التعالُم ...والتأويل الفاسد

التعالُم ...والتأويل الفاسد

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

يقول عن نفسه , ويقول عنه ملَمِّعوه ,ومسلطو الأضواء عليه : " إنه داعية مجدد " . مع أن واقعه , وما يطرحه من إفرازات يقطع بأنه " دعي مبدد " . ونكتفي لتأييد حكمنا السابق بموقفين فقط من مواقفه " العلمية جدا... جدا " :

1ـ ينكرصاحبناعلى الشيخ سيد سابق أنه أورد الحكم التالي في كتابه " فقه السنة " :

"ترْك الصلاة جحودًا بها، وإنكارا لها خروج على ملة الإسلام بإجماع المسلمين، أما من تركها مع إيمانه بها واعتقاده فرضيتها ولكن تركها تكاسلاً أو تشاغلاً عنها بما لا يعد في الشرع عذرًا، فقد صرحت الأحديث بكفره ووجوب قتله".

 وأستطيع أن أقول إن صاحبنا المتعالم لم يفهم منهج الشيخ سيد سابق في كتابه "فقه السنة"، أو فهمه وأغفله عن عمد.

 وأساس ها المنهج وجوهره يتلخص في عرض الآراء الفقهية المختلفة في تنسيق وتبسيط شديد، وكل رأي من هذه الآراء مصحوب بأدلته النقلية والعقلية، ولكي يوهم المتعالم القراء بأن هذا الرأي هو رأي الشيخ سيد سابق لجأ إلى وسيلتين:

 الأولى: عدم نسبة هذا الرأي لأصحابه، وإغفال الأدلة التي ساقها الشيخ سيد لتأييد هذا الحكم، وكلها أحاديث صحيحة وردت في الكتب الصحاح .

 والثانية: أنه أسقط "الرأي الآخر" الذي أورده سيد سابق، وفيه يقول بالنص "... ولكن كثيرًا من علماء السلف والخلف منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب، فإن لم يتب قتل حدًا عند مالك والشافعي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: لا يقتل، بل يعزر، ويحبس حتى يصلي، وحملوا أحاديث التكفير على الجاحد، أو المستحل للترك" .

 ويورد سيد سابق مناظرة في تارك الصلاة بين الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ قال الشافعي: يا أحمد، أتقول إنه يكفر؟

قال نعم.

قال الشافعي: فبم يسلم؟

قال أحمد: يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قال الشافعي: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه.

قال أحمد: يُسْلم بأن يصلي.

قال الشافعي: فصلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم له بالإسلام بها.

فسكت الإمام أحمد رحمهما الله .

 ولكن صاحبنا ـ كما قلت ـ أسقط أدلة الحكم الأول، ولم ينسبه إلى الفقهاء الذين قالوا به، كما أسقط الحكم الثاني وأدلته. ليخلص من ذلك إلى الإيهام بأن هناك من الفقهاء ـ أمثال الشيخ سيد سابق ـ من يكفرون الناس ويستبيحون دماءهم.. ومثل هذه الآراء تخلق جوًا يسمح بظهور الجماعات الدينية المتطرفة.

**********

 2 ـ أما السنة فموقفه منها أعجب وأغرب.. ولننظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , عن أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". ( صحيح مسلم ) .

 إن صاحبنا المتعالم يفسر هذا الحديث على النحو التالي ـ من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده: "أي من رأى منكم منكرًا من نفسه هو فليغيره بيده فهو المسئول عن سلوكه؛ لأن كل إنسان قد أعطاه الله الإرادة والقدرة على تغيير ما يصدر منه من منكر..

ـ فإن لم يستطع فبلسانه: "أي فإن لم يستطع الإنسان أن يغير ما في نفسه بإرادته وقدرته، بالهمة الواجبة ودون تراخ فإن عليه أن يقف كابحا جماح نفسه، ليدور ذلك الحوار الداخلي الذي يذكر فيه الإنسان نفسه بعاقبة المعاصي.

ـ فإن لم يستطع فبقلبه "أي فإن لم يستطع الإنسان أن يردع نفسه بإرادته وقدرته، ولا حتى بلسان الحجة، وكانت النتيجة أن ظل على هذا المنكر، فإن ذلك يكون دليلاً على ضعف إيمانه ووجود المرض في قلبه، أي أن المنكر قد استقر بقلبه وهذا أضعف درجات الإيمان" .

 ومن حق القارئ أن يضحك في مرارة من هذا التفسير، أو هذه السذاجة اللاعلمية التي ابتعدت بصاحبنا المتعالم عن منطق العقل والدين واللغة:

 فالمعروف بداهة من قواعد التفسير أن النص يؤخذ بظاهره ولا يؤول، ولا يخرج به عن هذا الظاهر، ما لم يكن ثمة مسوغ قوي لذلك. والحديث يجزم بأنه لا مسوغ لمثل هذا الخروج.

 ومن ثم لا يستقيم تفسير "الرؤية" بالإحساس والشعور النفسي، بحيث يكون التغيير في نطاق "الذات" لأن الرؤية لغة تقتضي طرفين: رائيًا ومرئيًا.. ناظرًا ومنظورًا.

 ولو سايرنا صاحبنا في تفسير اليد بالإرادة والقدرة النفسية، فمن حقنا بعد ذلك أن نتساءل: ما قيمة اللسان في "الحوار الداخلي" أو في لوم الإنسان نفسه إذا أتت منكرًا؟ إن "الحوار الداخلي" أو "المحاسبة الذاتية" أو " المنولوج " شعور لاحديث باللسان .

 والعجيب كذلك أن "صاحبنا المتعالم" جعل تغيير المنكر على درجتين فقط:

تغيير باليد، وتغيير باللسان، وصرف الدرجة الثالثة للمنكر ذاته فيكون تفسيره على النحو الآتي: من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه (وهاتان الدرجتان في دائرة الذات) . فإن لم يستطع تحقيق هاتين الدرجتين: فالمنكر (قائم) بقلبه. وهذا يدل على أضعف درجات الإيمان على حد قوله.

 ولست أدري كيف يكون "استقرار" المنكر في القلب درجة من درجات الإيمان؟ وكيف يستقيم هذا التفسير مع البلاغة النبوية فكرًا وأسلوبًا؟

**********

 والتفسير السديد للحديث يدركه أي إنسان مهما كان حظه من المعرفة. ويظهر ذلك في ضوء المثال العملي التالي: إذا هم بعض الشباب بخطف فتاة في سيارتهم في الطريق العام فموقف المسلم حينئذ واحد من ثلاثة مواقف هي:

 1 ـ أن يخلص الفتاة من أيديهم بيده وقوته، حتى لو ناله بعض الضرر.. وهذا الموقف - ولا شك- يمثل أعلى درجات التغيير.

 2 ـ أن يحاول منع الجريمة بإرشاد الشباب إلى فظاعة عملهم هذا وحرمته، أو يستنجد بالناس أو الشرطة لتخليصها , وهذا هو التغيير باللسان.

 3 ـ أن يعجز المسلم عن الموقفين السابقين لسبب ذاتي كمرض يمنعه من السعي أو النطق ـ مع رؤيته المنكر ـ أو محاولة الخاطفين قتله أو قتل أحد أبنائه أو ما شابه ذلك، فعلى المسلم في هذه الحال استشعار الغضب والنقمة على هذا المنكر وكراهيته والتقزز منه.

 وهذه المرتبة تأتي في الدرجة الثالثة من المرتبتين السابقتين، لذلك عبر عنها الحديث بأنها "أضعف الإيمان".

 وهذا الحكم لا يعني انعدام قيمتها وإلا ما جعلها الحديث مرتبة، ثم إن "الضعف" هنا نسبي، أي بالقياس إلى المرتبتين السابقتين فأعلى المراتب التغيير باليد . وأوسطها التغيير باللسان . وأدناها التغيير بالقلب.

 ولكن: هل استشعار الكراهية للمنكر, والغضب والنقمة عليه يعد "تغييرًا" ؟ أقول نعم: وهذا ما لم يدركه "صاحبنا المتعالم".

 فهذا الشعور في ذاته ـ كما تقول الدكتورة نيفين عبد الخالق - "يشكل طاقة كامنة للتغيير يمكن أن تبزغ فجأة إذا وجدت الاستطاعة .

وتبَـلْـوُر مثل هذا الشعور - إذا اتسعت قاعدة المشتركين فيه - يصنع ما يسمى "بالرأي العام". وهو من الناحية الواقعية المنطلق إلى التغيير الفعلي الحقيقي.