عن أسلمة أوروبّا
صلاح حميدة
العداء للإسلام في أوروبا له جذور ضاربة في التّاريخ، ويعمل اليمين العنصري، الّذي ينسب نفسه للمسيحيّة، لتأصيل هذا العداء دينيّاً، ويحاول تبرير عداءه للآخر المختلف في العرق أو الدّين، أو حتّى المختلف في طريقة التّفكير، بأنّه يهدف لحماية العرق الأوروبّي المسيحي من الغزو الإسلامي للقارّة الأوروبيّة، ولعلّ هذا العمل يعطي إشارة للغربيين بأنّ العنف والإرهاب لا يمكن وصم دين أو شعب بهما دون شعب آخر، وأنّهما نتاج حالة سياسيّة - اجتماعيّة - اقتصاديّة تأخذ من الدّين شعاراً لها في بعض الأحيان.
ويسعى أعضاء هذا اليمين العنصري لمهاجمة وقتل المسلمين في دولهم قبل أن يهتمّوا بالتّضييق عليهم وطردهم أو قتلهم في أوروبا، وبالامكان اشتمام الكثير من العبارات والسّياسات التي تعبّر عن هذا المنهج في المشهد الغربي العام، بل هناك من يرى أن تلك القوى تسعى لتجنيد مسلمين للقيام بعمليّات إرهابيّة في الغرب والشّرق، بهدف تأمين ذرائع لمهاجمة المسلمين واستئصال كل مصادر قوّتهم، ويضربون على ذلك مثالاً بما حدث في هجمات أيلول في أمريكا، ويدلّلون على ذلك بأنّ بعض عناصر التّنفيذ كانت تحت مراقبة المخابرات الأمريكيّة، فيما كانوا كلّهم تحت رقابة مخابرات حليفة لها، حسب مصادر صحفيّة.
ويرى هؤلاء أنّ اعتداءات النّرويج كادت أن تؤدّي لنفس النّتائج، لولا أن كان الفعل بمبادرة جماعة صغيرة، ولم يكن من تدبير مؤسّسة مخابراتية كبرى تعرف ما تريد، بل كان من الممكن أن يتم الصاق التّهمة بالمسلمين لو لم يقترف ذلك المجرم مجزرة إطلاق النّار في الجزيرة، والظّاهر أنّ هذا المجرم العنصري أراد إحداث هزّة كبيرة، وتظاهرة إعلاميّة ضخمة، يقتل النّرويجيين بادّعاء حمايته لهم من الإسلام؟! وهو هنا يحاول أخذ منبر خطابي عنصري، يقلب الحقائق و يغيّراهتمام النّاس، وبدلاً من تركيز الغضب والحنق على الفعل الإجرامي الّذي اقترفه، ويعزّز الشّعور المعادي للأفكار العنصريّة التي يحملها، والتي دفعته لاقتراف جريمته، يحاول إحداث جدل وترويج لأفكاره العنصريّة الدّمويّة، وهي أفكار تذهب لحد قتل الآخر المختلف في التّفكير والجنس والدّين، أفكار تحارب المسلم واليساري وغير الأوروبّي، وهي بالتّالي تسعى لإبادة المسلمين وغير المسلمين.
حمد الله الكثير من المسلمين لكون تلك الهجمات كانت من تدبير أبيض أوروبي غير مسلم، وهذه الحادثة تشبه ما جرى عند تفجير أوكلاهوما في أمريكا، وهو تفجير مشابه لهذا التّفجير في الكثير من التّفاصيل، وهو بالتّاكيد سيؤدّي لردّة فعل عاطفيّة عند كل من اتهم المسلمين في البداية، ومن المهم أن يسعى العرب والمسلمون للإستخدام الإيجابي لردّة الفعل تلك، كما يجب أن يهتموا بتثقيف النّاشئة والمراهقين حتّى لا يقعوا فرائس سهلة لمؤسّسات استخبارية تهدف لتوريطهم في اعتداءات كتلك الّتي حدثت في الولايات المتّحدة، فبعد حادث أوكلاهوما جرت أحداث الحادي عشر من أيلول، ولذلك فاليقظة والمواطنة الإيجابيّة الفاعلة في الدّول التي يعيشون فيها هي الأولويّة لهم الآن، بل عليهم الآن أن يتجنّدوا سياسياً وإعلاميّاً واجتماعياً لتقديم الصّورة الحقيقيّة الإيجابيّة عن المسلمين والعرب، وعدم البقاء رهينة للعيش الكريم بعيداً عن الوطن الّذي هربوا منه.
يتفاخر ذلك المجرم في كتاباته بأنّه استطاع شراء تلك الكمّيّات الهائلة من المواد اللازمة لصناعة المتفجّرات بدون أن يثير شكوك أحد، ويقول بأنّه لوكان إسم المشتري "رشيد أو محمد" لأجهضت المؤامرة في مهدها، وهذا يدلّل على أنّ المسلم والعربي هو من يكون تحت دائرة الاشتباه والمراقبة والاتهام، بينما يأخذ هؤلاء المجرمون وقتهم وراحتهم للتّخطيط والتّنفيذ لتلك الجرائم الشّنيعة، والّتي استحق بعدها هذا المجرم لقب " الشّبح النّازي" كما أراد. هذا الكلام المنسوب لهذا العنصري المجرم، يطرح تساؤلات كبيرة على طاولات المؤسسات الأمنية الأوروبيّة، بل ما يثير التّساؤل أكثر هو تقارير إعلاميّة تقول أنّه كان تحت رقابة المخابرات االنّرويجيّة منذ فترة؟ فإن فعل هذا وهو تحت المراقبة، فكيف لو لم يكن تحت المراقبة؟.
المسلمون في أوروبّا أنواع، فمنهم ملايين الأوروبّيين البيض، ومنهم من جلبته الدّول الأوروبّية المستعمرة لبلاد المسلمين في الحقبة الإستعماريّة، ومنهم من تجنّد للقتال دفاعاً عن الدّول الأوروبيّة وشعوبها ضدّ النّازيّة، وقتل في سبيل أن تحيا أوروبا وشعوبها في ما تعيشه الآن من رفاه، ومنهم من هاجر هرباً من القهر والجوع في بلاده من سياسات أنظمة سياسيّة مجرمة تدعمها أوروبّا، ومنهم آلاف الكفاءات الّتي تستقدمها أوروبا لبعث الحياة في اقتصادها، ومنهم من يجلبون لأنّ الأوروبّيين لا يرغبون في الإنجاب وتشيخ مجتمعاتهم وهم بحاجة لطاقة شباب العرب والمسلمين لإحياء تلك المجتمعات، ففي المحصّلة يشكّل العرب والمسلمون عاملاً أساسياً في دبّ ماء الحياة في شرايين الدّول الأوروبّيّة، لذلك وإن كان يبدو في الظّاهر أنّ العرب والمسلمين عالة على الاقتصاد والمجتمع الغربي، إلا أنّهم في الجوهر هم ضمانة الحياة ومستقبل تلك الدّول والشّعوب.
من خلال تحليل خطاب اليمين العنصري الغربي، فهو خطاب إستئصالي يرفض الآخر بكل بساطة، وفي سبيل تحقيق أهدافه من الممكن أن يكون دمويّاً ويرتكب مجازر لا يمكن وصفها أو تبريرها، ولهذا مطلوب من كل من يستهدفهم ذلك اليمين العنصري المجرم أن يتّحدوا معاً لتحجيم هذا الوحش الدّموي الّذي ينمو في أورروبّا، كما أنّ المسلمين والعرب مطالبون بتكثيف أدائهم الإعلامي والتّثقيفي الّذي يبيّن أن بلاد العرب هي أصل المسيحيّة واليهوديّة والاسلام، وأنّ هذه البلاد وشعوبها متنوّعة ثقافيّاً ودينياً وعرقيّاً منذ آلاف السّنين، وأنّ أي أحداث تجري بخلاف تلك الثّقافة السّائدة إنّما هي ناتجة عن سياسات قمعيّة إجراميّة من أنظمة فاسدة واستعمار يدعمها، وهي أفعال لا جذور لها في دين وثقافة هذه المنطقة، والدّليل على ذلك هو احتفاظ هذه المنطقة بتنوّعها العرقي والديني والطّائفي حتّى اليوم، وبينما نفخر بتنوّعنا واختلافنا، وهذا ثروة لنا وليس عيباً ولا نقيصة، يجاهد اليمين العنصري في أوروبا لمحو أي نوع من أنواع التّنوّع والاختلاف في أوروبّا، وهذه علامات مرضيّة خطيرة، وهي بعيدة عن المسيحيّة كل البعد، والمسيحية نشأت في بلاد العرب، ولا زالت فيها، وهي مكوّن أساسي في تاريخ وجغرافيا وديموغرافيا المنطقة حتّى الآن، هي جزء من الماضي والحاضر والمستقبل، ولذلك على الأوروبيّين أن يسألوا أنفسهم أسئلة صعبة حول قدرتهم على التّخلّص من العقد العنصريّة التي يطعّمونها بالتّاريخ والدّين ونقاء العرق.
المسلمون لا يسعون لأسلمة أوروبا، وغالبيّة المسلمين ذهبوا أو جلبوا لأوروبّا لأهداف غالبيتها لا تتعلق بالرّغبة في أسلمة أوروبّا، ووجود المسلمين هناك هو نوع من أنواع التّدافع البشري الطّبيعي عبر التّاريخ، وهو ليس غزواً عسكرياً، ولهذا سيسعى اليمين العنصري إلى محاولة تشويه هذه الحقيقة التّاريخيّة، وهذه المحاولات العنصريّة تضع على كاهل العرب و المسلمين مسؤوليّات كبيرة آمل أن يكونوا أهلاً لحملها والتّصدّي لها بحكمة.