بين إدانة المؤامرة والتحذير من الخراب
ياسر الزعاترة
في ظل حديث الربيع العربي عموما، ثمة خطاب تتبناه للمفارقة قطاعات متناقضة من المثقفين والمؤدلجين (يساريون وقوميون وأحيانا طائفيون يتدثرون بعباءات شتى)، إلى جانب أبواق الأنظمة من أنصاف المثقفين والتابعين، وقد يكون من بينهم إسلاميون متدينون أيضا ممن يبشرون بنظرية الطاعة المطلقة للحكام.
يجتمع هؤلاء جميعا على التبشير بالخراب الذي مثله الربيع العربي، مشيرين في هذا السياق إلى ما يجري في مصر من فوضى، وكذلك الحال في تونس، فضلا عن ليبيا واليمن، ويقولون بالفم الملآن: إن هذا ليس ربيعا، بل شتاء قاس، وربما خريف، ما يعني تفضيل الأوضاع السابقة عليه.
بعض الفريق اليساري والقومي، ومعه الفريق الطائفي بألوانه المختلفة يتحدث عن ذلك في سياق من خطاب المؤامرة الإمبريالية والصهيونية (بعض ذلك من قبيل الأونطة)، وقد يضيفون إليه حكاية تقسيم المقسم، فضلا عن المؤامرة على برنامج المقاومة والممانعة، فيما يشير إليه آخرون في سياق من التبشير ببقاء الأنظمة الحالية وعدم التمرد عليها كي لا يحدث في دولهم ما حدث في الأخرى التي يُشار إليها، بل إن مجرد الحديث عن الإصلاح، وليس الثورات غالبا ما يُرد عليه بمثل هذا الخطاب (يقولون للناس: هل تريدون أن يحدث عندنا ما حدث في سوريا وليبيا ومصر وتونس واليمن؟ لنتمسك بأنظمتنا القائمة، وننبذ دعوات الإصلاح المشبوهة!!).
في الرد على الشق الأخير من الخطاب، يمكن القول إننا أمام خطاب هزلي، لاسيما حين يأتي من قبل أتباع أنظمة لا يتحدث الناس عن تغييرها جذريا، بل عن إصلاح يعزز المشاركة السياسية ودولة القانون والمؤسسات، بعيدا عن التعامل مع الأوطان ومقدراتها بمنطق المزرعة، ومثل هذا الضغط من أجل الإصلاح لا يستدعي ثورات ولا دماء، اللهم إلا إذا ردت الأنظمة على ذلك بالرصاص. أما في حال حكّمت العقل واستجابت لمطالب الناس، فإن الأمور ستسير بسلاسة، لاسيما أنها تأتي استجابة لمتطلبات العصر في الحرية والتعددية، وحيث تكاد تختفي من العالم تلك الأنظمة التي تتحكم من خلالها نخبة معينة بالبلاد والعباد دون مساءلة حقيقية من أحد.
المصيبة الأكبر تكمن في المنطق الآخر الذي ينطلق من أيديولوجيا تدعي احترام التعددية والحرية (حتى لو استبطن بعضها نوازع طائفية)، ولكنها تقف من ربيع العرب موقفا سلبيا بدعوى المؤامرة. وفيما كان بعضها مع ذلك الربيع في تجلياته الأولى، فقد نكصت على عقبيها بعد بلوغه المحطة السورية، وربما فعل بعضها ذلك بسبب نوازع حزبية وأيديولوجية بعد تصدر الإسلاميين لأوضاع ما بعد الثورات. اليوم، هي تتحدث أيضا عن الخراب الذي خلفته الثورات، وفي السياق السوري تتحدث عن التدمير والتقسيم الذي سيطال البلد في حال رفض المعارضة للحل السياسي. إننا أمام سقوط أخلاقي لا يمكن أن تخفيه تلك الدعوات، ليس فقط في محطاتها العربية عموما، بل بشكل أوضح في المحطة السورية. ففي المحطات العربية الأخرى، يمكن القول إن تلك النخب تدرك أن كنس أوضاع مدججة بالدكتاتورية والفساد الذي عشش خلال عقود طويلة، ما كان له أن يتم بين عشية وضحاها، كما لم يكن بالإمكان التخلص منه من دون ارتدادات سلبية يعرفون تماما أسبابها، هم الذين يقرؤون تاريخ الثورات عموما، لاسيما أشهرها في التاريخ الحديث (الروسية، الفرنسية والإيرانية)، ما يعني أن ما يجري في دول الربيع العربي هو وضع طبيعي ومتوقع، لكن بديله هو بقاء البؤس القديم على حاله، وهو ما لا يقول به إنسان يؤمن بالحرية والكرامة، ويؤمن تبعا لذلك بضرورة التمرد على الأوضاع البائسة القائمة من أجل بناء مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
في سوريا يبدو البؤس الأخلاقي عند هؤلاء أكثر وضوحا، إذ إن سيناريوهات التقسيم في سوريا ذاتها، وربما العراق تبعا لذلك، فضلا عن سيناريو الحرب المذهبية، كل ذلك ليس مسؤولية الشعب الذي خرج إلى الشوارع يطلب الحرية والكرامة مثل الشعوب الأخرى، وإنما مسؤولية النظام المجرم الذي جعل شعاره: أنا أو الدمار.
كيف يتجرأ هؤلاء، ووفق أية منظومة أخلاقية على إدانة شعب كامل من أجل الإبقاء على نظام أو نخبة حاكمة، مع ضرورة القول إن تحول المعركة في سوريا من معركة حرية وتعددية إلى معركة إقليمية، وربما دولية ليست مسؤولية الشعب أيضا، ولا مسؤولية المعارضة، بل مسؤولية النظام أولا، ومسؤولية داعميه، ومن ضمنهم النخب إياها.
لا أحد يملك ضمانات كاملة ضد التقسيم ولا الفوضى في سوريا أو العراق أو حتى سواهما، ولا حتى ضمانات ضد الحرب المذهبية، وإن استبعدناها إلى حد كبير، لكن مسؤولية ذلك، ليست مسؤولية الشعب السوري، بل مسؤولية النظام وداعميه، أما الأوضاع المرتبكة في دول الربيع الحالية، أو حتى المقبلة، فهي محطة ضرورية لا بد من عبورها نحو المستقبل الأفضل كما هي تجارب الشعوب الحرة، وحين تتوافر أنظمة عاقلة تصلح من تلقاء نفسها، فلن تكون هناك حاجة لأية معارك سياسية من أي لون، وسترحب بها الشعوب وتقدر لها ذلك، ولكن أين هي تلك الأنظمة؟!