بين العلمانيين والإسلاميين
بين العلمانيين والإسلاميين
عقاب يحيى
بين العلمانيين والإسلاميين حكي كثير هذه الأيام.. بعضه يطفو على سطح التعبير، وكثير منه يغلي في مرجل التنافس..والصراع، والتخوفات ..
الديمقراطيون، بتصنيفاتهم المختلفة : وطنيون، ويساريون، وقوميون، وليبراليون، وعلمانيون.. يشعرون أن الإسلام السياسي المنظم، وشبيهه، والمحسوب عليه مباشرة أو بالنتيجة، يسيطر على مختلف المواقع والهيئات. يضع يده على القرار حد الاحتكار، ويبعد هؤلاء بطرق وتكتيكات ذكية أحياناً، وفجّة أحياناً أخرى، أو عبر الركوب على بعض المقولات والشعارات أحياناً ثالثة، أو من خلال استخدام البعض واجهات ورؤوس حراب.. أحياناً رابعة ..
ـ دراسات ومقالات كثيرة تنهال في التوصيف والتحليل والشرح والاقتراحات.. وتحركات متقطعة تجري هنا وهناك تعبيراً عن هذا الوضع، ولأن الموضوع كبير، ومتشابك، سأتناول اليوم ما يخصّ الطرف الديمقراطي ومسؤولياته..
ـ نعرف جميعاً أن " موازين القوى" إن كان المصطلح مناسباً، ووارداً هنا، ليس لصالح الديمقراطيين في أعمدته، وبناءاته.. لا من حيث القدرات المادية، ولا من حيث مواءمة الظرف الموضوعي لمجتمع متديّن، تتصاعد فيه حركة الإيمان بشكل ملفت بعد الثورة، ولا، بالتالي، للدور الميداني الذي تبرز فيه قوى إسلامية على الأرض، تمسك عديد الجبهات، وتقدم تضحيات ضخمة، وشجاعة نابعة من جوهر الإيمان، وفكرة الاستشهاد والجنة، وصولاً إلى فلسفة الجهاد وتفرعاتها ..ولا من حيث البنية التحتية، وروح التكافل والتضامن، ودور الذات والأشخاص...ولا موقع الحاضن الاجتماعي.. والأهم أيضاً : دور القدرات المالية في كحل ذلك، خصوصاً بعد أن أصبح العمل المسلح السمة الرئيس للثورة.. والدخول على خط تشكيل الكتائب المسلحة وتوريد السلاح، وتلبية الحاجات الكبيرة للمسلحين، والشعب المنكوب ..
ـ كل هذا صحيح، ويمكننا الغوص عميقاً في أثر النكوص والفشل، وغياب أي مشروع نهضوي، حداثي منذ عقود على عموم تلك الفئات، وارتدادات ذلك على الأجيال التي تكاد تكفر بالاتجاهات القومية التي مارست قوى وأطراف وعسكر باسمها كل الموبقات، والخيانات، والفعل الطائفي..وانعكاس ذلك على القاعدة الشعبية والحاضن الاجتماعي لتلك الفئات.. والتي ليست لصالح الفئات الديمقراطية، بالنتيجة..
ـ كذلك موقع الإيمان في شعبنا، والدين الإسلامي بوجه الخصوص، وصعود تأثير الإيمان في الثورة السورية بشكل طبيعي، وملفت، ومصطنع، والمترافق مع قدرات مالية غزيرة تصل من روافد قوية متعددة : سورية وعربية وغيرها.. في حين لا يجد كثير من الديمقراطيين قوت يومهم، ويعجز كثير منهم على تأمين بطاقات السفر، او عقد اجتماعات ومؤتمرات لتشكيلاتهم، ناهينا عن موقع الإغاثة، والتسليح في المعادلة السورية ..
ـ لكن .. هناك كثير المسؤوليات التي تقع على تلك الفئات، والتي يعود معظمها لبنيتهم النخبوية، وموقع الذات، والحزبوية، والعصبوية فيها، وانتفاخ الأنا درجة رفض الآخر، أو محاولة مسحه ومسخه.. في حين يبدو "المنافس" عارفاً ما يريد، ويملك هوامش واسعة من العقل الجمعي، التراتبي، ولديه استناداته المرجعية.. رغم تباين التفسير، والاجتهاد، ومستوى التنافس بين الخطوط الإسلامية ..ولديه تقاليده شبه الراسخة.. في حين تدبّ الفوضى في الطرف الآخر..والتباينات النوعية، والكبيرة بين معظم فئاته .
ـ الديمقراطيون يملأون معظم الفضاءات الإعلامية بكل أنواعها، وهذا عامل كبير لصالح قوتهم وبروزهم، وتأثيرهم، لكنهم فرادى من جهة، ولا يستندون لقاعدة شعبية واضحة، ثابتة، ملتزمة من جهة ثانية.. والأهم من ذلك أن فجوة كبيرة تتسع بينهم وبين الأجيال المتلاحقة، تؤدي بكثيرهم إلى تعميق تلك الفوقية، وحالات التنظير التي كثيراً ما تبتعد عن الواقع فتهيم في فضاء الأمنيات، وتحميل المسؤولية لآخر من صالحه، وجوهره أنه يعمل لما يؤمن به، ولحساب مشروع وبرنامج هو صلب مبرر وجوده .
ـ الديمقراطيون يكثرون الحديث عن التوحيد، والجمع، والديمقراطية، والتجديد، لكنهم كل يوم يفرزون جديداً متولداً من بعض تشكيلاتهم، أو من خلال تفقيسات مختلفة تنشد أن تترك بصمتها الخاصة.. لإضافة اسم جديد تعجّ بها الساحة.. دون أن يترافق ذلك مع فعل وتجسيد، أو مع اقتراب بين تلك المكونات.. رغم التشابه ـ حدود التطابق ـ في الشعارات والبرامج وحتى الأسماء .. ناهينا عن الخلافات الجوهرية في الرؤية السياسية، والبرنامج السياسي، وعدم الاتفاق على مهام المرحلة الرئيس، وطرائق تحقيقها، خاصة ما يتعلق بالموقف من عملية سقوط أو إسقاط النظام، وقصة الحوار والتفاوض والحلول السياسية، ومن العمل المسلح ومروحة التعاطي معه .. حيث تخلف كثير من هؤلاء عن مسار الثورة زمناً طويلاً، وحيث راهن عديد على الزبد، وما يزال البعض أحادي الرهان على المبادرات الدولية وحسب.. وبأساليب ينكرها الثوار، والجسم الرئيس من حاضن الثورة ..كانت الفجوة بينه وبين الثورة وحواضنها قد اتسعت أكثر وأكثر..حتى لو بالغنا كثيراً بالقصدية في التشويه، والتزييف، وفي الحروب المعلنة والمغلفة ضد هؤلاء.
ـ هنا يجب طرح أسئلة جدّية عن مدى ديمقراطية الديمقراطيين : تجسيداً وفعلاً، وسلوكاً ، ومدى إيمانهم بمشاركة الآخر وحقه في الاختلاف معهم، ومدى قبولهم بنتائج صناديق الاقتراع عندما تحدث، ومدى وعيهم، وفهمهم، وتجسيدهم للتعددية وأشكالها .
ـ الديمقراطيون يحمّلون الآخر المسؤولية في التواجد، والسيطرة، والهيمنة، ثم يتعكزون، تبريراً على الدعم الإقليمي والدولي لهؤلاء على حسابهم.. وبالوقت نفسه يعجزون عن توحيد صفوفهم، وخطابهم، وعن الالتزام بما قد يتفقون عليه من مواقف ووثائق ..ويزدادون فرقة وتباينات ومشاحنات تصل حد التخوين والشتائم ونشر غسيل غير نظيف، وغير صحيح عن بعضهم..
ـ الإسلاميون..باتجاهاتهم المختلفة.. ورغم ما يبدو على السطح من تنافس، وتنافس حاد، وقاس أحياناً بين حركة الإخوان المسلمين التاريخية، وبين " الإسلام الجديد" الذي يريد الإعلان على الطالع والنازل أنه ليس منهم، وأن لديه انتقادات كبيرة لهم، والإسلام السلفي، والمتشدد بأنواعه وفروعه.. وصولاً إلى فكر القاعدة.. يبدون أنهم قادرون على تفاهمات مهمة في مواجهة الآخرين، وعندما " تحزّ الحزّة".. في حين العكس هو سمة الفئات الديمقراطية..
ـ من جهة أخرى فإن محاولة التحالف، والتعايش، والتفاهم مع الإسلام المعتدل، والإسلام الوسطي المنفتح الذي يطور أدواته المعرفية، وخطابه، وبرنامجه، وقد اقترب بعضه كثيراً من جوهر مواقف الديمقراطيين، ومضمون الدولة المدنية الديمقراطية، والتعددية، والحريات العامة والفردية.. والبعض أنجز وثائق متقدمة فعلاً.. كل ذلك بات اليوم عرضة للتشكيك.. أمام ما يجري في الهيئات القائمة :
المجلس الوطني والإئتلاف، حيث يسود الاعتقاد بمصادرة وجود وقرار الآخر، وباحتكار تلك الهيئات لصالحهم، واستخدام خطاب مزدوج يفتقد المصداقية، والتجسيد.. الأمر الذي يشعل نار التنافس هذه الأيام، ويدعو كثير الفئات والأطراف الديمقراطية إلى إعلان خوفها مما يجري، ورفع الصوت عالياً لتعديل موازين التشكيل في هذه الهيئات ..وهناك من يدعو لحرب طاحنة " على جميع الجبهات" ...
ـ الديمقراطيون مطالبون بالتوافق فيما بينهم على المشتركات العامة لبنية وهوية الدولة القادمة، وشكل الوصول إليها، ومطالبون أكثر بالنهوض بمهامهم قبل تحميل الآخر مسؤولية هي في الحقيقة لصالحه، ومطالبون بنسج علاقات قوية في الميادين ومع الأجيال الجديدة بكل مستلزمات واجب المراجعة، والتواضع، وتعزيز الروح الجمعية بديلاً للذاتية المتضخمة، وعندها يمكن لهم أن يكونوا طرفاً مهماً في لوحة الوضع السوري ومستقبل الدولة، وفي نسج علاقات متوازنة مع الأطراف الإسلامية المعتدلة التي تلتقي وإياهم في جوهر الأفكار والمهام الخاصة بالدولة المدنية الديمقراطية، وسبل الوصول إليها.