الحرب الكونية على الشعب الفلسطيني مستمرة
قبل أن نتحدث عن الحرب المستمرة ضد الشعب الفلسطيني أريد أن أشارك شعبنا فرحته في نقطتين مضيئتين، هزت مشاعر كل إنسان حر شريف في هذا العالم. الأولى تدفق مئات الألوف من أبناء غزة الميامين إلى بيوتهم وأراضيهم في شمال غزة. ذلك المنظر الرهيب للناس البسطاء الخارجين من 471 يوما من الإبادة، ينتظرون فتح معبر نتساريم، آثروا أن يقضوا الليل بطوله مساء الأحد بانتظار أن يفتح شارع الرشيد صباح الاثنين ويعودوا إلى بيوتهم رغم علمهم شبه الأكيد أنها مدمرة يغطيها الركام، والشارع الذي يمر من أمام البيوت مدمر كليا ولا يسمح بمرور العربات، والقذائف غير المنفجرة منتشرة في كل مكان قد تقضي على من نجا من حرب الإبادة. لقد ضرب شعبنا أروع الأساطير في تعلق الفلسطيني بوطنه وأرضه وبيته. قد يهدمون بيته ومدرسته ومشفاه وشارعه، لكنهم عجزوا وسيعجزون مرة وراء مرة عن قطع الحبل السري بين الفلسطيني وأرضه ووطنه. فحب الوطن والتعلق به لن ينكسر مع كل أطنان المتفجرات التي ألقيت على غزة، وأخذت أكثر من عشرة في المئة من السكان.
الفلسطيني قد يهدمون بيته ومدرسته ومشفاه، لكنهم سيعجزون عن قطع الحبل السري بين الفلسطيني وأرضه ووطنه. فحب الوطن والتعلق به لن ينكسر مع كل أطنان المتفجرات التي ألقيت على غزة
أما لحظة الفرح الثانية فهي رؤية أسرى الحرية يتنفسون الصعداء خارج القضبان بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة. شطبت المؤبدات وفتحت الزنازين وخرجوا بما تبقى من أجسادهم النحيلة بعد رحلة من العذاب والإهانة والتدمير النفسي الممنهج، ليلتقوا بأمهاتهم وأزواجهم وأبنائهم وبناتهم، أو من بقي منهم على قيد الحياة. لقد أثارت مظاهر الفرح العظيمة حنق الكيان الصهيوني الذي أصدر أوامر بمنع الاحتفال بعودة المحررين. كما أثار حنق سلطة أوسلو التي منعت الاحتفالات في بيتونيا على مقربة من سجن عوفر البغيض واعتقلت بعض مراسلي «قناة الجزيرة». والله أمر هذه السلطة غريب إلى أي درك هبطت بنفسها في ظل حرب الإبادة تلك. ونود فقط أن نسأل سؤالا بريئا واحدا: هل استطاعت سلطة أوسلو أن تحرر أسيرا واحدا منذ 13 سبتمبر 1993؟
لحظتان تاريخيتان لا مثيل لهما في العصر الحديث. شعب يخرج من تحت المجازر ويملأ الشوارع أهازيج، وهو يزحف نحو ما تبقى من جدران بيوته وذكرياته وأرضه. ومئات من أسرى الحرية يخرجون من الزنازين بفضل المقاومة الباسلة التي وعدتهم يوما باستنشاق نسمات الحرية وأوفت بوعدها. ما زالت الحرب متواصلة على الشعب الفلسطيني. ونستطيع أن نرصد أربعة أشكال من الحرب متزامنة تفترق وتلتقي عند نقطة واحدة: تدمير القضية الفلسطينية مرة وإلى الأبد ووضع اليد الصهيونية على كل أرض فلسطين استكمالا لنكبة عام 1948:
– حرب ترامب على الشعب الفلسطيني عن طريق التهجير، قضية تهجير الفلسطينيين من وطنهم ليست جديدة، بل جاءت مع المشروع الصهيوني منذ بداياته ومنظريه الأوائل مثل جابوتنسكي وبن غوريون. فالفكرة الصهيونية قائمة على أساس الاستيلاء على الأرض وإخلائها من سكانها الأصليين واستقبال اليهود من كل العالم كي يصبح التكوين الديموغرافي يهوديا خالصا. الآن وبعد ثمانية عقود يتساوى تقريبا عدد السكان العرب واليهود، وفكرة طرد الفلسطينيين أصبحت تسيطر على تفكير اليمين المتطرف، خاصة أن السماح لقيام دولة فلسطينية من المحرمات، وإقامة دولة لكل مواطنيها أمر من ضرب الخيال، والإبقاء على نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد) غير ممكن ولا مستدام، ولم يبق إلا التهجير القسري أو «الطوعي القسري»، الذي يعني إسميا أنه طوعي لكنه لا يتم إلا بالإكراه بعد إغلاق سبل العيش تماما. وأعتقد أن ترامب مقتنع بالفكرة، أو أنه متفق مع الليكوديين الأمريكيين سلفا، خاصة أرملة شيلدون أديلسون التي اتفقت معه في شهر مارس 2024 على أن تقدم له أكثر من 100 مليون دولار دعما لحملته الانتخابية مقابل ضم الضفة الغربية. أعتقد أن المخطط الآن واضح وتكرار ما قاله ترامب مرتين حول تهجير الغزيين إلى مصر والأردن ليس زلة لسان، بل معركة مقبلة، أكد ترامب أنه يتوقع تعاونا من الرئيس المصري والملك الأردني لما تقدمه الولايات المتحدة من خدمات للنظامين. هذا المخطط لن يفشله إلا صمود فلسطيني شامل وجاد واستعداد عال للمواجهة ودعم حقيقي وجاد من الأردن ومصر، بما في ذلك إطلاق حرية الشعبين للتعبير عن رفض هذا المخطط الجهنمي. وإذا بقي الرفض محصورا في بيانات صادرة عن الخارجية فلن يأخذ ترامب وصهاينة البيت الأبيض تلك البيانات على محمل الجد.
– حرب الكيان الصهيوني على الضفة الغربية، أطلقت قوات جيش القتل الصهيوني عملية «السور الحديدي» لكسر ظهر المقاومة في الضفة الغربية في اليوم التالي لوقف العمليات في غزة. وكانت تلك العملية مساومة بين نتنياهو وسموتريتش كي لا ينسحب من الحكومة مثلما فعل بن غفير. تسلم الجيش الصهيوني المهمة من قوات الأمن التابعة للسلطة والتي حاولت كسر إرادة المقاومين الفلسطينيين، ولكنها فشلت. ومنذ ذلك اليوم والقوات الإسرائيلية تقتل وتدمر وتجرف الطرق وتوسع من عمليتها لتشمل منطقة طولكرم وطوباس وطمون وشرق قلقيلية وطوباس وتستخدم القوات الجوية والمسيّرات والصواريخ ولا يمضي يوم واحد دون وقوع شهداء بالجملة. إنها عمليات انتقام أعمى بسبب الفشل الذي منيت به قوات القتل الإسرائيلي في غزة، فلا استطاعوا القضاء على المقاومة ولا استطاعوا تحرير الأسرى إلا بالمفاوضات. هذه الحرب ستستمر لأسابيع وأشهر مقبلة بهدف اجتثاث رجال المقاومة بالتعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية. لكن الذي لا يفهمونه هو أن كل شهيد يسقط سيأخذ مكانه عشرات المقاومين. وكما قال وزير الخارجية الأمريكي السابق بلينكين: لقد استطاعت حماس تعويض كافة خسائرها البشرية وانضم اليها مقاومون جدد بعدد من فقدوا.
– حظر ألأونروا من العمل في الأرض الفلسطينية المحتلة، الحرب الأخرى التي أطلقتها إسرائيل بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، هي بدء حظر وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من العمل في القدس والأرض المحتلة، وتحريم أي اتصال بين الوكالة والمسؤولين الإسرائيليين وإغلاق مكاتبها في الشيخ جراح وتحويل قطعة الأرض الثمينة إلى مستوطنة جديدة. يأتي هذا ضمن الحرب على اللاجئين الفلسطينيين وتدمير حق العودة وإغلاق مدارس الأونروا وعياداتها ومعاهدها التدريبية. لقد حاولت إسرائيل مرارا وتكرارا تدمير الأونروا لما تجسده كشاهد على نكبة عام 1948 وتهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وتحويلهم إلى لاجئين. لكنها فوجئت أن هؤلاء اللاجئين هم حملة مشعل الثورة ووقودها ومخرزها الجامح، الذي أطاح بعنفوان الصهاينة وقلع عيونهم في كل المواجهات. على الفلسطينيين والأمم المتحدة والدول المضيفة للأونروا أن تستعد للآثار العميقة والخطيرة التي سيتركها هذا القرار الخطير.
– استثمارات عربية في الاقتصاد الصهيوني، لقد كان لعملية طوفان الأقصى ارتدادات عميقة على الاقتصاد الإسرائيلي. فالتكلفة المالية حسب تقديرات بعض الاقتصاديين الإسرائيليين تصل إلى نحو 50 مليار دولار. كما أن هناك تداعيات عميقة على التأثيرات الممتدة والمتوالية التي ستجعل الاقتصاد الإسرائيلي يفقد توازنه لفترة طويلة. فقد انهار قطاع السياحة بالكامل وقطاع الإنشاءات، كما أغلقت مئات الشركات الرقمية والتكنولوجية وتراجع الاستثمار والنمو الاقتصادي بنسبة 4 في المئة. والغريب أن الذين يمدون للكيان يد العون هم الدول المطبعة. فقد أعلنت شركة (Third Eye Systems)، وهي شركة إسرائيلية لتوريد العتاد العسكري، إنها باعت 30 في المئة من أسهمها لشركة إيدج الدفاعية التي تملكها الإمارات العربية مقابل 10 ملايين دولار، في استثمار علني نادر من شركة إماراتية منذ بدء حرب غزة قبل 15 شهرا. وقالت شركة إيدج إنها ستستثمر أيضا 12 مليون دولار إضافية في مشروع مشترك جديد مع الشركة نفسها. كما إن التجارة بين مصر وإسرائيل والأردن وإسرائيل والمغرب وإسرائيل لم تتوقف لحظة خلال حرب الإبادة على الفلسطينيين. أليس من يعمل على تقوية الاقتصاد الإسرائيلي في المحصلة يساهم في حروبها المتواصلة على الشعب الفلسطيني؟ الحقيقة أن غزة تعرضت لحرب كونية ولم ترفع الراية البيضاء وظلت جبهتها مرفوعة إلى السماء. والحقيقة الثانية أن الفلسطينيين سيظلون لعدوهم قاهرين، ولن يضيرهم من خذلهم. أليسوا هم أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؟
وسوم: العدد 1113