الاحتلال وسوريا الجديدة: ذهبت اللاحرب وجاءت «الأيدي الخطأ»

350 غارة إسرائيلية شُنّت خلال 48 ساعة ضدّ «أهداف ستراتيجية» في سوريا، حسب تعبير جيش الاحتلال، بينها طائرات مقاتلة وزوارق حربية وصواريخ بعيدة المدى ودفاعات جوية ومخازن أسلحة مختلفة، في محيط العاصمة دمشق ومحافظات حمص وطرطوس واللاذقية، ومنطقة تدمر؛ ضمن «حملة تاريخية» لم تستهدف هذه المرّة النفوذ العسكري والميليشياتي الإيراني (فهذه خلت منها سوريا الراهنة، أو تكاد) بل هدفها «منع وقوع أسلحة متقدمة في أيدي عناصر معادية». وبالفعل، أفلحت عمليات القصف المكثفة عن تدمير نحو 70 ـ 80٪ من القدرات العسكرية لما بات اليوم جيش سوريا الجديدة، التي طوت صفحة نظام استبداد وفساد ونهب وتخريب وارتهان وتبعية، أداره آل الأسد وشبكات الولاء السياسية والاقتصادية والطائفية المختلفة، طيلة 54 سنة.

الأرجح أن هذه الغارات، وربما أضعاف أضعافها، ليست كفيلة بإقناع «ممانع» واحد، في بيروت أو عمّان أو رام الله أو القاهرة أو تونس، بأنّ هذه الحملة لم تُنفّذ في الماضي لسبب واضح جلي، أعلنته بيانات الاحتلال ذاتها، مفاده أنّ تلك القدرات الستراتيجية «لم تكن في الايدي الخطأ»؛ وأنّ أحد أبطال «الممانعة» لم يكن، كما حال أبيه من قبله، إلا صاحب الأيدي الآمنة الأمينة المؤمّنة، التي خبرتها دولة الاحتلال. وتلك خبرة تعود إلى أيام حافظ الأسد/ وزير دفاع تسليم هضبة الجولان من دون قتال عملياً، مروراً باتفاقية خيمة سعسع 1974، حين باتت خطوط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي محرّمة حتى على الشاة الضالة؛ وليس انتهاءً بالصمت على الاجتياح الإسرائيلي في لبنان 1982، ومجازر طرابلس والمخيمات بحقّ الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية، والانخراط في «درع الصحراء» تحت رايات أمريكية وأطلسية، وخيار الصمّ البكم العمي إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة ولبنان…

ليست أقلّ انطواءً على تفضيح شائن، للبيت الأبيض أوّلاً ولجمهرة من الديمقراطيات الغربية تالياً، ثمّ الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، قبل أمثال بنيامين نتنياهو؛ نبرةُ الارتياح التي سادت سريعاً إزاء أخبار الاستهداف الإسرائيلي لترسانة الأسلحة الكيميائية، التي سبق لجيش النظام أن استخدمها مراراً وتكراراً ضدّ أبناء الشعب السوري. وكانت الصفقة السافلة التي رتّبتها موسكو مع واشنطن، سنة 2013، بصدد مخزون الأسلحة الكيميائية لدى قوات الأسد، قد حفظت ماء وجه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إزاء «الخطّ الأحمر» الشهير في وجه استخدام تلك الأسلحة؛ وساد بعدها تعاقد صامت، مخفيّ من حيث الشكل ولكنّ رائحته ظلت تزكم الأنوف من حيث المضمون، جمع بين الولايات المتحدة وروسيا ودولة الاحتلال والنظام السوري، فحواه إطلاق يد الأسد في القصف الكيميائي والجرثومي، ما دامت الأهداف تُسمى غوطة دمشق وخان العسل وسراقب وجوبر وأشرفية صحنايا وسرمين…

في جانب آخر، لعله أشدّ إفصاحاً عن المطامع الإسرائيلية التاريخية في أرض سوريا، لم يتردد نتنياهو في إطراء تقدّم الجيش الإسرائيلي إلى داخل المنطقة العازلة التي أنشأتها اتفاقية سعسع لسنة 1974، ليس لاعتبارات وقوع المنطقة في «الأيدي الخطأ» هذه المرّة، بل لأنّ «مرتفعات الجولان ستظل إلى الأبد جزءاً لا يتجزأ» من دولة الاحتلال.

اللائذ اليوم في موسكو، صحبة المليارات المنهوبة من خبز السوريين، ذاق طعم سوريا المختلفة، والأرجح أنّ نتنياهو أدرك أنّ حال اللاحرب مع آل الأسد دخلت منعطفاً نوعياً حاسماً

ومنذ أن ضمّها الكنيست الإسرائيلي وحكومة مناحيم بيغن في سنة 1981، لاح أنّ القرار الأممي 497 شدّد على انتماء الهضبة إلى السيادة السورية وخضوعها لاتفاقية جنيف الرابعة، أكثر من تشديد النظام السوري بقيادة الأسد الأب يومذاك؛ حيث اكتفت السلطة بتنظيم الزيارات إلى مدينة القنيطرة المدمّرة، والتسوّل المالي على مشاهد الدمار والخراب في بطاح الجولان. وتفصيل الجولان هذا اقتضى من نتنياهو تجديد الشكر للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي سبق أن شهدت رئاسته الأولى اعترافاً أمريكياً رسمياً بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السوري المحتل. والترابط، الثنائي حتى الساعة بين واشنطن وتل أبيب، قد يشهد محطات ثلاثية ورباعية وخماسية شتى بعد تنصيب ترامب في الرئاسة الثانية، وانضمام أطراف أوروبية وأطلسية، وربما عربية هنا وهناك أيضاً.

وكما استشعر نتنياهو أخطار انبثاق فجر جديد في سوريا ما بعد آل الأسد، كذلك أخذت تهتزّ تباعاً تلك المقولة الشهيرة حول سلام الأمر الواقع مع نظام «الحركة التصحيحية» في عهد الأسد الأب ثمّ وريثه، حيث سادت في جبهة الجولان المحتل حال اللاحرب التي لا تستتبع أيّ تنازلات إسرائيلية ذات معنى، وذلك منذ حرب 1973 وما أعقبها من اتفاقيات فصل القوات. واهتزاز هذا المعطى بات يتجلى، بوضوح غير مفاجئ بالنظر إلى المتغيرات المتسارعة في سوريا، في دوائر صهيونية سلّمت سابقاً بأنّ النظام الذي أداره الأسد الأب ووريثه من بعده هو الأفضل لدولة الاحتلال، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً؛ وبديله (أياً كان، خاصة ذاك الذي تبدّت ملامحه خلال الأشهر الأولى بعد انطلاق انتفاضة 2011، وقوامه نظام وطني ديمقراطي تعددي، ذو قاعدة شعبية متينة، وجيش وطني يُعنى بمسائل الدفاع عن البلد وليس حماية الاستبداد والفساد…)؛ سوف يكون كابوس «الربيع العربي» الأكثر ضرراً على الكيان الصهيوني.

يوشك على الانطواء، أيضاً، سجلّ الخدمات التي قدّمتها «الحركة التصحيحية» على نحو مباشر وصريح وغير مستتر في أحيان كثيرة، إلى سياسات دولة الاحتلال، في مضامين ستراتيجية وليست تكتيكية فقط؛ لا تقتصر على الإقليم والمنطقة، بل تخدم السياسات الأمريكية والأطلسية، سواء بسواء. وإذا ابتدأت اللائحة من لبنان، والغزو الأمريكي للعراق، فإنها تمرّ بدور وسيط استطاب الأسد الأب أداءه، وسعى إلى نقله لوريثه: علاقة النظام مع إيران و«حزب الله» بما ترفعه من فزّاعة «ممانعة» زائفة، لكنها تمكّن تل أبيب من استدراج المزيد من المساعدات المالية والأسلحة المتطوّرة الأمريكية؛ ولقد توفّرت مظاهر هذه الخدمة تباعاً أيضاً، في أعقاب «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وما انتهى إليه إرث حسن نصر الله، وانحسار النفوذ الإيراني. وعلى سبيل المثال فقط، السذّج وحدهم كانوا في حاجة إلى تصريحات 2011 التي أطلقها رامي مخلوف، ابن خال الأسد وكبير تماسيح الفساد في سوريا، حول ارتباط المصير بين النظام وإسرائيل، كي يدركوا أنّ بعض «الممانعة» يخدم إسرائيل أوّلاً، وثانياً، وعاشراً!

من جانبه كان الأسد، في أوّل حديث له مع صحافي غربي منذ انطلاق انتفاضة 2011، يتابع إيصال رسائل مشابهة لتلك التي أرسلها ابن خالته مخلوف، ولكن على نحو أكثر استهدافاً لهواجس الغرب، حكومات وشعوباً في الواقع، وأعلى نبرة من حيث توصيف المخاوف والهواجس، فضلاً عن نصب الفزّاعات: 1) التذكير بأنّ نظامه يقاتل «القاعدة» والإسلاميين، وبالتالي من مصلحة الغرب أن يقف على الحياد، هذا إذا لم ينخرط في المعركة مع النظام؛ و2) التدخّل في شؤون النظام «سوف يحرق المنطقة بأسرها» لأنّ سوريا هي «محور المنطقة، فإذا شئتم العبث بالأرض فسوف تتسببون في هزّة أرضية»؛ و3) سوريا «مختلفة، في كلّ اعتبار، عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف. والسياسة مختلفة».

واللائذ اليوم في موسكو، صحبة المليارات المنهوبة من خبز السوريين، ذاق طعم سوريا المختلفة، والأرجح أنّ نتنياهو أدرك أنّ حال اللاحرب مع آل الأسد دخلت منعطفاً نوعياً حاسماً، وخانة «الأيدي الخطأ» أوسع نطاقاً من الجولاني وصحبه، لأنها إنما بدأت من، وسوف تسير حثيثاً نحو، سوريا الجديدة؛ العريقة العتيقة، الأقدم ولادة، بما لا يُقاس، من سنوات آل الأسد الـ54، أو سنوات الكيان الصهيوني الـ76…

وسوم: العدد 1107