الثورة السوريّة في أربع سنوات
مجاهد ديرانية
كانت سوريا خامسةَ خمسِ دول أزهر فيها الربيعُ العربي، ربيعُ اليقظة والنهضة الذي استيقظت فيه الأمةُ بعد طول رُقاد، ونهضت لكي تحطّمَ أغلال الاستبداد وتُنهيَ عقوداً متطاولة من الظلم والاستعباد، لتولد ولادة جديدة بعد موت طويل.
وشاء الله أن تتحمل سوريا وحدَها الجزءَ الأكبر من آلام المخاض، فلئن كان ثمنُ الربيع العربي عشرةَ قناطير من الآلام والمعاناة والتضحيات فقد حملت دولُ العرب قنطاراً منها وحملت سوريا سائرَ القناطير، فإنّ مِن ثوراتها ما يُقاس بالأيام كمصر وتونس، أو بالشهور كليبيا واليمن، ومنها ما اقتصر حراكها على احتجاجات مؤقتة تقاس بالأيام. سوريا هي الوحيدة التي امتدت ثورتها حتى صارت توصَف وتُقاس بالسنين.
قد يختلف المراقبون والدّارسون في تعريف مراحل الثورة السورية المختلفة وتحديد حدودها الزمنية، ولكن الجميع سوف يتفقون -بلا ريب- على أن الثورة اليوم ليست هي ثورة آذار 2011، وأن الوصول إلى المرحلة الأخيرة تمّ عبر مراحل انتقالية ذات خصائص متباينة. ورغم أن التحولات الثورية العفوية لا تخضع لأسماء الأشهر وأرقام السنين إلا أن الملاحَظ أن لكل سنة منها طبيعةً مختلفةً عن سابقتها، بحيث نستطيع تمييز سنوات الثورة الأربع بصفات جامعة، ويمكن أن نمنح كلاً منها عنواناً خاصاً يميزها عن الأخريات.
فيما يأتي محاولة لتقديم وصف موجز لتطورات الثورة السورية في أربع سنوات.*
_______________
* كُتبَت هذه الدراسة في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 وعُرِضت خلاصتُها في الندوة التشاورية الثالثة التي عقدَتها "هيئة الشام الإسلامية" في إسطنبول في ذلك الوقت، ثم نُشرت في العدد الأخير من مجلة "البيان" الذي صدر قبل عشرة أيام. ولم أغيّر أي شيء مما ورد فيها لأن الواقع ما يزال قريباً جداً من الوصف الذي قدمَته الدراسةُ في آخرها، باستثناء خريطة توزيع القُوى على الأرض، حيث عرضتُ هنا نسخةً محدَّثة منها (تاريخ التحديث هو يوم أمس، الرابع من كانون الثاني 2015).
السنة الأولى (2011): الإقلاع والتأسيس
بدأت الثورة سلميةً شعبية ونمَتْ ببطء وبثبات مطّرد، فلم تسجل أي انتكاسات أو تراجعات برغم القسوة الهائلة وتنوّع أساليب القمع التي لجأ إليها النظام: المواجهة الدامية للمظاهرات، واعتقال الناشطين، والمذابح القاسية (وكانت قليلة ومتباعدة)، وتدخّل الجيش واقتحام واحتلال المدن الثائرة.
كان التعبير عن الحالة الثورية متنوعاً وسلمياً، وتجلّى في مظاهرات واعتصامات وإضرابات هزّت سوريا وغطّتها من أدناها إلى أقصاها. كانت المظاهرات هي "ثيرمومتر" الثورة؛ بدأت على غيرِ نظامٍ في بُؤَر قليلة، ثم انتشرت بوتيرة متسارعة حتى تجاوزت بؤرُها الألفَ مع نهاية العام. وكانت بأعداد محدودة، ولكنها تحولت مع الوقت إلى تجمعات هائلة ضمّ كثيرٌ منها عشرات الآلاف، بل ربما تجاوز عددُ المتظاهرين أحياناً مئةَ ألف كما رأينا في حماة ودير الزور. وكانت متقطعة في الزمن، ثم صارت يومية رتيبة في مئات المواقع الثورية في معظم أنحاء سوريا، مع بقاء الزخم الأعظم لمظاهرات الجمعة التي ثابر على الخروج فيها في الأشهر الأخيرة عدةُ ملايين.
لقد كانت تلك السنة هي سنةَ البناء بحقّ، وكل ما أتى بعدها عالةٌ عليها ويدين لها بالفضل، ففيها تكونت الحاضنةُ الثورية العملاقة التي استطاعت حمل الثورة والمضيّ بها منذ ذلك الحين. ولعل سلمية الثورة في تلك المرحلة هي العنصر الجوهري الحاسم الذي كتب لها النمو والبقاء، وهي الصفة التي قاومها النظام بكل قوته، فبذل جهداً هائلاً ليصرف الثورةَ عنها ويدفعها إلى العسكرة. ثم نجح في ذلك لأسباب باتت معلومة للجميع، فبدأت العمليات العسكرية على استحياء في شهر الثورة الرابع (لعل العملية العسكرية التي وقعت في بلدة جسر الشغور بجبل الزاوية في حزيران هي أولى العمليات المسجَّلة في سجلّ الثورة) ثم بدأت بالانتشار في مناطق متباعدة ببطء شديد. مع نهاية العام صار للعمل العسكري وجود محدود في خمس محافظات على الأقل، ولعل عدد الكتائب بلغ في نهاية العام عشرين كتيبة أو ثلاثين في جميع أنحاء البلاد.
في تلك السنة بدأت أيضاً محاولات خجولة لتأسيس عمل ثوري سياسي، وقد كان أقربَ إلى التخبط والفشل في البداية، حيث اجتمع عددٌ ممّن صنّفوا أنفسَهم معارضين سياسيين في أنطاليا في بداية شهر الثورة الرابع (المؤتمر السوري للتغيير، حزيران 2011) وفي وقت قريب منه عُقد مؤتمر آخر في بروكسل، ثم عُقد مؤتمر إسطنبول في الشهر التالي (مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري، تموز 2011). وفي وقت لاحق تم الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري (تشرين الأول 2011) الذي بقي الجامعَ الرئيسي لشتات المعارضة السياسية لأكثر من عام، حتى تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في أواخر السنة التالية.
ينبغي أن تؤكد أيُّ دراسة تاريخية للثورة على حقيقة مهمة: لقد كان العمل الثوري الشعبي رائداً وسابقاً للعملَين العسكري والسياسي اللذين نشآ على إثره واستفادا من زخمه الكبير، مع ضرورة التفريق بينهما بفارق مهم، وهو أن العمل العسكري نشأ من رحم العمل الثوري وشارك فيه أهلُ الأرض فصار جزءاً عضوياً من الثورة، وأن العمل السياسي نشأ من خارج الثورة، كان أجنبياً غريباً هامشياً وبقي غريباً أجنبياً على هامش الثورة حتى اليوم.
لو أردنا وصف الثورة في سنتها الأولى بعبارة موجزة لقلنا إنها: ثورة سلمية شعبية، بدأت بمَطالبَ إصلاحيةٍ عامة، ثم تطورت بسرعة إلى المطالبة بإسقاط النظام بسبب الرد الهائج والعنيف الذي قوبلت به. وفشلت كل محاولات النظام وقمعه لوأدها، بل ما زادتها تلك المحاولاتُ إلا اشتعالاً وانتشاراً، فلم تأتِ نهاية السنة حتى كانت ثورةً عميقةَ الجذور واسعةَ الانتشار، ولعلنا نجازف فنقول: لم يبقَ في سوريا (السنّية) في نهاية تلك السنة بيتٌ إلا ودخلته الثورة.
السنة الثانية (2012): الارتفاع والتمدد السريع
مع نهاية السنة الأولى وبداية السنة الثانية انحسرت الطبيعة الشعبية السلمية للثورة لصالح العَسْكَرة، فقد حصل الثوار على أسلحة خفيفة ومتوسطة، وأحسنوا الاستفادةَ منها بسرعة فاستطاعوا نقل المعركة إلى مستويات عالية غير مسبوقة، تمثلت في تحرير بعض المدن والسيطرة على مطارات ومعسكرات ومستودعات وثكنات عسكرية، مما أتاح لهم امتلاكَ السلاح الثقيل للمرة الأولى منذ بدء الثورة، حيث صارت في أيديهم مدافع هاون وراجمات صواريخ، ثم غنموا -في مرحلة لاحقة- عربات مدرعةً ودبابات ومدافعَ ثقيلة.
ظهرت آثارُ هذه الأسلحة على الأرض سريعاً، فبدأت وحدات عسكرية ثورية محلية بتحرير بعض المناطق الصغيرة في سوريا: كالزَّبَداني في ريف دمشق الغربي وبلدات حَرَسْتا وسَقْبا وكفر بَطْنا وحَمّورية في الغوطة الشرقية التي حررها الثوار في الشهر الأول من العام الجديد، ولكنهم عجزوا عن الاستمرار بالسيطرة عليها لأكثر من عدة أيام في كل حالة. بعد ذلك كانت تجربة تحرير حي بابا عمرو الحمصي الشهير في شباط، واستمرت ستةً وعشرين يوماً، ثم حُرِّرت قرى عديدة في أرياف إدلب وحمص وحماة وحلب في آذار ونيسان. وما زال العمل العسكري ينمو ويتمدد باطّراد وصولاً إلى عملية حلب الكبرى التي حرّر الثوارُ فيها جزءاً كبيراً من المدينة في تموز، وفي إثرها عملية دمشق الكبرى التي أحبطها النظام.
قابل النظام ذلك التقدم السريع بشراسة مذهلة مرعبة وتصعيد هائل في العنف والترهيب، فقد افتتح السنةَ الجديدة بإدخال المدفعية الثقيلة إلى المعارك، حيث بدأ يستعملها في قصف المدن المأهولة منذ أوائل كانون الثاني، وبدأ في نيسان باستخدام المروحيات لقصف المدن بالبراميل المتفجرة، ثم بدأ بقصفها بالطائرات الحربية منذ شهر آب، وأخيراً بدأ بقصف المدن المحررة في الشمال بالصواريخ البالستية قبل نهاية العام بأيام. كما نفّذ في تلك السنة مجموعة كبيرة من المجازر البشعة، إما باستعمال قواته النظامية أو بواسطة العصابات الطائفية، أشهرها هي مجازر الحولة وكَرْم الزيتون وتَفْتَناز والتّريمسة والمعَضْمِيّة، التي قُتل فيها المئات من الأطفال والنساء، قضى أكثرهم ذبحاً بالسكاكين.
على الصعيد الدبلوماسي شهد الشهر الأول من السنة الثانية مبادرة الجامعة العربية التي اقترَحت تنازلَ بشار الأسد عن كامل صلاحياته لنائبه وتشكيل حكومة وطنية توافقية بين المعارضة والنظام، وقد سقطت تلك المبادرة بسبب رفضها من قِبَل نظام الأسد. في منتصف السنة، في حزيران، تكرر طرح المشروع بصيغة مشابهة في لقاء جنيف (الذي صار يُعرف لاحقاً باسم "جنيف 1") حيث توصلت أمريكا وروسيا إلى رؤية مشتركة تنص على إنشاء "هيئة حكم انتقالية" تضمّ أشخاصاً من المعارضة والنظام.
منذ بداية عام 2012 وحتى الآن بقي الحل السياسي الذي يعتمد على "كيان توافقي" هو الحل الوحيد الذي يتشبث به المجتمع الدولي ويعبّر عنه بصور وصيغ متشابهة، تصرّ جميعُها على استمرار سيطرة الطائفة النصيرية على سوريا، وعلى بقاء الكتلة الأساسية للنظام -بما فيها الكتلة الأمنية والعسكرية- في أي وضع مستقبلي للبلاد.
في الشهر التالي (تموز 2012) عقدت المعارضة السورية مؤتمراً عاماً في القاهرة برعاية جامعة الدول العربية، صدرت عنه وثيقتا "المرحلة الانتقالية" و"العهد الوطني"، أو ما صار يُعرف بعد ذلك باسم "وثائق القاهرة" على سبيل الاختصار. وقد أقرت الوثيقة الأولى "إسقاط الأسد ورموز السلطة" كهدف أعلى للثورة، مما تسبب في اعتراض ورفض شعبي، لأن هذه الصياغة المُلتبِسة قد يُفهَم منها السعي إلى إسقاط مجموعة من رموز النظام فقط وليس إلى إسقاطه كاملاً بكل رموزه وأركانه ومؤسساته. كما لم تسلم الوثيقة الثانية (العهد الوطني) من انتقادات واسعة بسبب محاولتها طرح رؤية استباقية أحادية لمستقبل سوريا بعد التحرير، وهي رؤية تتسم بقصور كبير في تكريس وصيانة هوية سوريا الإسلامية.
قبيل نهاية تلك السنة، في تشرين الثاني 2012، أُعلن عن تشكيل الجسم السياسي الجديد للثورة السورية، وهو "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، فورث الجسمَ السياسي القديم، المجلس الوطني، وحصل على اعتراف بعض الدول العربية ممثلاً للشعب السوري. تكوّن الائتلاف منذ البداية من مجموعة من الكتل التي استمدت قوّتَها من القُوى الدولية والإقليمية الداعمة، وهذا الأمر أفقده المرونةَ والانسجام، فتميزت سيرته منذ نشأته وخلال السنتين اللاحقتين بالتعثر والنزاعات الداخلية، كما أنه لم يملك قرارَه المستقلّ في أي يوم من الأيام، مما تسبب في قطيعة شبه كاملة بينه وبين الجسم الثوري والعسكري في الداخل.
السنة الثالثة (2013): حرب الاستنزاف
استمرت انتصارات الثورة مع بداية العام الثالث، ففي شهرها الأول سقط بأيدي الثوار مطارا تَفْتَناز والجرّاح وسيطروا على سد الطبقة، وفي السادس من آذار تم تحرير مدينة الرقة لتصبح الرقة أول محافظة محررة من بين محافظات سوريا الأربع عشرة.
مع بداية الربع الثاني من العام لاحظ محللون إستراتيجيون غربيون أن النظام غيّر خطتَه، فبدلاً من محاولة السيطرة على البلاد كلها (وهو ما عجز عنه حتى الآن) بدأ يركز على المناطق الإستراتيجية الأكثر أهمية. وكان التغير الإستراتيجي الثاني هو دخول المليشيات الشيعية (اللبنانية والعراقية والإيرانية) في الحرب بقوّة، حيث قدّمت دعماً علنياً غير مسبوق للنظام الذي فقد السيطرة على جزء كبير من سوريا خلال السنة المنصرمة.
في نيسان بدأ حزب الله اللبناني (حالش) هجوماً برياً واسعاً على القُصَير انتهى بسقوطها في الخامس من حزيران، وبعدها بأسبوعين تقريباً سقطت تَلْكَلَخ والقريتين، ثم اشترك جيش النظام مع الحزب في هجوم واسع على حلب، ولكن الثوار أفشلوا الهجوم وتقدموا في مواقع جديدة في المنطقة، فحرّروا خان العسل، ثم حرروا مطار مِنِّغ، وبعده بقليل وقُبيل نهاية شهر آب سيطروا على خناصر وقطعوا خط إمداد النظام الوحيد إلى حلب، لكن النظام استرجعها في بدايات الشهر العاشر.
استمرت معارك الاستنزاف والكرّ والفَرّ في مناطق أخرى خلال النصف الثاني من عام 2013، فتداول الثوار والنظام السيطرةَ على مناطق في دير الزور وحوران والقنيطرة وريف حماة وجنوب دمشق، كما تقدم الثوار في جبال الأكراد والتركمان في هجوم مفاجئ أوائل شهر آب حتى وصلوا إلى مسافة عشرين كيلومتراً من القرداحة، ثم استرجع النظام السيطرة على تلك المناطق في هجوم مضاد. وفي ريف الحسكة حقق حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المتحالف مع النظام) انتصارات متتالية في حربه مع جبهة النصرة وسيطر على مناطق واسعة من المحافظة.
التطور الأسوأ في تلك السنة والكارثة الأكبر في تاريخ الثورة السورية كانت ولادة داعش في نيسان، ثم تمددها -خلال الشهور الأربعة الأخيرة منه- في المناطق المحرَّرة على حساب الكتائب المحلية والفصائل الإسلامية، حيث استطاعت السيطرةَ على مساحات واسعة في محافظات حلب وإدلب والرقة والحسكة ودير الزور التي حررها الثوار في السنة المنصرمة.
استمر النظام خلال تلك السنة باستهداف المدن المحرَّرة بالمدفعية والصواريخ والطيران الحربي، وأحكم الحصار على البؤَر المحررة القريبة من مناطق نفوذه، في غوطتَي دمشق الشرقية والغربية وجنوب دمشق وحمص القديمة وقلعة الحصن، وشنّ في الحادي والعشرين من آب هجوماً كيماوياً على غوطة دمشق أوقع أكثرَ من ألفٍ من الضحايا المدنيين أكثرُهم من الأطفال.
ارتفع عدد النازحين واللاجئين خلال السنة الثالثة بتسارع هائل، فقد كانوا نحو مليون في أولها وبلغوا في آخرها سبعةَ ملايين، منهم خمسةُ ملايين نازح داخل سوريا ومليونا لاجئ توزعوا على دول الجوار.
على صعيد المعارضة السياسية بقي الشلل المؤسَّسي مهميناً على الائتلاف الوطني بسبب طبيعته القائمة على الكتل والمحاصصات، وبلغ التدخل الخارجي والصراع على النفوذ ذروتَه مع "فرض" الكتلة الليبرالية الجديدة على الائتلاف في أيار من هذه السنة. وقد تسبب "صراع النفوذ" في عرقلة وتعطيل أهم المؤسسات الثورية السياسية التي يُنتظَر من الائتلاف إنجازُها، وهي "الحكومة الوطنية الانتقالية"، حيث أُعلن عن تشكيل الحكومة الأولى في آذار وتم إلغاؤها في تموز، ثم شُكِّلت الحكومة الثانية قبل نهاية العام بستة أسابيع. ولم تستطع أيٌّ من الحكومتين القيام بدورها السياسي والخَدَمي الحقيقي بسبب الصراعات والتناقضات الداخلية، التي أنهكت الائتلاف وتسببت في تعطيله وعزله عن الثورة.
السنة الرابعة (2014): التراجع والانحدار
ازداد الوضع الميداني صعوبةً مع تعدد الأعداء الذين اضطُرَّت الثورة إلى قتالهم، فبعدما كانت المعركةُ محصورةً بالجيش النظامي في عام 2012 صارت الثورة مضطرة -في السنة التالية- إلى قتال عدد كبير من المليشيات الطائفية التي تدفق مقاتلوها على سوريا بأعداد هائلة، قادمين من لبنان والعراق وإيران وبعض الدول الأخرى، بالإضافة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي بدأ بحرب انفصالية في الشمال الشرقي من البلاد. ثم ازداد الأمر سوءاً في تلك السنة مع بدء الاجتياح الداعشي للمناطق المحررة، قبل أن تنجح الحملةُ العسكرية الواسعة (التي قادتها بعضُ الفصائل العسكرية في مطلع 2014) في إجلاء داعش عن معظم المناطق التي احتلتها سابقاً في حلب وإدلب ودير الزور ، فانسحبت إلى الرقة وتحصنت فيها استعداداً لهجومها الجديد.
في منتصف عام 2014 صارت داعش خصماً بالغ القوة بعدما حصلت -في ظروف مُريبة جداً- على كميات هائلة من الأسلحة والذخائر من العراق ونقلتها إلى سوريا، فيما استمرّ الحصار الدولي على الثوار السوريين لتحديد كميات وأنواع السلاح، مما أدى إلى اضطراب ميزان القوة لصالح داعش التي قامت بهجوم واسع النطاق، سيطرت على إثره على محافظتَي الرقة ودير الزور وعلى مساحات واسعة في محافظة الحسكة وفي ريفَي حلب الشرقي والشمالي وريف حمص الشرقي.
على الجبهات الأخرى حقق النظام تقدماً واسعاً في القلمون، واستطاع إعادةَ احتلال حمص القديمة بعد حصار قارب السنتين، وأحكم الحصار على الجزء المتبقي من المدينة (حي الوَعْر)، واستمر حصارُه المحكم على غوطة دمشق الشرقية التي يعيش فيها مليون إنسان، فيما اضطُرّت بعض المناطق الصغيرة التي أنهكها الحصار وفتك الجوعُ والمرض بالمئات من أهلها، وأكثرُها من المناطق المنكوبة المحيطة بالعاصمة، اضطرت إلى عقد هُدَن مع النظام.
تسببت تلك الهجمة الشرسة التي ما تزال الثورة تتعرض لها منذ أواسط عام 2013، والتي اشتركت فيها داعش مع النظام وحزب الله اللبناني والمليشيات الطائفية الإيرانية والعراقية، تسببت في كارثة هائلة، فقد خسرت الثورةُ غالبيةَ الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبل عام، حيث احتلت داعش نحو سبعة أعشار المساحات المحررة واستعاد النظام السيطرة على العُشر الثامن، وبقي في يد الثوار عشرون بالمئة من الأراضي التي حرروها خلال السنتين المنصرمتين.
سياسياً كان التطور الأهمّ هو عقد مؤتمر "جنيف 2" في مطلع العام، وقد شارك فيه وفدٌ عن الائتلاف الوطني وسط عواصف داخلية تسببت في انسحاب كتلة "المجلس الوطني" في العشرين من كانون الثاني (ثم عادت إلى الائتلاف بعد ذلك بأربعة أسابيع) ووسط معارضة صاخبة من الحراك الثوري الداخلي، ولا سيما الفصائل العسكرية الكبرى. ورغم أن أداء المعارضة تفوق على أداء النظام إلا أن المؤتمر نفسه انتهى إلى الفشل.
بقي الائتلاف الوطني خلال هذه السنة عرضةً للخلافات والصراعات بين مكوّناته المختلفة، وأضحى ساحةَ تجاذبات للقوى الإقليمية مما زاد في تشتّت قراره وشلله المؤسسي. وقد انعكست تلك التناقضات بصورة سلبية على الحكومة الانتقالية التي كان يُنتظَر منها تلبية الاحتياجات الخدمية والإنسانية -كالصحة والتعليم والغذاء والسكن والمواصلات والاتصالات- في المناطق المحررة والمحاصرة، مما أدى إلى انهيار الحكومة لفترات طويلة وتعطل أدائها بصورة كلية أحياناً وجزئية في أحيان أخرى.
مع استمرار الحرب للسنة الرابعة ومع استمرار النظام في قصف المناطق المأهولة بالمدفعية والطيران استمرت حركةُ النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، حتى بلغت أعدادُ النازحين واللاجئين داخل سوريا وخارجَها أكثرَ من اثنَي عشر مليوناً، أي أنّ نصفَ سكان سوريا صاروا مشردين. في الوقت نفسه تضاعف الحصارُ الدولي على الثورة ومؤسساتها وزاد التضييقُ على التبرعات الشعبية في معظم البلدان وتضاءلت المساعدات الإنسانية الدولية، مما تسبب في مضاعفة المعاناة الإنسانية التي اضطُرَّت مؤسساتُ الثورة إلى تحمل الجزء الأكبر منها.
الوضع الحالي للثورة
عسكرياً فقدت الثورةُ في السنة الأخيرة الجزءَ الأكبر من مكتسباتها الميدانية التي حققتها خلال مرحلة الصعود والانتصارات، بحيث صارت سوريا موزَّعةً حالياً بين خمس قوى رئيسية، هي:
(1) النظام الذي نجح في إعادة احتلال مواقع إستراتيجية مهمة كان الثوار قد حرروها في وقت سابق، وهو يسيطر حالياً على ثلث مساحة سوريا، الثلث الأهم الذي يضم العاصمةَ وبعضَ المدن الكبرى (حمص وحماة وإدلب) ويشمل غرب سوريا بأكمله تقريباً.
(2) حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المتحالف مع النظام) الذي يسيطر -بالتعاون مع قوات النظام السوري- على النصف الشمالي من محافظة الحسكة، وينفرد بالسيطرة التامة على منطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي.
(3) داعش التي احتلت ثلاثة أرباع المناطق التي حررها الثوار في حربهم مع النظام، وباتت تسيطر على نصف سوريا الشرقي كله، باستثناء الجزء الخاضع لسيطرة الأكراد في محافظة الحسكة.
(4) القوى الثورية المستقلة (أو ما يسمى اصطلاحاً "الفصائل الإسلامية" و"كتائب الجيش الحر"، مع عدم موافقتي على هذه التسميات الاصطلاحية التي تكرّس الفُرقةَ في الصف الثوري العسكري). وقد انحسرت المساحات التي تسيطر عليها هذه القُوى المختلفة (التي تضم مئات الأجسام الكبيرة والمتوسطة والصغيرة) بحيث صارت تقتصر على نحو 15% من مساحة سوريا، وتضم: الجزء الجنوبي من محافظة حوران، ومحافظة القنيطرة، وأجزاء من محافظتَي دمشق وريفها (المناطق المحاصَرة في الغوطتين الشرقية والغربية وجنوب دمشق والقَلَمون) ومن ريف حمص الشمالي وريف حماة الشمالي، وجبل الأكراد، وريف إدلب، وقسم من مدينة حلب بالإضافة إلى ريف حلب الغربي.
(5) جبهة النصرة. تشترك جبهة النصرة مع الفصائل والكتائب المختلفة في السيطرة على المناطق المذكورة في البند السابق، لكن المؤسف والمقلق هو أنها تتحرك منذ بعض الوقت حركة فردية بأسلوب مُريب يذكّرنا ببدايات الحراك الداعشي، فهي تتمدد سريعاً في محافظة إدلب على حساب الكتائب المحلية، بحيث لا نستبعد أن تستولي عليها بالكامل ذات يوم، وربما أعلنت فيها "إمارة إسلامية" إذا صحّت التوقّعاتُ والتسريبات الأخيرة. وهي مستمرة في محاولة فرض نفسها في ريف حماة الشمالي وفي النصف الغربي من الريف الحلبي الشمالي، كما أنها لا تفتأ تقوم بمحاولات متكررة لفرض سيطرتها في الجنوب، في القنيطرة ودرعا، فضلاً عن خروجها على الإجماع الثوري في غوطة دمشق الشرقية.
النتيجة النهائية
وصلت الثورة السورية إلى مرحلة خطيرة تهدد وجودَها وقدرتَها على البقاء والاستمرار، وهي أمام واحد من خيارين: إعادة إنتاج نفسها في نسخة جديدة محسَّنة تتلافى الأخطاء السابقة، وتوحيد الجهود ورصّ الصفوف لمواجهة التحديات الخطيرة، أو الفناء.
وبفضل الله فقد نجحت الغالبيةُ العظمى من القوى الثورية المستقلة أخيراً بالاجتماع تحت مظلة واحدة، هي "مجلس قيادة الثورة" الذي أُعلن عن تشكيله وأنا أخط الكلمات الأخيرة في هذا البحث، ممّا يبعث الأمل في إحياء الثورة واسترجاع المناطق التي فقدتها في السنة الأخيرة.
ملحق
خريطة توضح التوزيع الحالي للقوى المسيطرة على سوريا. اللون الرمادي يرمز لداعش، واللون الأحمر للنظام، والأصفر لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والأخضر يمثل مناطق سيطرة الجيش الحر والفصائل الإسلامية، ومعها جبهة النصرة.
مع ملاحظة أن المساحات ذات اللون الرمادي كان ينبغي أن تكون خضراء اللون لولا داعش، حيث تُظهر هذه الخريطة المحزنة (والواقعية) حجمَ الكارثة التي نشأت عن عدوان داعش على الثورة وغدرها بالمجاهدين وابتلاعها للمناطق المحررة، وهذا هو ما دعا السوريين إلى إطلاق شعار "داعش أخطر من النظام"، لأن النظام عدو ظاهر استطاعوا محاربته وتحرير مساحات واسعة من الأراضي التي كان يحتلها، وداعش عدو خفي اخترق الجسم الثوري بلا مقاومة (أو بأقل القليل منها) واستطاع احتلال ثلاثة أرباع المساحات التي بذل الثوار في تحريرها عشرات الآلاف من الأرواح.