الهجوم على حلب: توسع مناطق المعارضة السورية وتغير بتوازنات المنطقة
النتائج المباشرة لهجوم الفصائل العسكرية هو تبدل الواقع الميداني، وتغير خرائط السيطرة التي بقيت ثابتة منذ بداية 2020. فقد استحوذت فصائل المعارضة للمرة الأولى على مدينتي إدلب وحلب، وتتقدم في حماة. ويشير هذا الهجوم إلى أن التوازنات التي شهدتها سوريا والمنطقة في الحقبة السابقة هي في طور التغير.
باغتت فصائل المعارضة السورية قوات النظام بهجوم بدأته، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، على مناطق ريف حلب الغربي الذي يفصل محافظة إدلب عن مدينة حلب، ويشكِّل بوابة العبور إلى الأخيرة، وجاء الهجوم في وقت بدت فيه الأمور تسير باتجاه إنهاء الصراع كليًّا، في ظل انفتاح عربي ودولي على سوريا، تجلى باستكمال السعودية لتطبيع علاقاتها مع بشار الأسد واستضافته مرارًا في الرياض، والتأكيد التركي المستمر على الرغبة بعقد لقاء بين الرئيس، رجب طيب أردوغان، والأسد(1).
أسفر الهجوم الذي أطلقت عليه فصائل المعارضة اسم "ردع العدوان" عن سيطرة الفصائل على أجزاء واسعة من ريف حلب الغربي بالإضافة إلى غالبية أحياء المدينة خلال أقل من 72 ساعة على اندلاع المواجهات، لتستكمل بعدها عملياتها وتستحوذ على المواقع العسكرية المهمة المنتشرة غرب حلب وجنوبها، وأبرزها الأكاديمية العسكرية، ومطارا النيرب وكويرس العسكريان، والبحوث العلمية ومعامل الدفاع قرب السفيرة.
أيضًا، استعادت فصائل المعارضة مدينتي سراقب ومعرة النعمان بريف إدلب، الواقعتين على الطريق الدولي الذي يربط حلب مع دمشق (M5) بعد أن خسرتهما، مطلع عام 2020، قبل توقيع اتفاق سوتشي بين أنقرة وموسكو، الذي نتج عنه إيقاف المواجهات وتثبيت خطوط التماس.
ومع الاستحواذ على قرابة 90% من محافظة حلب، وكامل محافظة إدلب، وصلت المواجهات إلى أبواب مدينة حماة؛ حيث سيطرت فصائل المعارضة، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2024، على أجزاء واسعة من ريف حماة الشمالي أبرزها مدينة صوران، وأصبحت على مقربة من المدينة.
من جهته، أسس الجيش الوطني السوري المحسوب على المعارضة، والذي يتبع تنظيميًّا لوزارة الدفاع ضمن الحكومة السورية المؤقتة، غرفة عمليات "فجر الحرية"، وهاجم قوات سوريا الديمقراطية (غالبها من المكون الكردي الذي يعمل تحت اسم "وحدات الحماية") المنتشرة في بعض أحياء مدينة حلب المتصلة مع تل رفعت شمال غرب المدينة، وتمكن المهاجمون من دخول تل رفعت ومنغ، وإطباق الحصار على مواقع الوحدات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية(2).
سياقات إقليمية ودولية
شهدت الساحة الدولية والمنطقة العربية سلسلة من التطورات المتتابعة منذ بداية عام 2022 إلى يومنا هذا، أسهمت في تبديل المعطيات التي أفرزت انحسار سيطرة "المعارضة السورية" إلى شمال غرب سوريا، بعد فقدانها أحياء مدينة حلب الشرقية التي كانت تحت سيطرتها أواخر عام 2016، ثم خسارة ريف دمشق والجنوب السوري عام 2018. وقد استفاد النظام السوري في تلك الحقبة من الدعم السياسي والجوي الروسي الكبير، وتراجع الدعم الدولي نظرًا لإيقاف الولايات المتحدة برنامج الدعم المخصص للمعارضة السورية. وتبعًا لهذا غيَّر الكثير من الدول الإقليمية موقفها واتجهت لتطبيع العلاقات مع النظام.
أول المتغيرات التي انعكست على الواقع السوري تدريجيًّا هي اندلاع الحرب الأوكرانية-الروسية، وما نتج عنها من تقليص النشاط العسكري الروسي في سوريا وتركيزه ضد أوكرانيا المدعومة بشكل مباشر من دول حلف شمال الأطلسي(3).
أدت المواجهات المستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف بين روسيا وأوكرانيا إلى حالة استنزاف لموسكو على صعيد العتاد الحربي، نظرًا للتسليح النوعي الذي حظيت به كييف من دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، فقد استهلكت الحرب سلاح الجو الروسي بدرجة كبيرة، والأمر ذاته ينطبق على الأسطول البحري وترسانة المدرعات المخصصة للمشاة.
منذ فبراير/شباط 2022، انخفض حجم الغارات الجوية التي يقوم بها سلاح الجو الروسي على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري شمال غرب البلاد إلى حده الأدنى، كما صمتت موسكو ولم تعد تطالب بحسم ملف إدلب على غرار ما كانت تفعل قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، وأيضًا غابت تصريحاتها الرافضة للانتشار العسكري التركي الواسع في إدلب، وهذا بحكم الحاجة للحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا التي تمتلك مضيقًا مهمًّا لعبور البحر الأسود، ولأن موسكو اعتمدت تدريجيًّا على أنقرة وسيطًا لاستمرار بيع الطاقة للدول الأوروبية، لاسيما أن هذه الأخيرة قطعت غالبيتها العلاقات التجارية المباشرة مع موسكو بعد الحرب.
لقد كان تقليص حجم القوة الجوية الروسية الموجودة في قاعدة حميميم خلال العامين الماضيين، عاملًا مؤثرًا في اتخاذ فصائل المعارضة السورية قرار إطلاق عمليات عسكرية، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2024. أشارت تقديرات المعارضة السورية إلى أن روسيا غير قادرة على تنفيذ أكثر من 20 هجومًا يوميًّا كحد أقصى، نظرًا لعدد الطائرات القليل الذي باتت تحتفظ به في قاعدتها الجوية بريف اللاذقية، بالإضافة طبعًا لتوقع عدم رغبة موسكو باستهلاك طاقتها الحربية في أكثر من ميدان، خاصة بعد رفع الدول الغربية حظر استخدام الأسلحة بعيدة المدى عن القوات الأوكرانية؛ حيث بات بإمكان الأخيرة تنفيذ هجمات صاروخية ضمن العمق الروسي(4).
على الصعيد الإقليمي، فإن إطلاق حركة حماس لعملية طوفان الأقصى أواخر عام 2023، وما تبعها من ارتفاع التوتر بين إيران وإسرائيل إلى مستوى غير مسبوق، وامتداد المواجهات مع إسرائيل إلى جنوب لبنان، كانت تطورات بالغة التأثير على الساحة السورية، وربما أكثر من أثر الحرب الروسية-الأوكرانية.
بعد انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، وما تبعها من هجمات صاروخية وجوية متبادلة بين إسرائيل وإيران، ازداد التشدد الأميركي والإسرائيلي حيال نفوذ طهران وحلفائها في المنطقة، وقد كانوا الداعم الرئيسي للنظام السوري، فهم ساعدوه منذ 2015 إلى 2020، بالقوات البرية التي مكَّنته من السيطرة مجددًا على محافظتي حلب وحماة، وأجزاء من محافظة إدلب، وقبلها ريف دمشق.
ازداد منسوب الغارات الإسرائيلية على مواقع تابعة لإيران في سوريا، واستهدفت الغارات بدرجة رئيسية مخازن أسلحة تابعة لحزب الله اللبناني، وقد ذهب الإعلام الإسرائيلي إلى تأكيد تنفيذ إسرائيل، في سبتمبر/أيلول 2024، إنزالًا جويًّا على منشأة البحوث العلمية في مصياف بريف حماة، على أنها مختبر لتطوير الصواريخ لحزب الله اللبناني(5).
من جهتها، صعَّدت الولايات المتحدة وبريطانيا من ضرباتها ضد جماعة أنصار الله الحوثي، والتي أطلقت، منذ نهاية 2023، سلسلة من الهجمات ضد المصالح الغربية في البحر الأحمر، بالإضافة إلى هجمات صاروخية على مواقع إسرائيلية.
التطور الأهم هو الضغوطات التي باتت تمارسها واشنطن على الفصائل العراقية الحليفة لإيران لتقليص نشاطها خارج الحدود، خاصة أن هذه الفصائل كانت تشارك بتقديم الدعم اللوجستي وتسهيل عبور الأسلحة إلى جنوب لبنان عبر الأراضي السورية، ففرضت القوات الأميركية الموجودة في قاعدة عين الأسد على الحدود العراقية-السورية رقابة صارمة على تحرك هذه الفصائل في إطار جهود قطع طريق نقل الأسلحة إلى جنوب لبنان، وقامت الطائرات المسيرة الأميركية باستهداف قوافل عسكرية تابعة للفصائل العراقية مرارًا عند محاولة عبور الحدود باتجاه سوريا(6). وهذه الفصائل عمومًا داعم أساسي لتثبيت سيطرة "النظام السوري" وخاصة في منطقة جنوب حلب؛ حيث تمتلك قاعدة مشتركة مع الحرس الثوري الإيراني هناك(7).
وخلال هجوم فصائل المعارضة على حلب، ظهر بشكل واضح اعتماد "القوات السورية النظامية" على عناصر غير محترفة ومجندة حديثًا، وتجلى الأمر من خلال وقوع المئات من العناصر في الأسر بدون مقاومة تذكر، مما أدى إلى انهيارات غير متوقعة وفي أيام قليلة، على عكس المواجهات التي اشتركت فيها الفصائل العراقية وحزب الله اللبناني بين عامي 2015 و2017، وانتهت باستعادة "النظام السوري" لمدينة حلب، وامتازت تلك المواجهات بطول الأمد والشراسة(8).
التعاطي الأميركي الصارم مع نشاط الفصائل الحليفة لإيران خارج الحدود، من الأسباب التي دفعت كلًّا من الحشد الشعبي، وحزب الله اللبناني لنفي رغبتهما في نقل قوات إلى سوريا بعد خسارة النظام السوري لمدينة حلب، وانتقال المعارك إلى أطراف مدينة حماة(9).
المواقف الدولية
بمجرد عودة التصعيد إلى الساحة السورية اتجهت الأنظار بشكل مباشر إلى مواقف الثلاثي الدولي الضامن لمسار أستانا (تركيا-روسيا-إيران)، فقد بقي هذا المسار هو المعني بنقاش الواقع الميداني شمال غرب سوريا لمدة 7 سنوات كاملة، ونجح في خفض التصعيد إلى أدنى حد، وأحيانًا إلى مستوى قريب من الصفر. ونظرًا للتصريحات الإسرائيلية المتكررة مؤخرًا حول سوريا ونشاطها بالعمليات الجوية، فالإسرائيلي معني بالمراقبة فضلًا عن التدخل هو الآخر.
1-الموقف التركي
طالبت تركيا في أول موقف رسمي لها بمنع أي تصعيد يؤثر سلبيًّا على السكان المحليين، لكن المتحدث باسم الخارجية التركية، أونجو كيتشيلي، ركز على الهجمات على إدلب، واعتبرها تهدد روح اتفاقية أستانا، في إشارة إلى الغارات الجوية التي نفذتها طائرات النظام السوري على مدينة إدلب بالتوازي مع المواجهات في حلب.
أيضًا، تحدث بيان الخارجية التركية عن ازياد هجمات "التنظيمات الإرهابية" على المدنيين في مدينتي تل رفعت ومنبج بريف حلب، في إشارة إلى القصف الذي نفذته قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الباب بريف حلب قبل انطلاق المواجهات الأخيرة بعدة أيام(10).
وقد حمَّل وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، "النظام السوري" بشكل مباشر مسؤولية التصعيد الأخير، فقد أكد خلال مؤتمر صحفي جمعه في أنقرة مع وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، أن عدم رغبة النظام السوري بالجلوس مع المعارضة أدى لحدوث التطورات الأخيرة(11).
على الصعيد الميداني، تعتبر تركيا مستفيدًا رئيسيًّا من التطورات الأخيرة، فقد نفذ الجيش الوطني السوري التابع للحكومة السورية المؤقتة المعارضة، والمتحالف مع القوات التركية المنتشرة شمال سوريا، عملية عسكرية أفضت إلى السيطرة على منطقة "الشهباء" شمال غرب مدينة حلب والتي تشمل تل رفعت والشيخ عيسى ومنغ، وبعض أحياء مدينة حلب، وإخراج قوات سوريا الديمقراطية من غالبية هذه المناطق وخاصة تل رفعت القريبة من الشريط الحدود مع تركيا، والتي كان ينطلق منها الكثير من الهجمات على القواعد العسكرية التركية بالمنطقة خلال السنوات الماضية.
تبدو أنقرة مرتاحة لبسط فصائل المعارضة سيطرتها على مدن جديدة، مثل تل رفعت بريف حلب، وسراقب ومعرة النعمان شرق إدلب وجنوبها، لأمرين اثنين على الأقل. أولهما: أنه يمكن تسهيل عودة النازحين واللاجئين إلى هذه المناطق، لاسيما أن تركيا تعتبر مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من أهم أولوياتها في سوريا، خاصة في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح ملف اللاجئين موضع تجاذب داخلي في تركيا. والثاني: لأن هذا التقدم يقوِّض ويقلص من انتشار "المنظمات الإرهابية"، أي القوى الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
عمومًا، من المتوقع أن موازين القوى الجديدة التي نتجت عن تقدم فصائل المعارضة ستصب في صالح أنقرة التي حاولت جاهدة مؤخرًا إقناع الرئيس الأسد بالجلوس على طاولة المفاوضات، والتوافق على حل مع المعارضة.
2-الموقف الروسي
بدا واضحًا خلال الأيام الأولى لهجوم فصائل المعارضة وتقدمها إلى مناطق "النظام السوري"، أن مشاركة الطائرات الروسية كانت محدودة إلى جانب القوات السورية النظامية، وربما لم يكن هذا بسبب محدودية القدرة العسكرية الروسية المتوافرة فقط، بل ربما أيضًا كان يتعلق بأسباب سياسية. وهذا ما دفع إلى الاعتقاد بوجود تفاهم تركي-روسي ما سابق على العمليات، مع العلم أن الغارات الروسية ازدادت لاحقًا لمنع تقدم الفصائل باتجاه مدينة حماة(12). وأعلن الجيش الروسي بشكل رسمي أنه سيساند "الجيش العربي السوري" في صد "العدوان الإرهابي" على محافظتي إدلب وحماة، مع التأكيد أن الهجمات الصاروخية الروسية أدت إلى سقوط المئات من أفراد فصائل المعارضة المهاجمة.
أجرت روسيا اتصالات مع الجانب العراقي لاستطلاع مدى قدرة بغداد على الدفع بتشكيلات عسكرية رديفة للقوات الرسمية (الحشد الشعبي) لمساندة النظام السوري لوقف حالة الانهيار وخسارته المساحات الجغرافية، لكن فيما يبدو فإن الضغط الأميركي على القوى الفاعلة في الحكومة العراقية يحول دون هذا الخيار للفترة الراهنة على الأقل(13).
بالمقابل، تُجري موسكو مناقشات مع كل من تركيا وإيران من أجل العمل على احتواء التصعيد الحالي، ويدور الحديث عن احتمالية عقد جلسة جديدة لمسار أستانا قد تكون في العاصمة القطرية، الدوحة.
3-الموقف الإيراني
تعتبر إيران المتضرر الأول من التطورات الأخيرة شمال غرب سوريا، فقد خسرت محافظة حلب التي حرصت طيلة السنوات الماضية على تعزيز الوجود فيها لأسباب دينية تتعلق بوجود المكون الشيعي بمحيط مدينة حلب، في بلدات نبل والزهراء وحي المشهد ضمن المدينة، ولأسباب اقتصادية أيضًا فحلب هي العاصمة الاقتصادية لسوريا.
خسرت إيران قاعدة إستراتيجية في محافظة حلب تتمثل بجبل عزان وصولًا إلى معامل الدفاع قرب السفيرة جنوب المحافظة، وهذا ما دفع وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، للتوجه إلى دمشق، في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، أي بعد عدة أيام من انطلاق الهجوم، وبعدها بيومين زار العاصمة التركية، أنقرة، للتباحث مع نظيره التركي، حاقان فيدان، ومن هناك أكد تمسك طهران بدعم بشار الأسد.
قبل زيارة عراقجي إلى دمشق، عمل المستشارون العسكريون الإيرانيون على حشد ما أمكن من المقاتلين العراقيين للتوجه إلى سوريا، ولكن القلق الذي يسود الساحة العراقية من الموقف الأميركي المعارض لنشاط الفصائل العراقية خارج الحدود، أدى إلى محدودية الاستجابة، لذا تتجه طهران للاعتماد أكثر على المقاتلين الأفغان العاملين ضمن لواء "فاطميون"(14).
من الواضح أن طهران قلقة للغاية من التطورات في سوريا، فالتحركات الأخيرة للمعارضة شمال غرب إدلب، قد تفتح شهية المجموعات العسكرية الموجودة في درعا جنوب البلاد للتحرك أيضًا، مع مخاوف من إمكانية تنفيذ عمليات عسكرية من قوات معارضة تعمل تحت اسم "جيش الثورة"، المتمركزة في "قاعدة التنف" على الحدود العراقية-السورية، وبالتالي التضييق بشكل كبير على الطريق البري الممتد من طهران إلى لبنان والبحر المتوسط عبر الأراضي السورية.
4-إسرائيل
لا يمكن نفي وجود تأثير إسرائيلي في الساحة السورية، لاسيما أن غاراتها هناك لا تتوقف في سياق المواجهة مع حزب الله أو التمدد الإيراني في المنطقة، وهي مستاءة من تحالف الأسد مع إيران. وقد قال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024: "بشار الأسد يلعب بالنار".
ولكن لا يوجد رابط مباشر بين هجوم المعارضة والموقف الإسرائيلي الذي له حسابات خاصة. في الواقع، إن إطلاق هجوم عسكري واسع يستهدف حلب وإدلب وحماة معًا، يحتاج تحضيرًا مسبقًا لأشهر طويلة، خاصة في ظل إمكانيات فصائل المعارضة المحدودة، والتي تعتمد كثيرًا على العتاد المصنَّع محليًّا مثل الطائرات المسيرة، أو الصواريخ محلية الصنع.
كما أن إسرائيل لا تنظر، على الصعيد السياسي، بإيجابية لفصائل المعارضة السورية شمال غرب البلاد بحكم خلفياتها الإسلامية بالأغلب، وهذا ما أكده وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الذي شدَّد على أن بلاده لن تنحاز لأي طرف، ولا يوجد خيار جيد بين النظام و"المتمردين الجهاديين"، وأن خيار بلاده هو دعم الأقليات(15).
إلا أن هذا لا ينفي أن إسرائيل مستفيدة من تقويض النفوذ الإيراني، فهذا الأخير لطالما مثَّل تهديدًا لها، ولكن يبدو أن تهديد "المد الإسلامي" داخل المعارضة السورية أصبح بالنسبة لإسرائيل تهديدًا ثانويًّا بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأصبح التمدد الإيراني خطرًا داهمًا. كما أن تل أبيب قد تستغل ما يحدث لفرض منطقة أمنية جنوب سوريا ضمن محافظة القنيطرة؛ حيث تقوم منذ مدة باستحداث تحصينات عسكرية هناك.
5-الموقف الأميركي
من حيث الموقف المباشر، سارع البيت الأبيض إلى نفي العلاقة بالهجوم الذي شنته الفصائل في حلب، ودعا إلى إنهاء الحرب بناء على تسوية سياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254(16). لم تتخذ واشنطن أي إجراء إستثنائي، ولا تزال تمنع قوات الحشد الشعبي من العبور إلى سوريا وفق المعتاد، ولا يوجد حتى اللحظة ما يشير إلى أي دور أميركي مباشر في تجدد المعارك على الأراضي السورية، خاصة أن هذه الهجمات شملت قوات سوريا الديمقراطية. وإن كان هذا الهجوم تركز فقط على مواقع في غرب نهر الفرات حيث لا يوجد فيها قواعد أميركية (تل رفعت وما حولها)، كما أن فصائل المعارضة المتمركزة في "قاعدة التنف" الخاضعة لسيطرة القوات الأميركية لم تقم بأي تحرك على الحدود السورية-العراقية.
انعكاسات الهجوم
الانعكاس الواضح والمباشر لهجوم الفصائل العسكرية هو تبدل الواقع الميداني، وتغير خرائط السيطرة التي بقيت ثابتة منذ بداية 2020. فقد استحوذت فصائل المعارضة للمرة الأولى على كامل مدينة حلب باستثناء حيي الشيخ مقصود والأشرفية اللذين لا يزال التفاوض مستمرًّا فيهما مع قوات سوريا الديمقراطية لانسحابها منها.
أيضًا، استعادت فصائل المعارضة كامل محافظة إدلب التي كانت بحوزتها قبل مايو/أيار 2019، عندما شنت "القوات السورية النظامية" والفصائل المرتبطة بإيران الداعمة لها، هجومًا على المنطقة بدعم من الطيران الروسي، وقضمت كامل ريف حماة بالإضافة إلى جزء من إدلب.
على الجانب السياسي، ظهرت مؤشرات على أن التطورات الأخيرة قد تكون بوابة لحصول متغيرات سياسية. من هذه المؤشرات الموقف الروسي "الضبابي"، والذي تجلى بإعلان دعم النظام السوري، لكن مع انخراط ميداني حذر على غير المعتاد. بالإضافة إلى توجه إيران إلى أنقرة لمحاولة إقناعها باستخدام نفوذها لوقف الهجوم، وقد يكون على طهران بالمقابل تغيير موقفها وتأييد المساعي التركية لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، على أرضية تسهيل عودة اللاجئين و"مكافحة الإرهاب". والجدير بالذكر أن وزير الخارجية التركي، فيدان، كان قد كشف قبل أيام من الهجوم، أن إيران غير راغبة بتسهيل عودة العلاقات بين تركيا والرئيس الأسد.
وتحدث وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2024، عن إمكانية عقد اجتماعي رباعي يضم قطر وتركيا وروسيا وإيران وفق صيغة أستانا من أجل نقاش التطورات في سوريا، وهذا من شأنه إدخال تعديلات سياسية على المسار الذي كان يشارك فيه العراق المساند للنظام السوري، والأردن صاحب الموقف الحيادي، وبالتالي إحداث توازن أكبر نظرًا للموقف الذي تتبناه قطر والمتمثل بدعم مطالب الشعب السوري، والمتقارب مع الموقف التركي فيما يتعلق بالملف السوري، ، أي إننا قد نكون مقبلين على فرض معادلات إقليمية جديدة في الملف السوري خاصة إذا ما نتج عن العملية الحالية إضعاف الدور الإيراني لحد كبير(17).
خلاصة
على الرغم من الوعود التي قطعتها كل من إيران وروسيا بمساندة النظام السوري، إلا أن فصائل المعارضة مستمرة في التقدم والسيطرة على المواقع بريف حماة الشمالي، ويبدو أن الدولتين الداعمتين للنظام غير قادرتين على لعب ذات الدور الذي كانتا تقومان به في السنوات السابقة، وهذا يرجع لأسباب مختلفة. بالنسبة لإيران، فقد فقدت دور حزب الله الكبير في سوريا، بعد اغتيال إسرائيل لأمينه العام، حسن نصر الله، ومقتل جميع قيادات الصف الأول للحزب.
بالمقابل، تركز روسيا جهودها على أوكرانيا ولا تريد أن تُستنزف في سوريا، ومن غير المستبعد أن ترسل رسائل سياسية غير مباشرة إلى واشنطن، بأنها لا تريد الدفاع عن مناطق النفوذ الإيراني خاصة مع قرب تولي ترامب السلطة رسميًّا في واشنطن، وهو معروف بنهجه المتشدد تجاه إيران، وبالتالي قد لا ترغب بالتأثير على فرص عقد تفاهم معه في الملف الأوكراني الأكثر تأثيرًا على روسيا.
لا يبدو أن النظام السوري قادر على استعادة جميع ما فقده على المستوى القريب في ظل المعطيات الميدانية والسياسية الراهنة، وبالتالي سيركز جهوده على عدم خسارة محافظة حماة وخاصة المدينة، وقدرته على الدفاع عنها ليست كبيرة في ظل المشاركة الروسية المحدودة بمساندته، وانكفاء القوى المدعومة من إيران عن التدخل الواسع.
من غير المؤكد ما إذا كانت التطورات الميدانية الأخيرة ستمهد الأجواء لتنشيط الحل السياسي، لكن من الواضح وجود رغبة إقليمية ودولية بهذا، فقد توالت التصريحات التركية والأميركية والأوروبية التي تطالب بالحل السياسي.
وسوم: العدد 1105