ردع مؤثر يمنع تفاقم الصراعات والخلافات لتتحول لحروب مفتوحة بين المتصارعين، ليستعيضوا عنها بحروب جانبية وبالوكالة وأحيانا بحروب استنزاف، كما نشهد بحرب غزة.
أحاجج في محاضراتي أن الردع المتبادل منع حرب عالمية ثالثة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي وحلفائه ـ حسب نظرية MAD ـ الهلاك الأكيد على مستوى النظام العالمي والبشرية بأسرها.
حذّر الرئيس الروسي بوتين مراراً منذ شن حربه على أوكرانيا(عملية عسكرية خاصة) قبل ثلاثين شهرا ـ واحتلال وضم أربعة أقاليم في شرق أوكرانيا إضافة إلى احتلاله أو كما يصفها «استعادة شبه جزيرة القرم» من حرب عالمية ثالثة وحتى حرب نووية تكتيكية في رسالة للغرب لوقف تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. واليوم وللمرة الأولى نجحت أوكرانيا بدعم أمريكي ـ غربي بنقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية، بالتوغل في إقليم كورسك الروسي! ما يُحرج الكرملين وبوتين ويرفع معنويات الأوكرانيين ـ لكن إلى حين ـ ولكن الأخطر يفقد روسيا قدراتها لردع أوكرانيا برغم، تفوقها العسكري العددي والنوعي!
يكرر دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق، ومرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة تحذيراته المفرطة بالمبالغة منذ ديسمبر الماضي من خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة، لإثبات فشل استراتيجية وسياسة الرئيس بايدن (المحتال) وإدارته وفريق أمنه الوطني بإدارة الأزمات المشتعلة، خاصة حرب روسيا على أوكرانيا وحرب إسرائيل على غزة. ويدعي بثقة كاذبة مفرطة، «لو كان رئيسا لما تجرأ بوتين على غزو أوكرانيا ـ في فبراير 2022 ـ ولما تجرأت حماس على شن «طوفان الأقصى»» ـ في أكتوبر 2023. و«أنا الوحيد القادر على وقف الحرب باتصال هاتفي»!!
وسبق أن كرر ترامب في مهرجان خطابي في ديسمبر الماضي: «بات العالم اليوم يواجه خطراً أكثر من أي وقت مضى ـ بسبب تطوير القدرات العسكرية، وأنا وبكل تأكيد الوحيد القادر على منع وقوع حرب عالمية ثالثة»!! في شطحة تهويل وتحذير مكررة لا تقنع الناخبين ـ سوى أتباعه، من إعادة انتخاب الديمقراطيين ـ والتصويت لكامالا هاريس ـ مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة (في نوفمبر القادم، تتقدم عليه هاريس باستطلاعات الرأي بنسبة طفيفة) ـ لأن ذلك حسب منطقه وأنصاره سيرفع فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة!!
تسعى الدول الأكبر والأقوى بفرض الردع على خصومها، لمنعهم من التخطيط والتآمر ضدها والتدخل في شؤونها، لأن كلفة ذلك ستكون كبيرة
واقعياً لن يحدث أي من تلك الترهات، في عالم يهدد 12 ألف رأس نووية ـ 90 في المئة تملكها الولايات المتحدة وروسيا ـ بتدمير وفناء البشر والحجر عشرات المرات ـ وهذا هو أساس الردع المتبادل، الهلاك الأكيد. في معادلة صفرية، يخرج الجميع منها فانياً!
تسعى الدول الأكبر والأقوى بفرض الردع على خصومها، لمنعهم من التخطيط والتآمر ضدها والتدخل في شؤونها، لأن كلفة ذلك ستكون كبيرة. برعت إسرائيل بفرض الردع بيدها الطويلة على جيرانها العرب في دول الجوار وخاصة مصر والأردن)طبعتا مع إسرائيل ولا تحتاجان للردع)وبعدها بالاتفاق الإبراهيمي مع دولة الإمارات والبحرين والسودان والمغرب (لا يحتاجون لردع) ـ ووصلت يدها إلى الحديدة في اليمن وطهران!
تمكنت إيران بعد أن أسقط بوش الابن والمحافظون الجدد نظام صدام حسين في العراق عام 2003 وقبله نظام طالبان في أفغانستان عام 2001 ـ بإطلاق يدها للتدخل وتمدد مشروعها الطائفي من أفغانستان شرقا إلى المتوسط غرباً ومن سوريا شمالا إلى اليمن جنوبا وفي زرع خلاياها الإرهابية في دول خليجية!! وذلك لفشل النظام العربي من بناء مشروع عربي جامع يمنع ويردع إيران ووكلاءها، وكذلك بردع إسرائيل عن تدخلاتها وعبثها مع إيران وتهديد مشروعهما الأمن القومي العربي من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي!
كان رد إيران لفرض عامل الردع بالرد العسكري للمرة الأولى ـ بقصف إسرائيل بصواريخ ومسيرات في منتصف أبريل الماضي بعد تجرؤ إسرائيل اغتيال قياديين في فيلق القدس في قنصليتها في دمشق! وبرغم فشل رد إيران الانتقامي بإصابة أهداف استراتيجية مهمة ـ لتدخل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإسقاط دفاعاتهم معظم الصواريخ والمسيرات الإيرانية قبل وصولها لأهدافها. لكن كسر الرد الإيراني محرمات، وكان رسالة واضحة لقدرة إيران الوصول إلى عمق فلسطين المحتلة، وكسب الحرب النفسية.
لكن برغم مرور أكثر من شهر على اغتيال إسماعيل هنية ـ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في سكن الضيافة الرسمي في قلب طهران ـ وبرغم تهديد المرشد والرئيس وكبار المسؤولين أن الرد قادم وحتمي وسيكون مؤلما ومدروسا ـ لكن إيران التي تجد نفسها في وضع محرج أمام شعبها وحلفائها (محور المقاومة) ـ لم ترد وتنتقم، والأهم لم تعد فرض الردع بعد انتقامها في أبريل الماضي، ليتآكل الردع بعد اغتيال إسماعيل هنية!! وبانتظار رد إيران المؤجل، لتستعيد قدرة ردعها أهم من الانتقام لاغتيال هنية، ودون تفجير حرب إقليمية ومشاركة الولايات المتحدة في عام انتخابات حاسمة!
بالمقابل كان رد حزب الله الانتقامي على اغتيال القيادي فؤاد شكر نهاية يوليو في معقل حزب الله في بيروت ـ محدودا ولم يصب أي هدف حساس واستراتيجي ـ لكن كسر الرد حصانة إسرائيل. وللمرة الأولى تُقصف إسرائيل بكثافة بصواريخ ومسيرات من فصيل مسلح وفاعل ليس دولة. كان ملفتاً برغم خرق إسرائيل قواعد الاشتباك، محدودية رد إسرائيل. وسارع الطرفان للتأكيد عدم رغبتهما بالتصعيد، وعادت إسرائيل وحزب الله للالتزام بقواعد الاشتباك. لكن دون فرض الردع المتبادل بينهما.
الرد يكون بالسلاح التقليدي وليس بتفجير حرب عالمية ثالثة ولا نووية كما يهول بوتين وترامب! ـ والواقع فرض الردع المتبادل يمنع التهور والحروب!
ـ في النهاية، المعارك لا تخاض بالنظارات، ولا هي مجرد «فشة خلق». الحروب لها استراتيجياتها وتكتيكاتها.
وليس المهم ما يقوله المتحمسون، المهم الرسائل وصلت إلى مَن يجب أن تصل إليهم، وهنا بيت القصيد.
وسوم: العدد 1093