حتى يفتح باب الاجتهاد… الدم يصرخ: أوقفوا هذه الحرب اللعينة

منعتنا وطأة الحرب الإسرائيلية ومشاهدها المفزعة، من مناقشة تداعيات الأحداث الجارية منذ السابع من أكتوبر 2023 وتأثيرها المحتمل على مستقبل فلسطين والفلسطينيين؛ فالمطلب المشروع والملحّ حاليا هو إجبار، أو إقناع إسرائيل بوقف عدوانها الدموي على غزة وعلى الأراضي اللبنانية؛ لتبدأ بعدها عملية لملمة الجراح ومواجهة المآسي، بالتوازي مع مخاضات العمليات السياسية، التي ستمليها مطامع من سيديرونها وفق تدبيراتهم المبيّتة لرسم جغرافيا هذه المنطقة ومعادلات النفوذ فيها.

لقد هيمنت «مشاعر الانضباط القبلي/العرقي» داخل المجتمع الإسرائيلي بمقتضى المقولة الشهيرة «عندما تضج المدافع تسكت الأقلام»، فشاهدنا كيف اصطف معظم شرائح الشعب اليهودي وراء جيشهم، ورفعوا موحّدين شعار «معا سننتصر»، في مشهد جيّرته حكومة نتنياهو لصالحها واستنفدته، بانتهازية مثلى، كرصيد سياسي، مكّنها من التمادي بعدوانها الوحشي على غزة، وإشعال الجبهة اللبنانية بجنون منفلت، ما زالت موجاته تترامى أمامنا.

أمّا بين العرب والمسلمين، هكذا بتعميم غير حذر، وداخل الأوساط العالمية المتعاطفة، أو الداعمة للحق الفلسطيني، فقد بعثت العملية عند حدوثها مشاعر الفرح والرضا كتعبيرين مندفعين من باب الشماتة وتقريعا بالعنجهية الأمنية/العسكرية الإسرائيلية، التي وصلت حالة من «السكر الإلهي» غير المعقول وغير المقبول، كنت قد سميته مرّة بفرح «الفقراء والغلابا».

ولئن اختلفت، عندما طغت مشاعر النشوة والانتصار، دوافع تأييد العملية وصدقها، أو دوافع من أراد انتقادها وخجل وتردد، سنجد أن معظم المراقبين والمتابعين والمحللين السياسيين من خارج معسكر حماس، ما زالوا، على الرغم من مرور عام، يشعرون بالحرج ويمتعنون عن مناقشتها بعقلانية، وبمنظور استراتيجي يقيّم ما ألحقته من تبعات سياسية أو إنسانية، أو ما حققته من أرباح مقابل الخسائر؛ أو على الأقل، لتَبيّن وجهاتها ومآلاتها المحتملة، ضمن المعطيات التي تحققت على المستويين، الميداني/العسكري، والسياسي وتأثير كل ذلك على مستقبل المنطقة.

كان واضحا أن إسرائيل لن تستسلم لانعكاسات هزيمتها، وستحاول استعادة توازنها، فأطلقت حكومتها حربها الوحشية، وكأنها لا تريد إلا السير على طريق الجثث والخرائب الفلسطينية، دون هدف سياسي معلن

لا أعرف من سيقدم على مواجهة هذا التحدي، وماذا ستكون غاياته، ولا من سيتجرأ على فتح باب الاجتهاد الحر والموضوعي، وهذا كما نعرف أنه كان قد أغلق في الشرق منذ قرون ولم يستعد مكانته الطبيعية حتى أيامنا بشهادة الظلمة والاستبداد المتحكمين في شرقنا. لقد استعادت معظم القوى السياسية ومعظم المحللين والمؤثرين على الرأي العام، وعلى صناع القرار الإسرائيلي ذكرى مرور عام على عملية أكتوبر بمشاعر «إسبارطية»، وتأكيدهم على كون الحدث نقطة تحوّل فاصلة في تاريخ إسرائيل والشعب اليهودي، وصاعقة أدّت الى تقويض أهم المسلمات الوجودية الراسخه في حياة ووجدان كل يهودي على وجه الأرض. كان واضحا أن إسرائيل لن ترضى ولن تستسلم لانعكاسات هزيمتها، وأنها ستحاول استعادة توازنها، فأطلقت حكومتها حربها الوحشية، وكأنها لا تريد إلا السير على طريق الجثث والخرائب الفلسطينية، من دون أي هدف سياسي معلن. لم يكترث نتنياهو للانتقادات الموجهة له من بعض الجهات الإسرائيلية، ولا للضغوطات من الخارج، خاصة تلك التي ادّعت أمريكا أنها تمارسها عليه. وبعد أن نجح بترويج تفسيره على أن ما حدث في السابع من أكتوبر يثبت أن الفلسطينيين لا ولن يقبلوا بحق إسرائيل بالوجود، أعلن أن حربه الدائرة هي معركة صراع أو فناء.

نقف على حافة اليأس لكننا نحاول، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، البحث عن بواعث للأمل؛ فرغم طغيان أجواء الفاشية والشوفينية العسكرية، بدأنا نسمع مؤخرا «دبيب» بعض الأصحاء الخارجين ببطء عن الشائع والمهيمن في الشارع اليهودي. لقد شرع هؤلاء بالتشكيك بمآرب حكومة نتنياهو، وبانتقاد قرارها بالاستمرار في الحرب وبتصعيدها، رغم قلة أعداد هذه المجموعات وخفوت أصواتها أرى فيها «فشة خلق» وبارقة أمل، وأتابع مواقفها باهتمام، وأعرف أنه لا الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي، ولا شعوب تلك الدول ومثقفوها معنيون في فهم خلفيات هذه الصراعات الإسرائيلية الداخلية، واحتمالات تأثيرها على مصير دولهم ومجتمعاتهم؛ فالشعوب في تلك الدول مغيبة ومقموعة ومدجّنة، أما ما يهمّ الحكام فينحصر في الإبقاء على علاقاتهم الطيّبة والحميمية مع حكام إسرائيل. يوجد في إسرائيل العشرات من معاهد الدراسات والأبحاث المختصة في شؤون الأمن والاستراتيجيات والعلوم السياسية والعلاقات الدولية وما شابهها؛ ويعمل، ضمن كوادر باحثيها، المئات من الأكاديميين المتخصصين، وبينهم الكثير من قادة الجيش السابقين ومن شغلوا مناصب عالية في المنظومة الأمنية على تفرعاتها. لقد كان لافتا ما قرأناه في أوراق عمل وتحليلات ودراسات أنتجتها بعض تلك المعاهد خلال العام المنصرم؛ فبعضهم بقوا واقفين إلى جانب نتنياهو وطالبوه، وما زالوا يطالبونه، بأن يستمر في حربه بكل القوة ويحثونه على ضرب إيران كذلك. وبعضهم يعارضون سياسته ويطالبونه بوقف الحرب والشروع بالمفاوضات من أجل التوصل إلى حل سلمي ثابت مع لبنان وحل مع الفلسطينيين، يضمن إرجاع الرهائن من غزة. إنها اختلافات جذرية ولافتة ويتوجب على صناع القرار الفلسطيني ألا يغفلوها.

يعتقد أصحاب المدرسة المؤمنون بفلسفة القوة والبطش، أن أمام إسرائيل فرصة تاريخية لن تتكرر، يجب استغلالها من أجل القضاء على حماس ومن يأويها في غزة، والقضاء على حزب الله وتدمير القرى الموجوده بمحاذاة الشريط الحدودي، حتى عمق أربعة كيلومترات منه؛ كما يطالب هؤلاء أيضا بضرورة محاربة النظام الإيراني حتى إسقاطه. يفترض أصحاب هذه المدرسة على أن لا مكان في الصراع الشرق أوسطي لقواعد الدبلوماسية الواقعية أو الليبرالية، وأنه على إسرائيل أن تعتمد سياسة القوة العسكرية واستعمالها بأعنف صورها، ودون محاذير دبلوماسية أو أخلاقية، فالعالم، كما يفترض هؤلاء، لا يحترم إلا القوي ويبجل انتصاراته؛ والعالم لا يكيل بمكاييل القيم والأخلاق وما يسمى»بالمجتمع الدولي»؛ هو عبارة عن هيكل وهمي هلامي يُصدر «نباحا» لكنه لا يؤذي. يؤمن أصحاب هذه المدرسة بأن قوة إسرائيل العسكرية هي التي ستحسم الصراعات حتى تتمكن من فرض شروطها على طاولات أية مفاوضات ستتم.

يدعم أصحاب هذه النظرية موقفهم بحجة تفيد بأن عملية حماس في السابع من أكتوبر أسقطت عمليا صحة نظرية «الاحتواء» التي اعتمدتها حكومة نتنياهو لعقدين مع حماس في غزة ولوقت أطول في الضفة الغربية، إذ برهنت تلك العملية أن لا أمان من جانب «الأعداء» الفلسطينيين. ويدعمون موقفهم كذلك بالاستناد إلى فشل نظرية «الردع المتكافئ» التي سادت طيلة سنوات مع حركة حماس على الحدود مع غزة، وطبقت وفق معادلات متفق عليها ضمنيا، أو من خلال الوسطاء، مع حزب الله في لبنان.

آمل أن يتوسع النقاش داخل إسرائيل وأن يحتدم أكثر، عساه يؤدي إلى ايقاف الحرب على غزة ولبنان؛ وأتمنى أن تحين الفرصة والظروف ليستطيع مجتمعنا الفلسطيني أيضا تناول أحداث العام المنصرم بكل مسؤولية ورصانة وباجتهادات صريحة وموضوعية؛ لأني اعتقد أن النأي عن التعاطي مع التفاصيل وإن كان مردّه حتى الآن هول وفظاعة مشاهد القتل والدمار، الذي ما زالت اسرائيل تنتجهما، يضر بالقضية ولا يؤمن النهايات السعيدة. فالدماء المراقة تصرخ: «إلهي إلهي لماذا تركتنا»؛ فأين المنطق ومن أين تأتينا الحكمة ومن يمد لنا حبال النجاة . في غزة وفي لبنان تسقط الضحايا وأرواحها تطالب: أعيدوا لأطفالنا الطفولة وأعطونا الحياة. أوقفوا هذه الحرب اللعينة.

وسوم: العدد 1099