لخّص بحثاً لأحدهم وادّعاه لنفسه!

كاتب يرد على مقولات المستشرقين *

فاضل السباعي

استفزني مقال حول الأندلس، اطّلعت عليه في إحدى المجلات الفصلية.. فقد وجدت كاتبه، وهو يتحدث في تاريخ الأجداد، وكان في لسانه لُكْنة وفي فكره عُجَمة.. فاستغربت جداً! الكاتب هو عيسى فتوح، والمجلة هي "بناة الأجيال" في عددها الثالث والعشرين تموز 1997 وعنوان المقال: تاريخ الفكر الأندلسي، من الفتح إلى الجلاء..

في علمي أن الزميل عيسى غير متخصص بالتاريخ الأندلسي وغير معني به بتاتاً، ولكني أعرف أنه من حملة الأقلام الذين يكتبون في كل شيء، قلت في نفسي: ها قد وصل زميلنا إلى شواطئ الأندلس فأي "فتح" في المعرفة سوف يقدم "فتوح" إلى قراء مجلة رصينة تصدرها نقابة المعلمين وتتوجها عبارة "مجلة فصلية تربوية ثقافية" وعيسى في المجلة "أمين" لتحريرها؟

وصدمتني الكلمة الأولى مما خط بنانه، كان العرب يتحينون الفرصة لـ "غزو" إسبانيا (المجلة ص132) فهل كان العرب في دخولهم تلك البلاد غزاة أو فاتحين؟ وهم الذين أسسوا فيها على مدى ثمانية قرون حضارة راسخة لا تزال آثارها على وجه الأرض تبهر الأبصار وسوف تظل كذلك أبد الدهر.

واستأذن القارئ في أن أبين هنا، أن الباحثين الذين يتصدون لمعالجة المسائل التاريخية، يمتلكون عادة مفرداتهم ومصطلحاتهم الخاصة، وكلما أمعن الباحث في دراسة التاريخ، تاريخنا، وتفهم وقائعه وأحداثه، واستشف أسراره، ازداد رهافة في استعمال مفرداته الخاصة به، فالعارف منهم لا يقول –مثلاً- "سقوط القسطنطينية" بل فتحها.. ويقول "سقوط غرناطة" لا فتحها أو استردادها، ويسمي أولئك الأندلسيين الذين أُخرجوا من بلادهم يجوبون البحر الأبيض المتوسط يطاردون سفن الإسبان ويأسرون من فيها "مجاهدين" ويرفض ما أطلق عليهم الأوربيون من تسمية "القراصنة" فإن للتاريخ، إن لرؤية أحداث التاريخ زوايا مختلفة متباينة متضادة تطل كل أمة على الأحداث من الزاوية التي تلائمها.

 ويقول الكاتب:

"وفي سنة 710م مات ملك القوط في الأندلس (الصحيح في إسبانيا، لأن فتحها لم يكن قد تم من قبل العرب الذين سموها بعد الفتح بالأندلس) فاغتصب رودريك قائد الجيش العرش (Rodrign) وتسمية المصادر الأندلسية" لذريق) فعمل أبناء الملك السابق "غيطشة" (Witisa) على استرداد عرش أبيهم، وتحالف معهم جوليان (أو خوليان Julian حاكم سبتة الإسباني أو الرومي وتسمية مصادرنا: يوليان) بسبب العداء الذي كان بينه وبين رودوريك، فاستعان جوليان، بموسى بن نصير على قلب الحكومة والتخلص من رودريك(!) "المجلة ص132".

وهكذا نعرف من كاتبنا أن توجّه القائد العربي الكبير موسى بن نصير إلى إسبانيا، ما كان إلا استجابة لاقتراح من يوليان حاكم سبتة، المتآمر مع أبناء الملك المخلوع، بقصد "قلب الحكومة والتخلص من رودريك"!!

ويتابع فتوح:

إن موسى "رحب بهذه الفكرة" واستشار الخليفة الوليد بن عبد الملك بدمشق، الذي وافقه وأمره بأن "يتأكد من أن جوليان لم يرد التغرير بالمسلمين" فأرسل موسى قلة من المقاتلين، وغزا بعض الثغور بمساعدة جوليان، و"عاد بالغنائم", وقد شجع هذا موسى، فأعد جيشاً ولى قيادته طارق بن زياد!! (المجلة ص132).

فأين هي بواعث الفتح الحقيقية في نشر رسالة الإسلام، التي حملت موسى بن نصير، كما حملت القادة العرب من أسلافه، على أن ينطلقوا من مكة، ثم من دمشق، تلك الانطلاقات التي وصلت بهم إلى مياه المحيط غرباً وإلى حدود الصين شرقاً، وجعلوا كل بقعة حلوا فيها جزءاً من "ديار الإسلام"؟

ويعود الكاتب إلى العزف على وتر "الغنائم" وأيضاً إلى ما سماه "الغيرة" عند القائد موسى و "التنافس" بينه وبين طارق.. يقول:

"حين علم موسى بن نصير بالنصر المؤزر الذي حققه طارق بن زياد، دبت في نفسه الغيرة، وأراد أن يكون له شرف فتح الأندلس ونصيب من غنائمها، فخرج سنة 93هـ وسار إلى إشبيلية ففتحها ثم إلى ماردة فاستولى عليها، واستمر القائدان في فتح باقي مدن الأندلس رغم المنافسة بينهما.." (المجلة ص134).

أمن السائغ أن يوصم قائد الفتح الكبير بالغيرة، غيرته من أحد القواد الذين يأتمرون بأمره؟! أليس في ذلك ما يدعو لإثارة الريبة في نفوس قراء هذه المجلة التربوية، وهم يرون "أمين تحريرها" يميع بواعث الفتح حين يجعل فيها الغيرة والتنافس مضائلاً من عظمة أولئك الأبطال الذين أسبغ التاريخ عليهم الهيبة والإكبار؟ أهذا صنيع مرب حصيف؟!

وفي حديثه عن عبد الرحمن الناصر أعظم من حكم الأندلس (من 300 – 350هـ) يقول:

"وأدرك سر التدهور الذي كان المسلمون سائرين إليه في الأندلس.. فأنشأ طائفة جديدة مخلصة لشخصه وحده، من عناصر غير عربية وهم المسلمون الصقالبة الذين كانوا يجلبون من بلاد أوروبا.." (المجلة ص135).

فأي تفسير للتاريخ وتحليل لوقائعه! أي تشويه، بل أي لغوا! الآن في القرن العشرين، نعلم، من هذا الكاتب العليم أنه في عهد عبد الرحمن الناصر كان المسلمون في الأندلس سائرين إلى التدهور! وأن الأمير القوي عالج ذلك باستمداده القوة من "عناصر غير عربية"!! وإذاً فإن إنقاذ أمة ما من التدهور، يكون بأن ينشئ حاكمها "طائفة مخلصة لشخصه وحده" من "عناصر" لا تنتمي إلى أمته!! أي عبث أي هذيان!!.

وتراءى لي أني أصغي، في ذا الحديث إلى واحد من عتاة المستشرقين، لا إلى كاتب عربي تصدر كلماته من دمشق، منطلق جيوش الفتح قبل أربعة عشر قرناً، البانية حضارة من أرقى حضارات الدنيا، أسهمت فيها الشعوب المفتوحة، وما أرغم أبناؤها على الدخول في الإسلام ولكنهم اعتنقوه أحراراً، وتعززوا وأعزوه.

لن أقف، هنا، عند كل كلمة قالها الرجل في الصفحة الأولى، التي جعلها بمثابة مقدمة لمقاله، ولا ما فاض به قلمه في الصفحات التاليات (فذلك يستحق مني دراسة) وإنما أريد أن أقول: إني وقفت إزاء هذا المقال الغريب، شاكاً مرتاباً: إن هذه اللكنة في القول والعُجمة في الفكر، لا يمكن لهما أن يكونا من صفات قلم عربي ولا من سجايا كاتب قد قرأ، عن كثب، صفحات تاريخ الأجداد، فهزّه الفرح لانتصاراتهم الباهرة، واغرورقت عيناه، حزناً إذا ما رأى الدهر يكبو بهذه الأمة أمته!

وخطر لي: قد تكون هذه الآراء، وكل ما احتواه المقال، من بنات أفكار مستشرق، أو غير ما واحد من المستشرقين، قد وقع عليها هذا الكاتب واغتالها وهو –زعموا- ممن يسطون على أفكار الآخرين ويدعونها لأنفسهم، ولما يقيض لواحد من الكتاب أن يلقي القبض عليه متلبساً، حتى يوم الناس هذا!.

أقول: إن في مكتبتي، في ركنها الأندلسي، كتاباً يحمل عنوان: "تاريخ الفكر الأندلسي" (عنوان المقال ذاته).

ألفه المستشرق الإسباني أنخل جونثالث بالنثيا (1889-1949) نشرت طبعته الأولى في مدريد 1928، وقد جاء بعد حوالي ربع قرن تلميذه عالم الأندلسيات المصري الدكتور حسين مؤنس، ونقله إلى العربية.

تناولت هذا الكتاب، أقلّب صفحاته، ولم أفاجأ كثيراً عندما التقيت بـ "أفكار" الكاتب عيسى فتوح مبثوثة في الفصل الأول من الكتاب، ابتدأه من الصفحة الأولى حتى الصفحة الخامسة والعشرين تحديداً! وتبينت أن كل ما فعله كاتبنا أنه كان يلتقط ما يحلو له من أفكار المستشرق ويلخصها أو يسلخها.. حتى أنشأ مقاله هذا، معتقداً أنه يستحق النشر في مجلة محكمة يتولى هو أمانتها، ويستحق من ثم القراءة ممن يبنون الأجيال (بالثقافة) ويستحق هو: بعدئذ المكافأة! (وياله من استحقاق)!.

إني أختار، هنا، نموذجاً واحداً مما اقتبس ولخص، من الصفحة الأولى من كتاب بالنثيا.

يبدأ المستشرق الإسباني بقوله:

"لا تكاد توجد آثار لأي لون من الحياة الفكرية في الأندلس خلال السنوات الأولى التي أعقبت الفتح الإسلامي لإسبانيا على يد طارق وموسى، بل إن الشعب الإسباني الذي دخل في طاعة المسلمين –نتيجة لهذا الفتح- لم يخلف لنا آثاراً تدل على حياته الفكرية طوال عصر الولاة" (بالنثيا ص1).

فيلخص فتوح:

"لم تترك فترة الفتح أي آثار أدبية تدل على حياة فكرية نشيطة.." (المجلة ص134).

ويتابع بالنثيا معلالاً:

".. ذلك أن الظروف التي أحاطت به (أي بمن دخلوا الإسلام من الإسبان) لم تكن مواتية لشؤون الدرس والفكر، فقد شغل الفاتحون بما وقع بين بعضهم وبعض من مخاصمات وحروب، وثارت العداوات بين قبيلة وقبيلة، وبين البربر والعرب، وبين القيسية واليمينية، وبين الشامية والمدنية، ثم إن الفاتحين جميعاً كانوا من المحاربين، وهذا وحده يكفي لتعليل انصرافهم عن الآداب وشؤون الفكر" (بالثنيا ص1).

ويجترئ فتوح:

".. بسبب انشغال الفاتحين بالحرب والخصومات والعداوات القبلية، ثم إنهم محاربون لا علاقة لهم بشؤون الآداب والفكر" (المجلة ص134).

أكتفي بتقديم هذا النموذج متجاوزاً ما قد يكون ارتكب كاتبه من سوء التلخيص أو من سوء الفهم فلهذا حديث في غير هذا المكان.

ولكني أود أن أشير أخيراً، إلى رأي في الشعر الأندلسي ساقه كاتبنا بجرأة لا حد لها، أزرى فيها بهذا الشعر ونزل به إلى الحضيض، مستشهداً مرة برأي فج كان قد قاله المستشرق الألماني البارون فون شاك (1815-1894) الذي لم تسعفه ملكاته الفنية في تذوق حلاوة هذا الشعر، ومستعيراً –في مرة قبلها- رأياً على شاكلته قاله، في إبان شبابه، المستشرق الإسباني غرسيه غوس (من المستشرقين المعمرين، وقد يكون لا يزال على قيد الحياة) ولكن فتوح كتم اسم هذا الأخير، وقد طاب له أن "يتبنى" رأيه البعيد عن الحصافة بحق شعرنا العربي في الأندلس، ولم يبتعد، في اقتباسه هذين النصين، عن كتاب بالنثيا نفسه، فقد التقطهما من موضع آخر فيه (هو "الفصل الثاني: الشعر، الخصائص العامة للشعر الأندلسي الصفحات 42-44، ثم 46 و47).

يقول عيسى فتوح، قولة "الخبير" بالشعر الأندلسي:

"بعد هذا العرض المجمل لتاريخ الفكر الأندلسي عبر القرون الثمانية التي مر بها، نلقي نظرة على خصائص الشعر الأندلسي الذي كان فقيراً بصفة عامة من الناحيتين الفكرية والعاطفية ما عدا بعض الشواذ".

وليس، بعد اتهام الشعر بالفقر الفكري والعاطفي زيادة لمن يرغب في الازراء بالشعر الأندلسي أو بأي شعر في الدنيا.

ولكن فتوح يزيد –نقلاً عن بالنثيا الذي يستعرض رأي غومس- متهماً شعر الأندلسيين بأنه: "تستبد به الناحية الحسية، فمن وراء كل صورة يطل خيال المرأة بجسدها الأنثوي".

وهل الشعر العربي، في الأندلس وفي المشرق، إلا غزل ونسيب وحماسة ومديح ورثاء، وسوى ذلك من أغراض الشعر العربي المعروفة؟

ويعلل كاتبنا بأن مرد ذلك إلى: "الوضع الخاص للمرأة في المجتمع الإسلامي، فهي غائبة عن مجتمع الرجال، ولهذا يحار هؤلاء في فهم الجانب النفسي في حياتها وخصائصها ويتصرف المحبون منهم إلى استشعار اللون الحسي الملموس من جمالها، أي الصورة البدنية" (المجلة ص137) مقتبساً رأي غومس بحذافيره:

"وكان الوضع الخاص للمرأة في المجتمع الإسلامي سبباً في قلة فهم الناس للجانب النفسي من حياتها وخصائصها، فلم يعد المحبون منهم يستشعرون من جمالها إلا الحسي الملموس، أي الصورة البدنية.." بالنثيا ص44.

وبحسب هذا الرأي المتعسف فإن التهمة تنطبق على الشعر المشرقي، أيضاً لأنه مستلهم في ظل المجتمع الإسلامي الواحد، بل لعل الحال في شعر المشرق في رأيه أكثر سوءاً، لمعرفتنا لما كان ينعم به المجتمع الأندلسي من الحرية الاجتماعية.

وأقول: إن كانت المرأة غائبة حقاً عن مجتمع الرجال –حسب قول من نقل عنهم كاتبنا- فهل كانت غائبة عن الرجال: أماً وأختاً وحبيبة وزوجة ومحظية، وكذلك سيدة في شتى صفاتها وأحوالها؟ أو لم يتأتّ للشعر في المجتمعات الإسلامية أندلسياً كان أو عربياً بوجه عام، أن يرتفع عن هذا المستوى؟!!

آراء استشراقية، وليدة سوء فهم الغرب لنا وتحيزه ضدنا، يستعيرها "فتوح" ويرددها فيأتي وقعها في نفس القارئ العربي أليماً، وهو لا يدري، أو.. وهو يدري!

بدا لي أن هذا الكاتب قد خيل إليه أن الأندلس "أرض بكر" له يمكنه أن يفلح فيها ويزرع، ولكنه ما استحصد إلا هذا الحنظل – وأكاد أقول: السم!- الذي قدمه على طبق من خزف إلى مجلة تربوية.

أقول: إنه ينبغي ألا يقترب من التاريخ كتّاب غير متخصصين، فليكف هؤلاء عن عبثهم هذا، في عصر العلم والإعلام والإنترنت.

              

* عن جريدة (تشرين) 14/9/1997