مهزلة الانقسام والانتظار المُر.. إلى متى
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
غريبٌ وعجيب هو عقل الإنسان، والأعجب منه ذاكرته. يقول البعض
بأن داخل كل إنسان مُغنّي يطرب لبعض الأصوات، وذاكرته تربط النغمات مع بعض الحوادث
التي تبقى محفورة في خلايا تلك الذ1كرة العجيبة.
فقد تستمع لبعض الموسيقى فتشدك بعيدا وتسبح بك في بحر الذاكرة
لتعيش معها حادث يثير فيك الشجون ويفتح قريحة ذاكرتك على مصراعيها.
في إحدى الأيام المتصحرة من أمسيات سجن النقب الصحراوي والصمت
يُخيّم فوق الرؤوس والخيام .... كانت نجاة الصغيرة وعبر ميكروفونات السجن تشدو
برائعتها "أنا بستناك" ...
(( أنا بستناك... أنا .... أنا بستناك وليلي شمعه سهرانه لليلة
حب.... وأهلا أهلا حلوة شيلاها عيون بتحب .... وقلبي حرير شايل لك مطرحك فى
القلب....))
كنت أحاول أن ألتزم بتعاليم مولانا، فأحاول أن أصم أذناي عن
صوتها الذي لا يصدح سواه في ذاك الفضاء الصحراوي، ولكني رأيت بعض الوجوه يكسوها
الشجن، تتنهد وتزفر بالآه تلو الآه ... وتذرف الدموع كلما سمعت ترداد كلماتها
....
((وأزوق ليلي وأتزوق لأجمل وعد .... وأدوب لك فى شرباتي شفايف
الورد... وأقولك دوق , دوق , دوق , حلاوة القرب بعد البعد ....وأقولك دوق دوق حلاوة
القرب بعد البعد البعد البعد .....أنا أنا بستناك , بستنــاك أنا ...))
كنت حدث السن ، سألت أحدهم ما الذي يبكيك أليس الطرب للغناء
حرام كما يقول مولانا؟
قال يا بني إنها تحكي قصتي مع الزمان، فإن استطاع مولانا فليسكت
صوتها أو فليغلق لي أذناي ، أو إن استطاع فليمحو صور من يرددون لي معها في ظهر
الغيب "أنا بستناك" ... .!
ما كنت أدرك حينها أنها تغني قصتنا كلنا كفلسطينيين!!.
وبعد مرور السنون، وجدنا أنفسنا يقتلنا الحزن، ومستقبلنا
وعيالنا ينشدون أيضا مع نجاة بكل شجن "أنا بستناك أنا.... " .... إنها مشكلة الناس
اللي عايشة واللي لازم تعيش ....كما يقول الفنان محمود عبد العزيز في فيلم
الكوميديا السوداء "الكيت الكات".
هذه هي السنة الرابعة من عمر الانقسام اللعين؛ بمعنى أن جيلا
كاملا نشأ وشب في هذه المرحلة، ومن كان غلاما صار رجلا ويذوب فيه الأمل بأن يكون له
مستقبل وحياة . ومن كان في عامه الجامعي الأول صار خريجا ويبحث عن عمل ضائع في زمن
المهزلة.
يقول الإمام على رضي الله عنه : (لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم
فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).
هذا النداء والتوجيه الذي جاءنا من قبل قرون خلت ، يقول لنا أنه
من الصعب أن يتأقلم الشباب، و في ظل المتغيرات من حولهم ، على ما شاب عليه آباؤهم.
ولذا كان لزاما على من يتولون المسؤولية عن مستقبل هذا الجيل
الناشئ والصاعد أن يخططوا لهم بما يتلاءم ومرحلتهم الصعبة وزمانهم العسير.
فما نشهده اليوم من حراك شعبي يجتاح العالم العربي اليوم، ورغم
تدخل مريب من الأجنبي في وجهتها وأهدافها، إلا أن الدافع الرئيس فيها هو استغلال
حاجة الجيل الشاب الطامح لمواكبة عصره وزمنه، و الذي صار ينظر لحكامه بأنهم يعيشون
في ضلالهم القديم. وقد مل الشباب وهم ينتظرون ولا أحد يستمع لنجواهم وشكواهم ...
لقد استبشر الناس خيرا بقبول الرئيس عباس دعوة السيد هينة
بزيارة غزة لإتمام المصالحة ، وزاد التفاؤل عند الجماهير بسماع الكلام المشجع حول
المصالحة من بأن السيد دويك رئيس المجلس التشريعي سيأتي مرافقا للرئيس في الزيارة
لغزة .... ولا زال الشعب يُمنّي نفسه بساعة الخلاص من مهزلة الانقسام وهو لا زال
أمام مرآة الواقع يغني مع نجاة الصغيرة :
(مرايتي ... قوليلي يا مرايتي، حبيبي مجاش لدلوقت ِ ...وفاتني
لوحدتي وإنتِ ...أبص لروحي وأصعب على روحي ...نسيني ليه حبيبي وأغلى من روحي نسيني
ليه... أبص لروحي وأصعب على روحي... نسيني ليه ...).!!!؟؟
أقول في النهاية أن على قادتنا أن يتفهموا حاجة الجيل الجديد
للخروج من مهزلة الانقسام، وأن يعلموا أنه لا يوجد طرف يحتكر الصواب لجانبه. ولكي
تجدوا لأنفسكم خروجا آمنا من المهزلة؛ عليكم أن تنظروا لما يفكر به غيركم وشبابكم
الذي لا يفقه طلاسم زمانكم.... فأفكاركم قد لا تصلح سوى لكم ولزمانكم الذي مضى. فما
كان يناسب جيل الأمس، لا يقنع جيل اليوم... وما هو مقبول اليوم ... قد لا يكون
مقبولا غدا ... فعجلة الزمان تدور وتطحن من لا يواكبها ....
أختم بكلمات لأستاذ علم الاجتماع العراقي الدكتور على الوردي
في خاتمة كتابه "مهزلة العقل البشري" (الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي
يريد أن يبقى على أرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد).