ديمقراطية التعذيب بالشنيور
ديمقراطية التعذيب بالشنيور!
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
من
المؤكد أن الغرب الاستعماري الصليبي الهمجي بقيادة الولايات المتحدة ، ومن قبلها
إنجلترا وفرنسا ، يجد في الأنظمة العربية والإسلامية الديكتاريوية المستبدة ؛ حالة
مثالية أو نموذجية لتحقيق أهدافه ، وإذلال المسلمين بصفة عامة ..
وقد
كان العراق نموذجا لهذه الحالة ، فقد حكمه صدام حسين وحده ، حكما ديكتاتوريا مستبدا
، ووجدت فيه أميركا والغرب لعبتها المفضلة ، فتعاونا معه ليحارب إيران لمدة ثماني
سنوات وليقضي على ثورة الخميني ، تم فيها تدمير البلدين المسلمين وقتل الملايين ،
وبعد وقف إطلاق النار ، فإن أميركا لعبت بالرئيس المهيب الركن ، وأوحلته في الكويت
، وكانت السفيرة الجميلة جلاسبي ، صاحبة الإشارة التي فهم منها المهيب الركن أن غزو
الكويت وضمها إلى العراق بوصفها المحافظة التاسعة ؛ أمر لن يثير حفيظة الأميركيين
أو غيرهم.
وبعد أن دخل المهيب الركن الكويت وتورط في أحشائها ، فاجأته أميركا بأن ألبت عليه
العالم العربي والإسلامي ؛ فضلا عن الغرب الاستعماري ، وشنت عليه مع الحلفاء العرب
والمسلمين ؛ حربا مدمرة أكلت الأخضر واليابس ، وأعادته إلى بغداد مهزوما كسيرا يجر
أذيال الخيبة والعار ، وفرضت عليه مع الغرب وأتباعها من العرب والمسلمين حصارا
شاملا ؛ أعاد العراق مئات السنين إلى الوراء !
وحين أخفق الحصار في تحقيق الغايات الاستعمارية مباشرة ، فقد زعمت الولايات
المتحدة أن لدى صدام أسلحة نووية ثبت فيما بعد أنها أكذوبة كبرى ، ولكنها تحالفت مع
الدول الاستعمارية الصليبية الهمجية وغزت العراق ، واحتلته ، وقضت على ما تبقي من
كيانه ووجوده السياسي والاقتصادي ، وسرقت البترول ، ونهبت التراث العراقي الذي يمثل
الحضارة الإنسانية التاريخية منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث ، وفتحت العراق لكل
القوى الملعونة كي تلعب في ملعبه وتشعل الأحقاد العرقية و الطائفية والمذهبية ،
وانتهي العراق اليوم إلى ثلاث دويلات على أرض الواقع يجمعها كيان اسمي واحد ، فدولة
الأكراد غير دولة الشيعة غير دولة السنة الضعيفة ..
صاحب عملية اغتصاب أرض العراق شعار استعماري صليبي يتحدث عن إقامة الديمقراطية ،
وللأسف فمنذ عام 2003 لم يعرف العراقيون إلا نوعا واحدا من الديمقراطية .. هي
ديمقراطية الشنيور أو المثقاب ، ديمقراطية القتل بالشنيور ، أي تثقيب الجسم
بالشنيور ، وإخضاع المعتقل في السجن للتعذيب المتنوع الذي ينتهي بقتله بوساطة
الشنيور !
منتهى الإنسانية التي قدمتها الولايات المتحدة وعملاؤها في العراق للشعب العراقي
التعيس ! وكان سجن أبو غريب علامة مشهورة ، فاقت سجن جوانتانامو الذي أقامته
الولايات المتحدة في كوبا للمعتقلين من المسلمين ، ولم تكن جيوش الغزو الاستعمارية
الصليبية على أرض العراق تعمل بمعزل عن عملائها ، ومن وظفتهم للقيام بعمليات القتل
الجماعي والفردي ، فقد كانت على صلة قوية بمن جاءت بهم إلى كراسي الحكم لينفذوا
سياستها وأوامرها ، ومن تعاقدت معهم من القتلة الذين يعرفون بالبلاك ووتر ، ثم
استقدمت أو سمحت للمجرمين النازيين اليهود أن يعيثوا في العراق فسادا من جنوبه إلى
شماله حتى الآن .
لقد
كشفت وثائق التعذيب التي أذاعها موقع
" ويكيليكس " عن انتهاكات تم ارتكابها ضد مدنيين عراقيين خلال الفترة من2003 وحتى
عام2009 في أكثر من92 ألف وثيقة تابعة للجيش الأمريكي تظهر تغاضيه
أو موافقته على هذه الانتهاكات .
وأوضحت الوثائق أن أكثر من66 ألف مدني عراقي تعرضوا للقتل في الحرب العراقية,
وأن معظمهم لم يموتوا في أثناء القتال، إنما في كمائن وعمليات تعذيب ، وجرائم
اغتيال نفذ الكثير منها علي أيدي العراقيين أنفسهم علي مرأي ومسمع من القوات
الأمريكية ، وكانت تجري عمليات التعذيب في المعتقلات العراقية ، واستخدمت فيها
قوات التحالف الصعقات الكهربائية والمثقاب( الشنيور), وعمليات القتل ،
بالإضافة إلي تفجير مبان مدنية بالكامل بسبب وجود متمرد واحد مشتبه به بداخلها.
و في لندن, أعلن مؤسس موقع ويكيليكس " جوليان اسانج " في مؤتمر صحفي عقده في لندن
إن الهدف الرئيسي من النشر كان كشف الحقيقة ، مشيرا إلي مقتل15 ألف مدني قتلوا
في العراق لم يتحدث عنهم أحد. و في تصريحات لقناة الجزيرة الفضائية ، قال اسانج
: إن الوثائق قدمت مادة تكفي لإقامة40 دعوي قضائية لجرائم قتل غير مشروع.
لقد استفز نشر الوثائق أصحاب الضمير في العالم ، وحرك المشاعر الإنسانية التي لم
تتلوث بالمشاعر الاستعمارية الصليبية الهمجية ، داخل أوربة والولايات المتحدة نفسها
، وقد قال فيل شاينر المحامي البريطاني المعروف إن بعض العراقيين قتلوا وهم رهن
الاحتجاز لدي القوات البريطانية. وقال إنه لا أحد يعرف عدد هؤلاء القتلى في
السجون البريطانية في العراق. وأشار إلي أن هناك محامين يعملون الآن لرفع قضايا
لصالح الكثير من المدنيين العراقيين القتلى أو المعذبين من جانب القوات
البريطانية. ونبه شاينر إلي أنه من الخطأ الظن بأنه طالما أن الوثائق المنشورة
أمريكية فإنه لا علاقة لها بالمملكة المتحدة ( بريطانيا ) .
كما طالبت الأمم المتحدة الولايات المتحدة بالتحقيق في وقائع التعذيب ، وأدانت
منظمة العفو الدولية ما تم الكشف عنه في الوثائق.
قبل ظهور هذه الوثائق بشهور كان الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء العراق يتحدث
على شاشة الجزيرة ، وأشار إلى أن الحكومة العراقية الحالية قتلت أو تسببت في مقتل
مليون عراقي .
لقد كان رد فعل العراقيين على نشر الوثائق يمثل حالة من يعرف ، والعالم من حوله لا
يعرف ، من ذلك مثلا ما
قاله أسامة النجيفي القيادي بالقائمة العراقية : إن ما نشر هو جزء من الحقيقة التي
يعرفها العراقيون ، وقال
نائب عراقي سني إن هذه معلومات متداولة بين العراقيين ولا جديد فيها. وقال
النائب محمد إقبال ، عضو جبهة التوافق العراقي : لا اعتقد أن الشعب العراقي
سيستغرب من حجم المعلومات حول الانتهاكات التي قام بها الجيش الأمريكي طوال سنوات
الاحتلال ، لأن لكل عراقي قصة مع هذه الانتهاكات لكننا نقول إن الاستمرار في كشف
المزيد من الوثائق أمر مفيد!
إن مشكلة الغرب الاستعماري مع المسلمين أنه يجيد تزييف الكلام والشعارات ، ويخدع
بعض السذج أو الذين أصابتهم الديكتاتورية ببعض الجراح ، فيظنون أن الوحشية الصليبية
الأميركية ، أحن عليهم من المستبدين المحليين ، وأنها ستحرر أوطانهم ، ولكنهم
للأسف يكتشفون بعد فوات الأوان أنهم تحالفوا مع الشيطان نفسه ، حيث لا يعرف إلا
مصالحه ، ومغانمه ، ولا يعبأ بالشركاء أو العملاء الذين ساعدوه على هزيمة المستبد
أو القضاء عليه ..
إن بعض العملاء يظنون أنفسهم في مرتبة واحدة مع الغازي المجرم ، ولكنهم يتجاهلون
أنه يحتقرهم ، ويغتالهم بعد أن يقدموا له خدمات لم يكن يحام بالحصول عليها !
من كان يظن أن الأميركان سينقلبون على صدام ، لدرجة أن يمكنوا منه عملاءهم الحقدة
لينحروه يوم عيد الأضحى المبارك على مرأى ومسمع من العالم كله ؟! إنهم لم يبالوا
بيوم العيد ومشاعر المسلمين فيه ، بل لم يبالوا بالمشاعر الإنسانية ،حين نشروا صورة
نحره عبر شاشات التلفزيون في الدنيا كلها ؟!
ويظن بعض العملاء الذين شكلوا فرق الاغتيالات والتعذيب أنهم بمأمن الآن من أميركا
وحلفائها ، ولكنهم واهمون ، لأن الغرب الصليبي المتوحش يتخلص عادة من عملائه الذين
يمكن أن يسببوا له بعض القلاقل أو المشكلات ، وهو ما يتوقع حدوثه عاجلا أو آجلا .
إن المتوحشين الاستعماريين الأميركيين ، وحلفائهم ، لم تزعجهم الجرائم التي
اقترفوها قتلا وتعذيبا وتدميرا ، ولكن الذي أزعجهم ، هو أن نشر الوثائق الدالة على
القتل والتعذيب والتدمير، قد تسبب متاعب لجنودهم وقواتهم وللخونة الذين يسمونهم
بالمتعاونين في العراق .
فقد قال مسئولون أمريكيون إن تسريب الوثائق يعرض الجنود الأمريكيين للخطر، وحددوا
نحو300 متعاون عراقي أصبحوا الآن في خطر. كما أدانت هيلاري كلينتون وزيرة
الخارجية الأمريكية نشر الوثائق ، مشيرة إلي أن أي تسريب قد يعرض حياة أمريكيين
للخطر.
وبعد ساعات من نشر الوثائق السرية التي تكشف ضلوع عدد من الجنود التابعين للجيش
الأمريكي في أعمال قتل و تعذيب في العراق علي نطاق واسع ، أعربت الحكومة
الأمريكية ووزارة الدفاع البنتاجون عن استيائهما إزاء نشر الوثائق بوصفه يمثل أكبر
خرق أمني من نوعه في التاريخ العسكري الأمريكي ، فاق بكثير نشر الموقع لأكثر من70
ألفا من ملفات الحرب الأفغانية في يوليو الماضي.وقال جيف موريل المتحدث باسم
البنتاجون : نشجب ويكيليكس لحضه الناس علي خرق القانون وتسريب وثائق سرية واقتسام
تلك المعلومات السرية مع العالم بشكل متعجرف ( الأهرام 24/10/2010م) .
إن ديمقراطية التعذيب بالشنيور أفقدت الناس الأمن في العراق الجريح ، وأتاحت
للعملاء واللصوص والمرتزقة والجواسيس فرصة الحركة الطليقة للقتل والتعذيب والنهب في
بلاد الرافدين إلى حين ، حتى يأتي يوم تصفية الحساب بطريقة وأخرى !
إن الولايات المتحدة وقوي الاستعمار الغربية الوحشية بصفة عامة ، لا تقدم ديمقراطية
حقيقية ، ولا تحمي أتباعها ، ولا تستطيع ، فضلا عن أن تحفظ لهم جميل العمالة
والخيانة .. إنها قوة أذى متعددة الاتجاهات !
لقد مزقت قوة الاحتلال الأميركي العراق ، وهي تمزق السودان ، وتمزق اليمن ، وتمزق
بلادا أخرى على نار هادئة .. لماذا لأن حكام هذه البلاد وغيرها ؛ اختاروا الاستبداد
والقبضة الغليظة منهجا للتعامل مع شعوبهم ، فتتدخل الولايات المتحدة والغرب
الاستعماري لتحقيق الغايات الاستعمارية الشريرة ، وتمزق البلاد وتطيح بالطغاة
القدامى والجدد !
متى نتعلم أن نتوافق ، ونتخذ من الشورى سبيلا إلى العمل وبناء الأوطان ، وتداول
السلطة وتجديد الدماء في مستويات الحكم والإدارة ؟
إن ديمقراطية الشنيور لا تليق بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم ، يا من تنتسبون إلى
أمة محمد صلى الله عليه وسلم .