علم التاريخ وأقسامه الأكاديمية في جنوب البلاد السعودية (ذكريات، وتأملات، ومقترحات)

أ. د. غيثان بن علي بن جريس

نعلم أن التاريخ ذاكرة البشرية، وقد بدأنا ندرس هذا العلم من ثمانينيات القرن الهجري الماضي في المدارس التعليمية العامة. وفي تسعينيات القرن نفسه أُنشِئت بعض الكليات الجامعية في بلاد السراة، وتحديدًا في مدينة أبها، واشتملت على تخصصات عالية عديدة، ومن ضمنها علم التاريخ. وبدأت دارسًا متخصصًا في هذا المجال من عام ( ١٣٩٦هـ / ١٩٧٦م)، واستمرت حياتي ورزقي العلمي والمادي والوظيفي مع هذا المجال المعرفي حتى الآن ( ١٤٤٦هـ/ ٢٠٢٥م). وكوني أقرا وأكتب التاريخ خلال هذه العقود الخمسة ، رأيت أن يكون لي توثيقات محدودة على هذا العلم، كيف رأيته وعاصرته، وما هي آثاره على الأرض والناس؟ ولي ذكريات، وانطباعات، وتأملات، ومقترحات لها صلة بهذا الموضوع الكبير، وسوف أسرد شيئًا منها في البنود الآتية: 

1  ــــــــــ من يقرأ ويبحث عن التاريخ في جنوب شبه الجزيرة العربية، وتحديدًا السروات وتهامة (من مكة المكرمة والطائف إلى جازان ونجران وما جاورها) يجد أنَّ الكتب الكلاسيكية القديمة ومصادر التراث الإسلامي المبكرة والوسيطة والحديثة، رصدت صفحات وجزئيات من تاريخ وحضارة البلاد. ومؤلفو هذه المصادر والمراجع من العرب والمسلمين، والأجانب عبر أطوار التاريخ، ومن بين هؤلاء المدونين والراصدين علماء ومؤرخون وموثقون من التهاميين والسرويين، وبعضهم كانوا يعملون في مجال العلم والتعليم. وكانت رواية وتدريس التاريخ، والسير، وقصص الأولين تأخذُ حيزًا جيدًا في مجالسهم العلمية والاجتماعية والثقافية. وبعد تأسيس مدارس التعليم النظامي الحديث في خمسينيات القرن( ١٤هـ/ ٢٠م )، صار هناك مواد علمية دراسية تُقدم للطالبات والطلاب ضمن برامج تعليمية واضحة. وأصبح علم التاريخ مثل غيره من المواد النظرية والعلمية الأخرى المدرجة ضمن خطط وزارة المعارف، والرئاسة العامة لتعليم البنات. وبعد الانتهاء من الثانوية العامة يشق الطالب طريقه في تخصص علمي محدد حتى ينتهي من المرحلة الجامعية، ثم الحصول على الوظيفة المناسبة لمجال تخصصه. 

ــــــــــــــ 2 إنَّ الطالبات والطلاب الجامعيين المتخصصين في دراسة علم التاريخ والتراث والحضارة بدأوا في كليات فرعي جامعتي الملك سعود والإمام محمد بن سعود الإسلامية في أبها من عام ( ١٣٩٦هـ / ١٩٧٦م )، ثم تزايدت أقسام هذا العلم في الكثير من الكليات في أنحاء السروات وتهامة خلال هذا القرن ( ١٥ هـ / ٢٠ - ٢١م ) حتى صارت أعدادها تقدر بالعشرات وجلب لها في الثلاثين سنة الأولى ( ١٣٩٦ - ١٤٢٦هـ/ ١٩٧٦ - ٢٠٢٥م) مئات الأساتذة المتخصصين (ذكورًا، وإناثًا) من بلدان عربية وإسلامية وأجنبية، تولوا توجيه وتدريس الطالبات والطلاب في أثناء دراسة المرحلة الجامعية. 

وكانت النتيجة أن تخرج آلاف الخريجين الذين عملوا في قطاع التدريس، ووظائف أخرى عديدة. ومنهم من مُنح فرصة تعليمية أخرى لمواصلة دراسة الماجستير والدكتوراه في مجال التاريخ، ومئات آخرين في تخصصات أخرى من الطالبات والطلاب حصلوا على فرص مماثلة حتى أصبحوا من أهل الاختصاص في علومهم الأكاديمية. وإذا كنت حددت في عنوان المقال (علم التاريخ وأقسامه الأكاديمية)، فإن الذي حصل من تطور أو تغير أو تأثير أو غير ذلك مع هذا المجال، قد حصل الوضع نفسه مع جميع العلوم والتخصصات الجامعية الأخرى. 

3 بدأنا تعليمنا الجامعي، وكنا دائمًا نجلس مع أساتذتنا، ونسمع بعض قصصهم ومنجزاتهم العلمية المتنوعة. وأخذونا في رحلات عديدة إلى جامعات وكليات وأقسام أكاديمية في المناطق الوسطى، والشرقية، والغربية، والتقينا بالعديد من الطلاب في نفس التخصص، وأطلعونا على مكتبات علمية، ومواقع تاريخية وتراثية وأثرية وحضارية في جنوب البلاد السعودية، وفي مدن ومناطق أخرى في شرق المملكة العربية السعودية وغربها. وفي كل مرة نتعلم وتتوسع عقولنا ومداركنا، لكننا في أثناء مرحلة الطلب الجامعي المبكر، لم نكن نستشعر أهمية علم التاريخ في خدمة البشرية، وكل همنا أن نتخرج ونحصل على الوظيفة، مع أننا نسمع في مجالسنا الصغيرة والكبيرة، العامة والخاصة قصصًا، وأخبارًا، وروايات عن موروثنا وتاريخنا وحضارتنا المحلية، لكن الخطط الدراسية المعروضة علينا تدور في فلك التاريخ القديم، والوسيط، والحديث العام عن العوالم العربية، والإسلامية، والأجنبية وهذه مواد تأسيسية مهمة لمن رغب التخصص في علم التاريخ بشكل عام. وعندما رجعنا إلى أقسامنا العلمية كأعضاء هيئة تدريس سلكنا نفس المسلك الذي انتهجه أساتذتنا في التدريس، مع بذل بعض الجهود الخجولة في خدمة تاريخنا وتراثنا وموروثنا المحلي. 

4- كانت عجلة التعليم العالي تتوسع رأسيًّا وأفقيًّا. وكان الأساتذة المتعاقدون العمود الفقري لسير العملية التعليمية. وخلال العشرين سنة الأولى من هذا القرن ( ١٥هـ/ ٢٠م)، جرى ابتعاث الكثير من الطالبات والطلاب (داخليًّا وخارجيًّا) لمواصلة دراساتهم العليا، ثم رجع بعضهم وصاروا عضوات وأعضاء هيئة تدريس في أقسامهم الأكاديمية. وأقسام التاريخ في الكليات المحلية حظيت ببعض الأساتذة السعوديات والسعوديين، لكن أعدادهم قليلة جدًا مقارنة بالأساتذة المتعاقدين. وخلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي ( ١٥ هـ / ٢١م) أُنشئت بضع جامعات في عموم السروات وتهامة، لكنها لم تكن داعمة بشكل جيد لبعض الأقسام الإنسانية والنظرية، وعلم التاريخ في مقدمتها. وبالتالي جرى إيقاف، أو إلغاء، أو تهميش معظم أقسام التاريخ. وأُلغيت مرحلة البكالوريوس للبنين في معظم الجامعات، واُفتتحت برامج دراسات عليا في بعضها. وحصل ارتفاع وسقوط، وأحيانًا دعم وتطوير وتشجيع، أو تقليص وتحوير وتبديل. ومن يراجع خطط الجامعات الحديثة في جنوب المملكة العربية السعودية ( ١٤١٩ - ١٤٤٦هـ / ١٩٩٨ - ٢٠٢٥ م) يجد صحة ما أشرت إليه على أقسام التاريخ وغيرها من التخصصات الأدبية. ودراسة هذه الخطط وما نتج عنها من إيجابيات وسلبيات خلال العقود الماضية الأخيرة مجال بحثي واسع وجديد في بابه. 

5- لا شك أنَّ أقسام التاريخ العلمية وغيرها من التخصصات الجامعية الأكاديمية في جنوب المملكة العربية السعودية لها آثار إيجابية كثيرة، ولا أجد عنها دراسات علمية موثقة ( ١٣٩٦ - ١٤٤٦هـ / ١٩٧٦ - ٢٠٢٥م). أرجو من أقسام التاريخ نفسها أن تدعم دراسة وبحث مثل هذا المجال، ومصادره متوفرة (كتابيًّا وشفهيًّا). وخلال رحلتي العلمية والبحثية وجدت التعليم العالي في بلاد السروات وتهامة جدير أن يكتب عنه عشرات الكتب العلمية والرسائل الجامعية. وأرجو من يتولى ذلك أن يكون حياديًّا ومنصفًا فيذكر السلبيات والمعوقات، وكذلك الإيجابيات والنجاحات التي حدثت أو تحققت خلال الخمسين سنة الماضية المتأخرة. 

6قمت خلال السنوات الستة الماضية ( ١٤٣٩ - ١٤٤٥هـ / ٢٠١٨ - ٢٠٢٤م) بزيارات عديدة لجامعات، وكليات، وأقسام التاريخ في جنوب المملكة العربية السعودية، وخرجت بالعديد من الانطباعات والمقترحات، وأذكر بعضها في النقاط التالية:

أــ صارت الجامعات والكليات في وضع أفضل من ذي قبل. فأغلبها في مقرات (مدن جامعية) واسعة الأرجاء، ولديها الكثير من الإمكانات المادية والبشرية. وحالها في الوقت الحاضر لا يقارن مع وضع التعليم الجامعي في تهامة والسراة خلال العقدين والنصف الأولى ( ١٣٩٦- ١٤٢٠ هـ / ١٩٧٦ - ١٩٩٩م ). والشيء الجميل الذي شاهدته مؤخرًا كثرة عضوات وأعضاء هيئة التدريس السعوديين. وآمل أن نرى جميع الأقسام الأكاديمية في المستقبل القريب من بنات وأبناء المملكة العربية السعودية. 

ب ــ إن تأسيس جامعات مستقلة في مناطق السروات وتهامة عاد على البلاد والعباد بالخير العميم في شتى المجالات، وعاصرت وقرأت عن الكثير من الصعوبات التي واجهت الطالبات والطلاب الجامعيين الذين يذهبون لمواصلة دراساتهم الجامعية في الرياض، أو في المنطقتين الشرقية والغربية. ومثل هذا العنوان جديد في بابه ويستحق أن يكون عنوانًا لكتاب أو رسالة علمية جامعية ( ١٣٨٠- ١٤٢٠ هـ/ ١٩٦٠ - ١٩٩٩م). 

ج ــ اتضح لي وجود مئات الطالبات والطلاب الذين درسوا مرحلة البكالوريوس في جنوب المملكة العربية السعودية، ثم واصلوا دراساتهم العليا داخل المملكة العربية السعودية أو خارجها. ومعظمهم يعملون في قطاعات التعليم العام، أو مؤسسات حكومية وأهلية أخرى. وعرفت بينهم الكثير من المبدعين ليس في مجال التاريخ فقط، بل في مجالات علمية أكاديمية عديدة أخرى. أرجو من جامعاتنا المحلية أن تستقطب الجادين والمبدعين من هذه الشريحة، وهم ثروة وطنية كبيرة لو وُضعوا في أماكن علمية وبحثية ومعرفية حقيقية، كل حسب مجاله وتخصصه. 

د ــ اطلعت على بعض البرامج والخطط في بعض أقسام التاريخ المحلية، ووجدت القائمين عليها، ومعظمهم من طالباتي وطلابي خلال العقود الأربع الماضية ( ١٤٠٠- ١٤٤٠هـ / ١٩٨٠ - ٢٠١٩م ) يعملون بكل جد واجتهاد في توفير مواد أو مسارات في مجالات الدراسات العليا ولها صلة بعلم التاريخ، مثل تخصصات الآثار، والسياحة، والتراث وغيرها. وأرجو منهم أن يطلّعوا على ما عند الجامعات والكليات والاقسام الجيدة في العالم، ويستفيدوا منهم، ويقتبسوا من خططهم وبرامجهم كل شيء يعود بالنفع والخير والبركة على وطننا الغالي (المملكة العربية السعودية). 

هـ ــ أوجه رسالة إلى كل أساتذة التاريخ، والآثار، والسياحة، والتراث والموروث المحلي في المملكة العربية السعودية عمومًا، وإلى الباحثين العاملين في جامعات تهامة والسراة خصوصًا أن يبذلوا قصارى جهودهم لدراسة تاريخنا وحضارتنا المحلية عبر عصور التاريخ وفي شتى المجالات. كما أرجو من المسؤولين وصناع القرار في هذه المؤسسات التعليمية العالية أن يدعموا ويشجعوا الأعمال والبحوث العلمية التي لها صلة بواقعنا الجغرافي والبشري. وبلاد السروات وتهامة على سبيل المثال من الديار التي مازالت بكرًا في علومها ومعارفها وحضارتها وتاريخها وتراثها منذ عصور ما قبل الإسلام إلى وقتنا الحاضر.

وــ إنَّ التقدم التقني والمعرفي الحديث سهل علينا معاشر المؤرخين والباحثين الشيء الكثير. آمل من أقسامنا العلمية الأكاديمية أن توظف هذا المجال في الخدمات البحثية المحلية. كما أنَّ اللغات الأخرى غير العربية عاملًا مهمًا في ميدان الدراسة والبحث، والباحث في أي مجال مثل علم التاريخ والآثار وغيره يجب أن يكون عنده علم وخبرة بلغات أخرى تساعد في إنجاز أعمال علمية رصينة وجادة.

ز ـــ إنَّ الحديث عن علم التاريخ وفروعه العلمية في السروات وتهامة موضوع كبير يكتب فيه عشرات البحوث. والذي وثقته في هذا المقال فقط شذرات مما عاصرته خلال خمسة عقود. آمل أن أفرد لهذا العنوان دراسة تفصيلية موثقة في إحدى أعمالي البحثية المستقبلية. 

كما أرجو أن يجد فيه المؤرخات والمؤرخون، والباحثات والباحثون بعض الشذرات التي قد تهديهم إلى عناوين ومشاريع بحثية عميقة وجادة، والله ولي التوفيق. كتبه أ. د. غيثان بن علي بن جريس يوم الإثنين ( ٣ / رمضان/ ١٤٤٦هـ الموافق ٣ / مارس/ ٢٠٢٥م).

وسوم: العدد 1118