في ذكرى استقلال الجزائر
عبد العزيز كحيل
[email protected]
ماذا لو عاد رموز الجهاد العسكري والسياسي والتربوي – رحمهم الله – إلى الحياة في
ذكرى استقلال بلادهم التي ضحّوا من أجلها؟ ماذا لو كتب الله تعالى العودة للأمير
عبد القادر وطفيش وابن باديس وأمثالهم؟ لا شكّ أنهم يتمنّون أن يجدوا الجزائر ترفل
في الرقي والرخاء وأهلها يتقلّبون في أعطاف النعيم ،وشرع الله تعالى يدرأ عنهم
المفاسد ويجلب لهم المصالح، جبرا لما فعله بهم الاحتلال الفرنسي من إفساد مادي
واجتماعي ونفسي كما أشارت الآية الكريمة : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها
وجعلوا أعزة أهلها أذلة " - سورة النمل، فقد أفسدت جحافل فرنسا المتوحشة البلاد
فأحرقت الأرض بشتّى الأشكال، كما أذلّت الشعب العزيز فحاربت دينه ولغته ومقوماته
الحضارية لتجعل منه كيانا هجينا لا يحسن سوى التفاني في خدمة " الوطن الأم" الممتدة
أراضيه من دنكرك إلى تامنراست.
لو عاد أولئك الأفذاذ لقرّت أعينهم بعلم يرفرف و نشيد يعزف ورجال ونساء أصحاب مبادئ
لا مصالح مازالوا على درب الوفاء والعمل الجادّ من أجل استكمال المشروع الأصيل الذي
يصلح كل ما أفسده الاستعمار ويعيد العزة لشعب مؤمن لا يذلّ لغير الله عز وجل.
لكن فرحتهم كانت تكون محدودة وهم يجدون عمدة الأوطان – الشباب – يتحوّلون من صناعة
التاريخ إلى احتقاره أو الاكتفاء بقراءته - في أحسن الأحوال – ويحمل أكثرهم فكر
الأزمة، هو غذاؤهم ومعيارهم في الحكم على الأحداث والأشخاص والمؤسسات ،لا يلتزم إلا
القليل منهم بالمجاهدة الفكرية والقراءة الواعية لتحريك آليات التغيير في المجتمع ،
فعجزت الأمة عن الامتداد بالاستقلال ووقفت عند محطات عاطفية تكتفي بالنظر عن الفعل
وبأمجاد الماضي عن صناعة الحياة، بل سيجد هؤلاء العائدون أن نجوم المجتمع وقدواته
ليسوا هم العلماء في مختلف التخصصات ولا الدعاة ولا المصلحون إنما هم أهل الطرب
واللعب ،فقد أصاب فساد الذوق اللسان والسمع والأدب الرفيع وأداء الإنسان في الحياة
وبلبل منازل الناس وحسّن القبيح وقبّح الحسن .
لقد كان من المفروض أن تعود ذكرى الاستقلال كل سنة بمزيد من معاني الولاء للبلاد
والحبّ والعطاء لكن اختلاط المفاهيم من جهة وانحراف تقاليد التسيير من جهة أخرى
حالا دون ذلك فأعرض كثير من الشباب عن رسالة الوطن ورسالة الوجود وجعل بعضهم محور
حياته أمورا سحب عليها الزمان ذيل العفاء ،وأشعلوا معارك مع غير عدوّ وانسحبوا –
باسم الإسلام – من بناء بلدهم إلى اغتراب تاريخي – وحتى جغرافي – غريب ، كأن الدين
لا يعاش إلا هناك وهنالك وليس هنا بين ظهراني شعب مؤمن أصيل ، فيما عمل الغزو
الثقافي فعله فغيّب المعدن النفيس وركّز على الطلاء المزوّر، ووّفر أدوية مغشوشة
للأمراض الاجتماعية بل سبّب هذه الأمراض ورعاها على أيدي بعضنا حتى لا تقوم قائمة
للاستقلال.
لو رأى أولئك العائدون كل هذا لامتشقوا حسام الإنكار ورفعوا أصواتهم وأقلامهم
بالنصح للأمة وشبابها لإزالة حرّاس الخطإ من طريق الإصلاح وبعث عوامل التحدي
والنهضة وشحذ العقل المؤمن والإيمان العاقل وتنمية الروح الإسلامية والوطنية لتصحيح
المسار من خلال البرنامج القديم الجديد الذي يتمحور حول :
- إخراج المعاني الإسلامية من فضاء التجريد إلى واقع العمل الفردي والأسري
والاجتماعي في رقعة جغرافية اسمها الجزائر هي أمانة أبنائها شرعا وعرفا .
- بعث الدعوة الإسلامية بمعنى تعبيد الناس لله تعالى ليس في إطار الجانب الروحي
والأخروي وحده وإنما من خلال صناعة حياة إسلامية مدنية رفيعة لمستوى تتزيّن بأزياء
العدل والحرية والمساواة وتوفير جوّ الإبداع لكل صاحب موهبة.
- المساهمة الواعية القوية في ترشيد سياسة الحكم والمال بإنشاء نموذج شوري راسخ
يمنع الاستبداد والفساد لاستناده إلى مؤسسات راسخة البنيان تكتسب عبر الزمن آليات
استيعاب كل الطاقات الوطنية واستبعاد عناصر العرقلة مهما كانت.
- تجاوز عقلية الاستهلاك واكتساب مهارات الفعل الحضاري.
إن الاستقلال إذا اكتملت أبعاده السياسية والثقافية نعمة كبرى يجب علينا أداء واجب
شكرها بكل أنواع الشكر بدءا بالشحنة العاطفية التي تربط الإنسان بموطنه فتثير فيه
نوازع الحب والفداء وفعل الخير ، وهذا من الفطرة السليمة ، وهناك فرق شاسع بين
تعلّق الإنسان ببلده ودرء المضارّ عنه وجلب لمنافع له وبين ما قد يكون من انحراف
طبقة السلطة والمال ، فهذا ظرفي يزول بالتغيير النفسي والمجتمعي الإيجابي ليحلّ
محله الحكم الراشد ، لكن هذا التغيير لن يحدث بطفرة ولا بخارقة إنما وفق السنن
الجارية في الأمم والأحداث ، وذلك ما ينبغي أن يتجنّد من أجله الشباب الواعي
الملتزم بالدرجة الأولى ليخرج من قاعة الانتظار إلى ساحة الفعل ويبرح كرسي التفرّج
إلى معترك الإصلاح الشامل الممتدّ من النفس إلى سياسة الحكم والنشاط الاقتصادي
والتخطيط التربوي ، فما أكثر ما ينتظر الشباب من أعمال جليلة يكتمل بها الاستقلال ،
بدءا بإعادة بناء عالم الأفكار والتأثير في مسار المجتمع بعزمات البشر، وتحويل
القلق إلى انخراط في موكب المصلحين والمبدعين والمنتجين ، فهذا أفضل من انتظار
الإصلاح الفوقي – الذي علّمنا التاريخ أنه قلّما يحدث – ومن القراءة التبعيضية
للحياة والسياسة والعولمة التي يهواها إنسان التخلّف والّتي لا تزيده إلاّ تخلّفاً
عندما يقضي حياته في لعن الظّلام والتذرّع بفساد الزمان.
إنّ إخراج فرنسا وتحرير الجزائر من الاحتلال إنجاز يعتزّ به كلّ مسلم وكلّ حرّ، وهو
وسام تقدير نفخر به، ولا يمكن أن ننسى تضحيّات من ضحّوا ردحاً من الزمن لتعود
بلادنا إلى انتمائها العربيّ الإسلاميّ، وبدل هدم ما هو كائن بذريعة نقصانه يجب
إتمام الإنجاز بعزيمته كعزيمة الأوائل ليحي أبناؤنا حياة راقية تتيح لهم الاستمتاع
بالطيبات وتفجير طاقاتهم الذهنية والعاطفية والعضلية في ظلّ بسط رداء العدالة وقيم
الخير والفضيلة ووفرة الحريات الفردية والعامة وحقوق الانسان ، وكل هذا يتمّ إنجازه
لا انتظاره.