الشيخان أبو إسحاق ومحمد حسان

محمد بن جلال القصاص

في مصب النهر

محمد بن جلال القصاص

تجرأت صحيفة وأعلنت أنها ستنشر لنكرةٍ سباً في الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطعناً في الدين ، فهبَّ الشيخ أبو اسحق الحويني والشيخ محمد حسان ـ حفظهما الله ـ كأسدين على تلك الصحيفة والنكرة الذي استكتبته ، وهبَّ معهم  غير قليل من أولي العلم والفضل حتى تراجعت واعتذرت اعتذاراً مشبوهاً ، تقول سنغير العناوين ونعيد نشرها إن وافق الأزهر !!

وعاد الشيخان ومن هبَّ معهما كل إلى مكانه . !!!

والعجب أن عاد كل إلى مكانه .  وكأن هذا الحدثَ وحيدٌ ليس له أشباه على الساحة . . . وكأن هذا الحدث مُنبت لم يقرن بأمثاله ، ولم يُسبق بأمثاله ولم يتبع بأمثاله ؛ وحال العقلاء ـ والشيخان حفظهما الله منهم بل في مقدمتهم ـ أن يتعاملوا مع سياقٍ عملي كامل لا مع حادث بعينه ، فهذه الفجاجة في الطرح وسوء الأدب لا تأتي بين عشية وضحاها .

وراء الحدث شخصيةٌ منحطة تستجدي المال والشهرة بالنصب والاحتيال والكذب هذا الذي خطت يداه ، وأخرى علمت بحال هذا الرديء المنحط فقامت بتفعيله ؛ فالحدث صنعته ـ بتقدير الله ـ يدان : يد فَعَلَت ويد فَعَّلت .

والشواهد على هذا كثيرة جداً ، بل يمكننا أن نقول أنه منذ بدأت المواجهة مع العلمانية ، وكل الأحداث فيها فاعل ومُفَعَّل ( مفعول به ) ؛ قاسم أمين كان فاعلاً ومُفَعَّلاً ، ولا يمكن أبدا قراءة قاسم أمين بدون من كتب له ( أو نقل منهم ) سواءً أكان من النصارى كمرقص فهمي والدوركير الفرنسي والاعتراضات الأوروبية على الرحلة الأصمعية ، أم كان من المسلمين كمحمد عبده ؛ وعلي عبد الرازق ـ صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم ـ كان فاعلاً ومفعولاً به ( مُفعَّل ) ، ولا يمكن قراءة علي عبد الرازق دون مَن قام بالكتابة له ( أو دون من نقل منهم ) ودون من قاموا بتفعيله ، وطه حسين ، وعباس العقاد ـ نعم عباس العقاد ـ ، وخليل عبد الكريم ، وأبكار السقاف ، ونصر أبو زيد ، وسيد القمني ، ... كل ما نواجه الآن عبارة عن فاعل هو الآخر .. من الكافرين ( في الداخل أو الخارج ) ومُفَعَّل من المنافقين .

فكل حدثٍ حدثَ نجد فيه هذين .. الكافر فاعل والمنافق مُفعَّل . وكل حدثٍ يحدث الآن وخاصة ما يتعلق بالتطاول على الدين وسيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجد فيه هذين : الكافر فاعل والمنافق مفعل . 

والتعاطي مع المُفعَّل دون الفاعل الحقيقي كمن يقف في مصب النهر يحاول أن يسد النهر في مصبه ، وأنى ؟!

المشكلة مع الفاعل وليست مع المُفَعَّل. فهذا الذي خطت يداه هناك من استدعاه ليركبه إلينا ويتطاول به على مقدساتنا . فبضاعته ليست من عنده ، بل من أكاذيب النصارى ، وهم من فعلوه وتفاعلوا معه . وهو نموذج متكرر في واقعنا المعاصر وأقرب شاهد سيد القمني وخليل عبد الكريم ونجلاء الإمام .

وهذا الفاعل تتعدد وسائله يُفَعِّل أثيم كهؤلاء ، ويفعل وسيلة إعلامية كهذه الصحيفة التي نشرت له ، فالأخبار متواترة على أن الصحيفة تمول من جهات نصرانية جهدها في صد الناس عن ربها ، أو ينشئ قنوات فضائية متخصصة في التطاول على الدين وسيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وغرف حوارية ، ومواقع إلكترونية . بكل الوسائل المتاحة يواجهنا ، ومُصِّرٌ على المواجهة .

 فالحديث البذيء هذا الذي غضب منه الشيخان لا ينقطع ، لأننا نواجه عدواً مرتباً عمل قروناً في الخفاء ثم ظهر بعداوته من قرنين من الزمن ، وهو اليوم حشد كل ما يستطيع وجاء على أكثر من محور ، فكيف نتعامل مع شيء جزئي ونترك سياقاً كلياً ؟! ، وكيف نتعاطى الدابة ونترك راكبها ، ونترك دواباً أخرى قد حلت بدارنا تحمل الكفر وأهله ؟!

إن لكل جيل تحدياته الخاصة به في الناحية الفكرية والعملية ، يوماً كان التحدي قضية خلق القرآن ، ويوماً كان التحدي الحروب الصليبية ، ويوما كان التحدي التتار ، ويوما كان التحدي الاستعمار ، ومضى التاريخ يرفع من صمد وقدَّمَ الأفعال ، فالتاريخ أصم يسجل الأفعال ..يسجل المواقف لا الكلمات ، والرتب في الشريعة الإسلامية تمنح بالأفعال لا بالأقوال ، ( ربح البيع أبا يحيى ) ، ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ) ، وكثيرون لا نعرف من سيرهم إلا أفعالهم ، نقول الأرقم بن أبي الأرقم فلا يذكر المستمع إلا داره التي آوى فيها الدعوة في مهدها يوم كانوا خائفين يخافون أن يتخفطهم الناس ، مع أنه ـ رضي الله عنه ـ عمّر ( توفي 58هـ ) وشهد المواقع كلها .

يدون التاريخ التحديات ثم يذكر ما فعل المبرزون في الناس ، ونعرف من شرعنا أن العبادات تتفاضل وبعد الفرائض يأتي ما تعدى نفعه ، ويدخل عامل الوقت فيجعل قصياً ذا أولوية قصوى . فلا نُسئل اليوم عن التتار ولا عن فتنة عثمان ولا عن خلق القرآن ، وإنما عن هؤلاء الذين تطاولوا على الدين وسيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فمن يخشى التاريخ .. ومن يبحث عن الذكر الحسن الذي ينتفع به بين الناس ويكون سببا في أثرٍ طيب ينتفع به حين يوسد في التراب ، فليقدم التحدي الأكبر ، أو يساعد من يقدمون التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم أهل مصر من هؤلاء المجرمين الذين تطاولوا على الدين وسيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

قد ثارت ثائرتكم واحتقن الدم في رؤوسكم وعيونكم بعد أن اطلعتم على كلماتٍ معدودة لم تنشر بعد ، فكيف ومثل هذا وأشد منه يقال ليلاً ونهاراً سراً وعلانية ، وكيف والمسلمات يرجعن إلى الكفار ليفتن في دينهن ؟! ، وكيف وقد تجرأ الكفار وهم قلة أذلة ؟! يبغضهم مَن بالداخل والخارج ؟!

إن تفكيك عرى الكفر ورد هؤلاء أمر سهل بسيط لو انتصب له مَن يستمع له الناس . إنه في تبني خطاب هادف جريء يشرح للناس حقيقة ما يدعوهم هؤلاء إليه .. يعرفهم ما النصرانية التي عليها القوم اليوم ، ويعرفهم حقيقة ما ندعوهم إليه . . خطاب مباشر ، يفكك الخطاب المضاد ويقدم ـ في ذات الوقت ـ البديل .و( الخطوط الحمراء ) التي يتحدث عنها قومنا وهمية ، لا وجود لها في الحقيقة ، بل إن رأس الكفر في مصر شنودة الثالث استدعى الناس للرد على من يتكلم من قومه ، نادى فينا بأن ردوا على مَن آذاكم . 

فلم لا تردون يا قوم ؟ 

وعلى فرض أن هذه الخطوط موجودة فيمكن وطئها أو إعادة رسمها من جديد . 

إن شدة الامتثال جرأت علينا من كان يحتمي بنا وأصبحنا هدفاً لكل مَن هب ودب . 

إن التعدي على شخص الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرصة ثمينه لتعريف الناس به ، وتعريفهم حال من يَتكلم عنه ، وفرصة للخروج من هذا الحصار الذي فرضه علينا هؤلاء حين تركناهم فتجرؤوا علينا ، وتجرأ علينا من كان يحتمي بنا ، وقد شرحت ذلك في رسالة سابقة بعنوان (التنصير خطر يطال الجميع ) .

إن مسئولاً عن نصح الأمة رأساً فيها لا يسعه أبداً أن يتخلى عن قضاياها الثائرة بأرضه التي يعيش فيها أو تصلها كلماته وأفعاله ، وإن التاريخ لا يرفع رأساً بمن لا يقدم أفعالاً . إن صناع الحدث الحقيقيين من يقدمون أفعالاً ، وهم من تكتب آثارهم ويرفع الله بين الناس ذكرهم ، وليس لنا أن ننصرف عمن يسب الدين وسيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليس لنا أن ننصرف عن المؤمنات وقد أرجعن للكفار يعذبن وينتهك أعراضهن بل ويقتلن . سوأة لا يسترها الكلام .. أي كلام .ولا يكفي فيها أن نغضب على صغير حقير نكرة لا يمثل شيئا في الحدث ، ونترك صناع الحدث . لا يسد النهر من مصبه ، بل يجفف ويغير مساره من منابعه    فاخرجا من المصب ودونكما المنبع . نصركما الله ونصر بكم . وهدانا وإياكم سواء السبيل.