كشف المكشوف

نحن

وثائق من ضحايا تمشي على الأرض

زهير سالم*

[email protected]

أثارت الفزعة التي استجابت بها بعض وسائل الإعلام العربي لوثائق الويكيليكس من الفزع أكثر مما أثارته الأوراق الميتة المحفوظة في الأدراج.... أراد الذين ( دبوا الصوت ) أن يشعرونا بطريقة أو بأخرى أنهم لم يكونوا يعلمون..!!

وها أنتم اليوم وقد ملكتم الدراية موثقة بما يقرب من نصف مليون وثيقة فماذا أنتم فاعلون ؟! وما قيمة المعلومة إذا لم تكن مهادا لموقف حكيم يُبنى عليها ويستجيب لتحديها؟! الأكثر إثارة للفزع كما قلنا أن نكون بحاجة إلى موقع الويكيليكس ليوثق لنا ما نعيشه صباح مساء، رجالا ونساء، وشيوخا وأطفالا..

أي جديد حملته هذه الوثائق للمواطن العراقي الذي يعايشها مشهدا حيا على أرض العراق؟! وأي جديد تحمله هذه الوثائق للإنسان العربي، ويشهد كل عربي في وطنه ما يشهده أهل العراق تصاريفَ وأفانين. يمتلك كل مواطن عربي ( ذاتية ) خاصة لعشرات بل لمئات وآلاف القتلة والفاسدين، كل واحد منهم لا يشكل جواد المالكي العراقي سيئة في صفحة سيئاته.

كل مواطن عربي من هذه الملايين التي تدرج على خطوط الجوع والخوف هو وثيقة ضحية حية، هي بلسان حالها أبلغ شهادة من كل الوثائق الميتة التي تحدث عنها الويكيليكسيون..

اقرأ معي هذه الوثيقة، في شخص أم سورية، انتُزع ولدُها الذي من سويداء قلبها، قال لها رجال ( الأمن ) منذ ثلاثين عاما ساعةً أو ساعتين..

وهي منذ ذلك التاريخ تناشد، وتستشفع، وتتطلع وتنتظر.. ولها مطلب واحد، مطلب عز على الزعماء والقادة والشفعاء والوسطاء، وسقط عمدا أو سهوا من أجندة المنظمات الحقوقية، وتـفوهات المدافعين عن حقوق الإنسان. هي تريد أن تعرف فقط هل وليدها في الأحياء أو الأموات..!!

ثلاثون عاما أو تزيد وهذه الضحية، الأنموذج لعشرين ألفا من أمثالها، تحمل همها على عاتقها وتتقلب بين الليالي والأيام تحكي حكايتها للنجوم والجبال والوديان، تقصها على كأس الماء قبل أن تشربه لتسيغ بذكر الحبيب الجرعة، وتعيدها على اللقمة تتقوت بذكر الحبيب أكثر من مضغة الطعام. لم يبق لهذه الضحية الوثيقة، تمشي على الأرض، إرْبٌ في هذه الحياة إلا أن تطوي عينيها على جواب السؤال الذي أرّقها والذي لم يجد أحدٌ في العالم المتحضر في نفسه الأهلية لفك عقدته..

ادلف معي إذا شئت إلى بيوت المشردين أو المهجرين ، لا تظن أنني سأعيد عليك مأساة اللاجئين الفلسطينيين بكل بشاعتها وقسوتها، فهذه مأساة خمس نجوم !! اللاجئ الفلسطيني لاجئ مغبوط ومحسود!! ثمة في هذا العالم لاجئون لا يزالون يحلمون بلقب لاجئ. ويعتبرونه وسام فخار وبحبوحة رفاه..

كان الاعتراف الإنساني بمأساة اللاجئ الفلسطيني (سلوكا لاساميا) من الذين تعاطفوا مع الفلسطينيين، أو وقفوا إلى جانبهم. على خطوط الجوع والخوف وفي بيوت المشردين هؤلاء تطالعنا آلاف الوثائق الحية في وجوه اللاجئين ( البدون ) بكل إسقاطات كلمة (البدون) المدنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. محنة هؤلاء تمتد إلى ثلاثة أجيال جد وابن وحفيد!!!! وكل ما اقترفه أولهم أنه ظن يوما أنه صاحب حق في لعبة الحروف بين اللام والنون.

طالع الوثائق الحية في عالمنا على وجوه الملايين؛ تجد شابا طارده سفير وطنه على مقعده الجامعي، وآخر صاحب حق قد سرق دعي فرصته أو فرصتها، اقرأ الوثيقة في وجه ابن سبع سنين يعمل في ورشة حدادة بين الكير والمطرقة والسندان، ليعيل أسرة لم تجد معيلا سواه، تصفح المأساة في وجوه الملايين من الشباب والصبايا أغلقت في وجوههم و وجوههن سبل الحياة، تقدم حيث شئت ستجد أن الوثائق الحية التي تمشي على الأرض أبلغ تعبيرا وأصدق قيلا من كل ما جاءت به نصف مليون وثيقة صورها البعض كنزا من الشهود على المأساة..

لذلك ببرود تساءل العراقيون أمام وثائق الويكيليكس: ما الجديد؟!!

وببرود استقبل الشارع العربي الخبر: صح النوم للنائمين أو الجاهلين..

ومن بعيد يصرخ رجل من آخر الصفوف: والشيخ خزعل بعد ما يدري؟!!

       

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية