سعي المعارضة للائتلاف أمر جيد؛ لكنّه مجرد بداية
كانت زوادة وفيها كسرات خبز وزيتون
د. سماح هدايا
وشعب يتكيء على ضآلته التي اكتسبها وكرّسها عادة بالقسر والقبول، لكي يحمل عبوديته فوق ظهره المهدود المقهور على مدى يومه. وأقدامه غارقة في وحل من عرق العيش ممزوج بوضاعة الطاعة القهرية... وعدوه خلفه وأمامه حاضر بقوة مهيمن يستبد ويستغل ويملي قراره.
واستمر الإهلاك حتى أعلن المخاتير في أرجاء المعمورة موت هذا الكائن المثير للغرابة، ووصّفوا الخاتمة؛ بأنّ الموت البطيء قد استفحل والتهم روح الشعب الذي هوى بعيدا، وغرق في غيبوبة التناسل والتكاثر والثرثرة ، فتعطلت الأجهزة الحيوية وتفشت الغيبة والمذلة واستشرى الفساد...لكن هؤلاء الناعين تناسوا أنّ الذي كان في يوم عريقا وكتب أزل الحضارة، مقدرٌ عليه البقاء ليحيا، مهما اشتد المرض. وفعلا، فاجأ الأبناء من أصلاب الأجداد الأسياد وطفرة الزمن الجديد، كل الجمع والجموع، عندما شقوا الصمت كالريح وكسروا التمثال الجبار، وحطموا الصنم في العلن. ركلوه ورقصوا فوق جثته. كان التمثال جاثما على الوطن متضخما متصلبا.. لا أمل قي قلعه أو زحزحته. قد امتد على الدماء والشرايين والأحلام، واحتل العقل والإرادات، وترسب في القلوب وهناً فتاكاً، يسحق بقدميه رؤوس الشعب وضميره.
لما كسروا التمثال دفعوا ثمنا باهظا من حياتهم الدنيا؛ لكي يكسروه؛ فخرج القرار العاجل الفوري بإلغاء المخاوف، وخلعها عن أفق الحياة، وإطلاق الأرواح الحرة الشجاعة لخوض المناضلة والمجهادة. لكنْ، مضت شهور جرّت وراءها شهورا. والأبرياء وغير الأبرياء راحوا يستشهدون ويتساقطون في أرض سوريا ويموتون بعشرات الآلاف. ونظام متوحّش عدو يوغل في إجرامه. والعقول حائرة قلقة. متى يأتي النصر؟ ومتى تنفرج السماء وينجو الوطن؟. ولعلّ الجواب كان في قلب الثورة نفسها؛ ففي لافتة من لافتات الثورة السورية في حي كفر سوسة بتاريخ 6 – 11 – 2012، كان مكتوبا: "المسافة بيننا وبين النصر هي ذاتها المسافة بين ذنوبنا وبين التوبة" وهي روح الحقيقة؛ فنحن بحاجة للتكفير العظيم عن جبننا وتقاعسنا وذلنا وجشعنا. ومن تصدر مركز المشهد الوطني والسياسي هم في الأغلب من خارج المعايشة اليومية للقتل والنكبات والتنكيل والفجائع وتجارب المعركة الدموية ومعركة الحياة والبقاء. والثوار الذين كسروا الأصنام هم الذين يقاتلون وحدهم في زخم المعركة ويموتون شهداء، وهم يسطّرون بصدورهم العارية ملامح البطولة في الأرض والخندق، وإن تأخروا في عملية تحويل سير الموكب الضال إلى طريق الثورة وفي إنجاح المهمة الثورية؛ فلأنّ رواسب الخوف التي تؤدي بالإنسان إلى أمراض أخلاقية ونفسية وجسدية كثيرة شديدة الإيذاء، توهن المواقف وتكسرالأفعال، مازالت حاضرة بقوة في الروح والعزيمة والبدن . ومازال هناك نفوذ معوق لمن امحت ملامح شخصايتهم بعد أن تعودوا البلادة والجهل والذل والخنوع، ولمن طغى عليهم طمي الاستبداد فتكيفوا معه بما يخدم منافعهم ومصالحهم الذاتية على حساب صالح أوطانهم. وفي الوقت نفسه يستمر العدو المستبد، محموما مجنونا في حرب إبادة الشعبيّة، توجب تحديات ضخمة، لا يقدر الضغفاء، والذين يعيشون في محاذاة الموت عليها، وعلى تجاوز فزعهم ومخاوفهم لمواجهتها. وكل ذلك يؤخّر النصر ويطيل في عمر المعركة غير المتكافئة وفي عمر المعاناة المتصاعدة.
لكنّ الشّعب الذي كسر التمثال والأصنام، لن تلين عزيمته؛ وهاهو يدخل في مرحلة جديد، يلزمه فيها بلورة رؤيته وعمله في مرونة جدية لقراءة المشهد السياسي والأخلاقي، يتحلّى بكثير الصبر والإرادة والصمود حتى يتثبت نصره وتثبت معه الأكثرية الوطنية في أرض المعركة، ضمن كل هذا الالتفاف العالمي لاحتواء ثورته وتدجينها.
إن الخروج من هيمنة قطبي القطيع الذليل والراعي المستبد عملية صعبة جدا، خصوصا، وسط شد خارجي لطرفيهما. والخشية الحقيقية، ليست في البعيد، إنّما في حصانة ذاتنا من مخاوفنا ذاتها، ومن رواسب القهر والانتهازية الخسيسة، التي تجذرت في أمراضنا وتجذرنا في تربتها المريضة.
الإيمان بالقضية وإرادة الإنسان الحر هما جوهر الثورة... وروح الكرامة هي مادة النضال؛ ولذلك لا أحد يلوي ذراع الثورة. وتبقى الثورة قوية بالمرصاد، على الرغم من حصيلة الفوضى والاضطراب والقلق، تتصدّى بدمائها لتكتب الحرية والكرامة، تحيلنا دائما إلى مذكرات بطولاتها ومغازيها لنمسك بالأمل ونصمد في الأرض؛ فما كان يخطر في بال أحدنا من قبل، أن ذلك التمثال الكبير سيتحطم ويتكسر قطعا قطعا، وأن اقدام الشباب الحر ستركل جمجمته الثقيلة. لكنها الثورة، ومع فروض تغييرها ومفاصل الانقلاب، يتكوّن الإيمان وتولد من رحم الحق القضايا العادلة، وتنبثق العقائد الجديدة.
من يعيش في خضم الثورة يتحرر بدمه، ويختلف عن الذي يشاهد ويراقب الأمواج، وعن الذي ينظّر ويمتطي صهوة الأهداف السياسية لتحقيق المكاسب. الثورة أوسع من أهواء العوام وأقوى من سطوة الحكام وأشد من انتهازية المنتفعين؛ ففيها كلمة الحق من رب الكون، يفرضها على الإنسان ليكون حرا... ونحن قبل أن نطالب العالم بالإنصاف ونجدتنا في حريتنا ومطالبنا المحقة وتقديم الدعم والإغاثة؛ فلنكن نحن أحرارا وشرفاء وأصحاب رؤية، لكي نصنع قدرنا بطهارة النفس الحرة والبصيرة الثاقبة، وهما المبتدأ؛ لكي نطوّع إرادات الآخرين لإرادة حريتنا.
عندما كسروا التمثال والأصنام صادقين بعنفوان، لم يكسروه طمعا بفتات، ولا ليسقطوا في الصفقات والضغائن وتقاسم حصص الجيف الباردة. كسروه لإسقاط العبودية والارتقاء إلى الحرية والكرامة. ولذلك نحن نحتاج لكي نستمر في الأهداف ذاتها ونرتقي إلى الطموح المنشود، إلى نقل نوعي أصيل في ثورتنا وجدانيا وفكريا وسياسيا وعمليا. إنّ سعي المعارضة للتوحد والائتلاف هو أمر جيد؛ لكنّه ليس النهاية وليس المطلب الوحيد. المطلب الأساسي هو الحرية وكسر الأصنام كلها وإزاحة فلسفة التماثيل والتمثيل والخروج الواعي على الولاءات والإملاءات.