عن العلاقة بين التنمية والديمقراطية
عن العلاقة بين التنمية والديمقراطية
د. عبد الله تركماني
تؤكد التجارب الناجحة المعاصرة أنّ العلاقة بين التنمية والديمقراطية تمثل مساراً ذا اتجاهين: الديمقراطية توفر آليات ومؤسسات من شأنها أن تمكّن من تحقيق تنمية حقيقية وذات وجه إنساني. وفي المقابل فإنّ تقدم المسيرة التنموية من شأنه أن يخلق الظروف الموضوعية والمناخ الملائم لترسيخ الممارسات الديمقراطية في المجتمع.
إنّ القضية المركزية في التنمية هي المشاركة الشعبية، وغني عن القول: إنّ توسيع هذه المشاركة في عملية صنع القرارات يتطلب تشجيع منابر الحوار وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والدولة، وإفساح المجال أمام المواطنين لتشكيل منظمات المجتمع المدني التطوعية لتأتي تعبيراً عن خيارات المجتمع. كما يقتضي تفعيل المشاركة الشعبية تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها دستور دولة الحق والقانون، وتمكين المواطنين من الحصول على المعلومات والبيانات الضرورية لفهم الواقع والتأثير فيه، وبذلك توفر الديمقراطية الإطار الذي يوفر أفضل الشروط للتنمية المستدامة.
وكما لا يخفى عنّا فإنّ الاستقرار السياسي والاجتماعي هو أمر لا غنى عنه للتنمية، إذ بدونه يتعذر تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة، وليس كالديمقراطية نظام يستطيع أن يوفر الآليات السلمية للتعامل مع تناقض المصالح الاقتصادية والاجتماعية والنزاعات السياسية، في حين أنّ غيابها من شأنه أن يحول دون تسوية الاختلافات عن طريق الحوار البنّاء، وأن يكبت التوترات الاجتماعية، وأن ينقل الصراعات من الإطار العلني إلى العمل السري الذي ينطوي على احتمالات العنف والتطرف، ويعطل دور القوى المحركة في عملية التنمية. وكما أنّ الاستقرار السياسي والاجتماعي يساعد على تسريع عملية التنمية ودفعها في المسار الصحيح، كذلك فإنّ تقدم مسيرة التنمية من شأنه أن يؤدي إلى توطيد الاستقرار السياسي والاجتماعي وترسيخ التجربة الديمقراطية.
ولكي ندرك عمق العلاقة بين التنمية والديمقراطية فإنه لابد أن نعي أهمية العنصر البشري في عملية التنمية من ناحية، وإلى التأثير البالغ الذي تحدثه الديمقراطية لتطوير قدرات هذا العنصر وتفعيل دوره في عملية التنمية. فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة المنتجة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية وذات أبعاد إنسانية. من هنا تأتي أهمية الديمقراطية، فهي بإفساحها المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات عملية التنمية، ولا حاجة إلى القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها أن تعمل على تطوير قدرات المواطن وتوسيع الخيارات أمامه على نحو يساعده على تحقيق ذاته، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيه.
إنّ إدراك المواطن بأنّ فرص التقدم مفتوحة أمامه، وأنّ تقدمه مرهون بعمله وكفاءته دون أي اعتبار آخر، وثقته بأنّ ثمار عمله ستعود عليه، سوف يدفعه إلى السعي الجدي لاكتساب المزيد من المعارف والمهارات وبذل المزيد من الجهد في العمل.
إنّ وضع حاجات المواطنين الأساسية في مقدمة أولويات التنمية، وتوسيع المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار، وإخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمزيد من الدرس والتمحيص من خلال الحوار العام المفتوح، من شأنه أن يؤدي إلى إدارة عقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية. ومن ناحية أخرى، فإنّ ضمان سهولة الحصول على المعلومات، وتوفر الشفافية في الصفقات الاقتصادية، وإفساح المجال لتسليط الضوء على جوانب القصور وعدم الكفاءة في الأجهزة الحكومية والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، والكشف عن التجاوزات والممارسات المنحرفة، تساعد على تحسين أداء الأجهزة والمؤسسات الحكومية وتمكّن من محاربة الفساد.
وغني عن القول: إنّ الرقابة الشعبية هي وحدها التي تستطيع القيام بمهمة الكشف عن جوانب القصور ومواطن الفساد والممارسات المنحرفة بفعالية، فأجهزة الرقابة الحكومية في كثير من البلدان النامية تفتقر إلى الحيادية والنزاهة، وتخضع في كثير من الحالات لضغوط المسؤولين عن التقصير والمنتفعين من الفساد، مما يجعلها غير قادرة على إظهار الحقائق وإدانة المقصّرين والمفسدين.
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا أنّ تحقيق التنمية وضمان استدامتها هو أمر متعذر بمعزل عن الديمقراطية، على أنّ عملية التنمية لا تتأثر بالديمقراطية فحسب، بل تؤثر فيها أيضاً. إذ أنّ العلاقة بينهما ذات طبيعة جدلية، وتنطوي على تأثير متبادل بينهما: فكما أنّ الديمقراطية توفر الإطار المحفز للتنمية، كذلك فإنّ التنمية تخلق القاعدة المادية والمناخ الملائم لتطور الديمقراطية.
إنّ التنمية، باعتبارها توسيع للفرص، تتيح للمواطن الارتقار بمعارفه ومهاراته وتطوير قدراته، واختيار العمل الذي يجد فيه ذاته ويحقق له دخلاً يكفل له حياة كريمة. وينمّي لديه الإحساس بالمسؤولية تجاهه، ويعزز اقتناعه بضرورة الاعتماد على الحوار والتواصل في التعامل مع القضايا العامة، الأمر الذي يخلق مناخاً ملائماً لمعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية بالطرق السلمية. وكلما خطت التنمية، ذات البعد الإنساني، شوطاً في مسارها كلما توطد الاستقرار في المجتمع وترسخت بالتالي التجربة الديمقراطية.