علام يعزل المتجبرون أنفسهم عن الشعوب
الجدار
نبيل شبيب
هل يبنون جدارا فولاذيا من أجل قطع الأرزاق أم من أجل ليّ الأعناق؟..
هل يستهدفون شعب الحصار والعزة أم زعامات مدججة بالثوابت في غزة؟..
هل ينتقمون ممن يأبى الحياة مع التركيع أم ممن يرفض التسليم والتوقيع؟..
سيان هل كان جدارا فولاذيا، أم اسمنتيا، أم تقنيا، أم سوى ذلك مما تتفتق عنه عبقرية من يصمم مخططات قتل الأخ بيد أخيه قتلا بطيئا أو سريعا، فالحصيلة واحدة، لا يفيد معها سؤال ولا يجدي جدال، ولا ينبغي أن يصرف الانشغال بهذا الأمر وذاك من تفاصيل التفاصيل الأنظارَ والأفهام عن جوهر القضية!..
سيان هل يستهدفون الإرادة الشعبية في مصر نفسها أم المقاومة الأبية في أختها الغزاوية الفلسطينية.. فقد خسروا على الأقل أنفسهم وخسروا شعوبهم!
* * *
قيل شجبا وتنديدا: ياقوم هؤلاء المليون ونصف المليون إنسان من أطفال ونساء وشبيبة وشيوخ ليسوا يأجوج ومأجوج.. فعلام تسعون لإقامة جدار فولاذي.. تودّون ألاّ يستطيعوا له نقبا، وألا يعلوا من فوقه ولا من "تحته" في باطن الأرض بنفق لسدّ رمق!..
قالوا بلسانهم وبلسان الحال: ذلك أمننا القومي.. ولا ينبغي أن تشقّ عنه الغشاءَ الواهيَ الرقيق إلا بوارج أعدائكم في القنال ومناورات نجمهم الساطع في الصحراء وقيود فوق قيود ترسف بها رمال سيناء وأجواء سيناء وسواحل سيناء!..
قيل استغرابا واستنكارا: يا قوم هؤلاء من بني ملتكم دينا، ومن جنسكم دما ونسبا، ومصيرهم كمصيركم حياة أو موتا، وعزة أو مهانة، وتقدما أو تخلفا، ووحدة أو تمزقا، قد حرمتموهم من العبور على الحدود فوق الأرض، فكيف تزيدون على ذلك حرمانهم من "المعاناة" تحت الأرض، فتنتهكوا الأخوّة انتهاكا فاحشا، وتغتالوا النخوة اغتيالا غادرا!..
قالوا بلسانهم وبلسان الحال: تلك سيادتنا.. ولا ينبغي أن تمرّغها في الأوحال سوى شحنات الغاز لتشغيل مصانع أعدائكم، وتدفئة مساكن أعدائكم، وفق ما تقتضيه مؤتمراتنا واتفاقاتنا مع أعدائكم، لمكافحة "أعدائهم" في البر والبحر والجو وتحت الأرض!..
قيل غضبا وغليانا: يا قوم هؤلاء من بني حواء وآدم، وأبناؤهم وبناتهم من بني حواء وآدم، وشيوخهم ونساؤهم من بني حواء وآدم، وقتلُهم البطيء كقتلهم السريع إجراما، والتواطؤ على حصارهم تجويعا كالتواطؤ على أرضهم وتاريخهم ومستقبلهم تطبيعا، أفلا تستحيون من أبنائكم وبناتكم ونسائكم وشيوخكم ومن جدودكم وأحفادكم ومن عروبتكم وإسلامكم ومن حاضر أمتكم وتاريخ بلادكم؟..
قالوا بلسانهم وبلسان الحال: تلك سياستنا الواقعية.. فلا تتحدثوا عن أخلاق وقيم ومبادئ، وتلك رؤيتنا الواعية.. فلا تشوّشوا بتاريخ ومستقبل، وتلك مشيئتنا الذاتية.. فلا تتحدثوا عن أغلال في أعناقنا، وأقنعة على وجوهنا، وعصابات على أعيننا، فلن يبدّل ما نريد تذكير وكلام سديد، ولن يحيد بنا عن تحالفنا مع أعدائكم تذمّر ووعيد!..
قيل رفضا وتنديدا: إن شعبكم غاضب يكاد يتفجر من احتقان الغليان، وإن إرادته حرة عزيزة ظاهرة للعيان، وإن صوته الكريم مسموع رغم الظلم والحرمان، وإن آلامه من معاناة أهله في أرضه المجاورة، كآلامه من معاناته في أرضه الطاهرة!...
قالوا بلسانهم وبلسان الحال: ذاك قرارنا.. نصنعه على أرضنا وفي باطن أرضنا، فوق حدودنا وتحت رمالنا، ولا ينبغي أن يمليَ علينا قرارنا "صوت الشارع" بل اتفاقاتنا مع أعدائكم ومطامعهم على حساب مصالحنا ومصالحكم!..
وصُمّت الآذان بعد أن صُمّت العقول والأفهام، فانعقدت الألسنة والتمنيات والأقلام، ولم تعد رمال غزة وسيناء تسمع إلا ما تردده نبضات قلوب العرب والمسلمين، منذ فتح مكة قبل أربعة عشر قرنا ونيف: ومن يتولّهم منكم فإنه منهم!..
كلا!..
إن استغراق الجدل حول عار الجدار وجدار العار بحثا عن سبب وجيه أو سقيم، وهدف ذليل أو كريم، ومنطق معوّج أو قويم، وفائدة أو نقمة، ومصلحة أو حماقة، لا يوصل إلى نتيجة، على غرار من يفسّر الماء بعد الجهد بالماء!..
إنهم قوم لا يملكون أمر أنفسهم ولا أمنهم ولا سيادتهم ولا قرارهم منذ خسروا أنفسهم وإنسانيتهم!..
* * *
ليتهم قرّبوا توقيت الجريمة أو أخّروه، فليس من اللائق بإنسان، أي إنسان، عربي أو أجنبي، مسلم أو غير مسلم، مصري أو فلسطيني أو أوروبي أو أمريكي.. ليس من اللائق أن يبني جدارا للتعذيب الجماعي وأهلُ الأرض يتابعون هذه الأيام تهديمَ جدران جوانتانامو بعد كل ما دار خلفها من جرائم تعذيب وتنكيل، تكاد تنتحر من وطأة عارها الباقي في سجل التاريخ مشاعرُ البشر في الولايات المتحدة الأمريكية!..
ولقد كانت جريمة جوانتانامو من أسباب انهيار آخر الامبراطوريات الهمجية، وهي بين أيديكم وتحت أبصاركم تلفظ آخر أنفاس عنجهيتها الوحشية في وديان أفغانستان، وتلملم ذيول خيبتها في كل ميدان، فهل تظنون أن جوانتانامو غزة سيوصل امبراطوريتكم الموهومة حكما مفروضا على شعب مقهور، إلى مصير آخر؟..
جدار العار في برلين يا قوم دخل بسقوطه قبل عشرين عاما مع من بناه في أغوار الماضي الكريه، بعد أن تلوّث بدماء المئات، وما تزال تلاحق من بناه اللعنات، فهل تظنون أن لكم ولجداركم ولو رافقَ إقامتَه وانهياره إزهاقُ أرواح الألوف وآلام ذويهم.. مصيرا آخر، وأنتم في عصر السرعة، الذي تعيشون على هامشه، ولا تدركون أن قيام جداركم وسقوطه، مع جدار العزل العنصري والتهويد المنظم والتشريد الإجرامي في قلب فلسطين، لن يستغرق ألوف السنين كجدار الصين قبل بدء التأريخ ولا عشرات السنين كجدار برلين، بعد أن تسارعت خطى التاريخ، بسوق من يعيشون وراء جُدُر العقل والمنطق والحق والعدل والتحرر والكرامة والإنسانية وبحملهم إلى عالم الظلمات عبر معابر الموت وهم أحياء، ظلماتِ حياةٍ ذليلة يأباها الأموات لو خُيّروا بين القبور والنشور!..
كلا وألف كلا!..
إن من يظنون أن الجدار الفولاذي رمز آخر من رموز فرض الحصار حول أهل الحق والإباء والمقاومة والعزة في أرضٍ باركها رب العالمين من علياء سمائه، واهمون مخطئون، وما تفجرت المعاناة البشرية عبر التاريخ إلا عن تثبيت أقدام الحق وأهله، وقيم الإباء والعزة، وانتصار العدل على الطغيان.. فأبشروا بمصير كمصير من يقبل لنفسه أن يكون على جبهة خاسرة في الدنيا والآخرة!..
كلا وألف كلا!..
لن يقتلع عروبةَ غزة وفلسطين، وإسلامَ رمالها وجبالها ووديانها وسواحلها وزيتونها وبرتقالها، وإخاء أهلها الميامين، من مسلمين ومسيحيين، جدارٌ ينصب ولا معبر يوصد ولا قرار مريض، وما اقتلعها من قبل وعد بلفور وقرار التقسيم، ولا انفرادُ من باع مصر مع فلسطين في كامب ديفيد، ولا مسيرة من دخل أنفاق مدريد وأوسلو ولم يخرج منها، ويرى الخطر الأكبر على نفسه في أنفاق غزة ورفح، وفي معاناة طلب لقمة الطعام رغما عمّن يأبى الجلوس إلا على موائد اللئام.. إنما يقتلع من يبني الجدار ما بقي له من جذورِ نسبٍ إلى عروبة، وانتماء إلى إسلام، في بلد عزّت به العروبة وعزّ بالإسلام، ولا يزال عزيزا بشعبه، وتاريخه، عزيزا بمائه وهوائه وانتمائه، عزيزا بأخوّته عبر الحدود والسدود والجدران، ورغم سياسات العزل والتفرقة والعداوات، مع أهله في فلسطين ووراء فلسطين على امتداد أرض العرب والمسلمين، وعلى امتداد كل أرض تنبض بآدمية الإنسان وكرامة الإنسان!..
* * *
كم ذا شهدت هذه الأرض العزيزة الطاهرة من حملات صليبية بزعامة الباباوات، وحملات استعمارية بزعامة أباطرة أوروبا، وكيد بعد كيد تحمله أساطيل بلفور وأجداده، وإيدن وأقرانه.. ورحلوا وبقيت بعزة شعبها وإبائه، وكريم جهاده وحسن بلائه، وقدرته على أن يصنع من قلب الرزايا انتصارات التحرر، وعلى أن يتحرك مع أهله في أرض الإسلام والعروبة لصناعة حطين وعين جالوت حتى انتصار العبور في رمضان، رغم جدار بارلييف ومن بناه، ورغم الانحراف بنصره باتجاه التسليم.. فهيهات هيهات أن يعيقه عن دروب الحق والعدل والتحرر جدار فولاذي بينه وبين أهله، فوق أرضه وتحت أرضه، ما بين أرضه و"أرضه"!..
إنهم يبنون على امتداد الحدود جدارا يفصل بينهم هم وبين أهلهم داخل الحدود، ويفصل بينهم هم وبين عزة تاريخهم وأمجاد الجدود، ولن يغنيهم هم في الحياة الدنيا أن يكون معهم أحفاد نيرو وأهل التلمود، ولا جيوش فرعون والنمرود.. ولقد كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فتجبروا، وهم يتجبرون ولا يكاد يكون لهم ذكر في أرض ولا سماء، ولا إنجاز يُحمدون عليه في واقع شعب كريم أبي، يصبر.. طويلا طويلا، ثم ينتفض، فيكونوا هم أثرا بعد عين، ويبقى الشعب وتبقى الأرض وتبقى الكنانة كنانة للعزة ولنصرة العزة، وتتلاقى مع أهلها من الشاشان إلى أفغانستان إلى الصومال وحتى القدس وحيفا ونابلس ويافا والجنين وغزة!..
يا قوم.. لقد طغا من قبل فرعون وعتا وتجبّر في هذه الأرض العزيزة الطاهرة، وامتد ملكه جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، وغرّه ما كان يحسبه حصونا مانعة، وتطلع إلى صرح يبلغ به علياء السماء، ولكنه لم يملك حتى نفسا واحدا من أنفاسه عندما بلغ به التجبر ما استحق به العقاب في الدنيا قبل الآخرة.. فقصمه رب السماوات والأرض وجعله عبرة لمن يعتبر إلى يوم الدين!..
وما ملكتم ما ملك، ولا امتد ملككم حتى إلى سطح الأرض التي تبنون في باطنها جدارا، ولقد دمرتم بأيديكم حصون شعبكم، فعلى ماذا تستندون، وإلى متى تتجبرون، وهل لكم من ملجأ من الله إلا إليه، ومن شعبكم إلا حريته، ومن أهليكم داخل أرضكم وخارج أرضكم إلا أن تتحرر إرادتكم من أغلال إرادة أعدائكم، تلتزمون بإملاءاتها، باتفاقات أو دون اتفاقات، وإلا أن تجعلوا لأنفسكم ذكرا بالالتحام مع شعبكم وكل شعب يأبى الهوان.. أم فات الأوان؟!!
ربما.. وما فات الأوان على أرض الكنانة والأرض المباركة، ولا على شعب مصر وفلسطين وسائر شعوب العرب والمسلمين، إنما هي أيام.. تمضي كلمح البصر في عمر التاريخ المديد، فلا يبقى على الأرض رعديد أمام أعداء أمته في ثياب صنديد تجاه أمته، وتبقى الشعوب وعزتها، وتبقى الديار ووحدتها، وتسقط جدران العار فتلحق بما سبقها، ويبقى الإنسان.. وما الإنسان إلا إرادة وقرار، يهوي به في أسفل سافلين، أو يرتفع معه إلى أعلى عليين، فطوبى لمن يأبى الهون والهوان، ويختار العزة في أحضان الشعوب والأوطان، في ظل إرادة الجبار العزيز الديّان.