المثقفون نبض الأمة وبوصلتها
محمد فاروق الإمام
[email protected]
المثقفون في كل أمة هم النبض الحي الذي يخفق بمشاعرها والبوصلة
التي تصحح مسارها.. فتاريخ أي أمة عند الحديث عنها لابد من الاستشهاد بمقولات
حكمائها وعقلائها وشعرائها وأدبائها وخطبائها فهم الرموز الذين تستهدي الشعوب بشموع
حكمتهم وقناديل معرفتهم ومصابيح استشرافاتهم.
في بلدي سورية من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – الوقوف على
آراء المثقفين فيها وهم الضحية الأولى لقمع النظام السادي الجاهل الأحمق، الذي يقرب
أهل الولاءات ويبعد أهل الكفاءات، ويستشير المتملقين والوصوليين، ويدير ظهره
للعقلاء والصادقين، ويقرب تجار المخدرات على أنهم وجوه المجتمع، ويبعد قادة الأمة
ومفكريها ونخبها الوطنية، فالمثقفون في بلدي موزعون في المنافي أو خلف قضبان
الزنازين أو في قبور جماعية، والذين هم على الساحة السورية الآن نفر قليل ممن وضعوا
أنفسهم في مواجهة النظام يكشفون أكاذيبه وأباطيله وافتراءاته رغم معرفتهم بالمصير
الذي ينتظرهم من قبل نظام لا يحتمل كلمة انتقاد أو كلمة حق يفندون بها أكاذيبه
ودعاويه الباطلة، وقد شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية اعتقال أمن النظام لأهم
شخصيات المعارضة في الداخل (حسن عبد العظيم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي،
والنائب السابق رياض سيف، والإعلامي فائز سارة وغيرهم)، وفئة مثقفة باعت نفسها
للشيطان بثمن بخس وارتضت أن تكون بوقاً للسلطان تسوّغ فعاله وتسوّق أعماله وتبرر
جرائمه، يسبحون بحمد القائد الملهم والرجل الضرورة والمخلوق الذي عقمت أرحام
السوريات عن ولادة مثيل له.
وفي هذا السياق أنقل ما دار بين المذيع جمال الريان وبين أحد
هؤلاء المثقفين في نشرة حصاد اليوم التي بثتها قناة الجزيرة في الثامن من أيار
الحالي، حيث استضافت القناة عبر الهاتف من دمشق المثقف والإعلامي المعروف شريف
شحاته الذي سأله المذيع جمال الريان عقب الانتهاء من عرض تقرير عما يجري في سورية
من أحداث وعن توريط الجيش الوطني في مهمات قمعية لا تليق بالجيش السوري الذي بني
على عقيدة الدفاع عن الوطن وحماية الشعب: هل من تفسير لتوالي دخول الجيش والدبابات
إلى مدن سورية؟
شحاته: إن التقرير المنحاز وغير المهني الذي قدمتموه في بداية
النشرة عما يجري في سورية، وقلتم إن هناك مظاهرات تمت ولم يحدث أي تصادم مع أجهزة
الأمن في حين يسقط ضحايا في مظاهرات أخرى، فهذا يعود لكون المظاهرة سلمية وليس
بينها إرهابيين أو مندسين فإنه لن يكون هناك أي إشكالات، ولكن إذا وجد في المظاهرة
مخربين أو مندسين فإنه لابد لأجهزة الأمن التعامل معها بحزم وقوة وملاحقة هؤلاء
الإرهابيين، وأن السيد الرئيس اتخذ، وأمر، وشكل، ووعد.. إلخ.
لم يحتمل المذيع جمال الريان تبريرات هذا الإعلامي عما تقوم به
أجهزة الأمن والكلمات الهابطة التي يصف بها المتظاهرين السلميين، فسأله بحدة:
على التلفزيون السوري نشاهد قوافل الشهداء من الأمن الذين
سقطوا، هل يعقل أن يكون هناك شهداء سقطوا من رجال الأمن ولا يكون هناك شهداء من
المحتجين الذين تعترض على عرضهم على شاشة الجزيرة، وإذا لم يكن هناك متظاهرين كما
تقول فلماذا تدخل الدبابات إلى المدن والقرى؟
شحاته: المتظاهرون الذين يتظاهرون بشكل سلمي لا أحد يقترب منهم،
الذين يقتربون منهم هؤلاء من الإرهابيين الذين أدخلوا كميات كبيرة من الأسلحة.. لا
يمكن لدولة عاقلة في العالم أن تقبل بمثل هذا الوضع، وأسألك من قتل رجال الأمن ومثل
بجثثهم؟
جمال الريان: لماذا لم تعرضوا ولو لمرة واحدة نجاح الأمن في
اعتقال هؤلاء الإرهابيين المزعومين، ولماذا لا تسمحوا لوسائل الإعلام العالمية
بالدخول إلى سورية وتصوير ما يجري فيها بشفافية وحيادية.. وأؤكد ثانية لماذا لا
تعرضون صور الشهداء المحتجين على التلفزيون السوري؟ وقفل معه الخط.
في بلدي سورية تُحاصر المدن بالدبابات والمدرعات والفرق
العسكرية والأمنية، ويمنع عنها الحليب والماء والغذاء والاتصالات، ويقمع الإنسان
وتصادر الحريات، وتسيل الدماء وتجز الرقاب، ويختفي الرجال وتنتهك الحرمات
والمقدسات، ويساق الأطفال والنساء والرجال والشباب إلى المدارس ودور العلم والثقافة
لاعتقالهم وإجراء التحقيق معهم، بعد أن ضاقت أقبية التحقيق عن استيعابهم، حيث
يتعرضون لصنوف من التعذيب الجسدي والنفسي مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
بال بشر. ومن مضحكات ومبكيات ما يجري الآن قتل أربعة من النسوة كن في مسيرة نسائية
في مدينة بانياس يطالبن بإطلاق سراح أبنائهن المعتقلين، والحكم بالسجن ثلاثة أشهر
على طفل في الرابعة عشر بتهمة مشاهدة قناة الجزيرة وقناة العربية وقناة بي بي سي
الإنكليزية.
في بلدي سورية لا صحافة حرة ولا فضائيات مستقلة ولا إعلام محايد
فكل هذا مصادر منذ ما يزيد على 48 سنة، وفي ظل هذا التعتيم تقام مسرحيات الاستفتاء
على شخص رئيس الجمهورية ليفوز بـ(99,999%) ويفوز أعضاء مجلس الشعب بالتزكية
الأمنية، ويختار أعضاء المجالس المحلية من قبل فروع الأمن.
في بلدي سورية حزب وحيد يحكم منذ خمسة عقود تقريباً تنص المادة
الثامنة من الدستور أن الحزب (حزب البعث) هو القائد والموجه للدولة والمجتمع، ويتكئ
هذا الحزب المترهل على مجموعة أحزاب هلامية وضعها في مقر معزول سماه (الجبهة
الوطنية التقدمية) لا بتكش ولا بتنش، مهمتها إصدار البيانات المؤيدة لكل ما يتخذه
القائد من قرارات، منددة بكل من يعارض السيد الرئيس.
في بلدي سورية نحو أربعة فروع أمنية رئيسية تتفرع منها أكثر من
ثلاثة عشر فرع كل منها يتبع غول متوحش أمره مناط إليه، يقتل يعتقل يسجن يعذب ينهب
يسرق يقرب يبعد يعين يسرّح يقبل يرفض، يرتكب كل الفواحش والموبقات ويستبيح كل
المحرمات ويتدخل بخصوصيات الناس ومفردات حياتهم من ولادتهم وحتى مواراتهم التراب،
محمياً بقوة المادة السادسة عشر من الدستور التي تمنع مساءلته.
في بلدي سورية انتفض الشعب، كما سبق وحدث في تونس ومصر، مطالباً
بالحرية والكرامة، فواجهته قوى الأمن والشبيحة وعصابات الدولة ومرتزقة النظام
والحرس الجمهوري والفرقة العسكرية الرابعة (سرايا الدفاع) ومليشيا اللجان الشعبية
بكل ما تملك من أسلحة فتاكة ورصاص متفجر فمزقت أجساد الشباب وأجهزت على كل جريح وكل
من وقع بيدها ولم يتمكن من الفرار من آلتها القاتلة، وبحسب التقارير المحايدة
والدولية لمنظمات حقوق الإنسان كانت المحصلة: 800 قتيل، 2000 جريح، 1000 مفقود،
9000 معتقل خلال ستة أسابيع من قيام هذه الانتفاضة.
في ظل هذا الواقع الأليم والمفجع غاب المثقفون والعقلاء
والحكماء المتوجعون على الوطن، وخلت الساحة السورية منهم ليتصدر المشهد مثقفو
السلطان الذين تصدروا كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية المحتكرة من
قبل النظام، الذي لا يريد أن يقرأ أو يسمع أو يرى المواطن السوري إلا ما يريده له
(لا أريكم إلا ما أرى)!!
وأختم مقالي هذا بما قاله الكاتب والمثقف السوري ياسين الحاج
صالح.
(من الصعب الوقوف على آراء المثقفين
السوريين في الداخل حيال ما يجري في بلادهم من قمع دموي
للانتفاضة الشعبية.
القبضة البوليسية للنظام لا تراقب الهواتف ووسائل الاتصال وتمنع
الصحافيين من نقل ما يجري فقط! بل تكمّم الأفواه وتلقي
بأصحاب الآراء الحرة في
السجون. سورية اليوم سجن كبير لشعبها).
ويقول الشاعر طه خليل: (ما يحدث هو مجزرة بدم أسود. الصور التي
تتناقلها المواقع تفوق
قدرة التحمل.. روحي تشرط على امتدادها بسكين مثلوم.. تؤلمني
روحي كأنها معلقة بخطاف
قصاب تؤلمني كأنها تدق بحجر.. أي جريمة تحدث.. أي روح شريرة
تربي الموت كنبات أسود
في الشوارع.. حياتنا بالنسبة إليهم كأنها معارة.. كأنها ليست
لنا.. كأنها من شأنهم
ليفعلوا بها ما يشاؤوا لقد فقد النظام صوابه وقرر بالمقابل أن
يفقدنا حياتنا الدماء
التي تطرطش أمام كاميرات الهواة أنصاف الوجوه المبتورة الوجوه
التي تتوسل بقية
حياة.. أطفال يشحبون على مهل بينما تغادر أرواحهم على شكل أحمر لزج كل هذا كأنها لا
تعنيهم كأنما عبء ويجب التخلص منه كأنما وجدت لتطعم شهية
السلطة المفتوحة على
القتل.. تنمو شجرة الموت السوداء سريعا ولم يعد في هذه الغابة
الداكنة سوى طريق
وحيد. فايس بوك).