المنطقة والعراق إلى أين؟
كامل المحمود
(١)
من الذي زرع ومن الذي يحصد
عندما قادت الولايات المتحدة الامريكية في مطلع آذار 2003 عملية عسكرية واسعة التدمير وقاسية التأثير أسمتها "عملية تحرير العراق" وإستخدمت فيها أحدث أنواع الأسلحة الهجومية المُجرَبة وغير المُجَرَبة وأثقل الحمم والقنابل والصواريخ وأشدها فتكا لتدمير كل القدرات العسكرية والصناعية والخدمية والبنى التحتية وترويع الشعب وإفراغ العراق من كل مقدراته كدولة والمبالغة في إستغلال قوة الردع والتدمير والترويع والتي إنتهت بإسقاط النظام العراقي السابق لتتحول الى مرحلة ( التخطيط لإعمار ما دمرته آلتها الحربية ) للإنتقال الى مرحلة تنفيذ(خطط الإعمار ونشر الديمقراطية تمهيدا لبناء دولة العدالة والأمن والإستقرار والرفاهية لتكون مثالا يحتذى به في المنطقة والعالم)!.
ولتنفيذ ذلك نصبت الإدراة الأمريكية الحاكم العسكري جي غارنر لإدارة الأوضاع السياسية والأمنية ليسلمها من بعد للحاكم المدني بول بريمر لأسباب يعرفها الجميع.
بول بريمر وحال تسلمه منصبه في دولة خالية من كل المقومات وشعب مصاب بالصدمة والترويع والمفاجأة كان يتصرف وكأنه مالك للعراق والحاكم المطلق بأمر الله فسن القوانين وحل الجيش والشرطة وقوات الأمن وأوجد مجلس الحكم ووزع الطوائف والقوميات وفقا لرؤيته ونصّب الحكومة وإستحوذ على القرار وحصر الصلاحيات بيده فأصبح السلطان المطلق الصلاحيات ووزع الهبات وزرع الفتنة والفساد وحلل السرقة ونهب المال العام ومَهَّد لتقسيم العراق بزرع بذور الحصص طائفيا وعنصريا ومناطقيا وخلق الزعامات وفقا لرغباته وعَزَلَ وقسَّمَ المدن والقبائل والعشائر والعوائل الى سنة وشيعة وكرد وتركمان ومثلثات ومربعات وغيرها.
وفي مذكرات هذا الرجل قال أنه عندما شاهد الناس من الجو ينهبون مؤسسات الدولة التي يتصاعد منها الدخان وهو في طائرة ال C-130 في أول مجيئه لبغداد لتسلم منصبه يقول انه أدرك " كم أن هذا الشعب محروم وهو يأخذ ممتلكاته التي حرمهم منها صدام حسين !".
رؤية ومنهج وسياسة يحير المراقب والمتابع والمحايد في تفسيرها!..
هل يمكن أن يصدق البعض أن هذه الرؤية وهذا المنهج يمثل إجتهادات موظف مغمور في وزارة الخارجية الأمريكية أُختيرَ ليؤدي دورا معينا في مرحلة معينة من تأريخ العراق وأُعطي هذه الصلاحيات في رسم مستقبل العراق بعد كل هذه الخسائر التي قدمتها الولايات المتحدة في الأرواح والسمعة والمصداقية الدولية والخسائر المادية؟
وهل أن هذه الصلاحية التي يملكها هذا الرجل تجعله صاحب القرار الأوحد في تفكيك أسس الدولة وتحطيم مفاصلها وإعادة رسم خارطتها وتوزيع مكونات شعبها وتعطيل مؤسسات كاملة وحل أخرى وتهميش وإقصاء وإبعاد والإستغناء عن كوادر الدولة الذين يملكون اعلى الشهادات وأرقى التخصصات والعلوم وبخبرات متميزة لعشرات السنين في حقول معقدة والذين لاذنب لهم إلا لأنهم كانوا في مؤسسات الدولة في زمن النظام الذي أسقطته أمريكا وبدون معايير وأسس واقعية تخدم هدف بناء الدولة الجديدة ( إن كان هنالك فعلا مثل هذا الهدف)!
أم أن الأيام أثبتت كم هي عميقة جذور المؤامرة على العراق؟!.
وإن الهدف كان ان يتم الذي جرى وفقا لخطة ومنهج مقر منذ البداية وحتى قبل العدوان؟
اليوم وفي إستكمال لمسلسل تحقيق هذا الهدف وبموجب آليات التصرف بالمال العام التي وضع أسسها بريمر وأستمر نهج تطبيقها لاحقا ولحد الآن في الإستهانة بالوسائل وتبديدها ليعم الفساد كل مفاصل الدولة لنصل الى واقع مؤلم ومثير للإستغراب والسخرية وهو ناتج لهذا الزرع والرعاية لإشاعة الباطل على حساب الحق فقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية واسعة الانتشار الخميس ٧ آذار ٢٠١٣ أن العراق مازال يفتقر للإستقرار ويعاني من الإنقسام رغم مرور عشر سنوات على إسقاط النظام السابق وإنفاق 60 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الامريكيين!.
وحيث أن الإدارة الأمريكية غيرت عدة مرات أهداف الحرب على العراق إلا أن آخر التعابير التي لازالت الإدارة الأمريكية متمسكة بها والتي عبر عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب الإنسحاب الأمريكي من العراق في 27 شباط 2009 هي : ( جعل العراق مثال يحتذى به في الرفاهية والإزدهار وليكون عنصر فعال ومؤثر في امن وإستقرار المنطقة والعالم وشريك إستراتيجي للولايات المتحدة لتحقيق أهدافها ).
لذلك نلاحظ أن الواشنطن بوست ركزت على حقيقة ما وصل اليه العراق اليوم وبعد عشر سنوات كونه أصبح دولة غير مستقرة بدل أن يكون ليس دولة تنعم بالأمن والإستقرار فقط بل تساهم في نشر هذا الأمن والإستقرار في المنطقة والعالم وبشكل فاعل ومؤثر !.
وبدل من أن يكون العراق بلدا قويا موحدا بكل مكوناته وعامل أيجابي لإستقرار المنطقة أصبح بلدا يعاني من الإنقسامات العرقية والطائفية والمناطقية ليكون عامل مؤثر لإشاعة عدم الإستقرار في هذه المنطقة الملتهبة والمهيئة للإنفجار!.
وتقول الصحيفة في تقريرها الجديد:
" بعد عشر سنوات وإنفاق 60 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ما زال العراق يفتقر للإستقرار ويعاني من إنقسامات إلى حد أن قادته باتوا يتشككون في ما إذا كانت جهود الولايات المتحدة المبذولة لإعادة إعمار الدولة التي قطعت الحرب أوصالها تستحق العناء".
وقد أوضح التقرير أن المفتش العام المختص بشأن إعادة إعمار العراق كان قد ذكر في تقريره الى الكونغرس الامريكي أنه:
"منذ الغزو أنفقت الولايات المتحدة أموالا طائلة في العراق دون تحقيق نتائج تذكر".
هي إذا إعترافات امريكية واضحة وصريحة بعدم وجود أية نتائج يمكن لدافع الضرائب الأمريكية أن يلمسها بعد صرف المبالغ الطائلة من اموالهم وماتم صرفه لاحقا لسنوات طويلة من أموال الشعب العراقي ليصل مجموع ما تم صرفه ( وبدون نتائج تذكر) أرقاما فلكية!.
وفي إشارة أخرى الى فشل الإدارة الأمريكية في تبرير الحرب من جهة وفي إستثمار نتائجها من جهة أخرى اضافت الصحيفة:
" وبعد فترة قصيرة من الغزو الأمريكي في آذار 2003، منح الكونغرس 2.4 مليار دولار للمساعدة في تخفيف وطأة الحرب عن كاهل العراقيين. وكان الهدف منها هو إعادة بناء أنظمة الماء والكهرباء في العراق وتوفير طعام ورعاية صحية ونظام حكم جيد لشعبه؛ فضلا عن الاهتمام بهؤلاء الذين أجبروا على إخلاء منازلهم أثناء القتال".
" وبعد أقل من ستة أشهر، طلب الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، مبلغ 20 مليار دولار إضافيا، لتحقيق المزيد من الاستقرار للعراق ودعم تحوله إلى حليف يمكن أن يحصل على استقلال اقتصادي ويحصد استثمارات عالمية".
هي دلالة أخرى على وجود رغبة في جعل العراق في الحالة التي هو عليها الآن!..
فمن المعروف أن الخبرات والقدرات الأمريكية الإستشارية وبيوت الخبرة متطورة ومتعددة الوسائل والإمكانات قادرة وبتفوق على رسم المناهج وتفاصيلها وتهيئة متطلبات تطبيقها ومتابعة تنفيذها ومنع التلاعب بوسائلها وبالأخص تخصيصاتها المالية بشكل مطلق..
بل هي قادرة وبحكم مرونتها المعروفة بأن تطور الأهداف الى أبعد من الطموح!.
أليس هذا هو الذي يحصل يوميا في المدن الأمريكية التي تشهد تطورا مذهلا كل يوم؟
فلماذا لم يجري ذلك؟
أم أننا ببساطة نجهل الهدف ؟
وتابعت الصحيفة في هذا التقرير الجديد الذي يكشف حقائق مهمة أمام العالم وأمام دافعي الضرائب من الأمريكيين الذين لازال الكثير منهم يتوهم أن بلاده قد حققت الإستقرار والديمقراطية لبلد ستجني الولايات المتحدة من جراء ذلك إستثمارات ضخمة إضافة الى خلق حليف إستراتيجي يساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها من جهة ويساهم في أمن وإستقرار المنطقة والعالم من جهة أخرى بقولها:
"حتى اليوم، دفعت الولايات المتحدة أكثر من 60 مليار دولار في صور منح إعادة إعمار لمساعدة العراق في الوقوف على قدميه من جديد بعد أن تمزقت أوصال الدولة بفعل استمرار الحرب وفرض العقوبات وفرض النظام الديكتاتوري لما يزيد على عقدين، وتبلغ قيمة التكلفة نحو 15 مليون دولار يوميا".
إنها إشارة واضحة الى أن أهم منجزات (تحرير العراق) كانت خلق منظومة متكاملة من مافيات الفساد والسرقة والقتل والتي سرقت أموال الأمريكان وأموال الشعب العراقي وأستباحت دمائهم وإمتهنت كرامتهم وأشاعت الفقر والعوز والجهل بين عموم العراقيين إضافة الى تعمد خلق حالة إنعدام القدرة ( أوعدم الرغبة) في توفير أبسط الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وفرص عمل وسكن وصحة حيث زادت الصحيفة لتقول:
"غير أن حكومة العراق ترزح تحت نير الفساد والاقتتال بين أفراد شعبها. وما زالت شوارع بغداد تشهد تفجيرات مروعة بشكل شبه يومي، فيما يعيش ربع سكان العراق البالغ تعدادهم 31 مليون نسمة في فقر، وعدد محدود منهم لديه كهرباء ومياه نظيفة".
ونعود لنتسائل:
هل يمكن تفسير أسباب فشل المنظومة العسكرية والأمنية التي أشرفت عليها الولايات المتحدة ورُصدت لها مليارات الدولارات وأحدث الأجهزة والمعدات والتجهيزات والمتطلبات من تدريب وتنظيم لتصبح هذه المنظومات عاجزة عن التنبؤ بالخروقات الأمنية ومنع حدوثها وإيقاف هذا التدهور الأمني الذي تتراكم نتائجه وتتوسع تأثيراته الى درجة خلق ميليشيات طائفية لمساعدة الأجهزة الأمنية والعسكرية لتنفيذ مهامها بعد كل هذا التدريب والتجهيز والإعداد؟
وفي تفصيل لحجم الخسائر المادية التي أثقلت كاهل المواطن الأمريكي والتي ساهمت الولايات المتحدة بضخها الى العراق بدون نتائج إيجابية عدا الماكنة الإعلامية التي تتحدث يوميا عن منجزات وهمية وديمقراطية في ظل وجود سرقات ونهب للمال بدون النظر لمصدره سواءا كان من المساعدات الأمريكية أو واردات العراق النفطية بينت الصحيفة حجم هذه الأموال التي تم ضخها للعراق بقولها:
"في المجمل، بما في ذلك تكاليف الجهود العسكرية والدبلوماسية كافة والمساعدات الأخرى، أنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 767 مليار دولار منذ الغزو الأمريكي، بحسب تقدير مكتب ميزانية الكونغرس. أما مجموعة الأولويات القومية، المختصة بتحليل البيانات الفيدرالية، فتقدر حجم التكاليف بنحو 811 مليار دولار".
عموما وإن كانت هذه المقالة بمثابة إعتراف داخلي صريح من مؤسسة معروفة بفشل حملة إحتلال العراق وكل نتائجها إلا آنها ورغم ذلك أغفلت جوانب مهمة منها:
أن حصيلة ضياع هذه الأموال الامريكية الطائلة وأموال شعب العراق طيلة أكثر من تسع سنوات قد أفرزت هذا الغضب الجماهيري العارم الرافض لهذه السياسات التي أخفقت في تحقيق أبسط مقومات الحياة من كرامة وشعور بالإنتماء الوطني وفرصة للعمل والعيش بإحترام عدا الحرمان من الماء والكهرباء والسكن والمستقبل الآمن.
قيادات خلقت وعمقت الطائفية والعنصرية وإتخذتها وسيلة لخلق مبرر لحرب ضروس بين مكونات الشعب العراقي الواحد والتي تنسيهم مآسيهم الكبرى والتي ينعم غيرهم بالتندر والضحك عليهم بها.
(2)
من الواشنطن بوست الأمريكية الى الإندبندنت والغارديان البريطانية
الفساد يبتلع العراق
من يزرع أولا يحصد قمحا.. ومن يحصد متأخرا يحصد قشا (مثل دانماركي)
في الحلقة الأولى التي كان عنوانها " من الذي يزرع ومن الذي يحصد" تناولنا إعترافات مؤسسة مهمة وهي الواشنطن بوست عن غيوم الفساد التي إجتاحت العراق منذ عام الإحتلال في 2003 .
ومن المؤكد إن الذي زرع بذور الفتنة والفرقة والفساد في العراق في تلك الفترة العصيبة لم يبالي بحصاد ما بَذَر بل ترك العراقيين يحصدون مازرع ..
ولأن الذي زرع في العراق لم يكن يقصد قمحا ليأكل منه العراقيون ويسارعوا لحصاده ويتركوا القش لمن ينام للضحى!..
بل بَذَر ليزرع أشواكا مسمومة وقاتلة..
فالذي سارع للحصاد جنى السم الزعاف..
والذي تأخر في حصاده جنى الخيبة!..
ولكي ندين الفاعل من فمه..وبعد أن نشرت الواشنطن بوست تحقيقا عن خيبة الأمل الأمريكية في نتائج صرف مئات المليارات من الدولارات لإعادة بناء البنى التحتية للعراق المدمر.. وصف باتريك كوكبيرن مراسل صحيفة الإندبندنت البريطانية في تقرير مفصل حجم مأساة العراق وكشف النتيجة النهائية للغزو الأمريكي وهي ظهور بيئة ومنظومة حكومية حاضنة ومرتع خصب للفساد بقوله:
" إن العراق أصبح بعد عشر سنوات من الغزو الأميركي مرتعا للفساد بمختلف أشكاله"!.
ويضيف بانه " من المستحيل إصلاح النظام بواسطة الحكومة القائمة لأن أي محاولة للإصلاح ستضرب الآلية التي تحكم بها"!.
وكذلك:
" إن أحوال العراق لصوصية وفساد تحميه الحكومة".
إذا هذه المنظومة الحكومية هي التي تحمي هذا الفساد وتحارب أي محاولة للإصلاح.
وقال كوكبيرن في وصف دقيق للجهات التي تستفاد من حياة اللصوصية والفساد وتحمي مصالح سارقي قوت الشعب بأنها تعيش حياة غامضة وتتخفى في المنطقة الخضراء بحماية الدروع العسكرية وقوات الأمن والشرطة وكمايلي :
" إن النخبة الجديدة التي يحمي مصالحها الحكم تمارس حياة غامضة وتتخفى وراء متاريس المنطقة الخضراء أو تتجول بشوارع بغداد في قوافل مدرعة، وتتصف بنهم شديد للفساد المالي والاستحواذ على الثروة" .
بين كوكبيرن أن الفساد المالي والقضائي والسياسي مستشري وهنالك تدهور كبير في الخدمات والذي يؤدي الى شلل فعالية مؤسسات الدولة الخدمية بسبب هذا الفساد وكيف أن الفساد يعقّد الحياة اليومية للعراقيين ويسممها خصوصا حياة الفقراء وقال:
"أن الأضرار فادحة جراء السرقات بالجملة للمال العام وبالرغم من مليارات الدولارات التي تُنفق من خزينة الدولة فلا يزال هناك نقص في إمدادات الكهرباء والإحتياجات الضرورية الأخرى".
وقال كوكبيرن :
"إن أسعار العقارات بالعاصمة بغداد عالية جدا، ورغم ذلك هناك مشترون كثيرون. ونقل عن أحد سماسرة العقارات ويُدعى عبد الكريم علي قوله بعد أن ضحك "هناك مستثمرون من كردستان العراق والبحرين، لكن أغلب المشترين الذين تعاملت معهم هم من لصوص 2003 الذين لديهم الكثير من الأموال. هؤلاء الناس يشترون أفضل العقارات لأنفسهم" ".
وأشار التقرير ( والذ لم تصدره جهات معارضة للحكومة أو دخيلة أو غير راغبة بالعملية السياسية) إلى أن معظم الأموال المسروقة تذهب خارج البلاد، ويبقى جزء ضئيل بحسابات بالمصارف المحلية أو يتم استثمارها بحذر في العقارات.
وإنتقل التقرير إلى صورة أخرى من صور الفساد وهي تخويف المعارضين وتهديدهم وقتلهم قائلا:
" إنه وفي التاسع من سبتمبر/أيلول 2011، تم إغتيال الناقد الصحفي البارز ضد الحكومة مهدي المهدي بمنزله وهو من قادة الاحتجاجات بالشوارع. وقال إن مهدي وقبيل ساعات من إطلاق النار عليه كتب في صفحته على فيسبوك أنه "يعيش في رعب" وقد تم تهديده من قبل موالين للحكومة".
وعن الشلل الذي أصاب مؤسسات الدولة خاصة الخدمية ذكر التقرير في تشخيص دقيق ومباشر موضحا سبب تدهور الخدمات وإنعدامها بقوله:
" أن أغلب مديري عموم المرافق والمؤسسات الحكومية كانوا قد حصلوا على مناصبهم بالمساومات السياسية وأنهم لا يتمتعون بالخبرة أو التأهيل اللازم للتخطيط لما يجب أن يُنفذ لذلك فإنهم يختارون عدم فعل أي شيء حتى يتفادون الفصل من الخدمة".
ونقل المحرر في الإندبندت عن غسان العطية الناشط والمحاضر بالعلوم السياسية قوله:
"الفساد لا يمكن تخيله. لا يمكنك الحصول على وظيفة في الجيش أو الحكومة إلا إذا دفعت. كما لا يمكنك الخروج من السجن إلا إذا دفعت. وحتى إذا حكمت محكمة بالإفراج لصالحك، فلن تستطيع الخروج من السجن إلا إذا دفعت لإدارة السجن. وإذا خرجت من السجن ربما يقبض عليك أحد الضباط لمجرد رغبته في الحصول على مال لتعويض ما دفعه رشوة للحصول على وظيفته".
ونقل عن أحد المعتقلين السابقين قوله:
"أنه كان يدفع مائة دولار لحارسه للسماح له بالاستحمام مرة واحدة".
وأضاف التقرير أنه وعلاوة على سرقة عوائد النفط من قبل موظفين وأحزاب وسياسيين وصفهم بـ "المجرمين" يقول منتقدو رئيس الوزراء:
" إن أسلوبه في السيطرة السياسية هو الرشوة ومنح عقود العمل والاستثمار لمؤيديه أو أصدقائه ومعارضيه المترددين الذين يريد كسبهم إلى صفه ويقوم رئيس الوزراء أيضا "بتهديد المنتفعين بالتحقيقات القضائية والفضح إذا تخلوا عن الولاء له"".
و"أن المالكي يستخدم ملفات ضد خصومه وأصدقائه".
وذكَرَ المحرر في تقريره :
" أن مؤسسات مكافحة الفساد تتعرض لعرقلة النشاط أو التهميش أو التخويف".
ولفت المحرر الإنتباه إلى:
" أن مسؤولا كبيرا بالسفارة الأميركية ببغداد شهد أمام الكونغرس قبل خمس سنوات بأن المالكي أصدر "أوامر سرية" يمنع فيها "لجنة النزاهة" إذا كانت هذه القضايا "تتعلق بكبار المسؤولين الحكوميين بعد 2003"".
وحسب تقرير كوكبيرن الذي ذَكَرَ فيه أن المسؤول بالسفارة الأمريكية وصف في شهادته أوامر المالكي تلك بأنها "ترخيص صريح بالسرقة".
ونتسائل ونطلب الإجابة:
لماذا يتم تثبيت التجريم وتقديم الإثباتات وليس هنالك من يبالي أو من يتابع أو على الأقل يدين ويفكر في إيقاف الدعم والتأييد؟
وما هوالولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة المسؤولة أخلاقيا وقانونيا عن كل ما جرى بعد إحتلالها للعراق؟
وفي مسلسل نشر غسيل الفساد والتآمر قالت صحيفة (الغارديان) البريطانية في مقال لها بأن العراق اليوم هو:
"من الدول الأكثر فسادا في العالم حسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية" وكشفت الصحيفة عن قيام وزراة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" بإرسال خبير أمريكي وهو الكولونيل جيمز ستيل خبير متقاعد من الخدمة في القوات الخاصة الأمريكية يبلغ من العمر 58 عاما الذي كان له دور في "الحروب القذرة" التي شنتها الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى حيث إختاره وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد لمساعدته في تشكيل والإشراف على وحدات خاصة في العراق وتنفيذ عمليات اعتقال سرية وإقامة مراكز تعذيب لانتزاع معلومات من المقاومين العراقيين الذين أسماهم (بالمتمردين) وقمعهم بالقوة بوعلم وإشراف ديفيد بتريوس الذي ينشر عن تورطه في هذه الإنتهاكات للمرة الأولى وهو الذي صورته عجلة الدعاية الأمريكية ببطل الأبطال!.
كما تم تعيين خبير ثاني وهو الكولونيل جيمز كوفمان الذي تعاون مع ستيل في مراكز الاعتقال التي أقيمت بتمويل أمريكي يصل إلى ملايين الدولارات. المتمردين. وتقول الصحيفة في تقريرها الصادر في آذار 2013 بأن مراكز التعذيب هذه إستخدمت أساليب تعد الأسوأ منذ شن الحرب الأمريكية على العراق والذي كان له دور في دفع البلاد إلى الانزلاق في حرب أهلية واسعة النطاق.
والسؤال المهم الآن:
هل يستطيع أي محلل ومُخَطِط إستراتيجي أن يضع وسائل فعالة لمنع تسرب تأثير الحالة العراقية على دول المنطقة إذا إستطاع أن يقنع قادة هذه الدول بان الذي يجري في العراق هو شأن داخلي فقط؟
وإذا كانت دول المنطقة المحيطة بالعراق وعموم الشرق الأوسط تتأثر بشكل مباشر بما يجري اليوم من هدم لمنظومة القيم والمباديء والإمتهان لكرامة الإنسان بعد أن تم هدم الدولة ومؤسساتها فسيكون بالتأكيد من مصلحتها أن يتم إصلاح هذه المنظومات وإشاعة الأمن والإستقرار والقانون لكي لاتكتوي هذه الدول بنار الفساد والإمتهان الذي يبتلع العراق!..
ويبقى أن نعي بأن مايجري في العراق اليوم من مآسي إن هو إلا صفحة من صفحات منهج تآمري يستهدف المنطقة أيضا وليس العراق وحده.
وإن محاربة الفساد ووقف الإمتهان لكرامة الإنسان وسرقة المال العام في العراق وفي وضح النهار بدون وازع وبلا خوف حتى من الله عز وجل يحتاج الى قيادات مخلصة ومسؤولة لإيقاف هذا الإنحدار الخطير في البنية الإنسانية والإجتماعية للمجتمع العراقي..
وان تكون هذه القيادات مؤمنة أولا بشعبها وحريصة على تأريخه وضمان مستقبله ولا يحق لها تجاوز مطالبها ..
وعلى هذه القيادات ان تسارع لتنفيذ طلباتها المشروعة وتحاورها بعقل مفتوح وحسن نية ورغبة صادقة في طلباتها غير المشروعة وحتى غير المعقولة..فنبض الشارع أصدق من نبض الحاكم.
بدون هذه القيادة وبفقدان هذا التواصل مع الشعب سيغرق العراق.. وعندها لن ينفع الندم..
اللاهم إلا إذا كان الذي يجري هو الهدف وهو المُراد!..
أما في دول الإقليم وبغياب تلك القيادة التي تتصدى للإنهيار في الداخل العراقي فسيكون من واجب قياداتها تنفيذ برامج الوقاية التي مهما كانت صارمة ودقيقة فستكون عرضة أيضا للإنهيار في زمن قادم لامحالة عند بقاء الحال على ما هو عليه اليوم إن لم نقل إذا إزداد تفاقما!..
وفي أول فعل مؤثر للوقاية هو إيجاد تلك الأيادي الخبيثة الخارجية الدخيلة على الشخصية العراقية التي تحتضن وتموِّل وترعى برامج نشر الفساد وسحق كرامة الإنسان وتتستر عليها.
وسيكون من واجب الإقليم حينها السعي الجاد ليس بقطع ما يصلهم مما ينبت على أرض العراق من زرع فاسد وسموم وعبوره لهم فوق سطح الأرض بل بالسعي والتعاون لإقتلاع هذه الآفات من جذورها!..
لأن هذه الجذور تمتد عميقا وتنتشر في كل الإتجاهات وهي لاتعترف بالحدود ولا تتحسسها منظومات المراقبة ومعدات الكشف المتطورة وسيتقبلها أي تراب..
تماما مثلما تقبلتها وإحتضنتها التربة العراقية الطاهرة!.