بين جورج وميشيل
العلمانية – الإسلام – الإنسان
زهير سالم*
العلمانية في الإسلام ). وبينما ظهر الدكتور جورج في مقاله تصالحياً يحاول أن يبشر بعلمانية إسلامية ذات خصوصية، تُشتق من المعطى الإسلامي الفكري والتاريخي، وتنماز في بعض الأمر عن العلمانية الغربية، وتتركز في حماية (حرية الفكر وما إليها من احترام التنوع الديني .) التي عدها الدكتور جورج جوهر العلمانية الغربية، وأكد على وجود مجاليَ لها في تاريخ الإسلام..؛ كان الأستاذ ميشيل أكثر جرأة في طرحه وأبعد مدى، حين قرر، وهو محق، (أن العلمانية ليست مفهوما سياسيا إلا على السطح أما في العمق فهي مفهوم فلسفي ثقافي..)
لا أعتقد أن ثمة خلافا حقيقيا في فهم العلمانية بين الرجلين وإنما أعتقد أنه بينما كان الدكتور جورج يكتب على طريقة السياسي آثر الأستاذ ميشيل أن يكتب بقلم المفكر.
إن الرغبة في إلحاق عالم الإسلام بالركب العلماني الغربي على المستويين السياسي والثقافي ؛ بأقل كلفة قد تجعل سياسيا مثل الدكتور جورج يقرر بأنه بقليل أو كثير من حرية التأويل يمكن أن يكون للعالم الإسلامي علمانيته الخاصة، ومن يدري فربما تكون هذه العلمانية ذات الخصوصية مجرد خطوة على طريق...
إن المفكرين المسلمين في تحديد موقفهم من العلمانية الغربية إنما ينطلقون من فهم الأستاذ ميشيل الأولي للعلمانية، مع الاختلاف معه في بعض ما أورد عن الإسلام والإنسان. كما أن ما قرره الأستاذ جورج بكل أريحيته الحريرية فيه أيضا ما يستحق التأمل والنظر أو التوضيح من وجهة نظر إسلامية معلوماتية إلى حد كبير.
ينطلق الكاتبان من حقيقة أن العلمانية الغربية هي الأنموذج الإنساني الأكثر صلاحية ليتأسس عليه الاجتماع الإنساني المعاصر.. وهذه فرضية غير مسلَّمة عند فريق من المسلمين ( المعارض منهم للعلمانية على الأقل). وبينما يقول الدكتور جورج إنه بفتح أبواب الاجتهاد والتأويل يمكن للمسلمين أن يطوروا علمانية خاصة بهم، يرى الأستاذ ميشيل أن هذا لا يكفي لبناء علمانية حقيقية تقوم على أسسها الفلسفية في العالم العربي، وإنه لا بد من إعادة النظر في التصور الإسلامي للإنسان.
الحوار بين الكاتبين إذن حول الطريقة الأيسر أو الأجدى لإلحاق العالم العربي بالعلمانية الغربية، وأعتقد أن هذا المنطلق هو مناط أول في الحوار.
حقيقة الخصوصية التاريخية التي أكد عليها الدكتور جورج كانت مهمة جدا. الخصوصية على طرفي العالم، في الغرب الأوربي والعلاقة بين الكنيسة والقصر، وفي الشرق حيث طور المسلمون نظاما مدنيا على قواعدهم لا أحد يدعي له الكمال، ولكنه كان، إذا استخدمنا تاريخ الأفكار والنظم المقارن مع احتساب السياق الزمني، متقدما بمراحل غير قليلة عما جرى ويجري في الغرب.
طرح العلمانية الغربية كأنموذج يجب احتذاؤه أو اللحاق به، ودلالة لفظ اللحاق مهمة في السياق، وغض النظر عن سلبيات هذا الأنموذج ليس موضع تسليم. مع أنه لم يفت الأستاذ ميشيل أن يشير إلى أنه لا ينكر ما في العلمانية الغربية من ثغرات.
استرسالا في الحوار، حول ما طُرح، ولا أعتبر ما أكتبه هنا ردا، أحب أن أضيف بعض التوضيحات..
الأولى أن هناك إسلاما، وهناك تاريخا للمسلمين.. والخلط بين الاثنين يسبب تشويشا واضطرابا كبيرين.
الإسلام يتمثل في النصوص الشرعية الصحيحة والثابتة. وهو مثابةُ العلماء المجتهدين في كل العصور. وأشبه ما يكون بالنبع الدفاق يغترف منه كل من يرده بمنهجية العالم الموضوعي. وكل حسب قدراته..
وتاريخ المسلمين سواء كان تاريخا سياسيا أو فقهيا أو ثقافيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا هو تاريخ بشري. فيه قليل أو كثير مما يكون في تاريخ البشر من إيجابيات وسلبيات، وخطأ وصواب، وأخيار وأشرار، وميسرين متسامحين ومعسرين متشددين ومنغلقين متعصبين . صحيح ثمة أواصر قوية تربط هذا التاريخ بالإسلام. ولكن الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه أن الإسلام بالمعنى الذي أشرنا إليه هو الحاكم على تاريخ المسلمين وليس العكس. وهذه حقيقة مهمة في أي حوار منهجي حول الموقف الإسلامي من التاريخ كسياق للتجربة الإنسانية على الصعيدين النظري والعملي.
سنجد في التأمل في التاريخ الإسلامي تقدما أكبر على صعيد الأفكار مستمدا من المرجعية الشرعية التي أشرنا إليها. وهذا لا يمنعنا أيضا أن نلمس نكوصا عن مجاراة الأفكار الإسلامية المتقدمة عند بعض الشخصيات ، أو في بعض الحقب، مما يشكل صدى لعوائق بعضها سياسي وبعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي.
ومع ذلك فقد حافظ المسار الإسلامي العام على سياقه. وظل الفقيه المسلم، مثلا، في مقرراته يتحدث عن الشورى والبيعة، والإيجاب والقبول، والحل والعقد، والتولية والعزل، ولم يكف عن ذلك أبدا..رغم أن التاريخ السياسي للمسلمين مضى في اتجاه آخر تماما. وكما يستطيع حكام اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين وفي عصر المعلومة المعولمة، أن يتستروا وراء عناوين من الديمقراطية المزيفة التي نعايشها في أقطارنا وبمباركة نظام غربي علماني.. استطاع النظام السياسي في دمشق وقرطبة الأمويتين وبغداد العباسية والقاهرة الفاطمية أن يستنسخ نظاما خاصا ينخرم فيه على الأقل شرط الشورى الحقيقية، وتغيب عنه حالة الشفافية التي فرضت على عمر بن الخطاب يوما أن يفسر للناس سر حصوله على ثوب طويل من دونهم!!
النقطة الثانية التي تحتاج إلى مزيد إيضاح هي قضية التأويل التي رأى فيها الدكتور جورج قرم مخرجا أو معراجا إلى فضاء العلمانية الغربية بخصوصية إسلامية.
إن التجديد الفقهي، على مستوى الفروع بشكل خاص، وعد إسلامي شرعي. ومقتضى من مقتضيات شريعة القواعد والمقاصد بسماحتها ومرونتها؛ لتحافظ على حيويتها وتلبيتها لحاجات المسلمين على اختلاف الأزمان والأقطار. أعتقد أن لفظ ( التجديد ) الوارد في الحديث الشريف ( إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إلى أمتي من يجدد لها أمر دينها ). هو المعبر الأساس الذي أراده الدكتور جورج من الحديث عن التأويل والاجتهاد. ونضيف في هذا السياق أن التجديد أو الاجتهاد هو منهج مستدام وملازم للشريعة الإسلامية. ويبقى عنوانا مهمّا على تطور حياة المسلمين، وعلى استمرار ارتباط هذا التطور بالإسلام. وغياب هذا المنهج يعني أحد أمرين خطيرين: جمود حياة المسلمين كما حدث في القرون القريبة التي خلت، أو انفصام ما بين الإسلام وواقع المسلمين وهو بعض ما نعايشه في هذا الزمان.
ثم إن لعملية التجديد أو الاجتهاد أو التأويل التي يدعو إليها الدكتور جورج شروطها الموضوعية المنهجية. إن خوض غمار التجديد حق لكل من التزم هذه الشروط وعمل ضمن الإطار المنهجي لقواعد الاجتهاد. يؤكد الإمام الجويني في متن الورقات ( أن الاجتهاد بذل الوسع في بلوغ الغرض – وهو هنا الحكم الشرعي – على أن يكون المجتهد كاملة الآلة في الاجتهاد.) أي أنه مستوف لما يحتاجه من منهج وعلوم ومعارف. وثمة شرط إضافي يضيفه الأصوليون على المجتهد في أمر الدين والشريعة أن يكون صاحب ( تقوى ) تعصمه من خوض الغمرات ومجاراة الأهواء. ومنذ أيام الرسول الكريم تم التحذير من المنافق ( عليم اللسان ) أو من الذين ( يأكلون الدنيا بالدين ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب. )
إن الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد هو حديث عن وهم أكثر منه حديثا عن حقيقة تاريخية. لا شك أنه قد مرت الأمة بفترة من الكسل الفكري والمنهجي شعر فيه عدد كبير من فقهائها أنهم غير مؤهلين ليخرجوا عن حدود ما رسمه الأولون. وأنه لم يبق ، وربما بسبب الجمود في الحياة العامة ، أي جديد يقال. التجديد مرهون بوجود المجدد، والاجتهاد مرتبط بوجود المجتهد، كما هو مرهون بوجود المستجد أو الحاجة التي تفرض نفسها على حياة الناس. وحين جمدت حياة المسلمين الفكرية والعملية جمد الفقه بجمودها. نستطيع أن نعتبر الجمود الفقهي الذي أصاب الحياة العامة سببا ونتيجة في آن..
لقد كان منتظرا من المشروع الغربي نفسه في حال توفر مصداقية أخلاقية أو تمدينية حقيقية أن يساند مشروع التجديد الإسلامي. ولكنه ، مع الأسف ، لعب دورا سلبيا جدا في الإغلاق على هذا المشروع، وخنقه، وإقصاء القائمين عليه. كانت قضية القبعة الكمالية هي المسيطرة على أذهان الساسة ورجال الفكر الغربيين،كما على المخططين السياسيين. كانوا يريدون مجتمعات متغربة ولو في عُمرة الرأس. لم يكونوا قادرين على الاعتراف بالأنماط الفكرية التي تجول فيما تحت القبعة. وهم قد شغلوا دعاة التجديد الإسلامي في مقاومة مشروعهم المريب. واستنزفوا قواهم على هذا الطريق. ولقد أثمرت جهودهم تلك إخفاقا مريعا لمشروعهم الخاص، رغم البذل والدعم والتأييد. وأثمرت أيضا تضييقا على مشروع التجديد الإسلامي العام الذي نادى به الأفغاني وعبدة بمدارسه المتعددة . وأضاف هذا التضييق في الواقع ضيقا وتطرفا في العقول والنفوس وهو ما تشكو منه الحياة العامة في عالم معولم، تطرف هو في جملته من مخرجات جهود الذين منه يشكون.
لقد أصاب الأستاذ ميشيل عندما تحدث عن دور النظم القومية والثورية في قمع معطيات الحرية الحقيقية. نتحدث عن نظم أكثر مما نتحدث عن حركات. كثيرا ما أتساءل فيما لو ذاقت شعوبنا بحق من خلال تجارب واقعية طعم الحرية والمشاركة الديمقراطية، ولو كانت ثمارها العاجلة ليست في مصلحة بعض الناس، فهل كانت سترضى بأن تبقى متلجلجة فيما هي فيه حتى اليوم؟!
قضية ثالثة تحتاج إلى بعض الجلاء بصدد ما نحن فيه تلك هي قضية المرجعية..
في الغرب ولدى جميع المذاهب هناك مؤسسة كهنوتية تراتبية معترف بها رسميا تنطق باسم الدين أو باسم المذهب. في الإسلام السني الذي يضم جملة المسلمين في العالم هذا غير موجود.
وفي حين جاءت إشارة الدكتور جورج قرم مجملة عامة في توصيف تاريخي لعلاقة سادت على وجه ما العلاقة بين الكنيسة والقصر؛ فإن مناقشة الأستاذ ميشيل رغم كل الإيرادات التي أوردها لم تكن إلا دخولا في التفاصيل. ومهما تعددت التفاصيل الصغيرة فإنها لا تلغي السياق العام. الصراع بين الكنيسة ولاسيما الكاثولكية والقصر والأمراء ورجال الإقطاع كانت إحدى حقائق التاريخ الأوربي العام على مدار عصور. وقد استتبع هذا الصراع صراعا من نوع آخر هو الصراع بين الكنيسة وحركة النهضة والتنوير حتى في ميادين العلوم البحتة، ومناهج التفكير والاستنباط.
في الإسلام كان الأمر مختلفا.. ظلت المرجعية ( نصا قابلا.. ) على مدى تاريخ المسلمين. كل الذين حاولوا فرض مرجعية عن طريق السلطة فشلوا. حاول ذلك أبو جعفر المنصور. أراد أن يفرض الإمامَ مالكا على المسلمين. أبى العالم المسلم بمنهجيته المتعالية ذلك.
حاول ذلك المعتزلة عن طريق استخدام السلطة المادية. كانت مقاومة المدرسة العلمية بأساطينها الثقاة فكرية وصلبة حتى أسقطت المحاولة. العجيب أن بعض مثقفي زماننا يظلون يرددون المديح للمعتزلة بوصفهم ( عقليي الإسلام )، ويتغافلون عن ممارسة المعتزلة الاستبداد العقائدي، مستندين إلى السلطة السياسية في قمع الآخرين!! الأمر الذي لم تمارسه أي مدرسة إسلامية وصلت إلى السلطة في أي عصر من العصور. فلم يحدث أن امتُحن المسلمون على عقائدهم بشكل جماعي، كما في محاكم التفتيش، إلا في المرحلة القصيرة التي ساد فيها المعتزلة والاعتزال، والتي امتلكت فيها هذه العقيدة هراوة السلطة في عهد بعض خلفاء بني العباس. ما فعله المعتزلة لم يفعله البويهيون الشيعة عندما كان لهم الأمر في بغداد. ولم يفعله الفاطميون في قرون طويلة حكموا فيها مصر. كانت فكرة التعايش أكثر وضوحا في أذهان الساسة مما كانت عليه في عقول المعتزلة ( المتنورين!!).
والأغرب بما نحن فيه أنه بينما يلقي الدكتور قرم العبء على الدعوة الوهابية فيما يسميه الإغلاق المعاصر على المسلمين، يحمل الأستاذ ميشيل المدرسة الأشعرية تلك المسئولية!! أمر يجعلنا نشعر بالعجز عن الربط المباشر بين المدرستين( المتباعدتين) وبين ما يريده الكاتبان. كانت الدعوة الوهابية في جوهرها رفضا للتقليد ودعوة للاجتهاد والارتباط بالنص وإعادة فهمه ولا يُسأل محمد بن عبد الوهاب عما آل إليه أمر دعوته الإصلاحية على أيدي من جاؤوا بعده. وكانت الأشعرية مذهبا في العقيدة يدعو إلى (فهم النص) ويرفض تجاوزه. وهو وإن لم يذهب مع المعتزلة فيما أغرقوا فيه إلا أن أبا الحسن الأشعري يعتبر واحدا من كبار عقليي الإسلام المتمردين على أهل الظاهر الذين لقبوا في تلك المرحلة بالحشويين. أبو الحسن الأشعري هو المفكر المسلم الذي عزز مكانة مدرسة التأويل في مواجهة مدرسة التفويض.
الحقيقة التي يجب أن تبقى واضحة هي أن المرجعية في الإسلام هي مرجعية ( الكتاب وصحيح السنة). أو ( مرجعية النص القابل) للعطاء والفهم والتأويل.
و(الإجماع) الذي اعتبره الأصوليون المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي. لم ينعقد عمليا إلا على المعلوم بالضرورة من أمور هذا الدين. وحتى هذا الإجماع كما يقرر الأصوليون ينخرق بقول واحد إذا كان من أهل الشأن الذي يتكلمون فيه.
قابلية النص الشرعي للعطاء والفهم والتأويل يخلق مشكلة حقيقية للمسلمين تتمثل في كثرة الآراء وتعدد الفتاوى. وهي مشكلة لها إتاؤها الإيجابي كما لحظه الأقدمون. ( الفتوى رخصة تأتيك من فقيه ). ولها حصادها السلبي الذي بدأنا نعانيه اليوم من الفتاوى الطائرة التي تضج بها ومنها وسائل الإعلام اليوم. حتى بدا لبعض أولي الأمر من المسلمين أن يبادروا إلى الإغلاق والتنظيم. ولكننا نعتقد أن طبيعة الإسلام البنيوية تأبى إلا حرية النظر والتفكير. وأنه مهما يكن الضرر الناتج عما يسميه البعض فوضى الفتاوى فإن عطاء الحرية العامة في آفاقه يظل أبقى. ويظل الجمهور المسلم أقدر على التمييز بين الحق والباطل والمصلح من المفسد.
وأخيرا فإن أهم ما يمكن الوقوف عنده في مفاصل هذا الحوار هو تعريف الأستاذ ميشيل للخلفية الفلسفية للمنهج العلماني والمتمثل كما يقول في ( حرية الإنسان ). وحرية الإنسان عنوان جميل من الصعب لأحد أن يقاربه بنقد أو رفض. ولا نعتقد أن الأستاذ ميشيل يذهب في الحرية مذهب الفوضويين. وحين يُقر العقل الواعي بضرورة القيد، دينيا أو مدنيا، يصبح الحوار حول ( المدى ) حوارا مشروعا حول فرع وليس حول أصل.
إن الاستثمار في الغرور الإنساني ليس منهج الراشدين. حتى في ظل العلمانية الغربية لا تزال هناك بعض قيود مفروضة على حرية الفرد. تعاطي المخدرات، مثلا ، خيار إنساني فردي، ما يزال أصحابه بحاجة إلى جهة ترشدهم أو تأخذ على أيديهم.
العلمانية الغربية فيما أدخلته تحت مسمى الحرية خرجت بالإنسان عما دُعي في تاريخ الأديان بقانون الفطرة. وأطلق عليه المفكرون القانون الطبيعي. وخرجت بالإنسان عن الشرائع (الملية) كما أطلق عليها ابن تيمية، وهي مجموعة القيم التي أطبقت عليها الأديان السماوية. وما تزال فكرة الحرية مع تجلياتها الإيجابية الكثيرة، تفتح على الإنسانية أبوابا للشر لا قبل للإنسانية بها. لن نسترسل في سياق المتشائمين الذين يرددون أحاديث سقوط الحضارة الغربية. ولن نذهب في التمجيد مع الذين تحدثوا عن نهاية التاريخ.
وحين يمجد الأستاذ ميشيل الحرية على الصعيد الفردي لا يجوز أن يغفل عن أن الرأسمالية بوجهها الكالح وسيماها القاسية وقانون السوق الذي لا يرحم هي بعض تجليات هذه الحرية..
الوجه الآخر لحرية الرفاه التي يزينها البعض هي هذا الدمار وهذا الشقاء الذي يسود العالم. هل يمكن أن نغفل أن الدفيئة الكونية هي بعض تجليات حرية المقتدرين. وأن هذه الحروب بكل قسوتها وشراستها هي من إنجاز الإنسان ( الحر ) عندما أصبح مجرّدا من القيم. لا أريد أن استرسل في خطاب قد يسميه البعض وعظيا ولكن لا بد من قرن الحقائق بعضها لبعض. يحلو لي أن أردد دائما أننا قدمنا للعالم (فنجان القهوة ) وقدم لنا ( أسلحة الدمار الشامل ) هل كانت تلك خطيئتنا الحضارية في تصورنا لحقيقة الإنسان؟
وأعود إلى التصور الإسلامي للإنسان الذي طالب الأستاذ ميشيل بمراجعته وتصحيحه. فإذا كان أرسطو والحضارة التي قامت على أفكاره نظرت إلى الإنسان على أنه كائن حر فإن اٍلإسلام عرّف الإنسان بأنه كائن مسئول. في إطار وجود مدني عرف الإسلام الإنسان بلازم من لوازم الحرية فأجمع علماء الأصول على أن الإنسان هو (المكلف). أو أن المكلف هو حسب التعريف الأصولي الإسلامي الإنسان البالغ العاقل.
المسؤولية هي اللازم الأول من لوازم الحرية. سواء على صعيد الموقف الأولي من الكون والحياة والإنسان حيث حمل الإسلام الإنسان مسئولية خياره. ومنع أن يُمارس عليه أي نوع من أنواع الإكراه ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) ((أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ))
وحين يقابل الأستاذ ميشيل في ثنائية كلاسيكية أيهما يكون أساس المجتمع الإنسان الحر أو المؤمن. فإنه يختزل الكثير من قواعد الاجتماع الإنساني، وضرورات العيش المدني المشترك. من حقنا أن نرفض الحصار بين فكي الثنائية لأننا نؤمن أن قاعدة الحياة المدنية التشاركية هي الإنسان المسئول، وليس الإنسان الفوضوي الذي يمارس اليوم في ظلال العلمانية الغربية الكثير مما يضر ويسوء.
حين نستدير إلى سؤال الأستاذ ميشيل كيلو الأساسي الذي عنون مقاله به:
ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشد وطأة؟! يتبين لنا أن الإسلام منظومة عقائدية منسجمة ومستقلة وقائمة بذاتها وهي مقنعة عندما تحاور وظاهرة عندما تتحدى، ولقد شق الإسلام طريقه العقلي عبر العصور بلا كنيسة تحتكره متعاليا على أي سلطة تختزله أو توظفه.
تنويه:
ـ أرسلنا هذا التعقيب إلى جريدة السفير فامتنعت عن نشره.
ـ سبق أن نشرنا المقالين موضع البحث في واحة اللقاء ونعيد نشرهما اليوم.
* حرّية التأويل، مفتاح العلمانية في الإسلام ... اختلاف إشكاليّات العلمانية بين أوروبا والعالم العربي ... جورج قرم
* ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشدّ وطأة؟ ... ميشيل كيلو
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية