العمل الإسلامي، وتفرغ القادة 1

العمل الإسلامي، وتفرغ القادة (1 – 2)

د. عامر البوسلامة

[email protected]

العلماء ورثة الأنبياء، وفضل العلم والعلماء، عظيم وكبير، ومنزلتهم عالية، فهم بناة الحياة، ومصابيح الهداية، وأنوار الدلالة، وصانعوا الحضارة، والأدلة على هذا كثيرة، من ذلك قول الله – عز وجل – في أعظم شهادة في القرآن: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [سورة آل عمران: الآية 18].

وثبت عن النبي – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – كما عند أبي داود وابن ماجه والترمذي بسند صحيح أنه قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»

,والأدلة غير هذا كثيرة.

********************************

تفرز الساحة الإسلامية بين الفينة والأخرى، أعلاماً في الفكر، ونجوماً في الإبداع، ومصابيح في الخير، من كتاب كبار، وعلماء أفذاذ، ومفكرين نوادر، إلى عاملين من ذوي الجهود المتميزة، إلى منتجين نوادر في المجالات كافة.

بل فيهم عباقرة وفلاسفة، لو كانوا في أمة أخرى، لحملوا على الأكف، ولبذلوا لهم وزنهم ذهباً، لنتاجهم في إطار عبقريتهم.

ولكن للأسف نجد أن هؤلاء مهملين ومنسيين، وغالباً ما يموت أحدهم، في زاوية من زوايا التهميش، ولا يعرف قدره إلا بعد موته، وربما كرم وهو في قبره، وهنا تكون الحسرة، وتسكب العبرات.

وأنت تطوف في دنيا الأمة اليوم، تجد من يستحق هذه العناية، وتتعرف إلى كبار أهل العلم والابداع، وتقف على حقائق مذهلة في هذا الشأن.

وبنفس الوقت تقف على واقعهم المأساوي الذي يندى له الجبين، هذا قضى ولم يعرفه سوى قلة من الناس، وذاك كتب روائع لكن لم يكتب لها أن ترى النور، لسبب من الأسباب، وواحد ترك تراثاً لو عرض على مجلس أمراء الفكر والعلم والأدب والفلسفة، لجعلوه – لو كانوا منصفين – في المنصة الأولى، ولحجزوا له مقعداً في الصفوف الممتازة.

لا أدري كيف أفسر الأمر؟ يقولون : أزهد الناس بالعالم، أهله وذووه. وقالوا أيضاً زمار الحي لا يطرب. وقالوا: المعاصرة حجاب. ويقولون : لا نعرق حق مبدعينا إلا بعد موتهم، وأعتقد أن الأمر أكبر من كل هذه المعاني، وأوسع من هذه المقولات.

أليس من العار، أن لا تستطيع أمة من الناس، صناعة برنامج الإفادة من علماء الأمة وعباقرتها، وقادة الخير فيها، من خلال مركز بحثي، أو دار ثقافة، مع كفالة كاملة لهذا العالم أو المبدع، هو ومن يعول، حتى يتفرغ لما حباه الله به، من فكر نير، وإبداع متميز، فيعود خيره لهذه الأمة ؟!.

نحن أمة القراءة والعلم، ورحم الله من كان يكرم العالم، بدفع وزن الكتاب الذي يؤلفه ذهباً، فلماذا يحصل هذا التراجع بين الفينة والأخرى، حتى قرأنا من قصص المأساة في هذا الميدان، ما يحير الألباب، ويدهش كل عاقل ؟!

ولكم يؤلمني، وأنا أمر على كلمات العلامة الرافعي، وهو يتحسر ويندب حظه العاثر، وينادي صناع القرار في الأمة، أن يلتفتوا لهذا الأمر بدقة، وبعطو ما يستحق من عناية. إذ يقول  : (وليتَ الزمانَ يهيءُ لي أسبابَ التفرّغِ للكتابةِ والشعرِ ، ويغنيني عن التكسّبِ من الوظيفةِ التي أنا فيها – وهي في المحكمةِ الأهليةِ هنا – ولكن ماذا أصنعُ والأمّةُ خاملةٌ كما ترونَ ، فلا تكادُ تقومُ بعيشِ أديبٍ واحدٍ ليخدمها مدّة عمرهِ ، دعنا من هذا الهمِّ فكم شيءٌ في مصر ضياعٌ والحمدُ للهِ ولا كفرانَ للهِ (. 

أليس من المصاب الأليم، أن يكون هذا العبقري الإمام، يقضي شطراً من حياته على طاولة الوظيفة، التي يمكن أن يقعد عليها صغار خريجي المدارس ؟؟

من بدهيات التفكير السياسي السليم، والإدارة الناجحة، وضع المرء المناسب في المكان المناسب، وتوظيف الطاقات بما جهز له، فكل مسخر لما خلق له.

لا يجوز بحال من الأحوال – مهما كانت المبررات - أن مفكراً وأديباً وكاتباً، بهذا المستوى نضيع وقته، بما يمكن أن يقوم به بعض طلابه، بينما الأصل أن نفرغه لعبقريته التي وهبه الله، وحباه بها، بعيشة كريمة، ومكتب ضخم، وسكرتارية متميزة، فالرجل مدرسة، بل هو أمة في مجاله وتخصصه .

وتصور معي لو أن الرجل، توفر له مثل هذا الذي كانت روحه ترنوا له، ونفسه تتطلع إليه، لكان إنتاجه أضعاف الذي صدر عنه.

من هنا أقترح أن نتلافى الأمر من ذوي الأمر، من المخلصين والمتفانين في خدمة الأمة والحاملين لواء مشروع نهضتها، بحيث نبحث عن مثل هؤلاء النوادر، ونستثمر جهودهم في الخير، من خلال تفرغ مفيد.

ولكم أسعدني نبأ تفرغ الأستاذ المفكر محمد أحمد الراشد – حفظه الله وبارك فيه – ليعمل من خلال مركز بحوث. وقلت : نعم الخبر، وهذا هو الصواب، وخير ما تصرف فيه الأموال، مشروع كهذا المشروع الاستراتيجي النافع، فهل من مجيب ؟؟؟