الرجل المرن
وكلام عن المرونة
أحمد النعيمي
اشتهر في منطقتنا بالرجل المرن، كان دائماً ما يتعرض للمضايقات الخفيفة والثقيلة من الآخرين، تارة باللسان وأحياناً كثيرة باليد، والرجل، وفي بعضها الآخر قد يُستخدم في مداعبته أدوات حادة، تدغدغ له جسد المهلهل، ولكنه يأخذ كل هذا بدعابة وابتسامة مصطنعة، وسكوت مريع على بعض الدعابات الثقيلة التي كانت توجه إليه، وبشكل مثير للغضب، حتى أصبح مرمى لكل من هب ودب، يُلقي ثقل دمه عليه، بل ولم يكتفي أمر شهرته في منطقتنا، وإنما تعداه إلى باقي المناطق الأخرى، وبات قبلة للزائرين ثقلاء الدم، لكي يفرغوا فيه شهوتهم اللعينة من السخرية به، فما هي الحقيقة في كون الإنسان مرناً، وهل الواجب أن يكون الإنسان مفتوحا على الآخرين بهذه الدرجة القذرة؟! وخصوصاً أن طبيعة الإنسان تغريه بالشخص المرن وتجعله يستخف به، بل يصل الأمر إلى الازدراء والاحتقار، هذا إذا لم يصل به إلى شيء أخطر وأعظم، كحالنا الآن من المرونة أمام أمم الأرض جميعها.
من أيام كنت أحادث زميلاً لي في موضوع ما، وإذ به يرد علي في اتجاه آخر، بدأت انفعل وسط إحساس يراودني بأنه قد اعتدى عليّ بفهمه الخاطئ، وأنه ليس من حقه أن يرد عليّ بعيداً عن استفساري له، مما دفعني أن أرد عليه بقسوة كانت كفيلة بأن تبني بيننا حاجزاً وجداراً من الصمت القاتل والثقيل. لولا أن تداركنا نفسينا، وخصوصاً أن صديقي يعتبر من النوع النصف مرن، بل لا أكون مبالغاً إذا قلت أن مرونته قد تصل في كثير من الأحيان إلى نسبة ما يحصل عليه رؤساؤنا في انتخاباتهم، فأعدت عليه ما جرى بنا من موقف، وبدأت أقص عليه كيف أنه لم يكن مرناً معي عندما لم يستمع إلى كلامي ويفهم ما قلته، مما جعله يقر حقيقة أنه في هذه اللحظة لم يكن مرنا أبداً وأنه قد تعجل، وبالنتيجة وبعد حديث طويل وممل ودرس ألقاه عليه هذا المرن عن المرونة، وقسّم لي أنواعها وفصلها، وقدم وأخر وطرح وقسم وضرب وجمع، إلا أنني وصلت معه إلى أن الإنسان قد يكون مرناً في بعض الأوقات وقد يكون غير مرن في البعض الآخر، وعلى نتيجة هذه المرونة يكون تعامل الآخر وردة فعله، فالمرونة التي تواجه بها الآخرون ترتد عليك بشكل مباشر، فإن كنت غير مرن فإن الأمر يرتد عليك بشكل غير مرن كذلك، ولذا فإن نسبة ما تقابل به الآخر من مرونة يكون موقف الآخر ومرونته منك وتفهمه لك. واتفقنا أن كثيراً من المواقف الخاطئة تجعل الأمر يتحول إلى خصام ونزاع، لأننا لم نسمح لأنفسنا الاستماع إلى الآخر وفهم ما يريد قوله، وتسرعنا بالرد عليه بإجابة غير مناسبة، يجعل الموقف يتحول إلى موقف غير ودي بالمرة، واتفقنا كذلك أن المواقف التي عاملنا بها الآخر بكل مرونة، وودية جعلت من الآخر حميماً وولياً. يقول عز وجل: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً" الاسراء53.
وهكذا الكثير من الحوارات التي تدور بيننا والتي كثيراً يطغى عليها التسرع، وعدم الاستماع بشكل دقيق إلى المتكلم، وقطع فكرته وبترها، والإجابة بعيداً عما يناسب ما طرح من أفكار، وإلا الأصل بنا أن نترك للمتكلم أن يصل بنا إلى ما يريد، ثم نجيب وبكل اختصار حول ما طرح، ليدلل هذا أنه لدينا القدرة على فهم ما قيل. وهذا ما يتعلق بعلاقة المسلم مع المسلم، وعلاقة المسلم مع الآخر الغير معتدي، وذلك كما جاء عن عثمان مؤسس دولة بني عثمان والخلافة العثمانية، عندما حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك!؟ فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده يقول:".. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" وكان هذا العدل الكريم سبباً في اهتداء الرجل وقومه إلى الإسلام. الصلابي الدولة العثمانية ص48، جوانب مضيئة ص32.
ولكن المرونة قد تتحول إلى شكل سلبي، عندما يكون موقف المقابل لنا غير مرن وعدواني ثم نعامله بمنتهى المرونة، وهي كحالنا الآن كمسلمين أمام أعدائنا والرد على جرائمهم بحقنا بالشجب والصمت والاستنكار، بل ويتعدى الأمر إلى أن نشرّح بعضنا البعض، ونمزق أنفسنا، ونسمى المقاومين والمجاهدين بالفئران والجرذان، كما جاء على لسان أحد المتحاورين في الاتجاه المعاكس البارحة، وفيهم يقول الله عز وجل: "إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" الانفال49، بل ويصل الأمر بالبعض الآخر منا أن يسمى هذه المرونة سياسة وكياسة ونتجاوز على كل جرائمهم كما رد علي أحدهم، بينما هم لا يخجلون من أحد ويقتلون الشعوب ويسجنون الرجال ويغتصبون النساء والأطفال، فكيف يعقل أن نكون كيسين في هذا الموقف، وهنا تتحول تلك المرونة إلى شيء قاتل. والله يقول: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" الحج39، ويقول في وصف هؤلاء:"سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً" النساء91، "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ" الماذئة52, "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" الممتحنة1.
وبهذه الحالة تصبح المرونة حالة مرضية تعبر عن الخوف والعجز والجبن، وخصوصاً إذا لم تكن تلك المرونة مترافقة، مع التمكن والقدرة، فليس أعجب من مروة غير القادر والعاجز وليس هذا سوى الجبن والخوار والنفاق. لأن القاعدة الربانية تقول: "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" الشورى41–42، والقاعدة الفيزيائية التي خلق الله الخلق عليها وأثبتها العلم الحديث تقول: لكل فعل ردة فعل مساو له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه، هذا ما يختص بالأجسام الصلبة أما الأجسام الهلامية، والأسفنجية، والمذبذبة، فإن لها قدرة رهيبة على الامتصاص والمرونة، ولله في خلقه شؤون.