غزوة نيويورك!!

غزوة نيويورك!!

ياسر الزعاترة

عندما كان النقاش مطروحا حول مشاركة حماس في انتخابات سلطة أوسلو 2006، طُرح سؤال عن سيناريو عدم المشاركة. كان الرد ببساطة إن محمود عباس يعلن بصراحة ووضوح أنه ضد المقاومة وأنه مع المفاوضات والدبلوماسية والتعويل على المواقف الأميركية والغربية.

وحين تشارك فتح وحدها في الانتخابات (قدرة الباقين على المنافسة محدودة)، فسيؤدي ذلك إلى صراع كبير في صفوفها، مع العلم أن خلافات الحركة حتى مع مشاركة حماس هي التي منحت الأخيرة فرصة الفوز الكاسح في نظام الدوائر (نصف المقاعد) مع تفوق طفيف في نظام القائمة. أما ثانيا، فسيمنح الشعب الفلسطيني لعباس فرصة لن تطول من أجل امتحان برنامجه (ربما تكون ما بين سنتين وأربع سنوات في أعلى تقدير)، وحين يعلن فشله سيعود الناس إلى حماس وقوى المقاومة من جديد، تماما كما حصل بعد رحلة أوسلو الأولى التي امتدت من سبتمبر 93 إلى سبتمبر 2000، حين اندلعت انتفاضة الأقصى بعد شهرين على انعقاد قمة كامب ديفيد التي أكدت عبثية مسار التفاوض.

مشاركة حماس في الانتخابات وما ترتب عليها بعد ذلك من مشاكل، وصولا إلى الحسم العسكري والانقسام بين الضفة وغزة منحت الرحلة القصيرة لعباس عمرا أطول بكثير، في ذات الوقت الذي منحته فرصة السيطرة على السلطة والمنظمة وفتح تبعا لوجود عدو تتوحد الحركة (فتح) في مواجهته ممثلا في حماس «الانقلابية»!!

رغم ذلك، كان على محمود عباس، ولكي يتجنب الإجابة على سؤال البديل عن فشل مسار التفاوض الذي يلاحقه، بخاصة بعد فشل مفاوضاته مع أولمرت، كان عليه أن يدير عملية إعادة تشكيل للوعي في الضفة الغربية من خلال إشغال الناس بالمال والأعمال وبناء الدولة، مع تركيز مفرط على الأمن والتنسيق الأمني الذي يلاحق فكر المقاومة؛ وليس فقط برنامجها في المساجد والجامعات وسائر المؤسسات، كما استخدم في السياق ما تيسر من حشد ضد «حماس الانقلابية» التي تفعل كذا وكذا، والتي قدمت له من خلال بعض ممارساتها وخطابها أسلحة لا بأس بها، الأمر الذي زاد في إحباط الشارع الفلسطيني. اليوم يضيف عباس إلى ذلك كله بروباجندا تظهره بمظهر الحريص على إنهاء الانقسام مقابل حماس التي تتحفظ عليه، من دون أن يقول للناس ما سيترتب على إنهاء الانقسام بصيغته المطروحة (انتخابات رئاسية وتشريعية) غير إدخال قطاع غزة في لعبة التفاوض والدولة تحت الاحتلال إلى جانب الضفة الغربية، أو حصار وعقوبات على السلطة في حال فازت حماس. الأهم من ذلك، ولكي يتجنب سؤال البديل عن فشل المفاوضات، كان عليه أن يفتعل معارك هنا وهناك تشغل الشارع الفلسطيني وتعلقه بآمال معينة، مع مساعي إظهار نفسه بوصفه المتشدد الذي يرفض العودة إلى المفاوضات مع استمرار الاستيطان، مع أنه فاوض أولمرت ثلاث سنوات والاستيطان في أعلى معدلاته. ولا تسأل عن التنازلات التي قدمها وفضحتها وثائق التفاوض من دون أن تشبع شهية أولمرت وليفني للمزيد. من تلك المعارك التي افتعلها معركة الاعتراف بالدولة من خلال مجلس الأمن، والتي استغرقت شهورا طويلة، بل ربما أكثر من ذلك، وعندما فشلت شرع يدير معركة جديدة تتمثل في طلب الاعتراف من الأمم المتحدة بدولة غير كاملة العضوية، وقد قدّم المعركة على أنها استشهادية قد يفقد فيها حياته؛ مستشهدا بتصريحات حارس ملهىً ليلي يمتهن المزايدة ولا يلتفت لتصريحاته أحد (أعني ليبرمان)، فضلا عن تهديدات بوقف المساعدات أو عقوبات أخرى، متجاهلا الموقف الذي أجمع عليه قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ممثلا في رفض أية عقوبات على السلطة بسبب توجهها للأمم المتحدة، هي التي صممت أصلا لخدمة الاحتلال. لا يقول لنا عباس ومعه كبير مفاوضيه الذي أقيل، وظل يمارس حياته في المفاوضات (الحياة مفاوضات أو المفاوضات حياة)، لا يقول لنا ما الذي سيترتب على غزوة نيويورك بفرض نجاحها، اللهم سوى شطبها الضمني لمنظمة التحرير وتحويل النزاع إلى نزاع حدودي بين دولتين، ما يعني تكريسا للدولة المؤقتة التي يهرب من سؤالها باتهام حماس بها؛ في معزوفة مملة يكررها وكبير مفاوضيه منذ سنوات، فيما يجري تكريس تلك الدولة بجهود سلام فياض الاقتصادية إلى جانب التنسيق الأمني بإشراف الأميركان، وكل ذلك بشرعية منه كرئيس، وهي صيغة معروفة سماها شارون الحل الانتقالي بعيد المدى، وسماها الآخرون الدولة المؤقتة، بينما سماها نتنياهو السلام الاقتصادي. مع ذلك، كانت حماس موفقة إذ لم تعارض هذا المشروع، بل دعمتها حتى لا يُقال إنها ضد الدولة العتيدة. يستمر الاستيطان ويتصاعد، وكذلك التهويد في القدس، بينما يتواصل التنسيق الأمني دون توقف، مع هدايا مجانية من عباس مثل تنازله عن حق العودة، وكل ذلك على مشارف غزوة نيويورك التي لن تعود على الفلسطينيين سوى بتأبيد نزاعهم مع العدو مع بقائهم ضمن دولة تحت الاحتلال ينتظر رئيسها إذنا من العدو لكي يدخلها أو يخرج منها. وإذا سألته عن كيفية تحرير أراضي الدولة، فسيقول لك: من خلال المفاوضات والضغط الدولي!! قلنا إن الانتصار في قطاع غزة يفسح المجال أمام حماس لطرح مشروع توحد الفلسطينيين من خلال إعادة تشكيل منظمة التحرير بانتخابات في الداخل والخارج، مع إدارة مدنية بالتوافق للسلطتين في الضفة وغزة، وبعد ذلك التوحد خلف انتفاضة شاملة في كل الأرض الفلسطينية تطرح شعار دحر الاحتلال دون قيد أو شرط من الأراضي المحتلة عام 67، كمقدمة لتحرير شامل حين تتوافر الظروف المناسبة. وإذا ما رفض عباس كما هو مرجح، أو ماطل وأصرَّ على انتخابات السلطة، فسيكون الأمل معقودا على شعب حي لن يقبل باستمرار هذه المهزلة، وسيفرض على فتح وحماس تصحيح مسارهما بعد إطلاقه انتفاضة شاملة ضد الاحتلال تعيد القضية إلى سكتها الصحيحة وتستفيد من أجواء الربيع العربي. متى سيحدث ذلك؟ لا ندري.