ماذا لو كان بن علي رئيس أميركا
ماذا لو كان بن علي رئيس أميركا
د. صالح محمد المبارك
منذ بضعة أشهر حضرتُ المؤتمر السنوي لمعهد إدارة المشاريع ( PMI ) في مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأميركية وقد حضره حوالي ثلاثة آلاف من العاملين في مجال إدارة المشاريع من شتى أنحاء العالم . ضيف الشرف ( Keynote Speaker ) كان الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون . رغم أن كلينتون بدا وقد شاخ نوعا ما ولم يعد في حيويته المعهودة لكنه كان مرتاحا ومبتسما وصاحب نكتة كعادته . قال لنا أنه يستمتع بوقته كرئيس سابق ، يقضي وقته بين الأعمال الخيرية والخطب والترفيه . حسب قوله: "كرئيس سابق أستطيع أن أقول ما أريد دون قيود... هذا هو الخبر الجيد أما الخبر السيئ فهو أنه لا أحد يأبه لما أقول" وضج الحضور بالضحك والتصفيق له.
الرؤساء السابقون في أميركا (أربعة منهم أحياء حاليا: جيمي كارتر – جورج بوش الأب – بيل كلينتون – جورج بوش الإبن) يتمتعون بكل مزايا الرئيس الحالي (المرتب – التأمين الصحي – الحراسة – المكتب / المقر الرسمي ....) دون مسؤوليات أو التزامات . يُعاملون رسميا بكل احترام كما لو كانوا لا يزالون في البيت الأبيض ، يلعبون الغولف يوما ويقضون أسبوعا مع العائلة وآخر في المنتجع ويكتبون مذكراتهم ويلقون الخطب مقابل مبالغ كبيرة (خاصة كلينتون) ويختارون ما يشاؤون من الأعمال التطوعية والخيرية ولعل أنشطهم في هذا المجال الرئيس جيمي كارتر والذي لا يكاد يهدأ من أسفاره بين فلسطين وهايتي وأوروبا وأميركا الجنوبية رغم سنينه الـ 86 . أما أولئك الذين ماتوا وبقيت زوجاتهم (ريغان) فتبقى المعاملة التكريمية الخاصة تسري على الزوجة حتى وفاتها . يا لها من حياة مريحة مرفهة مكرمة .
تذكرت الرؤساء الأميركيين السابقين وأنا أتابع أخبار الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي خرج هاربا طريدا من بلده تلاحقه اللعنات ودعاء أبناء شعبه عليه بل وتهديدهم له بالملاحقة والانتقام لما لحق به من ظلم ، رغم أن السعودية تعهدت له بالمأوى له ولعائلته (بشرط الامتناع عن الأعمال والتصريحات السياسية) . سيضطر بن علي إلى الاختباء دوما من أعين الناس التي لن تغفر له ظلمه وفساده لأكثر من 23 عاما . ألم يكن من الأفضل له أن يتقاعد طوعيا ويعيش مكرما في بلده كما يعيش الرؤساء الأميركيون السابقون؟ ولكنها شهوة السلطة وشخصية فرعون (أنا ربكم الأعلى) و (ما علمت لكم من إله غيري) والتي تهوي بصاحبها في عذاب الدنيا قبل نار الآخرة.
تأملت في المثالين وتساءلت إن كان الرؤساء الأميركيين أفضل أخلاقيا من زعماء العرب؟ لقد عرفنا عن كلينتون الكذب والخداع والخيانة الزوجية والذمة الكاوتش (بلهجة إخواننا المصريين) وعلمنا عن بوش الأب والابن كيف تآمرا على العراق من خلال حربين طاحنتين أودت بحياة أكثر من مليون من البشر وساهم كلينتون في الحصار على العراق الذي أودى أيضا بحياة مئات الآلاف بينما يشترك في الإثم كل الرؤساء الأميركيين في الستين سنة الأخيرة (بنسب متفاوتة) بما جرى ويجري للشعب الفلسطيني من مآس. أستطيع أن أعدد أكثر ولكن نقطتي التي أردت إيضاحها أن رؤساء أميركا ومعهم غيرهم من قادة العالم الغربي ليسوا بالضرورة أفضل أخلاقيا على المستوى الشخصي من ديكتاتورات العالم الثالث بما فيه العالم العربي . فما الفرق إذا في المقارنة التي سقتها في بداية حديثي؟ ولماذا تقدمت أميركا ولم تتقدم دول أخرى كالدول العربية؟ المشكلة في شعوبنا العربية أنها تنتظر الفرج بمجيء المهدي المنتظر أو النسخة الحديثة من عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي فيحقق العدل ويمحو الظلم ويهزم العدو . للأسف فشعوبنا تؤمن بالتغيير يأتي من السماء ولا تؤمن –على الأقل عمليا- بـ (حتى يغيروا ما بأنفسهم). هل جربنا التغيير الاجتماعي على مستوى الفرد والعائلة والمؤسسة والمجتمع؟ أليس الخير كالشر قابل للانتشار أفقيا ورأسيا؟
هناك أمر آخر لا يقل أهمية : شعوبنا مغرمة بشخصية المستبد العادل ، ذلك الحاكم الذي لا سلطان لبشر أو قانون دنيوي عليه لكنه يحكم بالعدل من دافع ذاتي فقط نابع من إيمانه بالله وخوفه منه ، ولا نسعى لإقامة نظام يكفل العدل ويقوّم الحاكم إذا انحرف أو أخطأ ويكون الجميع تحته سواسية حاكما ومحكوما. مما روي عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله "إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن" . البشر يصيب ويخطئ وكل إنسان معرض لفتن المال والسلطان وغيرها من الشهوات وقد لا يكفي الوازع الذاتي رغم أهميته فيأتي الوازع الخارجي وهو القانون ليضمن إقامة العدل وحفظ الحقوق .
منذ عشر سنوات انتهت فترة رئاسة الرئيس الأميركي كلينتون بعد نهاية ثماني سنوات في الأبيض وقد كان بكثير من المعايير ، خاصة الاقتصادية ، رئيسا ناجحا . القانون الأميركي يتطلب من كل رئيس عند نهاية رئاسته إحصاء وتقييم الهدايا التي تلقاها أثناء رئاسته: فما كانت قيمته أقل من 200 دولار كان له الحق في أخذه وما كان أكثر من ذلك إما أن يأخذه بثمنه أويتركه لخزينة الدولة وكان كلينتون قد تلقى معطفا من الجلد هدية من الرئيس المكسيكي فسجّل كلينتون قيمته 200 دولار كي يأخذه إلا أن موظف الخزينة قوّمه بـ 800 دولار فلم يستطع الرئيس أن يحتفظ بالمعطف دون دفع المبلغ كاملا. مخصصات الرئيس الأميركي المالية معروفة ومحددة وبإمكان أي مواطن أن يراها ويسأل بل ويُسائل عنها . آه لو طبقنا نفس القانون على بن علي وأقرانه ، هل كانت الأمور ستؤول إلى نفس النهاية وهل كان البوعزيزي سيضطر إلى إحراق نفسه كي يجبر الطاغية أن يسمع للشعب؟
نحن نتغنى الآن بمآثر أميركا والعالم الغربي لكن مما يحزن القلب أن هذا العدل وسيادة القانون جزء أصيل من ديننا وتراثنا ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين كان الرجل من المسلمين يقف في المسجد يسأله (من أين لك هذا) وتقف المرأة وتقول له (ليس لك حق يا عمر في أن تحدد مهور النساء) فيجيب عمر بكل صدق وأمانة وشفافية ويعود عن خطأه إن أخطأ بل كان اليهودي من أهل الذمة يطالب بحقه من بيت المال . لقد صدّرنا أخلاقنا إلى العالم ثم أصبحنا نتمنى استيرادها ممن أخذها منا.