تزوير الحقائق عبر الصور النمطية
تزوير الحقائق عبر الصور النمطية
عيسى درويش
في أدبيات الاختلاف المعاصرة، سواء منها الاختلاف السياسي أو الفكري أو الأدبي أو الفلسفي، عرفت وسائلُ الإعلام والصحافة باعتبارها وسائلَ لإظهار المذهب والمنافحة عنه، وأبواقاً للتراشق بالنعوت القدحية، جهازاً متكاملاً من الصياغات المختزلة والرموز التي تحمل كثافات إيحائية تغني عن التفسير والتحليل. هي حقائق قطعية تنسرب في الوجدان الجمعي للإنسان المعاصر بصورة قطعية لا تحتمل الشك، ولا تحتمل حتى ردها إلى أصولها، أو تفكيك بنياتها، ومعرفة مصادرها ودلالاتها.
إن هناك كثيرين يسمعون كلمات الرجعية والظلامية والإرهاب ويسمعون في مقابلها أيضا كلمات التقدمية والتنوير والحداثة والتسامح والديموقراطية دون أن يُعنوا في كثير أو قليل بردِّها إلى معانيها الحقيقية أو الكشف عن مستويات دلالاتها أو استعمالاتها، ولكنهم بسهولة يمكنهم أن يلصقوا هذه التهم القدحية أو المدحية في حزب أو جهة، فيكون اليساري تقدميا حداثيا بالضرورة أما المسلم (أو الإسلامي) أو العربي مطلقا (عند الغربيين) فهو رجعي ظلامي سلفي إرهابي إلخ...كيف يحدث كل ذلك؟؟ إنه يحدث بواسطة تلك الحمولات الكثيفة التي سبق الإشارة إليها، فترديد جملة واحدة لمدة يوم واحد يكفي لأن يجعل لها تمثيلا في الأذهان قريبا من الحقيقة حتى وهي عارية من كل حقيقة !
وعلى سبيل المثال؛ فقد اجتهدت الأجهزة الغربية منذ أمد بعيد، في إطار حربها المعلنة والخفية على "الشرق" (والإسلام طرف رئيسي) في صياغة محمولات لفظية غنية بالدلالات أو رموز مختزلة كثيفة الإيحاءات فإذا فتشتها وجدت بريقا ولمعانا ولم تجد شيئا ذا بال؛ كان ذلك منذ بدايات الاحتكاك المباشر بالحضارة العربية المسلمة، ومنذ تشكل هذا الاحتكاك في صورة مواجهات عسكرية، اجتهدت في دوائر الاستشراق والاستعمار والصليبية والتبشير في الصناعة الإعلامية وصناعة الكلمات والمصطلحات، ومواجهة المجتمع المسلم وشغله بحروب مزيفة. فكلمات كثيرة تشغل بال المسلمين وتبلبل أفكارهم وتدخلهم في دوامات لا تنتهي من الجدل، أو تمارس سحرها الخاص بشأن الهجوم عليهم، كمصطلحات الإرهاب، اللاسامية، العداء للصهيونية، العلمانية إلخ...
وينتمي إلى هذا القبيل صور نمطية شائعة عن الرجل الغربي والرجل المسلم.
فالفرد المسلم -بغض النظر عن الاختلافات العميقة الموجودة بالتأكيد بين هؤلاء الأفراد الذين يحملون مشتركا اسميا هو "المسلمون" بين مشارق الأرض ومغاربها- رمز للعنف والوحشية والتخلف والعدوانية والشهوانية والإرهاب، ورمز للكسل العقلي والبدني والعجز عن مسايرة الحداثة... وقلما نُسب المسلم إلى الإبداع الفكري أو الخلقي، أو الطهارة والعفة، حتى ولو كان كذلك؛ أو وُجد مسلمون كثر ممن يتصفون بتلك الصفات.....وحتى عند التسليم بالمستوى العالي للأخلاق الإسلامية التي يتحلى بها بعض المسلمين فإنها تتحول بعصا خارقة إلى أضدادها، فإذا الفضائل رذائل؛ وبالمقابل تتحول كل رذائل الإنسان الغربي إلى فضائل ممجدة، وفي هذا الانعكاس العجيب، فإن عفةَ المسلم عجزٌ ورجعيةٌ وتخلف، وتخلقه تزمت، والتزامه بالقيم العقدية خمول فكري، وإيمانه بالعدل والتوحيد واليوم الآخر تصلب وتخلف ورجعية، بينما الغربي (الكافر) أيضا بغض النظر عن طبقاته المختلفة، وبغض النظر عن انتماءاته أيضا، هو رمز للتوثب والطموح والرؤية البعيدة والنشاط الدائب والقدرة على الفهم، وفي المقابل يتحول إرهاب الغربي واستعماره وقتله للملايين نشرا للديمقراطية، وتتحول إباحيته المجنونة وعربدته وظلمه وأنانيته تحررا وتنورا وحداثة، وتتحول عصبياته واستكباره ورفضه للحق ونفاقه أيضا نزعات إنسانية إلخ...
وفي الخلاصة فذاك (الغربي) رمز للحياة والنور وهذا (المسلم) رمز للظلام والموت. ذاك ينشئ الحضارة ويبدعها وينميها وهذا يحطمها ويدمرها. ذاك ينتسب إلى الحياة والخلق والإبداع والآخر ينتسب إلى الفناء والموت...
والغربي مهما كان سواء أكان ملحدا أم مسيحيا أم متعصبا أم بهيمة ترتع في الأرض بغير هدف ولا دين، هو إنسان راق بالتأكيد، وهو إنسان متحضر، نستقبله بالأحضان ونفرش له الأرض كلها يتقلب فيها كيف يشاء، ليترك آثار حضارته وتنوره .....، وهو على العموم وفي أقل ما يمكن تصوره عنه، أرقى من الإنسان المسلم المتوحش ....، فالإنسان المسلم (الإرهابي المتوحش) لا يمكنه أن يسيح في الأرض، لأنه حامل للأخطار، وهو حيثما حل يُرمق بنظرات شزراء محملة بصنوف الازدراء، وإذا أراد أن يحصل على تأشيرة للعبور، فإنه ملزم بأن يقف في صفوف طويلة ويطلب منه ملفات، الملفات فيها أوراق، الأوراق فيها معلومات ومعطيات بعدد شعر رأسه، ثم بعد ذلك يدرس ملفه جيدا حتى يتأكد من أنه بالفعل لا يحمل أي فيروسات إرهابية مُعدية.
ولا تسأل عن أرقى غربي ذاك الذي يؤمن بإله مثلث(إذا كان بالفعل يؤمن)، فهو بإيمانه راقي الفكر لأنه استطاع أن يخلص إلى حقيقة الإله المتجسد، الذي ركب الحمار، وحمل الخطايا فوق الصليب، ذاك الإله الذي يستحضره رجال الدين في كل حين، فيوزعون من دمه كؤوسا يشربها العطاش إلى الخلاص، ويقطعون من جسده لحما يأكله المؤمنون والمؤمنات (بالخلاص طبعا)، وبمثل هذه المعتقدات الراقية جدا !!! يكون الغربي أرقى بكثير من الإنسان المسلم الذي يؤمن بإله واحد لا يقبل الشريك، ويتنـزه عن التمثيل والتشبيه والتصوير.
وقد شاعت عند الأوروبيين عبادة القوة الطاغية وأحيوا أساطير اليونان والرومان، فأحيوا الشاب القوي الذي ينتسب إلى آلهة الأولمب العظيمة وهو يحمل الشعلة النارية، منتقلا بها عبر القارات العالمية، في قوة وشموخ عساه ينشر أنوار الأفكار التي تتصل بشعلة النار الوثنية ..ويدور بها حضارة تنتقل في لمح البصر بين أقطار الأرض المختلفة.
الرجل الأبيض المتحضر المتقدم الطاهر المتنور هو الذي صنع الحضارة، أما الرجال السود المتوحشون فهم دائما مدمرو الحضارة، وهكذا غرقنا وغرق العالم كله في هذه الدائرة المقلوبة من الصراع، صراع لا ينتهي أبدا، بل في كل محطة يشتعل ليبدأ من جديد. يهدأ قليلا، ثم يتحرك من جديد؛ محطاته في العالم كله وأواره لا يهدأ.
هكذا تمتلئ أدبيات الغرب عنا، وهكذا يصوروننا وينظرون إلينا، بينما المغفلون منا يبحثون عن مزيد من تجميل صورة الغربي عندنا، والبحث عن نظرة موضوعية...ودراسة الغرب دراسة بعيدة عن الخلفيات، والابتعاد عن التعصب، والبحث عن التسامح والحوار ونقط الالتقاء المشتركة إلخ....يا سادة ليس العجيب أن يصفنا الغربيون بكل صفات الذل والاحتقار، وينسبوا إلينا كل عوامل السقوط والتدهور والاندثار، إنما الأعجب أن يصدق المسلمون أنهم كذلك!!!