إبراهيم عيسى وأبو هريرة رضي الله عنه
مرة أخرى
أ.د. عبد الرحمن البر
عضو مكتب الإرشاد وأستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
الأستاذ إبراهيم عيسى له ولع غريب بالحط على أبي هريرة رضي الله عنه خاصة، وعلى كثير من رجال الأمة المحترمين في تاريخنا أيضا، وتعجب كثيرا حين تراه يخلط بين رغبته في انتقاد أوضاع السلطة والمستبدة وبين تشويه الجميل في تاريخنا، وبقدر ما يحرص على أن تكون لمعلوماته السياسية مصداقية، فإنه لا يهتم مطلقا بأن تكون لآرائه ونقوله التاريخية أية مصداقية.
كان الأستاذ إبراهيم قد كتب عدة مرات يطعن في أبي هريرة رضي الله عنه من غير مناسبة، وكان من الواضح أنه قرأ كتاب الكاتب الشيعي عبد الحسين شرف الدين عن أبي هريرة وربما يكون قد قرأ كتاب محمود أبو رية (شيخ المضيرة) والذي أسسه على رواية مكذوبة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيما يبدو فإن الأستاذ إبراهيم كلما أحس بأنه ليس لديه ما يقدمه للقراء يأخذ في إعادة إنتاج أفكاره وتكرير طروحاته، ومن ذلك طرحه المتكرر للطعن في أبي هريرة رضي الله عنه .
وكنت قد كتبت كتابا بعنوان (هذا هو أبو هريرة رضي الله عنه) فندت فيه ما طرحه الأستاذ إبراهيم من آراء تتعلق بهذه الشخصية العظيمة، لكن يبدو أن الأستاذ إبراهيم لم يقف على الكتاب، أو ربما يكون قد وقف عليه لكنه لم يقرأه، إذ من المستبعد أن يكون قد قرأ الحقائق الموثقة التي أوردتها في الكتاب ثم يبقى مستمرا في ترديد افتراءات الشيعة وغيرهم من الطاعنين على أبي هريرة رضي الله عنه.
أقول هذا بمناسبة المقال الذي كتبه في جريدة الدستور يوم الثلاثاء 22 يونيو 2010 م بعنوان (بزنسة أبي هريرة) أعاد فيه الإساءة إلى أبي هريرة رضي الله عنه في سياق حديث جاد عن الفساد والمفسدين المتربحين من الوظائف العامة التي تولوها، فذكر قصة منسوبة إلى عمر بن الخطاب في موقفه من أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن باب الأمانة العلمية فسأنقل القصة بالرواية التي ذكرها الأستاذ إبراهيم وأبين مدى صحتها، ثم أذكر ما جاء في المصادر عن هذه القصة ليتبين الصحيح من الباطل في هذه القصة، وذلك على النحو التالي:
الرواية التي ذكرها الأستاذ إبراهيم لم يذكرها من المصادر القديمة المعتبرة سوى كتاب (العقد الفريد) لابن عبدربه الأندلسي 1/53 ونقلها محمود أبو رية في (شيخ المضيرة صـ80 ويبدو لي أن الأستاذ إبراهيم نقل عنه) فقال ابن عبد ربه:
«ثم دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت. قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده. قال: ليس لك ذلك. قال بلى والله وأوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة».
هذه هي القصة التي أوردها الأستاذ إبراهيم، وهي رواية لا قدم لها ولا ساق ولا إسناد لها يمكن من خلاله الحكم لها بالقبول.
ثم زاد الأستاذ إبراهيم جملة صغيرة (منتقاة) من رواية أخرى ذكرها ابن عبدربه، فقال الأستاذ إبراهيم: «وما كان من أبي هريرة إلا أن رد لبيت المال كل ما تربح به وحصل عليه في ولايته عند صلاة الصبح واستغفر لأمير المؤمنين (طلب المغفرة من عمر)»
وقبل أن أنقل لك نص ما ذكره ابن عبدربه أجدني مستغربا من تفسير قوله «واستغفر لأمير المؤمنين» بأن معناه (طلب المغفرة من عمر)! فالذي أفهمه وأظن أنه فهم كل ذي عقل أن معنى (استغفر لفلان) أي دعا الله له بالمغفرة، ولا يمكن أن يكون معناها: طلب منه المغفرة، إلا إذا كان الكلام العربي له طريقة أخرى في الفهم يعرفها الأستاذ إبراهيم دون غيره من أهل اللسان العربي! إن العبارة واضحة في أن أبا هريرة استغفر الله لعمر وسامحه فيما فعله معه من أخذ ماله بغير حق. هذا إن صحت الرواية، وهي غير صحيحة أصلا.
على كل حال هذا هو النص الذي التقط الأستاذ إبراهيم منه هذه العبارة فقط، وترك باقي النص، ولك بعد قراءة النص أن تدرك مدى الأمانة العلمية التي تمتع بها الأستاذ إبراهيم في هذا الموضوع.
قال ابن عبدربه: «وفي حديث أبي هريرة، قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟
قال: فقلت: ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، ما سرقت مال الله.
قال: فمن أين لك عشرة آلاف؟
قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت.
قال: فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين.
فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك، يوسف صلوات الله عليه. قلت: إن يوسف نبي وابن نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي ويضرب ظهري وينزع مالي».
هذه هي الرواية التي أغفلها الأستاذ إبراهيم، والتي لا ذكر فيها لضرب عمر لأبي هريرة، ولا تهديد بالضرب ولا إسالة للدماء. فيا ترى لماذا أغفلها الأستاذ إبراهيم؟.
ومع ذلك فهذه الرواية أيضا غير مقبولة ؛ لأن ابن عبد ربه لم يذكر له إسنادا، وأهمل منها عبارة في غاية الأهمية، وهي أن عمر حقق فيما قال أبو هريرة، فوجد الأمر كما قال أبو هريرة t، كما أنها تذكر أن عمر قبض المال من أبي هريرة، وهو ما لم يحصل أصلا.
وها أنذا أذكر لك القصة الحقيقية بحروفها، وأدعوك للمقارنة بين القصة الصحيحة التي أهملها الأستاذ إبراهيم، والقصة المزيفة التي روجها هو وغيره من الطاعنين على أبي هريرة.
أخرج ابن سعد بسند صحيح (في الطبقات الكبرى 4/335) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/380 - 381) وعزاه ابن كثير في (البداية والنهاية) لعبد الرزاق:
«عن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة رضي الله عنه على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال يا عدوَّ الله وعدوَّ كتابه! فقال أبو هريرة: فقلت: لستُ بعدوِّ الله وعدوِّ كتابه، ولكني عدوُّ مَنْ عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيلٌ نَتَجَتْ، وغَلَّةُ رقيقٍ لي، وأَعْطِيةٌ تتابعتْ. فنظروا فوجدوه كما قال.
فلما كان بعد ذلك دعاه عمر؛ ليُوَلِّيَه، فأبَى، فقال: تَكْرَهُ العملَ (يعني الولاية) وقد طلب العمل مَنْ كان خيراً منك، يوسفُ عليه السلام؟ فقال: يوسف نبيٌّ ابنُ نبيٍّ ابنِ نبيٍّ، وأنا أبو هريرة ابن أميمة (اسم أمه)، وأخشى ثلاثاً واثنتين. قال: فهلا قلتَ خمسا؟ قال: أخشى أن أقولَ بغير علمٍ، وأقضيَ بغير حكمٍ، وأن يُضْرَبَ ظهري، ويُنْتَزَعَ مالي، ويُشْتَمَ عرضي».
هل يمكن للمنصف أن يفهم من هذه القصة –كما زعم الأستاذ إبراهيم والمتحاملون- أن أبا هريرة t قد ثبت عنه أنه مدَّ يده إلى أموال المسلمين؟ هل يستقيم هذا مع نتيجة التحقيق الذي أجراه عمر فكانت نتيجته (فنظروا فوجدوه كما قال)؟.
نعم، كان عمر شديداً في محاسبة ولاته والموظفين العموميين الذين يعينهم ويعملون معه، دقيقاً في التطبيق لقانونه الشهير (من أين لك هذا؟)، وربما قاسم الموظف العام أو الأمير ماله، فأخذ النصف وترك له النصف؛ إذا اشتبه الأمر عليه، ولم يكن عنده دليل يدين ذلك الموظف أو الأمير، إلا مجرد الاشتباه، وكان الصحابة لشدة حرصهم وتقديرهم لنزاهة أمير المؤمنين يقبلون ذلك منه عن رضا خاطر، ومع ذلك فهل كان عمر سيدعو أبا هريرة مرة أخرى ليوليه لو ثبت له أن أبا هريرة ابتلي بشيء من هذا السوء؟ ولو كان أبو هريرة طامعاً في منصب أو غيره هل كان سيرفض ذلك الأمر، وهل كان يسوق لرفض العمل والولاية هذه المبررات الدالة على كمال الورع وكمال الوعي والفقه؟.
وأخيرا هل يراجع الأستاذ إبراهيم نفسه، ويرجع إلى الحق، ويتحرى الصواب فيما يكتبه، ويدرك أن ميثاق الشرف الأخلاقي والمهني يوجب التثبت من المعلومة قبل كتابتها، كما يوجب الاعتذار لمن وقع الخطأ في حقه، ومن ثم يتوجب عليه الاعتذار لأبي هريرة رضي الله عنه ، ولمحبيه من القراء الكرام؟.