الكفاح المسلح وجدليته في سوريا
أكثر المقولات شططاً التي سيقت على مدار العشرية المنقضية أنه ما كان ينبغي رفع السلاح في وجه القمع الفئوي الدموي المتمادي لخروج السوريين على نظام “الما لا يُطاق”. وأنه كانت تجدر المحافظة بدلاً من ذلك على وتيرة التظاهرات السلمية، رغم كل أعمال التنكيل والبطش.
لقد أغفل روّاد هذه الملامة المتواصلة أوّلاً أنّ انحياز “الجيش” لرأس النظام قضى بنزيف داخله متزايد على مستوى العديد، وإلى استفحال عملية “تمليشه” وتمذهبه كجيش “عربي سوري”، وأنّه ليس هناك من حرب أهلية “من جانب واحد” يمكن أن تستمرّ كذلك من دون استجابة.
لو أنّ من استسهل معزوفة “ما كان ينبغي رفع السلاح” يعتنق اللاعنف عقيدة، لكان من الممكن أخذ كلامه على أنه في سياق تسويغ وسيلة ونمط كفاح وايثارهما على الكفاح المسلّح. المشكلة أن هذه المعزوفة بُثّت من قبل أناس ليس عندهم رفض منهجي لاستخدام العنف “الضروري” في مواضع أخرى، وبالذات في سياقات التحرير الوطني.
وهذا يجعل المشكلة مع المنطق الذين أرادوا الترويج له مزدوجة. أولا، ما الذي يسوّغ استثناء الشعب السوري من حقه في الدفاع عن نفسه بوجه السفاحين، بوجه نظام لم يرتدع عن استخدام سلاح الدمار الشامل بوجه السوريين، بوجه نظام مجبول بحقد فئوي خبيث ضد الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، وبحقد لا يقل ضراوة تجاه شعوب المشرق الأخرى، وبالذات اللبنانيين والفلسطينيين؟ خاصة وأن رواد تقليعة “ما كان ينبغي حمل السلاح؟” هم أيضاً من جماعة رفض “حروب التدخل الإنساني”. إذا أقفلوها في أذهانهم مرتين. مرة على الكفاح المسلح الداخلي، ومرة على التدخل الامبريالي “الإنساني”. في الوقت نفسه طالبوا باستمرار التظاهر السلمي في وجه عدو للشعب يواصل أعمال البطش. الموقف الأكثر منطقية مقارنة بهم هو موقف من يدعو لعودة الناس إلى بيوتها وليس متابعة التظاهر بسلمية في وجه آلة حرب. هذه يمكن أن تصلح لأسبوع واثنين وثلاثة لكن بعد ذلك؟
ثانياً، منذ متى هذه القسمة الضيزى بين اعتبارات مواجهة الاستعمار واعتبارات مواجهة استبداد يطرح نفسه كاستعمار داخلي في الكثير من الأدوات والسياسات التي يستخدمها والذي يبدو فيها كما لو أنه يعامل ملايين السوريين كما لو أن مكانهم “ليس هنا”، أو أنه هو، كنظام، ينبجس من “عرق” أسطوري آخر؟
ثورة السوريين كانت إلى حد كبير معركة تحرير وطني لهم من ربقة استعمار داخلي، استقدم تدخلات خارجية معه، وضده، وبين بين، وليس فقط مجرد نظام سلطوي نمطي من الأنظمة الكالحة التي تعج بها خريطة “العالم الثالث”.
لم يكن من الواقعي حتى التمنّي بأن تستمرّ الثورة “سلمية” فقط بعد توجيه الآلة العسكرية الدموية بهذا الشكل المتواصل ضد المدن الثائرة، تضاف إليها مجاميع “الشبيحة”.
لا يعني ذلك أن العنف المضاد للنظام سلك الدروب الأكثر قدرة على تحقيق مراده، بالعكس.
انساق هذا العنف المضاد في الكثير من آلياته ومساراته إلى المطرح الذي كان يريد النظام له أن يكون.
باظهاره كعنف يحرّكه مخيال إبادي محتقن تجاه من يجري تصنيفهم “الأقليات” وعنف مرتبط بالحركات الإرهابية العابرة للبلدان.
والحال أن المشكلة السورية منذ عقود تكمن هنا: بين ضرورة عدم المكابرة على السمة الفئوية للنظام الأسدي، وبين ضرورة عدم اختصاره بها كما لو أنه لا يملك غيرها كسمة. بين ضرورة كسر آلة الاضطهاد “الأقلوي” للأنسجة الأكثرية، وبين ضرورة الحؤول دون قيام آلة “انتقام” أو “اضطهاد في الاتجاه المعاكس” ضد أطياف التعددية الدينية والاثنو-دينية والمناطقية السورية. تغدو المقاربة أقل تورّماً عند التمييز بين السمة المتكثرة، المتعددة، للأنسجة الأكثرية العربية – السنية من المجتمع وبين المفهوم الأحادي – المركزي لأكثرية يجري تخيلها ككتلة واحدة ولا يؤدي هذا التخيل والعمل على أساسها الا لتشطيرها وشرذمتها أكثر. تخيل الأكثرية كعصبية أدى إلى تحولها إلى عصائب، بحيث أن العنف المضاد جنح إلى التشتت في أرخبيل من الإمارات والكتائب الجهادية التي تستثمر فيها شتى أنظمة المنطقة.
مع هذا، ما كان مفرّ من حمل السلاح. ما كان من الممكن أن تبقى الثورة “سلمية، سلمية”. كان يمكن للخروج على الطاغية إما أن يخمد وإما أن يستمر بالعنف المضاد. أن يستمر سلمياً في ظل قمع دموي متواصل فهذا غير واقعي، وغير سياسي، ومكابر على ديناميات الحرب الأهلية. طبعاً المشكلة في المقابل أنه عندما تلجأ إلى السلاح لمواجهة السلاح النظامي الدموي عليك أن تقرّ بشكل أو بآخر أنك قبلت الدخول في الحرب الأهلية، وأن لا تكابر على هذا المفهوم كما لو أن مفهوم الثورة يدور في فلك، والحرب الأهلية في فلك آخر. ما من ثورة في التاريخ إلا ودفعت باتجاه الحرب الأهلية. لا يعني في المقابل أن كل ثورة كانت تحكم على نفسها إذاك بالضياع التام، في الحرب الأهلية. في سوريا أيضاً، تراجع منسوب الثورة لصالح معطى الحرب الأهلية، لكن فكرة الثورة لم تضمحل مع ذلك، لأن مناهضة السواد الأعظم لهذا النظام بدت طاقة مثابرة، لا ينجح شيء في جعلها تضمر. وحتى بعض من رفع شعار “ما كان ينبغي حمل السلاح” بكل ما في هذا الشعار من شطط فإنهم عبروا على طريقتهم عن مناهضة هذا النظام. وحتى بعض هذا النظام أو المحسوبين عليه ممن ضاق ذرعاً بالميليشيات الإيرانية في سوريا فإنه كان يساهم بضيقه هذا لا في إنهاء وجود هذه الميليشيات فحسب وإنما في تحلّل نظام، وهو تحلّل ما أفاده التطبيع النظامي العربي معه، هذا التطبيع الذي سمح للنظام من التحلل من كل ضغط يحمله إلى مناقشة خطط “مصالحة سورية” أو نظام دستوري جديد، وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى تلف النظام النهائي، وانهياره بمشهد هزلي للطاغية وأعوانه.
ما كان من الممكن لشعار “الشعب السوري واحد” أن يبقى متعالياً على السمات الفئوية للنظام وعلى واقع الانقسام الأهلي السوري العميق أكان حول النظام أو حول الثورة عليه. إنما في الوقت نفسه، لم يُحمَل السلاح بالشكل القادر على تأمين طريق تفلته من أحابيل النظام. حُمِلَ بالشكل الموافق لمخطط الأخير، في الاستنجاد بإيران وحرسها وميليشياتها، ومن ثم بروسيا وطيرانها ومرتزقة فاغنر. كذلك، كان لاذكاء الإسلاموفوبيا العالمية، وبخاصة مع تصدر التيارات الجهادية المتطرفة للمشهد السوري، وبالتوازي مع تدفق اللاجئين من سوريا باتجاه بلدان الاتحاد الأوروبي، أثر على تشكيل “لوبي ضاغط” بالتبرير للنظام الأسدي من داخل أروقة الأكاديميا والثقافة والإعلام في الغرب، الذين زاولوا لعبة أن سوريا بين شرّين، أحدهما نعرفه، وهو نظام مقاول في الإرهاب يسلّط فئة ويسلّم أخرى، والثاني من الأفضل الحؤول بينه وبين السيطرة على السلطة في سوريا. اندمج في هذا اللوبي المحابي للأسد، اليساري الشعبوي “عاشق الطغاة”، واليميني المتطرف، المنشرح لرؤية نظام يقوم بواجباته الاستعمارية ضد غالبية سكان سوريا. لكن الأخطر منهما كان المعتدلون في هذا اللوبي، من دبلوماسيين سابقين وأكاديميين، هؤلاء “أفتوا” بضرورة أن لا يسقط النظام، والاستثمار في ضعفه الشديد في الوقت نفسه. لا يسقط، ولا ينهض على ساقيه من جديد. فاتهم أن هذه الحالة لا يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية.
عدم قدرة الفصائل الإسلامية المختلفة على تنظيم خلافاتها وتوحيد استراتيجياتها، قاد لاحقا إلى تمكن الإيرانيين وملحقاتهم والروس عسكراً ومرتزقة من إخماد البؤر المتمردة تباعاً خلا الشمال الغربي السوري، هذا في مقابل نقل عشرات آلاف المسلحين بالباصات إلى هذه البقعة المحصورة من سوريا، إنما التي لا تبعد كثيراً عن مدينة حلب، بحيث أن أي وهن في شبكة الحمايتين الروسية والإيرانية للنظام يمكنها أن تؤدي إلى رجعة المسلحين إلى حلب، وهذا ما كان. في الوقت نفسه، تمكنت المعارضة من توحيد صفوفها أكثر في تجربة انحسارها في ريف إدلب وريف حلب، ومن ترشيد الخطاب والممارسة عند الحركات السلفية الجهادية، والادراك تحديداً أنه ما عاد من الممكن الاستمرار بنغمة “دمرنا أمريكا بطائرة مدنية”. عاد الجهاديون والحال هذه إلى النقطة التي كانوا عليها يوم انتهت الحرب الباردة. فإلى يومها كانوا يعلمون أنهم طرف في هذه الحرب، إلى جانب أمريكا ضد الاتحاد السوفييتي، هذا قبل أن ينقلوا إلى مواجهة أمريكا على امتداد ثلاثة عقود. فهل يكون بالمستطاع السير قدما في هذا الاتجاه خاصة بعد سيطرة الفصائل المعارضة تتقدمهم “هيئة تحرير الشام” على الشام؟
ما كان مفر من حمل السلاح، ولا مفر اليوم، حتى ونحن نرى نظام آل الأسد يتهاوى بهذا الشكل المستحق، أن نبطل “نقد” تجربة هذا السلاح الفعلية، العينية، ليس النقد من موقع أنه ما كان ينبغي رفعه، بل من موقع أنه لم يكن ثمة مهرب من رفعه، إنما المشكلة تبدأ في التعارض الذي فرض نفسه بين رفعه وبين القدرة على حمل مشروع لحل المسألة السورية في الوقت نفسه كمسألة لا يمكن حصرها بالاستبداد القائم، وإنما بكيفية تصفية الحساب مع قابلية مزمنة للاستبداد، لاستبداد يمكن أن يتخذ كذا مسار، ويكون من كذا صنف، ولا يمكن حصرها بمبحث الاستبداد نفسه معزولا عن مسألة القابلية لإدارة التعدد المتعدد الأشكال في سوريا، والمتفاوت في الأحجام والأوزان. ويضاف إلى القابلية المزمنة للاستبداد ومشكلة إدارة التعدد مشكلة القابلية للحكم، وقد رأينا في حالة النظام الأسدي قابلية لممارسة الطغيان أكثر بكثير من قدرة على الحكم. النظام انهار بالنتيجة من فرط تلفه، ونفور طابعه كنظام غير قادر على الحكم وغير قادر على التراجع عن الطغيان في الوقت نفسه قيد أنملة. لماذا تمسك هذا النظام بالمعتقلات؟ لأنه ما كان قادرا على الحكم إلا داخلها. ما كان قادرا على الحكم خارجها وإنما مائلا إما إلى ترك الناس يتدبرون أمرهم بأنفسهم وإما إلى إرهابهم.
لسنا في زمن كان يمكن فيه التعويل أن يتسلح تمرد عسكري منبثق من انتفاضة شعبية ضد نظام دموي بالماركسية اللينينية مثلا، على ما كانت الحال قبل نصف قرن مثلا. كانت الحركية الإسلامية أوفر حظا من البداية لالتقاط لحظة صيرورة الصراع عسكريا لصالحها. المشكلة أن إسلاميتها مالت سريعا للضرب عرض الحائط بالكيانية السورية، واحتسابها على النظام، ومفهوم الديمقراطية، واحتسابه على النظام، على افتراض ان الديمقراطية كما الديكتاتورية يتحدران في النهاية من مبدأ طاغوتي واحد وهو تعبيد الناس للناس بدل تعبيدهم لرب الناس. هل غادرت الفصائل الأساسية للمعارضة المسلحة هذه الأفكار؟ المؤشرات التي تحاول اعطاءها لا يمكن أن تكون كافية ما لم يجر الاقتراب من مبدأ المساواة القانونية بين مختلف المواطنين، وما لم يجر إظهار كيفية تكريس الحريات العامة والخاصة، وما لم يجر الإقرار بحق كل ألوان التعدد الاثني والديني والمناطقي السوري بالتفتح، وما لم يجر إظهار سياسة حسن جوار واعتراف باستقلال لبنان دون لبس، وما لم يجر إظهار الرغبة في الخروج من دوامة “الاحتراب المتبادل” وطرح رؤية مزدوجة، للسلام في سوريا ككل ولتخفيض النزاعات بشكل متدرج وممنهج في منطقة الشرق الأوسط. عام 2012 ما كان ينبغي حمل السلاح، أما الآن فقد آن الوقت للرؤية السورية الشاملة، القادرة أيضاً على التأليف بين الحاجة للعدالة وبين الحاجة للمصالحة، بين الحاجة للحقيقة وبين الحاجة للغفران. لسوريا اليوم إمكانية صياغة سردية ملحمية عن ثورتها وانتصارها. المهم أن تبقى الملحمية هنا قادرة على التصالح مع “مبدأ الواقع”. والواقع هو واقع مجتمعات دمرها تكالب الاستبداد والاستعمار في هذه المنطقة من العالم، وخواء الأفكار أو تبلدها. لم يكن صحيحا أنه ما كان ينبغي حمل السلاح، إنما اليوم، كل شيء يتحدد بناء على الاستعداد على الذهاب إلى مكان جامع وتعددي لكل السوريين يصار في نطاقه إلى… إخراج السلاح من المعادلة الصراعية الداخلية، وطي صفحة الحرب الأهلية السورية.
وسوم: العدد 1107