ضوء على إشكاليات كونية وشمولية حقوق الإنسان
ضوء على إشكاليات
كونية وشمولية حقوق الإنسان (*)
د. عبد الله تركماني
كونية حقوق الإنسان تعني أنّ تبلور هذه الحقوق أو تضمينها في الشرعة العالمية هو ثمرة لكفاح الإنسانية عبر التاريخ في مواجهة جميع أشكال الظلم، ونتاج لتلاقح وتفاعل الثقافات الكبرى عبر الزمان، بما في ذلك الحضارة العربية – الإسلامية، كما تعني أيضاً أنه لا يجوز استثناء أحد، في أية منطقة أو في أي نظام ثقافي، من التمتع بهذه الحقوق، فهي كونية لأنها ترتبط بمعنى الإنسان ذاته وبغض النظر عن أي اعتبار.
وتكشف دراسة الوثائق الدولية المختلفة المتعلقة بحقوق الإنسان، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، أنّ المفهوم الذي تحدده هذه الوثائق، التي حظيت بقبول واسع في المجتمع الدولي، هو مفهوم شامل ينطوي على ثلاث فئات من الحقوق، يتفق كل منها مع جيل معين من حقوق الإنسان ساهمت أقسام متباينة من البشرية في صياغته: أولاها، الحقوق السياسية والمدنية، وتتمثل في حقوق الحياة والحرية والكرامة الشخصية، البدنية والمعنوية، وضمان المحاكمة العادلة وحرية العقيدة والتعبير والتنظيم المهني والسياسي وانتخاب الحاكمين الخ. وثانيتها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل حقوق العمل وفقاً لأجر عادل، والتعليم، والعلاج، والدخل المناسب. وثالثتها، ما يمكن تسميته بحقوق الشعوب أو الحقوق الجماعية، مثل حقوق تقرير المصير والسلام، والتنمية والبيئة، فضلاً عن استخدام اللغة الوطنية وصيانة الثقافة القومية.
لقد أضحت قضايا حقوق الإنسان عالمية بامتياز، ولم يبقَ الاهتمام بها وبمدى احترامها منحصراً في ميدان معين أو مقتصراً على فئة محدودة، بل تجاوز هَمُّ المهتمين بها كل مناطق العالم، ولم تعد الحدود الجغرافية تشكل أي حاجز، كما أنه لم يبقَ من حق الدول التذرع بالسيادة الوطنية لمنع التدخل من أجل قضية إنسانية لرفع الظلم ورد الاعتبار للكرامة الإنسانية.
وعليه فإنّ احترام حقوق الإنسان أصبح أحد أهم المعايير الدولية لقياس تقدم الدول، ومن ثم فإنّ أي انتهاك لها يعرّض الدولة المدانة لضغوط وإدانة دامغة من المنظمات العالمية ومن المجتمع الدولي. مما يحمّل الحكومات مسؤولية ضمان هذه الحقوق الأساسية، ويلزم مؤسساتها، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بتشريع هذه الحقوق الأساسية وضمان تطبيقها، وفاء لما وقّعت عليه من مواثيق دولية، ولما تنص عليه معظم الدساتير من حقوق وواجبات للأفراد والحكومات.
ومن المؤكد أنّ مبدأ احترام الاتفاقيات يشكل أساس القانون الدولي العام، فبدونه ينتفي كل تعامل أو وفاق دولي. كما أنّ هناك " معاهدة فيينا " المؤرخة في 23 أيار/مايو 1965، والتي تنص في ديباجتها على أنّ حرية الانضمام للمعاهدات ومبدأ حسن النية وضرورة تنفيذ الاتفاقيات مبادئ معترف بها عالمياً، وأنّ شعوب الأمم المتحدة تؤمن باحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات، وبأنّ تطوير الاتفاقيات من شأنه خدمة أهداف الأمم المتحدة واحترام حقوق الإنسان. وأضافت (المادة27) أنّ الأطراف لا يمكنهم التذرع بالقانون الداخلي لتبرير عدم تنفيذ معاهدة صادقوا عليها.
وهنا يثير بعض ضيقي الأفق ضرورة تجنب إثارة قضايا حقوق الإنسان حتى لا نقع فريسة التلاعب الدولي بهذه القضية، وأن نستدعي تدخل الأقوياء في الشؤون الداخلية لدولنا الضعيفة. والواقع أنّ هذه المقولة بها بعض الصدق، ولكن ليس الصدق كله. إذ أنّ استفادة الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان، باعتباره مسؤولية مشتركة للبشرية، من قوة هذه الدولة أو تلك، أو من الدور الجديد المؤثر لمنظمات المجتمع المدني في العالم، أو من قدرة الأمم المتحدة على استخدام هامش استقلالها النسبي عن الدول الأعضاء لنصرة حركة حقوق الإنسان، لا يغيّر من تقديرنا لحقيقة أنّ هذه الحركة تنبعث فعلا من الضمير العالمي.
كما أنّ تبلور هذا المنظور يؤكد إدراكاً موحداً بأنّ احترام حقوق الإنسان لم يعد حكراً للسياسة الدولية، وإنما قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من السياسة الداخلية لمختلف المجتمعات، وأنه بذلك يتحول إلى معيار أمين للمشروعية والمصداقية السياسيتين.
ومع اتساع دائرة التوظيف السياسي والبراغماتي لحقوق الإنسان في العلاقات الدولية، فإنّ هيئات المجتمع المدني العالمي التي أضحت عاملاً مؤثراً هاماً في المجتمع الدولي، والتي باتت تشتغل وفق نظام شبكات تضامنية، عالمية وإقليمية ووطنية، تنتصب متراساً أخيراً لكل المؤمنين بالقيم العليا للحرية والكرامة، وأملاً لضحايا الانتهاكات، وجواباً يبدد أجواء الشك والقلق حول مستقبل حقوق الإنسان في الألفية الثالثة.
وفي الواقع ثمة مجموعة معوّقات متضافرة تعيق تطور نظرية وممارسة حقوق الإنسان في العالم العربي، في إطار كونيتها وشموليتها كما وردت في الإعلان العالمي والعهدين الدوليين، وتأتي في مقدمة هذه المعوّقات تلك النابعة من الهيكل القانوني والتشريعي في الأقطار العربية، والبنية الثقافية – الاجتماعية. ومن الإشكاليات التي تستوجب المعالجة الجدية بغية الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان يمكن أن نذكر ثلاثاً:
(1) - ما هي وسائل إدراج الأحكام التي تناولتها الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني للأقطار العربية ؟
(2) - ما هي درجة القوة القانونية لنصوص الاتفاقيات الدولية في التسلسل الهرمي القانوني الداخلي للأقطار العربية، وإذا حصل تعارض بين التشريع الوطني النافذ وأحكام الاتفاقيات الدولية فأي نص أَولى بالتطبيق ؟
(3) -هل تجوز إثارة أحكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان أمام القضاء الوطني لدى الدولة العربية المنضمة لهذه الاتفاقيات ؟ وما هي الإشكاليات التطبيقية المتفرعة عنها ؟
كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية
(*) – نُشرت في صحيفة " القدس العربي " – لندن 12/12/2012.