راتب الزوجة ... المعادلة الصعبة
راتب الزوجة ... المعادلة الصعبة
منى محمد العمد
قالت تستفتي الشيخ :
اغتربت أنا وزوجي وعملنا معا ًسنوات طويلة ، وبنينا لنا بيتاً وصنعنا ثروة متواضعة , وأنجبنا فقط أربع بنات , ثم انتقل زوجي إلى رحمة الله تعالى , وفي غمرة حزن إخوته عليه وكنوع من مواساتهم لنا بفقده , أبلغوني بتنازلهم عن حقهم في ميراثه , وحمدت الله تعالى لأن المال ــ وإن كان باسم الزوج المتوفى رحمه الله ــ إلا أنه مالنا كلينا فقد كنت امرأة عاملة وبذلت الكثير وتحملت الصعاب مع أطفالي في جمعه ، وهم إن أخذوا نصيبهم من الميراث فهذا يعني أنهم سيرثونني مع زوجي وأنا ما زلت على قيد الحياة , .لكن إخوة زوجي بعد أن مر عدة أشهر على وفاته و ذهبت عنهم لوعة الحزن عادوا فطالبوا بنصيبهم الشرعي من الميراث , فهل ذلك من حقهم ؟ قال لها الشيخ : من حقهم أن يطالبوا بنصيبهم في كل مال توفي أخوهم وهو مسجل باسمه إذا كان تنازلهم الأول مجرد كلاما قالوه ولم يثبتوه رسميا , أطرقت الزوجة و لم تقل شيئا , قال لها الشيخ : أخطأت يا أختاه في عدم إثبات حقك في حياة زوجك رحمه الله تعالى فلقد جعل لك الشارع الحكيم ذمة مالية مستقلة عن ذمة زوجك ... و هنا أمسك الشيخ , فقد أجهشت المرأة بالبكاء و لا فائدة من الاسترسال في كلام فات أوانه .
و إن كان فات أوانه بالنسبة لهذه المرأة , فالفرصة ما زالت سانحة بالنسبة للكثيرات . لست ضد التعاون بين الزوجين في شيء فلئن كان التعاون مندوبا إليه مأمورا به بين المسلمين عامة , فأولى أن يكون التعاون بين الأزواج , لكني أقول : إن التعاون ــ وإن كان مطلوبا في كل أمر أسري بينهم ــ فلا يعني ذلك مسح الحدود بالكلية , لا سيما في الأمور المالية , و كما قال الشيخ لتلك المرأة المنكوبة في زوجها و مالها أقول : لقد جعل الله للمرأة ذمة مالية مستقلة فلماذا تدخل مالها في ذمة زوجها , و هي ليست بإنسان ناقص الأهلية , أم أنها تأمن الدهر و تقلباته ؟ فقد يتوفى زوجها و المال في ذمته فترث فقط نصيب الزوجة في مالهما , و يشاركها والدي الزوج فيأخذان ثلث التركة إن كانا ما يزالان على قيد الحياة ، و ربما يشاركها إخوانه ــ إن لم يكن له ولد ــ فيرثون من مالها وهي حية ترزق , و ربما يسبق أجلها فتموت هي أولا فيكون تفريطها بحقها سببا لحرمان أبويها و ربما إخوتها من حقهم في ميراث ابنتهم .
وبالتأكيد فإن هذه الزوجة أوفر حظا من تلك التي وضع زوجها ماله ( أقصد مالهما ) باسم والده , ثقة منه في عدالته وضبطه , ثم جاءه الموت وماله في ذمة أبيه , وكان الأب محل ثقة ولده , وحرصا على حق زوجة ولده وأبنائها قرر أن يسحب المال ويضعه في ذمة الورثة الشرعيين , لكن قدره لم يمهله فقد جاءه ما جاء ولده قبله , فازداد الحال تعقيدا , ووزعت تركة الأب المتوفى بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ذلك بعد خصم نصيب زوجته , ونال أحفاده ( أبناء ولده المتوفى قبله وصاحب المال الحقيقي ) حصة من التركة كحصة أحد أعمامهم بناء على ما يعرف عند الفقهاء بالوصية الواجبة , ووزعت هذه الحصة بينهم , أما البالغون منهم فأخذوا نصيبهم وأما القصر فقد حجزت لهم أموالهم إلى حين البلوغ , وخرجت الزوجة من الأمر دون حتى خفي حنين ! بل لقد خرجت بكفلين وافرين , أما أحدهما فمن القهر وأما الآخر فمن الندم , وهي ترى رأي العين مالها ــ والمال شق النفس ــ يقسم بين الناس ولا ينالها منه شيء , نعم قد يكون بعض هؤلاء على تقوى فيعطونها شيئا من حقها , لكن السؤال الهام هنا هو لماذا تكل نفسها إلى أخلاق الآخرين أعطوها أو منعوها ؟؟!
و قد تقول قائلة : كيف أطالب زوجي بهذا الحق وماذا سيظن بي ؟ لاشك أنه سيظن بأني أنتظر موته أو أتوقعه على الأقل ! والله تعالى قال لرسوله عليه الصلاة و السلام وهو أحب خلقه إليه :"إنك ميت و إنهم ميتون" و قال له أيضا : " أفئن مت فهم الخالدون " و لا أحد يعلم من سيموت أولا , هذا من جهة , و من جهة أخرى ؟ فمن يضمن ألا تمر بالعش السعيد ساعة شيطانية توقع بين الزوجين أبغض الحلال ؟ فإذا حدث هذا الأمر الذي لا يتمناه أحد , فمن للزوجة المنكوبة بأمنها و استقرارها ألا تكون نكبتها أيضا في مالها الذي تركته طوعا أو كرها في ذمة رجل لم يحفظ ودها ؟ هل نتوقع منه أن يسلم لها حقها كاملا بالإضافة إلى حقوقها المالية الأخرى كالنفقة الواجبة لها ؟ خاصة وأن الطلاق كما هو معلوم مظنة الشحناء والبغضاء وهذه تدفع إلى الاعتداء على بعض الحقوق في الأعم الأغلب ولعل هذا ما يفسر أمر الله تعالى بالتقوى والندب إليها في سورة الطلاق خمس مرات وهي سورة لا تزيد عن صفحة واحدة من صفحات المصحف الشريف !!
المسالة مسألة مبدأ . وليست مرهونة بالموت أو الطلاق , بل للمرأة أن يكون لها ــ مع بقاء الزوجية ــ مالها الخاص فتتصرف فيه بحرية تامة بيعا وشراء وهبه وتدفع زكاته الواجبة التي من شروطها تمام الملك , فإذا تركت مالها في ذمة زوجها و شعر بأنه يملك هذا المال بشكل ما , فهل ستطيب نفسه إن طلبت أن تهب بعضا منه حتى لوالديها أو بعض أقاربها ؟ أو تدفع منه صدقة لوجه الله تعالى خالصة , ناهيك عن أن تضعه في مشروع استثماري ما ؟!
ولقد ذكر بعض الفقهاء عدم صحة تنازل المرأة عن مهرها أو حصتها من الميراث لصالح أبيها أو زوجها أو غيرهما لأن صحة التصرف مرهونة بتمام الملك وأوجبوا دفع حقها إليها أولا حتى تشعر بامتلاكه ثم تهب بعد ذلك ما شاءت لمن شاءت , وسواء تم الأخذ بهذا الرأي من الناحية العملية أم لا فتبقى دلالته قائمة لا تخفى على أحد .
وأقول للأزواج الرجال اتقوا الله في أزواجكم ولا تكرهوهن على دفع أموالهن إليكم ولا تستغلوا حياءهن الذي قد يثنيهن عن المطالبة بحقوقهن وما أخذ بالحياء فالنار أولى به , أما إن هي رغبت أن تعطي زوجها شيئا من مالها فبها ونعمت وأجرها على الله , و الله تعالى يقول : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا" فأوضح أن العطاء الذي يسمح للزوج به هو ما طابت به نفس الزوجة و ليس هو ما أخذه منها إكراها أو حياء . وههنا نكتة قد يكون من المستحسن ذكرها فقد أورد الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى في معرض تفسيره الآية الكريمة أن المرأة وإن طابت نفسها بالعطاء يبقى لها نوع تعلق بهذا المال وغالبا ما تلحق به المنّ وهو سبب قول الله تعالى هنيئا مريئا , بينما اكتفى عز وجل بقوله ( هنيئا ) وهو يتحدث عن عطائه لأهل الجنة " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " فعطاؤه تعالى لهم لا يتبعه منّ " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون " سورة التين .
وثمة أمر بالغ الأهمية يجدر ذكره هنا دون مواربة , فأخذ مال الزوجة أو لنقل مشاركتها الإنفاق على الأسرة طوعا أو كرها يخل بالقوامة إخلالا بينا , فقد ذكر الله تعالى سببين لقوامة الرجال على النساء أحدهما الإنفاق , وأشير هنا في استطراد لابد منه أننا ينبغي ألا نتغاضى عن السبب الأول والأهم للقوامة , وهو هذا التفاضل الفطري بين الرجال والنساء عامة , وهذا أيضا لا يعني أن الله فضل الرجال على النساء مطلقا بل الآية تشير إلى تفاضل والتفاضل ادعى إلى التكامل , فما نقص مثلا من الحزم والعقلانية عند النساء يكمله الرجال وما نقص عندهم من المرونة والعاطفية تكمله النساء وهكذا ليتحقق التوازن داخل الأسرة وخارجها , أعود فأقول : إن الرجل الذي يأخذ مال زوجته , سواء كان ذلك برضاها أو بغير رضاها لا تسلم له القوامة عليها , وهو أمر منطقي يؤكده الواقع , فالزوج الذي يدخل منزله بعد الظهر مع زوجته عائدين كلاهما من عملهما, بأي حق يطلب منها أن تناوله كوبا من الماء ؟؟ إذا كان يمد يده إليها في آخر الشهر طالبا راتبها ! وأكثر من ذلك فالمرأة العاملة ( التي تعطي راتبها لزوجها ) لا تفرح كثيرا بهدية يقدمها لها الزوج مهما علت قيمتها سيما إذا كانت تشعر أنها مكرهة على دفع راتبها إليه , إحدى الزوجات قدم لها زوجها حليا ليست زهيدة وعلقت صديقتها تقول : ما شاء الله الأحوال بينكما طيبة ليأتيك بهذه الهدية الثمينة ! ردت الأخرى ببسمة صفراء وقالت : دعينا يا صديقتي لا نضحك على أنفسنا , إنها لا تعدل راتب شهر مما يأخذه مني كل شهر .
فإن قال قائل : إنه يحق للزوج أن يأخذ من مال زوجته ( راتبها ) مقابل تقصيرها في بعض حقه بسبب وظيفتها , أقول : ألم يفكر أنها عندما تقصر في حقه فقد غمضت حق نفسها و خرجت على حساب سعادتها الزوجية و على حساب أطفالها من أجل أن توسع ماديا عليه و على أسرته التي هي جزء منها ؟ نعم هذه هي المعادلة الصعبة , أريد أن أقول للجميع : إن الحياة الزوجية ليست مؤسسة مالية تقوم على أساس الربح و الخسارة فهي قبل الماديات كلها , نفس تسكن إلى نفس و روح تأنس بروح في ظل المودة والرحمة , الرصيد الرباني الذي يسحب منه الأزواج كلهم ما يقيمون به أود حياتهم الزوجية , و راتب الزوجة هو المحك الذي يمحص أخلاق الرجال فمنهم كريم ولئيم .
وأظننا لن نجد بين النساء العاملات من تشعر بارتياح تام من ناحية راتبها إلا في القليل النادر , فهي إن اضطرت لدفع راتبها فلن تكون سلما لزوجها في نفسها وقلبها ولن تكون مودتها له خالصة بل سيشوبها الكثير من الشعور بالهضم والظلم والخوف من المستقبل وانعدام الأمن , وإن هي امتنعت عن دفع شيء من مالها له مستعملة بذلك حقها الشرعي لن يشعر هو بالارتياح وستظل مودته لها مشوبة بشعوره بشح نفسها والارتياب في نواياها وعدم تعاونها معه ومشاركتها له في السراء والضراء وقد تظل نفسه تنظر إلى ما في يدها وتطمع به , وفي هذه الحالة لن تكون الزوجة نفسها سعيدة بهذا الخيار, فمن تشارك المرأة في مالها إن لم تشارك رفيق عمرها وفلذات أكبادها ؟!
فما الحل إذاً ؟؟ هذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر في جوابه يكمن مفتاح القضية , وهو : ماذا تريد المرأة ؟؟ إنها تريد أن تشعر بحريتها التامة في التصرف بمالها دون وصاية من أحد انطلاقا من تمام ملكها لمالها , تريد أن تحس بأن عطاءها يلقى التقدير وأنها هي محل الاحترام والثقة , تريد أن تنعم بالإحساس بالأمن والحب , فإن هي حصلت على مطالبها السهلة الممتنعة هذه فهي بالتأكيد ستحسن التصرف وستعطي عن طيب نفس , وصدقوني إن قلت إنها ستعطي بغير حساب .