موضوع خطير
أ.د. ميرا جميل
وصلني من أحد المواقع التي أشارك في الكتابة فيها، طلب للمشاركة في موضوع "خطير جدا"(!!) يحمل عنوانا مثيرا: "هل سيدخل المسلمون وحدهم الجنة دون خلق الله ؟"
قرأت واحترت بين البكاء أو الضحك؛ قرأت مشاركات لبعض الكتاب حول الموضوع الخطير، فتغير إحساسي من الضحك أو البكاء إلى حيرة وقلق حول متاهات الوعي والعقل والاتزان عند الإنسان. فهل من الممكن أن يشغل هذا "الموضوع الخطير" مثقفين وأكاديميين في مجالات علمية، بدل مسائل الفيزياء، مثلا، أو الاكتشافات التي تغير مجرى العلوم، مثل اكتشاف جزيئات سرعتها أكبر من سرعة الضوء؟ أو موضوع الانفجار الكبير وتشكل الكون ؟ أو طرح بدائل لمجتمع الفساد، عبر رؤية حداثية لمجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية والتطور الاقتصادي والتعليمي والعلمي؟ أو إنجاز نظام ديمقراطي يضع الإنسان في رأس سلم أولوياته؟ أو رؤية ثقافية لبناء مجتمع يقرأ ويترجم ويجدد رصيده الثقافي، فلا يبقى غارقا في متاهات الماضي التي استهلكت بموضعها وبغير موضعها حتى السأم؟! مسائل كثيرة هامة جدا، وخطيرة جدا، تدفقت في ذهني وأنا أمنع نفسي حزنا من الضحك.
وصلت إلى كندا منذ سنة، كمحاضرة زائرة في جامعة "مكجيل" في مونتريال، وتجدد بقائي بسبب الاهتمام غير العادي بقضايا الشرق الفكرية والاجتماعية. وأعترف أن هذا الموضوع "الخطير" أثار، حين طرحته بدون تعقيب أمام طلابي، ضحكا صاخبا في القاعة، لم أتمالك نفسي إلا المشاركة بالضحك. ثم تراكمت الأسئلة والتعليقات، وشعرت في بعضها بمهانة أن أكون ممثلة لثقافة تعيش على فتات الخرافات والغيبيات. بل وسئلت أيضا: هل هذا الأمر يتمشى مع الربيع العربي؟
ونأتي للتفاصيل. السؤال الذي وجه لي للمشاركة بالكتابة عنه كان كالتالي:
صرح الصحفي بلال فضل بتصريحات خطيرة على تويتر، إذ قال : " كيف أؤمن برحمة الله، وأنا أكره مجرد الإقرار أن رحمته يمكن أن تسع جميع الذين عملوا الصالحات، وأن جنته يمكن أن تسع كل الأتقياء والمحسنين، فمن هو الأبله الذي يتصور أن الله خلق مليارات البشر لكي يلعبوا دور الكومبارس في تمثيلية مشهد النهاية فيها أن يدخل المسلمون فقط إلى الجنة ؟ " .
والآن نضع هذه القضية الخطيرة بين أيديكم، لكي نستمع منكم إلى ردود علمية وموضوعية بعيدا عن الأسلوب الإنشائي أو الأسلوب الانفعالي .. نريد أجوبة حاسمة لكي نرد بها على مثل هذا الكلام الخطير .
انتهى الإقتباس.
وجاء ردي بعد تردد: المؤسف أن موضوعا سفسطائيا يشغل هذا القدر من الحوار. فقضايا الإنسان على وجه الأرض هي المواضيع الهامة، وهي التي تحتاج إلى قدر من الوعي لمعرفة الصواب من الخطأ والصحيح من الضلال، في إقرار مناهج سليمة لإدارة شؤون المجتمع والرقي بالإنسان.
مثل هذه الأسئلة تشغل عقول البسطاء بقضايا فوقية غير ذات بال. افعل لآخرتك كأنك تموت غدا، أي تصرف بما يليق بصفتك البشرية. تصرف كانسان. الجنة هي موضوع رمزي، والويل لنا إذا توهمنا بأننا نعرف عنها أكثر مما نعرف عن واقعنا اليومي. إن الطرح الديني جاء من باب الترهيب والترغيب، أي لم يكن دافعا معرفيا، إنما دافعا أخلاقيا.
من المؤسف أن ينشغل عشرات "المثقفين والمتعلمين" بهذا الموضوع "الخطير"، واعطائه صفة العلم، بينما هو موضوع بائس في مقياس العقل المتنور. ويروقني بهذه المناسبة أن يكون ردي بحكاية سمعتها في روايات عديدة، وها أنا أقدم صيغة جديدا للحكاية، بدل الثرثرة بلا معنى:
وقف احد الملائكة ( كل طائفة تسمي ملاكا حسب ما يريحها) على باب السماء، يستقبل الناس الصالحين الوافدين إلى الجنة. فطلب الملاك من الشخص الواقف في الدور : عرف نفسك وأذكر أفعالك. فقال الرجل: أنا مسلم سني، فعلت الخير كل عمري، لم أفوت فريضة، ولم أرتكب ما يشعرني بتأنيب الضمير. كنت مثالا للإنسان الصالح ، والمنفذ لكل تعاليم الدين. فقال له الملاك بعد أن فحص أوراقه الثبوتية وسجله العدلي: تفضل ادخل واذهب إلى غرفة 168 ولا تلتفت إلى بقية الغرف في الطريق، رغم الضجة والصخب التي في داخلها.وهكذا دخل الرجل سعيدا إلى 168، وهو يكاد يطير من الفرح.
ثم جاء دور مسلم شيعي، فطلب منه الملاك، مثل سابقه، تعريف نفسه وذكر أفعاله. قال: أنا مسلم شيعي كنت مثالا لطيبة النفس، ولم أرد على ذمي من مخالفي عقيدتي ولم أؤذ أحدا في حياتي والتزمت بتعاليم الدين. فحص الملاك أوراقه الثبوتية، وملفه العدلي وقال له: اذهب إلى غرفة 270 ولا تلتفت إلى الغرف الأخرى حيث الصخب والضجيج. فدخل الرجل مليئا بالسعادة، راكضا كالصاروخ إلى غرفة 270.
وهكذا قابل الملاك مختلف الناس من طوائف إسلامية عديدة. ثم جاء دور المسيحيين من كل الطوائف؛ لاتين واورتوذكس وكاثوليك وموارنة وأقباط وسريان ومعمدانيين وأتباع مختلف الفلق المسيحية. ثم شهود يهوه والماسونيين، ثم جاء دور البوذيين والمجوسيين، وبعدهم جاء دور الشيوعيين من مختلف فلقهم؛ ماويين وتروتسكيين وستالينيين وتقليديين وتيارات أخرى يصعب تذكرها. ثم جاء دور القوميين من تيارات مختلفة والشوفينيين على أشكالهم، وكان يرسل كل شخص إلى غرفة مختلفة، ويوصيه بعدم الالتفات إلى الضجيج والصخب في مئات الغرف الأخرى التي يتعالى فيها الصراخ والهتافات والغناء وضرب الطبول. بذلك تجاوز عدد الغرف مئات كثيرة لشدة الاختلاف وكثرة العقائد والتحزبات والجمعيات والألوان والأجناس. ثم جاء دور رجل يهودي، فكان هذا الحوار:
- من أنت؟
-أنا يهودي مؤمن وصالح، لم أفعل غير الحق، وتنفيذ أوامر الرب بقتل أعدائه فقط.
- اذهب إلى الغرفة 99 ولا تلتفت إلى الغرف الأخرى رغم الصخب والضجيج فيها .
- ولماذا الصخب والضجيج ؟
- هذا ليس شأنك.
-ولكني ابن الجنة الآن، ولا بد أن أعرف ما يدور حولي.
- انتم اليهود دائما حشريون، لا تقنعون بما خصص لكم.. اذهب إلى غرفة 99 وانتهى الأمر.
إلا أن اليهودي أصر بعناد أن يعرف مسألة الغرف الأخرى والضجيج، فقال:
لم أقرأ في التوراة أن في الجنة غرفا وصخبا وضجيجا . هذا أمر غريب لا بد من أن توضحه لي. هل من ملحق للتوراة لم يصلنا؟ غضب الملاك من عناده، ولكن القرار الرباني حسب التسجيلات في الحاسوب تشير انه من أهل الجنة. فقال له: انتم حشريون دائما، أصحابك اليهود من أتباع حاخامك في الغرفة 99،
والغرف الأخرى فيها أبناء طوائف أخرى، بل ويهود من أتباع حاخامات آخرين، وبالطبع أعضاء حركات وتنظيمات مختلفة.. وكل مجموعة في غرفتها، تظن أن لا أحد غيرهم في الجنة، لذلك يفرحون ويصخبون ويضجون، ويلقون الخطابات ويرقصون محتفلين بوصولهم إلى الجنة. وأنالا أريد أن أعكر صفو فرحهم، وتوهمهم أنهم الوحيدون في الجنة!
ستذهب الآن من أمامي، أم أرسلك لآخر الدور لتنتظر سنوات حتى تمثل أمامي مرة أخرى؟!