الفصل والوصل بين الديني والسياسي

حسام العيسوي إبراهيم

حسام العيسوي إبراهيم

[email protected]

1-  المقدمة

من أهم القضايا المثارة في هذه الأيام : قضية علاقة الدين بالسياسة ، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بقضية الفصل والوصل بين الديني والسياسي .

إن كثيرين يرون أن العلاقة يجب أن تكون فصلا بين الديني والسياسي، وإقامة السياسة على أسس مدنية محضة، لا وجود فيها لإحالة على "مقدس"، بل يقصى الدين منها إقصاء، إن الشأن الديني عندهم شأن مطلق بينما السياسة شأن نسبي، وهم يبنون رأيهم في الغالب على أن الدين علاقة "روحية" بين العبد وربه، وحقيقته إيمان يستقر في الوجدان والقلوب.

وفي المقابل يجعل كثيرون تلك العلاقة وصلا تاما وترابطا ماهويّا، بجعل العمل السياسي عملا "دينيا" بالمعنى الخاص، انطلاقا من أن الدين الإسلامي دين شامل لا يمكن عزل السياسة عنه.(1)

2-  معنى الديني والسياسي

والظاهر أن أغلب الخلاف ناتج عن عدم ضبط المفاهيم أو المصطلحات، فكثيرون عندما يسمعون عبارة (فصل الدين عن السياسة) يفهمون منها فصل السياسة عن القيم والأخلاق، وتركها فريسة الأهواء وأنواع الدجل والكذب، أو عزلها عن حقائق العدل والمساواة وحب الخير للناس ومراعاة مصالحهم، بينما لا يعني بها آخرون من المدافعين عنها إلا عدم اعتبار القرار السياسي ذا قدسية وقطعية دينية لا تقبل الاختلاف وفي مستوى الوحي الإلهي.

إن الدين قد يرد في النصوص الشرعية وفي استعمالات العلماء والمفكرين على الأقل بمعنيين: عام وخاص.

أما المعنى العام فيشمل مختلف أوجه نشاط المسلم وجميع الأعمال التي يأتيها بما فيها ممارسته الدنيوية والسياسية، وهكذا فكل ما يأتيه المسلم في حياته من عمل صالح فهو دين، وهو عبادة بمفهومها العام، وهو صدقة ما دامت نيته خالصة لله، واعتبرت النصوص الشرعية أي عمل دنيوي من هذا النوع دينا، وعبادة، وصدقة ... ففي الحديث: "وفي بضع أحدكم (أي ممارسته الجنسية المشروعة) صدقة"، قال الصحابة: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أليس عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال فإن له أجرا" [ رواه مسلم ]. (2)

وأكد الشاطبي على شمولية الدين وعموم تشريعاته لجميع "أنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات" (3) ، ويورد ذلك في عبارة جامعة قائلا: "كل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو عبادة".(4)

وبهذا المعنى العام للفظ "الدين" يمكن أن تقرأ الآية الكريمة: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا" [المائدة : من الآية 3 ] . فهي تصرح بأن الدين كامل، وليس فيه أي شكل من أشكال النقص والنسيان، لكن الراجح أن المقصود الدين بمعناه العام، وليس دين العقائد والشعائر والأحكام الثابتة فقط، وهذا ما شرحه به العديد من العلماء والمفكرين المسلمين. ولذلك يقول الشاطبي إن الحفظ المضمون في قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" أيضا، لا أن المراد المسائل الجزئية. (5)

وهكذا، فإن من كمال الدين أن الله تعالى أوكل أو فوض للإنسان الاجتهاد والإبداع في شئون حياته، ثقة بقدرته الفكرية والمعرفية على الإجابة عن الأسئلة المطروحة، وإجاباته وإبداعاته هي التنظيمات والإجراءات الوضعية التي تنظم الحياة الدنيوية للأفراد والمجتمعات، إنها من الدنيا، لكنها دين أيضا بالمعنى العام، أي بمعنى أنها تتم في انسجام مع التوجهات والقيم الدينية العامة، ومن هنا اعتبر علماء مدرسة أهل السنة الولاية والسياسة من الطاعات، وعدوها عبادة، ليس بمعنى أنها "تعبد"، بل على أساس أنها من الأعمال الدنيوية التي تتم في الإطار المرجعي العام للدين، وهكذا فإن تعيين رئيس الدولة أو الإمام يعتبر من باب العمل الدنيوي الاجتهادي الذي يقوم به الناس وليس من باب الدين التعبدي، وهذا لا يمنع من اعتباره دينا، بالمعنى العام، أي عملا يعتبر طاعة، فيؤدى بحقه، ويتقى الله فيه: فلا غش ولا خيانة، ولا استخفاف بالمسئولية... وعلى هذا الأساس يجب أن تفهم عبارات فقهاء الإسلام في هذا المجال، مثل قول ابن تيمية: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله . (6)

وهذا يبين كيف أنه على عكس ما نجده في المنظومة الغربية، حيث لا يتضمن الدين إلا ما هو مطلق، فإنه في الإسلام يشمل ما هو مطلق ونسبي معا، فكلاهما دين، فكل ما في السياسة من أصول وثوابت، فهو أدخل في المجال المطلق، بينما يدخل ما فيها من متغيرات في المجال الديني النسبي. وفي هذه النسبية يمكن التفاعل مع عطاءات الفكر البشري وإنتاجاته دون أي حرج. ولذلك تم التنصيص على أن الدين يتجدد، وهذا معناه أن الجوانب الاجتهادية من الدين أو الجوانب النسبية منه تتجدد.

3-  السياسةفي المفهوم الغربي والإسلامي

 إن كلمة (سياسة) كغيرها من الكلمات ذات الدلالة العلمية والفنية المستعملة عند العلماء والكتاب والمفكرين وغيرهم، فهي تحمل معنيين اثنين: معنى لغويا، ومعنى اصطلاحيا.

المعني اللغوي: إن الكلمة سياسة تعني في المدلول اللغوي ما يأتي.

"السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه".

وتعني أيضا: الترويض والتدريب على وضع معَّين، والتربية والتوجيه، وإصدار الأمر والعناية والرعاية، والإشراف على شيء، والاهتمام به والقيام عليه.

المعني الاصطلاحي: ومفهوم السياسة كغيره من المفاهيم الفكرية يختلف حسب العقيدة والمبدأ والنظرية التي يستفاد منها، أو يعتمد عليها، لذا فقد عُرِّفت السياسة بتعاريف عديدة، وفهمت بصور وأشكال مختلفة.

ويهمنا في هذا البحث أن نعرِّف (السياسة) تعريفًا إسلاميا مستفادًا من النظرية الإسلامية وفهمها للسياسة، إلا أنه من المفيد أن نتناول بعض التعاريف، وصور الفهم غير الإسلامية للسياسة. فقد عرِّفت بتعاريف عديدة من قبل بعض الكتاب السياسيين، المختلفين في مذاهبهم، ونظرياتهم السياسية، لنعرف الفارق بين مفهوم السياسة في الإسلام، ومفهومها في المذاهب غير الإسلامية.

فقد عرَّفها سقراط الفيلسوف اليوناني بأنها: "فن الحكم، والسياسي هو الذي يعرف فن الحكم".

وعرَّفها أفلاطون بأنها: "فن تربية الأفراد في حياة جماعية مشتركة، وهي عناية بشؤون الجماعة، أو فن حكم الأفراد برضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن".

وعرَّفها ميكافيلي بأنها: "فن الإبقاء على السلطة، وتوحيدها في قبضة الحكام، بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك".

ويرى دزرائيلي: "إن السياسة هي فن حكم البشر عن طريق خداعهم".

وهكذا نلاحظ الفوارق في الفهم والتعريف، وتحديد مفهوم السياسة وهويتها بين الكتاب والمفكرين والفلاسفة غير الإسلاميين، متأثرين بفلسفتهم العامة، وفهمهم للحياة والمجتمع والأخلاق، وحركة التاريخ، وباستقرائهم لمجالات النشاط السياسي، وتحديدهم لها في ظروف الممارسات المنحرفة، أو القاصرة للسياسة، فانتزعوا من هذين المصدرين فهمهم للسياسة، فقد رأينا أن بعض الكتَّاب السياسيين يرى السياسة بأنها: (فن الحكم)، ويراها فريق آخر بأنها: (فن الصراع من أجل السلطة والإبقاء عليها)، وينظر إليها آخرون نظرة أعم: (تتعلق بالنشاط السياسي للحاكم والمحكوم).

وكل ينطلق من فلسفته العامة لحركة التاريخ والمجتمع، وفهمه لفلسفة الحياة، والنوازع النفسية والمادية والأخلاقية للإنسان.(7)

مفهوم السياسة في الإسلام

وإذا تخطينا تلك المدارس الفكرية، وفهمها للسياسة، إنها: (فن الحكم، وأنها الكفاح من أجل السلطة) وأنها: (أداة للتسلط، والسيطرة والتحكم) وأنها (فن الوصولية) وعدنا إلى الإسلام، لنعرف رأيه في السياسة، وتحديده لمفهومها من خلال الممارسة التي تمّت على يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والمقتدين بنهجه، ومن خلال النصوص والمفاهيم الواردة في القرآن والسنة... ومن خلال الدراسات السياسة والعقائدية، خصوصا بحث (الإمامة) لدى العلماء والمفكرين الإسلاميين، نستطيع أن نحدد هذا المفهوم بشكل واضح، وبعيد عن الاضطراب والضبابية التي اكتنفت المدارس الفكرية المختلفة خارج الإطار الإسلامي.

فباستقراء، ومتابعة كلمة السياسة، والراعي والرعية، والإمام، والسلطان وولي الأمر، والبيعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والشورى في الدراسات الإسلامية... وفي النصوص والمجالات ذات العلاقة، سنعرف أن مفهوم السياسة في المدرسة الإسلامية، قريب من معناه اللغوي.

فكلمة (سياسة) تطلق على كل عمل يتعلق برعاية الأمة، وتدبير شؤونها.. سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية، أو إدارة الدولة، أو نشاط الأفراد والأحزاب الإسلامية، أو القضاء وإدارة العلاقات الخارجية والدفاع عن الأمة والعقيدة والأوطان... إلخ. وإذن فالحكومة مسؤولة عن رعاية شؤون الأمة، والأمة مسؤولة عن رعاية شؤونها، ومن رعاية شؤونها، مراقبتها للسلطة، ومحاسبتها، وإسداء النصح والمشورة، وتحديد الموقف منها عند الانحراف، والخروج عن الخط الإسلامي..

وهكذا نفهم أن معنى السياسة ليس هو (الكفاح من أجل السلطة، والصراع عليها) وليس هو محصورًا في (فن الحكم المجرد) وليس (هي أداة تسلط طبقي) ولا هي (فن الوصولية)... بل هي: "رعاية شؤون الأمة".

وتسأل عن هذا الواجب ابتداء الأمة الإسلامية بأجمعها، ثم تتركز المهمة (بالسلطة الإسلامية) مع بقاء المسؤولية السياسية قائمة من خلال واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على نحو الكفاية.

والواضح أن الرعاية، والاهتمام بشؤون الأمة ومصالحها، يدخل فيها فن الحكم، ونشاطات السلطة السياسية، ونشاطات الأمة السياسية، بما فيها الكفاح والثورة ضد الحاكم الظالم. وهكذا يتسع مفهوم السياسة في الإسلام، ليشمل كل ما هو رعاية لشؤون الأمة، ومصلحتها.

وبعبارة أخرى أن السياسة: عمل تقوم به الأمة، وجهاز السلطة، من أجل تحقيق الأهداف الأساسية للرسالة الإسلامية التي لخَّصها الفقهاء بـ"جلب المصالح ودرء المفاسد".

وهكذا يتسع هذا المفهوم ليشتمل كل عمل ونشاط يمارسه، أو تقوم به الحكومة والأفراد والجماعة والمنظمات والأحزاب القائمة على أساس الإسلام من أجل: (جلب المصالح، ودرء المفاسد) لتحقيق الأمن، والدفاع الخارجي، والقضاء وتقديم الخدمات التعليمية، والطبية، وتقويم السلطة، وتحقيق العدل، وإزاحة الظلم، وحماية الأخلاق، وتوجيه الاقتصاد، وفن إدارة السياسة، وأمثال ذلك مما يدور في دائرة الرعاية والعناية بشؤون الأمة، والحفاظ على مصالحها، ودرء المفاسد عنها.

وقد اتسع أخيرًا مفهوم السياسة، كما فهمه الفكر الإسلامي، بعد التطور الذي حصل في الدساتير وموضوعاتها التي تعتني بعلاجها. بحيث أصبح الدستور وثيقة تحوي الأسس العامة لتنظيم الحياة وتوجيهها، وتطويرها بشتى مجالاتها، وأبواب نشاطها كما سبق الفكر الإسلامي إلى ذلك، ويتضح لنا ذلك من خلال دراسة النصوص الواردة في القرآن والسنة المطهرة.(8)

4-  السياسة في تراثنا الإسلامي

إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية.

هل نجدها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي فقه المذاهب المتبوعة، أو غيره من الفقه الحر؟ وهل نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلاسفة؟

وكيف تحدَّث هؤلاء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟

كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن

كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية.

وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها.

ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن.

أضرب مثلا لذلك بكلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم.

ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحثِّ على الفضيلة، واجتناب الرذيلة.

فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، ويُنبئ عنها، مثل: كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم.

جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتَّى، بعضها مدح، وبعضها ذم. فهناك المُلك العادل، وهناك المُلك الظالم، المُلك الشُورِي، والمُلك المستبد.

ذكر القرآن في المُلك الممدوح: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54].

وذكر من آل إبراهيم: يوسف الذي ناجى ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101]، وإنما قال من المُلك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه مَلِك، هو الذي قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].

وممَّن آتاهم الله المُلك: طالوت، الذي بعثه الله مَلِكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247].

وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقوله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].

وكذلك سليمان الذي آتاه الله مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعده.

وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه. فقال: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ...}[الكهف:84].

وممَّن ذكره القرآن: مَلِكة سبأ التي قام مُلْكها على الشورى لا على الاستبداد {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].

وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك.

ومثل: مُلك فرعون الذي {عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4].

وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في مُلكه.

فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة).

ومثل ذلك: كلمة (التمكين) كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف:56]، وقوله عن بني إسرائيل:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص:5]،وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }[الحج:41].

ومثل ذلك: كلمة (الاستخلاف)، وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. وقوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [لأعراف:129].

ومثل ذلك كلمة (الحُكْم) وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58]، وهي الآية التي أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه "السياسة الشرعية". وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45]، وفي آية:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. (9)

ما ورد عن السياسة في السنة

على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

كما توضح السيرة العملية للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مفهوم السياسة والحكم أفضل إيضاح، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولته المقدسة في المدينة المنورة، وطبق المفاهيم الإسلامية لتكون نهجا ودستورا للحياة. ونختار من الأحاديث الشريفة، لنوضح مفهوم السياسة في الإسلام وشموله ما يأتي:

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "فالأمير الذي هو على الناس راع ومسؤول عن رعيته" [ رواه البخاري ] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..." [ رواه البخاري ] .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ومَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".[ رواه الحاكم والطبراني ، وقال الألباني ضعيف جداً ] .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: " َمن ولي من أمر المسلمين شيئاً فولّى رجلاً، وهو يجد مَن هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" [ رواه الحاكم في صحيحه ] .

"ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة" [ أخرجه البخاري ومسلم ] .

"ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة" [ رواه البخاري ] .

روي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل يا رسول الله وما إضاعتها، قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة" .

وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"  [حديث حسن غريب من هذا الوجه ] . (10)

أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا

وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة) قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير.

وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا.

روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول.

وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم.(11)

5-   تاريخ الفصل بين الديني والسياسي

ظهور العلمانية في الغرب المسيحي    

لقد كان لظهور العلمانية في الغرب المسيحي الدور الأساسي في ظهور الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي ، بل هذا هو التاريخ الحقيقي لفصل الدين عن كل مظاهر الحياة .

والعلمانية كلمة حديثة الاستعمال في لغتنا العربية ، شأنها شأن كثير من الكلمات ، التي أصبحت مصطلحات أو لها قوة المصطلحات في عصرنا ، و" الياء " المشددة فيها للنسب ، والألف والنون زائدتان .

وهناك من ينطقونها بكسر العين " العِلْمانية " ، نسبة إلى " العِلْم " بكسر ، فسكون وهذا هو الأشهر ، ومن ينطقونها بالفتح " العَلْمانية " نسبة إلى " العَلمْ " بفتح ، فسكون ، بمعنى " العالَم " ، أي الدنيا ، وعليه جرى " المعجم الوسيط " ، الذي أصدره مجمع اللغة العربية .

والكلمة – على كل حال كسرت عينها أو فتحت – مترجمة عن اللغات الأوربية . وكان يمكن أن تترجم بلفظ " لا دينية " ؛ لأن معنى الكلمة الأجنبية ما ليس بديني ، وكل ما ليس بديني ، هو لا ديني ، ولكن اختيرت كلمة " عِلماني " أو " مدني " ؛ لأنها أقل إثارة من كلمة " لا ديني " .

وكما أن لفظ الكلمة دخيل على معاجمنا العربية ، فإن معناها ومدلولها ، سواء أكانت بكسر العين أو بفتحها ، ما يقابل " الدين " . فالعِلماني ما ليس بديني ، ومقابله الديني ، أو الكهنوتي ، وكأن مدلول " العِلمانية " ، المتفق عليه يعني : عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع ، وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد ، لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه ، فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ، ففي الشعائر التعبدية ، والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ، ونحوها .

وهذا المعنى غير معروف في تراثنا الإسلامي ، فتقسيم شئون الحياة إلى ما هو ديني ، وما هو غير ديني ، تقسيم غير إسلامي ، بل هو تقسيم مستورد ، مأخوذ من الغرب النصراني . وما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من تقسيمات للحياة ، والناس ، وللمؤسسات ، إلى ديني ، وغير ديني ، ليس من الإسلام في شيء .

لم يكن في الإسلام – كما في عصورنا الأخيرة إلى اليوم – تعليم ديني ، وتعليم غير ديني ، ولم يكن في الإسلام أناس يسمون رجال دين ، وآخرون يسمون رجال العلم أوالسياسة أو الدنيا ، ولم يعرف الإسلام سلطتين : إحداهما دينية ، والأخرى زمنية أو دنيوية ، ولم يعرف في تراث الإسلام دين لا سياسة فيه ، ولا سياسة لا دين لها .

لقد كان الدين ممتزجاً بالحياة كلها ، امتزاج الروح بالجسم ، فلا يوجد شيء منفصل اسمه الروح ، ولا شيء منفصل اسمه الجسد ، وكذلك كان الدين والعلم ، أو الدين والدنيا ، أو الدين والدولة في الإسلام .

إن العلِمانية " بضاعة غريبة " لم تنبت في أرضنا ، ولا تستقيم مع عقائدنا ومسلماتنا الفكرية .(12)

مبررات ظهور العلمانية في الغرب المسيحي

لقد كان لظهور العِلمانية في الغرب مبرراتها الدينية ، والفكرية ، والنفسية ،والتاريخية ، والواقعية . وهي مبررات خاصة بالعالم الغربي ، لا يجوز للعالم الإسلامي أن يقلده فيها :

أ/ المسيحية تقبل قسمة الحياة بين الله وبين قيصر :

المسيحية – نفسها – تحتوي من النصوص ما يؤيد فكرة العِلمانية ، أي الفصل بين الدين والدولة ، أو بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية .

أجل ، تعترف المسيحية بهذه الثنائية للحياة ، بحيث تقسمها قسمين :

أحدهما : لقيصر وهو الجانب ، الذي يخضع للسلطة الزمنية ، سلطة الدولة .

والثاني : لله ، وهو الجانب الذي يخضع للسلطة الروحية ، سلطة الكنيسة .

وهذا واضح في قول المسيح (عليه السلام ) ، كما يرويه الإنجيل : " أعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله " !

ويسند هذا من تاريخ الفكر الغربي ، أنه لم يعرف الله ، الذي نعرفه نحن المسلمين ، محيطاً بكل شيء ، مدبراً لكل أمر ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عن علمه ذرة ، في السماوات ولا في الأرض ، وسع كل شيء ، رحمة وعلماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، وجعل لكل شيء قدراً ، بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكموا بين الناس ، فيما اختلفوا فيه .

إنما إله الفكر الغربي إله آخر ، مثل إله " أرسطوا " ، الذي لا يعلم شيئاً غير ذاته ، ولا يدري عما في الكون شيئاً ، ولا يدبر فيه أمراً ، ولا يحرك ساكناً ، فهو – كما قال مؤرخ الحضارة والفلسفة ، " ول. ديورانت " : إله مسكين ، أشبه بملك الإنجليز ، يملك ولا يحكم !

أما الإسلام فهو لا يعرف هذا الإله المسكين المعزول عن الكون والإنسان ، ولا يقبل الثنائية ، التي عرفه الفكر المسيحي والفكر الغربي ، الذي يشطر الإنسان ، ويقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر . فليس قيصر نداً لله ، ينازعه في ملكه ، بل هو عبد الله ، يخضع لحكمه ، ويدين لأمره ونهيه ، كم يدين كل العباد .

ب/ المسيحية ليس فيها تشريع لشئون الحياة :

ومن ناحية أخرى ، لا تملك المسيحية تشريعاً مفصلاً لشئون الحياة ، يضبط معاملاتها ، وينظم علاقاتها ، ويضع الأصول والموازين القسط لتصرفاتها . إنما هي روحانيات وأخلاق ، تضمنتها مواعظ الإنجيل ، وكلمات المسيح فيه .على خلاف الإسلام ، الذي جاء عقيدة وشريعة ، ووضع الأصول لحياة الإنسان من المهد إلى اللحد . " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " [ النحل : 89 ] .

ج/ ليس للإسلام سلطة دينية بابوية :

فهناك سلطتان بالفعل في المسيحية : السلطة الدينية ، ويمثلها البابا ، ورجال " الإكليروس " . والسلطة الدنيوية ، ويمثلها الملك أو رئيس الجمهورية ، ورجال حكومته ، وأعوان سلطته .

فإذا انفصلت الدولة عن الدين هناك ، بقى الدين قائماً ، في ظل سلطته القوية الغنية المتمكنة ، وبقيت جيوشها " من الرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات " تعمل في مجالاتها المختلفة ، دون أن يكون للدولة عليه سلطان . بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية ، فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ، ولا قوة تسنده ، حيث لا بابوية له ولا كهنوت ولا " إكليروس " .

د/ تاريخ الكنيسة غير تاريخ الإسلام :

إن تاريخ الكنيسة نفسه مع العلم والفكر والحرية ، تاريخ مخوف ، فقد وقفت الكنيسة مع الجهل ضد العلم ، ومع الخرافة ضد الفكر ، ومع الاستبداد ضد الحرية ، ومع الملوك والإقطاعيين ضد الشعب ، حنى ثارت الجماهير عليها ، وتحرروا من الحكم المباشر لرجالها ، واعتبروا عزل الدين عن الدولة ، كسباً للشعوب ضد جلاديها .

لقد قتل ملايين من الأبرياء ، دون أن تهتز شعرة في جسم من قتلوهم ، كما نُهِب عشرات الملايين من البشر ، وجردوا مما يملكون ، ونفوا عن بلادهم ، واستعبدوا ، ولقد لقوا هذا المصير على أيدى مسيحيين ، انحدروا من أصلاب أسر مسيحية ، انتسبت منذ قرون ، إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ، أو إلى الكنيسة الشرقية البروتستانية .لكن الإسلام أعلى من شأن العلم والعلماء ، وحفظ كرامة الإنسان من أن تهان ، ورغب المسلم في الحفاظ على غيره كحفاظه على نفسه . (13)

6-  خاتمة

وفي رأينا أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليس هو الفصل القاطع، وليس هو الوصل والدمج التامين، بل هو وصل مع تمييز وتمايز، ونحن هنا نستعمل عبارة شهاب الدين القرافي التي دافع عنها في كتابه: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، بالتمييز بين تصرفات الرسول بوصفه نبيا، وبين تصرفاته بوصفه رئيسا للدولة.

والسبب في ذلك هو أنه لا يمكن إقرار فصل تام بين الدين والسياسة في أي مجتمع من المجتمعات، لأن الدين حاضر لدى الفرد المنتمي إلى المجتمع -سواء كان مسلما أو غير مسلم، متدينا أو غير متدين- حاضر في لا وعيه وفي ثقافته التي تشربها، كما أن الدين -أي دين- يطرح منظومة قيمية ومعيارية ويوجه للأهداف العليا التي يريد أن تسود الحياة وتوجه مسيرة الحضارة، مثل العدل والحرية والمساواة والشفافية والشورى وتكريم الإنسان وغيرها، وما ينتظره الدين من الناس المؤمنين به هو أن تنعكس هذه القيم المعيارية في علاقاتهم الدنيوية وفي عملهم السياسي، وبالتالي فإن الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية.

إن تبني التمييز بين الدين والسياسة لا الفصل التام ولا الوصل إلى حد التماهي، هو الذي سيمنع من التنكر للإنجازات التي حققتها البشرية في مجال الفكر السياسي، ويمكن من الاستفادة من تطوراته، ويفسح المجال في نفس الوقت ليكون الدين معينا للقيم الأخلاقية والفكرية، بحيث يتم استصحاب هذه القيم في الممارسة السياسية استصحابا يثريها بالمعاني الإنسانية السامية، كما يمكن أن يبقى الدين -كما كان باستمرار طيلة تاريخنا القديم والحديث- محفزا للإصلاح السياسي، ومعالجة الظواهر السلبية في الحياة الإنسانية. (14)

                

الهوامش

1-              الدين والسياسة تمييز لا فصل 

                     د/ سعد الدين العثماني (إسلام أو لاين 8/1/2008)

2-              المرجع السابق

3-              الموافقات

                   أبو إسحاق الشاطبي ( 3/285)

4-              الموافقات

         أبو إسحاق الشاطبي (1/ 140،141)

5-              الموافقات

         أبو إسحاق الشاطبي (1/32)

6-              السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

         ابن تيمية (ص5)

7-              الثقافة السياسية في الإسلام والقرآن

         هاشم ناصر الموسوي

8-              المرجع السابق

9-              الدين والسياسة (تأصيل ورد شبهات)

                             د/ يوسف القرضاوي

10-         الثقافة السياسية في الإسلام والقرآن

         هاشم ناصر الموسوي

11-         الدين والسياسة (تأصيل ورد شبهات)

                             د/ يوسف القرضاوي

12-         الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه

                             د/ يوسف القرضاوي

13-         المرجع السابق

14-         الدين والسياسة تمييز لا فصل 

                     د/ سعد الدين العثماني (إسلام أو لاين 8/1/2008)