جماليات الثورة المصرية من منظور فلسطيني
د. خضر محجز
روائي وشاعر وناقد أكاديمي من فلسطين
لم يسمع الفلسطينيين، طوال تاريخهم، عن حاكم مصري يكرههم إلى هذا الحد، الذي بدا عليه حسني مبارك.
أغفل مبارك ذكر العمليات الإرهابية، التي نفذتها أجهزة المخابرات الصهيونية في طابا وعمق مصر، ثم اتهم الفلسطينيين بالوقوف وراءها، قبل أن يتبين للعالم أنه شريك للصهاينة فيها.
غفر مبارك للصهاينة ذبحهم للأسرى المصريين في سيناء، ثم تذكر الفلسطينيين بإغلاق أبوابها أمامهم، خوفاً من المشاركة في تخفيف حصار غزة.
أرغم مبارك الرئيس الشهيد ياسر عرفات على التوقيع على اتفاق أوسلو، فلما نقضت إسرائيل التزاماتها، دعم الصهاينة في عدوانهم السياسي والعسكري على فلسطين.
دفع مبارك وزيره عمر سليمان إلى لوم الفلسطينيين، على كل عملية فدائية، حتى اضطر الرئيس الفلسطيني المحاصر ذات مرة إلى الرد عليه: انت بتكلمني من فين، من القاهرة والا من تل أبيب؟.
حقد مبارك على الفلسطينيين، وحسدهم على احتلال بلادهم، ودعاهم إلى الاستسلام، حتى فاض حقده على لسانه، في لحظة ردح شهيرة، فقال أمام كاميرات العالم كله: اللهم لا حسد، الواحد فيهم بيكسب في اليوم مائة دولار!. ونسي أن مثل هذا الكلام تخجل منه حتى العاهرات.
غضب مبارك عندما دفع أهلَ غزة جوعُهم إلى سيناء، ليشتروا قوتهم من إخوانهم في رفح والعريش؛ فدفع وزير خارجيته إلى تهديدهم بقطع الأيدي والأرجل.
لم يمنع مبارك إسرائيلياً واحداً من دخول مصر، ومنع كل فلسطيني شارك ذات يوم في مواجهة الاحتلال من دخول أرض الكنانة.
دخل الإسرائيليون مصر آمنين كرماء، واصطفت طوابير الفلسطينيين تنتظر الدخول، وسمعت ما يأنف الكلب أن يعوي به على جيفة نتنة، وفي نهاية الأمر ردهم ضباط أمن دولة مبارك، دون إبداء الأسباب.
حتى المرضى الفلسطينيون لم يسلموا من جور مبارك، فرد أكثرهم وتركه يموت بجرحه النازف، أو قلبه المتوقف، أو رجله المبتورة.
غضب مبارك من عناد الفلسطينيين في الدفاع عن كرامتهم، وغفر للصهاينة قصف الطائرات الصهيونية مدارس الأطفال، في الإسماعيلية والسويس وبحر البقر.
كل مقاوم فلسطيني جُرح في ميدان المواجهة مع الصهاينة، وذهب للاستشفاء في مصر؛ خاط فمه وصمت، مدعياً أنه جُرح في بيته، خوفاً من أن يطرده نظام مبارك قبل اكتمال العلاج.
حفظ مبارك اسم كل طفل فلسطيني شتم نظامه، ونسي كل تهديدات إسرائيل العلنية بقصف السد العالي والقناطر.
التزم مبارك للصهاينة بمنع تسليح غزة، خوفاً على سلامة طائراتهم حين تقصف غزة، ونسي القنابل النووية في ديمونة.
حفظ مبارك اسم كل ناشط سياسي فلسطيني، قاوم اليهود بكلمة، فمنعه من دخول مصر.
كل من قال إن إسرائيل هي العدو الحقيقي للعرب، أغلق مبارك في وجهه أبواب مصر.
كل من كتب مقالاً ضد التطبيع مع إسرائيل، منعه مبارك من الخروج من غزة، لأن معبر غزة إلى العالم يسيطر عليه أمن الدولة في مصر.
كل من سجل للدراسات العليا في القاهرة من الفلسطينيين، ولم يعجب مبارك موضوع دراسته، حجبه عن جنة مصر.
كل من مرض وأراد الاستشفاء، ولم يدفع الرشوة المقررة، مات تحت الحصار، بفضل أزلام مبارك في المعبر الذي يسيطر عليه أمن الدولة في مصر.
كل مصرية تزوجت فلسطينياً، ثم طالبت بالجنسية لأبنائها ـ حسب للقانون ـ هددها زبانية مبارك بالطرد من مصر.
كل مصري من أم فلسطينية، حرص نظام مبارك على إخضاعه للمراقبة، كأنه أحد أعداء مصر.
كل فلسطيني فرضت عليه الظروف البقاء في مصر، وذهب لتجديد إقامته، حاول أمن الدولة أن يبتز منه المعلومات عن النشاطات الفدائية الفلسطينية، ليحملها مبارك إلى إسرائيل، بدعوى المحافظة على أمن مصر.
كل فلسطيني زار مصر، واستدعاه أمن مبارك، كان يسأله بلوم خبيث: لماذا يعلق أهل غزة صور عبد الناصر في بيوتهم؟.
كل فلسطينية كانت تذهب لتجديد إقامتها في مصر، كان نظام مبارك يتعرض لها بالتحرش والكلام البذيء.
تعلم الفلسطينيون في جامعات مصر عبد الناصر، مثل أبناء المصريين، فلما جاء مبارك، اعتبرهم غرباء، وطالبهم بدفع الرسوم الباهظة، ثم منعهم من دخول الكليات المميزة.
أطلق مبارك كلاب إعلامه المسموم ضد الفلسطينيين، واتهمهم بأنهم باعوا بلادهم، معطياً بذلك الحق للصهاينة للادعاء بأنهم أخذوا فلسطين بطريقة مشروعة.
باع مبارك الغاز المصري لإسرائيل بأقل من تكلفة إنتاجه، ومنعه عن المحاصرين في غزة، الذين كانوا مستعدين لدفع ثمنه أضعافاً مضاعفة.
عندما قررت إسرائيل قصف البيوت في غزة، لم تجد لها مكاناً للإعلان عن بدء عملياتها، أفضل من قصور مبارك في مصر.
سمع كل ذلك الشعب المصري العظيم ورآه، واختزنه في ضميره المثخن. ورغم أنه لم يكن في مقدور الفلسطينيين إلا أن يتظاهروا بالغفران؛ إلا أن أم الدنيا، وعاصمة العروبة والإسلام لم تغفر لمبارك، وأسمعته ما يكره من وسط ميدان التحرير، حين هتفت: جايين لك يا فلسطين.
هل هذه فقط هي جماليات الثورة المصرية من منظور فلسطين؟. لا.. بل هذا قليل من كثير لا يستطاع إحصاؤه.
عاشت مصر. عاش شعب مصر. عاشت الثورة المصرية. وإنها لثورة الكرامة، وإيذان بالانطلاقة نحو فجر عربي جديد.