موضوعة في انتكاسة الثورات وما بعدها (1)
موضوعة في انتكاسة الثورات وما بعدها (1)
منير شفيق
بعض الذين وجدوا أنفسهم فجأة في قلب ثورات شبابية شعبية مليونية في أكثر من بلد عربي قفزوا لتصدّر الثورات ليس بالدعم فحسب، وإنما أيضاً بمحاولة لعب دور قيادي في توجيهها والتأثير في القيادات الميدانية أو التي أو أوصلتها صناديق الاقتراع إلى مواقع الحكم الجديد. وراحوا يتصرفون كأن الصراع حُسِمَ من خلال صناديق الاقتراع وما عليهم الآن إلاّ أن يجعلوا من نتائجها مستقبل البلاد.
وفجأة أيضاً، ولم تمض بضعة أشهر، وربما سنة، وإذا بالأرض تميد تحت أقدام "العهد الجديد"، فيحدث الانقلاب، أو يصبح حدوثه شبه محتوم، أو تنقسم المكوّنات الاجتماعية والسياسية والفكرية انقساما حاداً وتذهب إلى الحرب الأهلية أو إلى حدودها.
هنا استفاق أولئك مندهشين إلى حد الذهول، وضياع البوصلة، كما حدث لهم أول مرة، والثورات تحقق انتصاراتها، فإذا بهم يكتشفون أن قلب الأنظمة يصل إلى حد الاستحالة أو وصفها بالأنظمة التي لا تقهر. وتصبح الدعوة إلى الخضوع لها (للاستبداد والفساد حسب وصفهم) أهون الضررين إذا ما قورن بما راح يحدث من حرب أهلية وسفك دماء وفوضى وخسائر وويلات، وبلا بريق أمل.
ولعل التفسير النظري الأول لفهم مواقفهم في المرحلة الأولى ثم انتقالها إلى النقيض المقابِل في المرحلة الثانية هو القول أنه لم يكن في الإمكان لأحد في المرحلة الأولى والثورات الشبابية الشعبية المنتصرة في تونس ومصر واليمن (وليبيا برغم إشكال تدخل الناتو) أن يتوقع انتكاستها، أو ضربها، أو حدوث انقسام عميق بين المكوّنات الأساسية للشعب والبلد، ناهيك من توقع الانتقال إلى الحروب الأهلية.
بداية هل يحق لهؤلاء أو لأي أحد منهم ألاّ يتوقع انتكاسة الثورات أو الانتقال إلى الحروب الأهلية، أم كان عليهم أن يتوقعوا ذلك بل يرونه حتمياً لو تذكروا، في حينه، ما عرفوه من تجارب عشرات الثورات التي انتقلت بعد إطاحتها برأس النظام إلى الدخول في مرحلة الحروب الأهلية والانقسامات الداخلية العميقة.
فالانقلابات العسكرية وحدها، وليس كلها، هي التي كانت تنتقل من عهد إلى عهد من دون الانتقال إلى الحرب الأهلية، أو في الأدق دون انتقال الانقسام الداخلي الحتمي إلى مستوى الحرب الأهلية. أما الثورات الشعبية ابتداء من الثورة الإنكليزية فالفرنسية فالروسية وعشرات الثورات الأوروبية ما دمنا نتحدث عن العصر الحديث فقد انتقلت جميعاً إلى الحروب الأهلية أو إلى عودة الدكتاتورية أو إلى الانقلابات العسكرية أو التدخلات الخارجية.
فمن أين جاءت مقولة ما كان لأحد أن يتوقع الثورة المضادة بالانقلاب العسكري أو الحرب الأهلية، لا سيما إذا لم يكن الجيش والأجهزة الأمنية قد حُلاّ (أو سُحِقا، حسب شرط ماركس ولينين لانتصار الثورة). بل ألم تكن المقولة الصحيحة هي أن عدم توقع الانتكاسة أو الانقلاب أو الحرب الأهلية هو قصر النظر بعينه، أو الجهل بعينه، أو مناطحة البدهية بلا سبب أو تفسير سوى الوقوع بخطيئة الإعجاب بالكثرة: }"وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" سورة التوبة(25){، أو الوقوع بغرور القوة وعدم تقدير الموقف تقديراً صحيحاً، وفي مقدمة ذلك الإدراك العميق لموازين القوى القائمة أو التي يمكن أن تستجد وتقوم بعد حين. أي بعد التقاط الأنفاس من جانب المهزوم. هذا ويمكن أن يحضر بهذه المناسبة آية: }"وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ..."سورة الأنفال(48){.
وإذا عدنا إلى التجربة الإسلامية الأولى فقد واجهت حروب ردّة خطرة كادت أن تذهب بالانتصار إلى ما لا تحمد عقباه. وعليه قس حالة كل الثورات ربما عدا الثورة التي تخرج من حرب أهلية منتصرة لتبني قواتها المسلحة والسلطة من جديد إذ تكون قد شربت كأسها مقدّماً.
ولهذا فإن عدم توقع ما حدث للثورات العربية كان سبباً من الأسباب للنتائج التي نعيشها الآن. وقد حال دون اتخاذ السياسات الصحيحة في إدارة الصراع بعد أن أوصلت الثورة البلاد إلى مستوى الذهاب إلى صناديق الاقتراع.