تصحيح المفاهيم
تصحيح المفاهيم
أمل شعبان
أساءت الظروف التاريخية للعديد من المصطلحات والمفاهيم ، ونسبت إليها ما ليس فيها ، ومن ضمن هذه المفاهيم مصطلح العلمانية ، فلقد أساءت بعض القوى السياسية لهذا المصطلح ، واعتبرته معاديا للأديان ، وربطت بينه وبين الإلحاد ، أو في أحسن الظروف اعتبرته نتاج للظروف التي مرت بها أوربا في العصور الوسطى من تسلط الكنيسة وزيادة دورها ونفوذها السياسي ، وامتلاكها للحقيقة المطلقة في الدنيا فسيطرت على ملوك أوربا ، وامتلاكها للحقيقة المطلقة في الآخرة فباعت الجنة بصكوك الغفران.
والنظرة إلى المصطلح بهذه الطريقة نظرة ساذجة وسطحية ، وترجع في الأساس إلى الجانب السيء الفهم من المصطلح وهو تحييد دور الدين في المجتمع أو عزله تماما وهو أمر غير صحيح وتجني واضح على مصطلح العلمانية .
وفي مقاله وضح الدكتور عمرو حمزاوي بالمصري اليوم أربعة معان أساسية للعلمانية نوجزها فيما يلي :
أولا : هي المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن اعتباراتهم الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية ، ويرى د حمزاوي أن مفهوم المواطنة هو أحدى نتاجات العلمانية
ثانيا تضمن العلمانية حرية الممارسة لشعائر العقائد والأديان في ضوء المساواة القانونية وعدم التفريق بين ديانات أغلبية أو ديانات أقلية ، فتقديم المواطنة المدنية علي الانتماء الديني استتبع التزام الدول الحديثة الحياد التام، بالامتناع في فعلها ومؤسساتها عن التمييز.. إن الإيجابي أي المحاباة، أو السلبي أي الاضطهاد، باسم الدين .
ثالثا : تُخضع العلمانية السلطات الدينية والهئيات الدينية للرقابة وخاصة الرقابة القضائية ، " وهو أمر لا يتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي " فالعلمانية تستند إلي نظرة واقعية للهيئات الدينية، لا ترى بها مجرد كيانات طاهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، ولا تضفي قداسة علي رجال الدين.. ومن ثم تعاملهم كغيرهم من المواطنين المسؤولين عن أفعالهم أمام القانون.
رابعا : في ظل العلمانية يتحول الدين بتعاليمه وهيئاته ورجاله ليصبح أحد الإطارات والأنساق القيمية الموجهة لحركة الدولة والمجتمع وليس الوحيد. لا تعادي الدول والمجتمعات الحديثة الدين، بل تمزج في تشريعاتها وتنظيمها بين معايير دينية وأخري وضعية، علي نحو يبتغي تعظيم مساحات الكفاءة والعقلانية والحرية، ويحول دون تسلط فئة باسم الدين علي بقية المجتمع.
وما ذكره د حمزاوي لأركان العلمانية هو نوع من التبسيط المشكور والذي دعاني لاختصار وجهة نظره وطرح هذا الموضوع للنقاش .
ويؤكد د المسيري رحمه الله أن العلمانية الجزئية " في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة " أنها فصل الدين عن الدولة و«العلمانية الشاملة» وهي لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، أو بعبارة أخرى: فَصْل القِيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العامّ والخاصّ، بحيث تنتزع القداسة عن العالم، ويحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى. كما يؤكد أن العلمانية بشكل عام ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وتشمل كل جوانب الحياة العامة والخاصة، الظاهرة والباطنة، وقد تتم هذه العمليات من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى (ومنها المؤسسات الدينية) أو من خلال أهم المنتجات الحضارية أو أتفهها .
وفي مسألة فصل الدين في أوربا نلاحظ أن هذا غير صحيح ، فعلمانية فرنسا تختلف عن علمانية ألمانيا ، طبعا تختلف عن علمانية الولايات المتحدة ، ففي ألمانيا هناك أحزاب مدنية ذات مرجعية دينية ومنهم الحزب المسيحي الحاكم بقيادة إنجيلا ماركيل فضلا عن لعب رجال الدين دورا في التأثير على الرأي العام وتشكيله ، بعيدا عن استغلال الدين تحت أي مسمى ، وحفاظا على الدولة المدنية .
ونعود للمسيري إذ نجده يقول " وأنا كمفكر إسلامي لا أرى غضاضة في قبول ما أسميه العلمانية الجزئية إن كان يعني بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني، والتي لا تمس من قريب أو من بعيد المرجعية النهائية، وهو ما أفهمه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبروا أو لا تؤبروا.. أنتم أعلم بأمور دنياكم)، أي أن الفصل هنا بين الدين والدنيا ينصرف إلى تفصيلة مادية محددة (تأبير النخل) ولا يمس المرجعية النهائية الدينية المتجاوزة لسطح المادة. "
إذا علينا ان نفرق بين ممارسة مدنية لحياتنا تحمي الدين ولا تنكره . وقد يتساءل البعض عن ممارسات أوربا تجاه الإسلام ، فيري د حمزاوي أن ممارسات كمنع الطالبات المحجبات من دخول المدارس الفرنسية أو رفع العسكر الأتراك وقضاة المحكمة الدستورية شعار العلمانية، أو المنع المطلق للدستور المصري بعد تعديلات ٢٠٠٧ الكارثية لتأسيس أحزاب تعتمد المرجعية الدينية.. فجميعها نماذج محبطة لتوظيف سطحي ومبتذل وسلطوي للعلمانية، وهي منها براء. "
أرجو أن نتعاون جميعا في تصحيح مفاهيمنا وأتمنى ان يتحول الموضوع لحلقة نقاش نبتغي منها تصحيح المفاهيم في عصر عز فيه مثل هذه الأمور.