إيراني... أم تركي
صلاح حميدة
في خضمّ ثورة العرب ضدّ حكامهم المستبدّين، يثور نقاش واسع حول ما يريده العرب من ثوراتهم تلك، فهل يريدون نظاماً تعدّدياً يشارك فيه الجميع، أم نظاماً دينياً كهنوتياً مطلقاً قائماً على " ولاية الفقيه" أم نظام ولي أمر مطلق الصّلاحيّات، أم نظاماً تسلّطياً يحكمه العسكر، أم نظاماً تحكمه نخبة علمانية متطرّفة لا تؤمن بالآخر وتريد أن تفرض رؤيتها على الجميع.
في نفس الوقت، تتزاحم على أبوابهم عروض وتدخّلات ومحاولات اختراق وفرض وتسويق نماذج من قبل قوى غربية متعدّدة، بل لا تزال بعض دول الرّجعية العربيّة والعالميّة تحاول وقف عجلة التاريخ ومنع التّغيير في العالم العربي، و من أبرز المشاريع السّياسيّة التي تعرض نفسها على الشّارع العربي، مشروعان، مشروع إيراني، وآخر تركي، وهما يتسابقان لخطب ودّ مصر – قائدة العالم العربي- لتسويق خطّهما السّياسي في سوق سياستها، بل قد يكون هناك من يسعى لاحتواء وإعادة صياغة النّظام السّياسي المصري الجديد في إطار رؤيته الإستراتيجيّة للمنطقة.
يعتبر النّموذج الإيراني الأقدم والأكثر حضوراً في المنطقة منذ عقود، وهو نظام طائفي قائم على خطاب يعتمد سياسة إعلامية تقول بمعاداة الغرب والدّولة العبريّة، وتنادي بإخراج القوّات الأمريكيّة من المنطقة، وتقول إنّها نظام "جمهوري إسلامي" ينتمي للجماهير ويكافح الاستبداد والأنظمة التّابعة للغرب، وتعتبر أنّ فلسطين والمقاومة الفلسطينيّة من ضمن أولويّاتها، وفي هذا الباب دعمت المقاومة الفلسطينيّة، ومنحت سفارة "إسرائيل" السّابقة في طهران لمنظّمة التحرير الفلسطينية، وحافظ ذراعها في لبنان "حزب الله" على علاقات متوازنة مع غالبيّة أطياف الشّعب الفلسطيني من متديّنين وعلمانيين ويساريين.
مرّ النّظام الإيراني بامتحانات واختبارات عديدة، فكان الامتحان الأصعب يتعلّق بالقدرة على استيعاب الأفلّيات الدّينيّة والعرقيّة والمذهبيّة والقوميّة، وفي هذه كانت علاقاته مع العرب في الأحواز متوتّرة، وعلاقته بالسّنة غير عادلة، ولم تنته تلك المشاكل عند الأذر والأكراد التي لا تزال مشتعلة حتّى الآن. أمّا فيما يتعلّق بالحرّيّة والتّعدّديّة السياسيّة، فالنّظام الإيراني عاجز عن إدارة حياة سياسيّة وانتخابات حرّة ونزيهة، فهو يتحكّم بكل أدوات اللعبة السياسية، ويحدّد مدخلاتها ومخرجاتها، ينصّب من يشاء، ويقصي من يشاء، ومن يحتج فله العصا الغليظة، وتدار كل هذه اللعبة من قبل " الوليّ الفقيه" الّذي لا يمكن انتقاده ومناقشته والاحتجاج على قراراته، وبإمكانه عزل الرّئيس والنّواب والوزراء والمسؤولين، ويستطيع تعطيل القرارات والأمر بتنفيذ أي أمر حتّى ولو كان يخالف الإرادة الشّعبيّة.
على صعيد دول الجوار، فالنّظام الإيراني يتحالف مع الأرمن ضدّ الأذر، وله خلافات جوهريّة مع البحرين والإمارات والسّعوديّة واليمن والعراق – الشّعب والدّولة- وتفوم تحالفاته في العراق وسوريا ولبنان وبعض دول الجزيرة العربيّة على أسس طائفية مع من يختلف مع العرب السّنة على وجه الخصوص، ففي العراق يتحالف مع الأكراد والشّيعة ضد العرب السّنة، وفي سوريا ولبنان تقوم تحالفاته على أساس جمع الأقليّات في حلف ضد العرب السّنة، وبالتّالي فهو يعتمد على سياسات تخدم وتعزّز الفرقة بين الأطياف المكوّنة لتلك الشّعوب، ويخلق بينها ضغائن وأحقاد وثارات- مثلما يحدث في سوريا حاليّاً- فبعض حلفاء إيران وسوريا في لبنان طالبوا الغرب علانيةً بالتحالف مع إيران و"حزب الله" والنّظام الطائفي المجرم في دمشق، ضد العرب السّنة " الأصوليون" فيما وصفهم أحد هؤلاء في وثيقة لويكيلكس ب " الحيوانات" .
أمّا على صعيد دعم الجماهير في ثورتها ضد الاستبداد والفساد، فقد أيّد النّظام الإيراني ثورتي الشّعب المصري والتّونسي والحراك الشّعبي في البحرين، فيما انقلب ضد الشّعب السّوري الّذي ثار على نظام طائفي مجرم متعفّن، ودعم هذا النّظام بكل ما يستطيع، وجنّد آلته الدّعائيّة لخدمة وتغطيّة تلك المجزرة وترديد الأكاذيب التي تفنّدها الحقائق على الأرض، وأصبح واضحاً أنّ هذا الموقف شكّل الإمتحان الأبرز للنّظام الإيراني، ولطبيعة النّموذج الّذي يسعى لتسويقه للعالم العربي الثّائر، بل هناك تقارير تتحدّث عن دعم ميداني لوجستي وبشري من قبل إيران و " حزب الله" للنّظام المجرم في دمشق، مع أنّ هذا النّظام لا ينقصه مجرمين وطائفيين وفاسدين للقيام بعمليات القتل، ولكن شدّة اندفاع واستماتة هذه الأطراف في دعم والدّفاع عن هذا النّظام المجرم تستلزم إعادة البحث في مثل هذه التّقارير.
في الملف الفلسطيني، تلقّت المقاومة الفلسطينية الدّعم من إيران حتّى وقت قريب، وكان هذا عرفاناً منها للمقاومة الفلسطينية التي دعمتها ما قبل وخلال الثّورة ضد الشاه، وكما قال أحد كبار منظّري الجمهورية الاسلامية لبناني الأصل " أنيس النّقاش" :- ( الغبي يعلم أنّ من حمل لواء القضية الفلسطينية رفعته شعوب المنطقة، ومن خفض لواءها خفضته) فلواء القضية الفلسطينيّة هو عنوان كل من يريد الدّخول لقلوب وعقول العرب والمسلمين، ولكن أشارت الكثير من التّقارير بأنّ المقاومة الفلسطينية تتعرّض لضغوطات ومضايقات ووقف الدّعم الايراني والسوري لها لإجبارها على الإخلال ب"التزامات" استضافتها في دمشق، فقد كان شرط النّظام السّوري وشرط المقاومة الفلسطينيّة – حركة حماس تحديداً- بأن تبقى محايدة ولا تتدخّل في الشّأن الدّاخلي السّوري، والحلف الإيراني- السّوري يريد الإخلال بهذا الإتفاق، ويسعى لاستثمار شعبيّة المقاومة الفلسطينيّة في تغطية جرائمه ضد الشّعب السّوري، هذا الموقف يعطي مؤشّرات على الأهداف الحقيقية من وراء الدّعم الّذي كان يقدّم للمقاومة الفلسطينية، في ظل اعتراف الحكومة السّورية بدولة أيلول قبل الكثير من الدّول، وبالتالي اعترافها بدولة الاحتلال، والاحتفاء السياسي والاعلامي السّوري واللبناني المتحالف معها بأطراف سياسية فلسطينية على خلاف منهجي مع فكرة المقاومة المسلّحة من أساسها؟.
بريق النّموذج التّركي بدأ يلفت الأنظار في المنطقة منذ وصول حزب العدالة والتّنمية للسّلطة من خلال الانتخابات التّركيّة، وفي كل يوم حقّق فيه إنجازات داخليّة، على صعد السّياسة والاقتصاد والأمن والإستراتيجيا والاجتماع والمشاركة السّياسية والتّسامح الدّاخلي وحل المشاكل داخليّاً وخارجياً، وصولاً إلى تبوّء مكانة قيادية في المنطقة والعالم، كانت قلوب العرب ترنوا إلى ذلك النّموذج وتستحسنه وتسعى لقراءته، بل رأى بعض المحلّلين أنّ النّجاح النّسبي للنّموذج التّركي – على علّاته- كان له الأثر الأكبر في ثورة العرب ضدّ حكامهم، لأنّه هذا التّموذج قدّم تجربة عمليّة لإمكانيّة التّغيير والانتقال السّلمي من مرحلة الاستبداد والفساد إلى مرحلة أفضل منها بكثير بدون صراعات ولا صدامات ولا خوض معارك جانبيّة لا لزوم لها.
لا شكّ أنّ النّموذج التّركي قام على أسس تقدّم المصلحة التّركيّة الدّاخليّة على ما سواها، وهو نموذج يسعى لأخذ الموقع الطّبيعي الّذي يعتبر أنّه يليق بحجم وتاريخ وحاضر تركيا، وهذا النّموذج أثبت لشعبه قدرته على تحقيق إنجازات كبيرة تخدمهم وترفع من مكانتهم في العالم، ومن الطّبيعي أن يستفزّهذا الدّور الجديد ويتناقض مع طموحات دول أخرى طامحة للهيمنة والتّوسّع في المنطقة، ومن هذه الدّول إسرائيل وإيران، فيما كان الصّدام مع الدّولة العبرية يأخذ شكلاً حاداً ودموياً على سطح مرمرة، كانت سياسة الأتراك تتجه للتّكامل والتّعاون مع إيران وحلفائها، ورفضت تركيا أن تتصدّر ما يعرف بالصّراع السّني – الشّيعي الّذي كانت تريده منها دولة عربيّة بعينها، فيما تعامل معها نظام مبارك بحساسيّة مفرطة وصدود ظاهر، هذا الموقف بدأ بالتّغيّر بعد سقوط مبارك، وفي ظل محاولة تركيا للإستثمار في محور الثّورات العربيّة المتمثّل بثلاثيّة مصر وليبيا وتونس.
دخلت تركيا للقلب العربي من الباب الفلسطيني، فقد غمرت خطابات أردوغان العاطفيّة قلوب العرب، وبالرّغم من محدوديّة تأثير هذه الخطابات والتّوترات مع الدّولة العبرية على الواقع الفلسطيني والعربي، إلا أنها كانت بالغة الأهميّة من دولة كانت حتّى وقت قريب أحد أهم حلفاء الدّولة العبرية، وعضو فاعل في حلف الناتو، ودولة تعتبر نفسها أوروبيّة في محيط آسيوي. ولكن الأتراك كانوا يعملون هنا ضمن حدود معيّنة، فبالإضافة للخطابات والتّصريحات قاموا بجهد إغاثي للمنكوبين في قطاع غزّة، ولكنّهم لم يتقدّموا خطوة للإعتراف بنتائج الانتخابات التي جرت في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة، وتحرّكوا ضمن المتاح العالمي والإقليمي، بل ساهموا بإجهاض توجّه أسطول الحرّية الثّاني إلى قطاع غزة، وحجّموا نشاط الجمعيّات الخيريّة التّركيّة التي كان من المفترض مشاركتها في هذا الأسطول، وأثاروا زوبعة كبيرة حول زيارة أردوغان لغزّة، ثم أعلنوا أنّه لن يزورها، فزيارة غزّة لها تداعيات سياسيّة ودبلوماسيّة على الأرض، ولا أرى أنّهم يعتقدون أنّهم يريدون اختراقها، كما لا أعتقد أنّ الحديث عن حماية الأسطول التركي لسفن المساعدات التي تتوجّه لغزة سيجد تجسيداً على أرض الواقع.
ولذلك يتلخّص الجهد التّركي في القضايا الإعلاميّة والإغاثيّة، وفي الدّعم الدّبلوماسي والسّياسي لقيادة السّلطة الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة في سعيها لنيل الإعتراف الدّولي بدولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 1967م، وعلى المدى المنظور من المستبعد أن يكون هناك أيّ اختراق جدّي لهذه السّياسة العامّة المتّبعة.
لم تغادر تركيا مقعدها الغربي، وأبقت على تحالفاتها الأطلسيّة، وعاقبت دولة الاحتلال دبلوماسيّاً، وعوّضت الغرب بقواعد لرادرات الدّرع الصّاروخي، وهذا القرار نابع من اعتقاد تركي بأنّ العلاقة مع إيران وسوريا ستتوتر أكثر، وناتجة عن تهديدات إعلامية بضرب قواعد أطلسيّة في تركيا، ولكن أعتقد أنّ السّبب الرئيسي وراء ذلك هو قناعة تركيّة بأنّها لا تنتمي للواقع المحيط بها وعدم قدرتها على تغييره في كل من إيران وسوريا على وجه التّحديد، ولذلك تميّزت مواقف تركيا بتردّد واضح، وتراجع كبير عن فعل أي شيء لنصرة الشّعب السّوري، واقتصر موقف تركيا على تصريحات إعلاميّة تضرّ أكثر ممّا تنفع الشّعب السّوري المقتول، وكأنّ الأتراك يقولون للشّعوب العربيّة:- ( إذا ساعدت نفسك أيّدتك، وإذا لم تستطع فلك الله) فهم يعتمدون سياسة العمل ضمن الواقع الممكن الّذي لا يورّطهم في الصّراع، بالإضافة إلى تقديم مصالحهم كشعب على أيّ اعتبارات أخرى.
في ظل تزاحم التّسويق التّركي ومحاولات الهيمنة والإحتواء الإيراني، يقف العرب أمام حقيقة واضحة وجوهرية، وهي أنّهم ليسوا بحاجة "لأردوغاني منتظر" ولا إلى " إيراني منتظر" ولا إلى "غربي منتظر" فالعرب ثاروا على فكرة القائد المخلّص، والعرب ليسوا بحاجة لاستيراد نماذج خارجية ولا إلى تأليه سياسي جديد، ولعل أكثر سمة شاملة لكل الثّورات العربيّة تكمن في كونها لا رأس لها تقدّسه وترفعه كمخلّص، كما أنّ الشّعوب العربيّة الثّائرة لا تسعى لاستيراد نماذج لشعوب أخرى وتسقطها على واقعها، فتجارب الآخرين تدرس ويستفاد منها، ولكن لا تؤخذ كما هي بلا أخذ ورد، فكل شعب له خصوصيّته التي يختلف فيها عن الشّعوب الأخرى، ومن الممكن أخذ الكثير من نجاحات التّجربة التّركيّة، والإستفادة من نموذج بناء القوّة الإيراني، والتّعاطي بإيجابيّة مع التّقدم العلمي في الغرب، بعيداً عن الهيمنة والتّبعيّة والإحتواء.
فالشّعوب العربيّة الثّائرة بحاجة لأنظمة سياسية تقوم على العدل والمساواة بين المواطنين، (القويّ فيها ضعيف حتّى يؤخذ الحقّ منه، والضّعيف فيها قويّ حتّى يؤخذ الحقّ له) أنظمة تقدّم مصالح شعوبها على مصالح الآخرين، أنظمة تجعل أولويّات الوحدة والتّكامل وتحرير فلسطين على رأس أجندتها، أنظمة لا تسرق ولا تقتل شعوبها، أنظمة لا تهيمن فيها أقلّيّة على أكثريّة ولا أكثريّة على أقلّيّة، أنظمة يحاسب فيها الحاكم ويغادر إلى بيته بعد فترة محدّدة بالقانون، لا يورّث أخاه أو إبنه أو أحد المقرّبين منه، ويكون وجوده على كرسيّ الحكم مرهون بتطبيقه للقانون، هو موظّف عند الشّعب، لا أن يكون الشّعب عبيداً له ولعائلته وحاشيته، هذا هو النّموذج الّذي نريد بناءه كعرب.