إلى القُمّص المنكوح(2)
إلى القُمّص المنكوح:
"قراءة في إنجيل متى- 2"
أ.
د/إبراهيم عوضالفصل الخامس عشر:
"التمسك الأعمى بالتقاليد.
وأقبَلَ إلى يَسوعَ بَعضُ الفَرَّيسيـّينَ ومُعلَّمي الشَّريعةِ مِنْ أُورُشليمَ، فسألوهُ: 2"لِماذا يُخالِفُ تلاميذُكَ تقاليدَ القُدَماءِ، فلا يَغسِلونَ أيديَهُم قَبلَ الطَّعام؟" 3فأجابَهُم يَسوعُ: "ولِماذا تُخالِفونَ أنـتم وصيَّةَ الله مِنْ أجلِ تَقاليدِكُم؟ 4قالَ الله: أكرِمْ أباكَ وأمَّكَ، ومَنْ لعنَ أباهُ أو أمَّهُ فموتًا يَموتُ. 5وأمّا أنتُمْ فتَقولونَ: مَنْ كانَ عِندَهُ ما يُساعِدُ بِه أباهُ أو أمَّهُ وقالَ لَهُما: هذا تقدمَةٌ لله، 6فلا يلزَمُهُ أنْ يُكرِمَ أباهُ. وهكذا أبطَلْتُم كلامَ الله مِنْ أجلِ تقاليدِكُم. 7يا مُراؤون، صَدَقَ إشَعْيا في نُبوءتِهِ عنكُم حينَ قالَ: 8هذا الشَّعبُ يُكرمُني بِشَفَتيهِ، وأمَّا قَلبُهُ فبعيدٌ عنَّي. 9وهوَ باطِلاً يَعبُدُني بِتعاليمَ وضَعَها البشرُ".
ما ينجس الإنسان.
10ثُمَّ دَعا الجُموعَ وقالَ لهُم: "اَسمَعوا واَفهَموا: 11ما يَدخُلُ الفَمَ لا يُنجَّسُ الإنسانَ، بَلْ ما يَخرُجُ مِنَ الفمِ هوَ الذي يُنَجَّسُ الإنسانَ".
12فتقَدَّمَ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "أتعرِفُ أنَّ الفَرَّيسيـّينَ اَستاؤوا عِندَما سَمِعوا كلامَكَ هذا؟ 13فأجابَهُم: "كُلُّ غَرْسٍ لا يَغرِسُه أبـي السَّماويٌّ يُــقلَعُ. 14أُترُكوهُم! هُمْ عُميانٌ قادةُ عُميانٍِ. وإذا كانَ الأعمى يَقودُ الأعمى، سقَطا معًا في حُفرةٍ".
15فقالَ لَه بُطرُسُ: "فَسَّرْ لنا هذا المَثَلَ". 16فأجابَ: "أأنتُم حتى الآنَ لا تَفْهَمونَ؟ 17ألا تَعرِفونَ أنَّ ما يَدخُلُ فمَ الإنسانِ يَنْزِلُ إلى الجوفِ، ومِنهُ إلى خارجِ الجسَدِ؟ 18وأمّا ما يَخرُجُ مِنَ الفَمِ، فمِنَ القلبِ يَخرُجُ، وهوَ يُنجَّسُ الإنسانَ. 19لأنَّ مِنَ القَلبِ تَخرُجُ الأفكارُ الشَّرّيرةُ: القَتلُ والزَّنى والفِسقُ والسَّرقَةُ وشَهادَةُ الزٌّورِ والنَّميمةُ، 20وهيَ التي تُنَجَّسُ الإنسانَ. أمّا الأكلُ بأيدٍ غيرِ مَغسولةٍ، فلا يُنجَّسُ الإنسانَ".
إيمان المرأة الكنعانية.
21 وخرَجَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ وجاءَ إلى نواحي صورَ وصيدا. 22فأَقبلَتْ إلَيهِ اَمرأةٌ كَنْعانِـيّةٌ مِنْ تِلكَ البلادِ وصاحَتِ: "اَرْحَمني، يا سيَّدي، يا اَبن داودَ! اَبنتي فيها شَيطانٌ، ويُعذَّبُها كثيرًا". 23فما أجابَها يَسوعُ بكَلِمَةٍ. فَدنا تلاميذُهُ وتَوَسَّلوا إلَيهِ بقولِهِم: "اَصرِفْها عنّا، لأنَّها تَتبَعُنا بِصياحِها!" 24فأجابَهُم يَسوعُ: "ما أرسلَني الله إلاّ إلى الخِرافِ الضّالَّةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ". 25ولكنَّ المرأةَ جاءَتْ فسَجَدَتْ لَه وقالَت: "ساعِدْني، يا سيَّدي!" 26فأجابَها: "لا يَجوزُ أنْ يُؤخذَ خُبزُ البَنينَ ويُرمى إلى الكِلابِ". 27فقالَت لَه المَرأةُ: "نَعم، يا سيَّدي! حتَّ? الكلابُ تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يَتَساقَطُ عَنْ موائدِ أصحابِها". 28فأجابَها يَسوعُ: "ما أعظَمَ إيمانَكِ، يا اَمرأةُ! فلْيكُنْ لَكِ ما تُريدينَ". فشُفِيَت اَبنَتُها مِنْ تِلكَ السّاعةِ.
يسوع يشفي كثيرين.
29واَنتَقَلَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ إلى شاطئِ بحرِ الجليلِ، فصَعِدَ الجبَلَ وجَلَسَ هُناكَ. 30فجاءَتْهُ جُموعٌ كبـيرةٌ ومَعَهُم عُرْجٌ وعُميانٌ ومُقعَدونَ وخُرسٌ وغَيرُهُم كَثيرونَ، فطَرحوهُم عِندَ قدَمَيْهِ فشفاهُم. 31فتعجَّبَ النّاسُ عِندَما رأوا الخُرسَ يَتكَلَّمونَ، والعُرجَ يُشفَونَ، والمُقعَدينَ يَمشُونَ، والعُميانَ يُبصِرونَ. فمَجَّدوا إلهَ إِسرائيلَ.
يسوع يطعم أربعة آلاف رجل.
32ودَعا يَسوعُ تلاميذَهُ وقالَ لهُم: "أُشفِقُ على هذا الجَمعِ، فهُم مِنْ ثلاثَةِ أيّامِ يُلازِمونَني، وما عِندَهُم ما يأكُلونَ. فلا أريدُ أن أصرِفَهُم صائِمينَ، لِـئلاّ تَخورَ قِواهُم في الطَّريقِ". 33فقالَ لَه التَّلاميذُ: "مِنْ أينَ لنا في هذِهِ البرّيَّةِ خُبزٌ يُشبِـــــعُ مِثلَ هذا الجمع؟" 34فقالَ لهُم يَسوعُ: "كَمْ رَغيفًا عندَكُم؟" أجابوا: "سَبْعةُ أرغِفَةٍ وبعضُ سَمكاتٍ صِغارٍ".
35فأمَرَ يَسوعُ الجَمعَ أنْ يَقعُدوا على الأرضِ، 36وأخَذَ الأرغِفَةَ السَّبعَةَ والسَّمكاتِ، وشَكَرَ وكَسَرَها وأعطى تلاميذَهُ، والتَّلاميذُ أعطَوْا الجُموعَ. 37فأكلوا كُلٌّهُم حتى شَبِعوا، ثُمَّ رَفَعوا ما فضَلَ مِنَ الكِسَرِ سَبعَ سِلالٍ مُمتَلئَةٍ. 38وكانَ الَّذينَ أكلوا أربعةَ آلافِ رجُلٍ ما عدا النَّساءَ والأولادَ. 39وصَرفَ يَسوعُ الجُموعَ ورَكِبَ القارِبَ وجاءَ إلى أرضِ مَجْدَان".
ونبدأ بالخلاف الذى نشب بين السيد المسيح وفريق الفَرِّيسيّين والصَّدُّوقِيِّين حول غسل الأيدى قبل تناول الطعام. ولست أظن أحدا الآن يمكن أن يظن بى نية السوء إذا قلت إننى مع غسل الأيدى قبل تناول الطعام (وبعده أيضا، وفى كل حين)، فالنظافة توجب علينا ذلك حتى إذا بدأ الإنسان الأكل أَكَل وهو مستريح النفس منتعش متلذذ، ولم تتأذّ نفسه مما يمكن أن يكون عَلِقَ بيده من قاذورات أو غبار وعرق على الأقل، وهذا من الناحية النفسية. ثم هناك الناحية الصحية أيضا، وكلنا الآن بعد التقدم العلمى وزيادة الوعى الصحى نعرف ما للنظافة من أهمية كبيرة فى الوقاية من الأمراض وتجنب العدوى. من هنا فإننى لا أفهم لماذا وضع السيد المسيح (إن كان فعلا هو الذى وضع) النظافة فى مقابل اتباع وصية الله فى إكرام الوالدين، وكأن النظافة ليست من عند الله، بل من الشيطان، أستغفر الله! الواقع أننى لست أفهم هذا الموقف الغريب، وأرى أن المسيح، وهو نبى الرحمة، لا يمكن أن يقول ما قال فى الأناجيل بخصوص هذه المسالة. وهَبْه ابن الله أو الله، فكيف فاته أنه (أو أن أباه) قد نظّم كونه على أساس أن النظافة شىء لا بد منه، وبإهماله تنشأ مشاكل لا حصر لها، لا على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى الجماعات والأمم، وأحيانا على مستوى العالم أيضا؟ أنقول إنه، سبحانه وتعالى، قد نسى هذه المبادئ العلمية والصحية لأن عهده بها قد طال، إذ ترك السماء ونزل إلى الأرض منذ نحو ثلاثين عاما، وهى فترة كفيلة بإنسائه ما كان يعرفه كظَهْر يده قبلاً أيام أن كان لا يزال عند أبيه السماوى؟
إن المسألة على النحو الذى صورها به كاتب الإنجيل تبدو وكأن العناد هو الذى يسيّر السيد المسيح، فما إن يقول الفريسيون كلمة حتى يرد عليهم بعَشْرٍ يسخّف فيها عقولهم وتفكيرهم ويشكّك فى إيمانهم. لستُ هنا بالمدافع عن اليهود بطبيعة الحال، فلا شك أن انحيازى هو مع المسيح عليه السلام، لكن أىّ مسيح؟ إنه مسيح العقل والمنطق والنظافة والاهتمام بحياة الإنسان وصحته وسعادته لا مسيح العناد وإهمال النظافة والنفور من طهارة البدن، وكأن البدن والاهتمام به رجس من عمل الشيطان. إن كاتب الإنجيل بهذا الأسلوب يحببنا، من حيث يدرى أو لا يدرى، فى الشيطان ما دام الشيطان يهتم بأمر النظافة هكذا ولا يحب لنا أن نأكل وأيدينا قذرة! أليس كذلك؟ وهو ما يذكّرنى بشيوعى مصرى يعدّ نفسه أديبا ألف كتابا عن نفسه أثنى فيه على الشيطان لارتباطه بالفن والأدب والضحك والسعادة، على عكس الله، الذى يصوره رفيقنا المداور بصورة المتجهم الكاره للإبداع والمعادى لكل ما يسرّ ويبهج فى هذه الحياة، وكأنه سبحانه ليس هو خالق العقل والحواس والتذوق والجهاز العصبى والمنظومة النفسية وغير ذلك من الأشياء التى على أساسها تقوم عملية الإبداع فى مجال الفن والأدب والفكاهة والطعام والملابس والبناء والعلم والإدارة والعادات والتقاليد والسياسة والاقتصاد... إلخ! حتى النكتة لا أستطيع أن أسمع شيئا منها وأضحك إلا وأتذكر على الفور الله سبحانه وتعالى وأتعجب من الإبداع الإلهى الذى يَسَّرَ كل شىء من أجل إيصالها إلى واحد مثلى ليضحك ويسعد ولو لبضع دقائق: من أول الفكرة الغريبة المدهشة التى خطرت لصاحب النكتة وكانت الجرثومة العقلية والنفسية التى انطلقت منها، إلى الخيال المتوفز ولفتات الذهن "المعجونة بماء العفاريت" (كما كانت جدتى، أنار الله قبرها ورحمها رحمة تليق بكرمه، تصفنى حين أرتكب ما يزعجها) إلى التعبير اللغوى البارع وما يصاحبه من إشارات اليد الموحية وحركات الوجه المجسّدة وتموجات الروح المنعشة المفرفشة... إلخ، فضلا عن العقل الذى يُخْضِع بعد ذلك تلك العملية ليدرسها ويحللها ويحاول الوصول إلى أسرارها وخفاياها، واجدا فى ذلك لذة لا تقلّ، إن لم تزد عن لذة الاستماع إلى النكتة ذاتها... وهلم جرا.
خلاصة القول إن البدن وحاجاته جزء لا يتجزأ من الكيان الإنسانى ومن الحياة كلها، ولولا البدن كيف يمكننا نحن البشر أن نعيش؟ بل كيف يمكننا أن نمارس الدين ونعبد الله ونطيعه؟ ألسنا نصلى ونصوم ونزكّى من خلال أبداننا؟ أليس الفقراء الذين يأخذون الصدقة إنما يأخذونها ليُشْبِعوا بها، ضمن ما يُشْبِعون، حاجات أبدانهم؟ إذن فلم التنكر للبدن، وكأنه رجس من عمل الشيطان؟ إن كل شىء فى هذه الدنيا هو من صنع يد الله بما فيها من بدن وروح، تبارك الله وتباركت يده وآلاؤه! وقد سبق أن قلت إن التنكر لمطالب الجسد واحتقار النعم الإلهية الخاصة به هى فى أدنى تقدير دلالة على عدم اللياقة مع الله سبحانه، بل قد تصل بالإنسان فى بعض الحالات إلى الكفر دون أن يدرى، على الأقل: الكفر بنعمة الله، الذى إنما خلق ما خلق كى يستمتع به عباده. والمهم أن تكون المتعة من حلال وفى حلال، وإلا فلمن خلق سبحانه ما خلق من طيبات الدنيا؟ ألكى يستمتع بها الخنازير والبهائم والديدان والحشرات مثلا ونبقى نحن نتفرج عليها وهى تتلذذ بها، فتلذعنا الحسرة ونتمنى لو كنا نحن أيضا بهائم وخنازير أو ديدانا وحشرات؟ يا عالم! يا هوه! لو كان الخواجة بيجو معنا الآن لصرخ بلكنته الإجريجية قائلا، ومعه كل الحق والله العظيم: "آخ يا النافوخ بتاع الأنا"!
النظافة إذن مهمة جدا بالنسبة للبشر ومصلحة البشر وصحة البشر وسعادة البشر، ولا يمكن أن يكون الله سبحانه وتعالى أو أحد من رسله الكرام الأطهار مع القذارة، أو اللامبالاة على الأقل بأمور النظافة. هذا لا يمكن أن يكون دينا لله. و"الحَلّ" ليس "هو الحَبْل" كما كانت الممثلة جالا فهمى تقول فى ثمانينات القرن الماضى، بل هو القول بأن الكاتب لم يحسن النقل عن السيد المسيح، أو لم يحسن فهم السيد المسيح، إن لم نقل إنه ربما تأثر بتعاليم بولس التى أخذت دعوة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بعيدا عن مسارها ومدارها واشتطت فى مخاصمة الطهارة والنظافة اشتطاطا مرضيا. والدين الصحيح هو الذى يضع الأمرين فى الاعتبار: أمر الجسد، وأمر الروح، فالإنسان لا يستطيع التحليق بجناح الروح وحده، بل لا بد له من الجناحين معا. وفى الإسلام أن "النظافة من الإيمان"، والمسلم يتوضأ فى اليوم، أى يغسل يديه وفمه وأنفه ووجهه وشعره ورجليه، عدة مرات فى اليوم الواحد، علاوة على الغُسْل الأسبوعى، والاغتسال كلما جامع زوجته أو احتلم، وغسل الفم قبل الأكل وبعده واستخدام السواك عقب القيام من النوم وبعد الطعام وعند الصلاة، وهو ما يحقق الحد الأدنى وما فوق الأدنى من النظافة والطهارة. ثم إن فى المبادرة الفردية بعد ذلك لَمَنْدُوحَةً واسعةً لمزيد من الطهارة والنظافة يبلغ به كل واحد فى هذا المضمار ما يشاء. لكن هذا الاهتمام بالنظافة لا يعجب بعض الأوساخ فيسخرون منه، فاللهم أَبْقِهم فى قذارتهم ونجاستهم يعمهون، وهم بغبائهم وضيق أفقهم وأحقادهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وأمثال هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُون"َ (الجاثية/ 23). إنهم أسوأ من الفَرِّيسّيين والصَّدُّوقيّين الذين كانوا يرهقون السيد المسيح باعتراضاتهم الغبية ووسوساتهم الكاذبة المنافقة ويرفضون أن يفتحوا عيونهم للنور مؤثرين العيش فى الظلام مع "أمير الظلام"! هنيئا لكم صحبة أمير الظلام يا عبيد الظلام!
بقيت فى المسالة نقطة خطيرة، فقد رأينا أن المسيح يعترض على منافقى اليهود بأنهم لا يكرمون آباءهم وأمهاتهم مؤثرين تقديم القربان على إطعامه للوالدين المسكينين الجائعين. ونحن معه عليه السلام فى هذا تماما، ونرى أن إطعام الجائع وكساء العارى وعلاج المريض خير من بناء المعابد ذاتها لا من تقديم القربان فحسب، لكن ألم نر كيف كان السيد المسيح، طبقا لما قاله عنه كاتب الإنجيل، خشنا وجافًّا جافيًا مع أمه ومع إخوته، ولم يحاول أن يستطلع الأمر، فقد يكونون فى حاجة إلى شىء يعمله لهم ولا يستطيعون عمله بأنفسهم، بل ظل منصرفا إلى ما كان يعظ به تلاميذه، رغم أنه كان بمكنته أن يعود لما كان فيه من وعظ بعد أن يرى لأى شىء كانت أمه وإخوته يريدون رؤيته؟ ألم يكن من إكرام الأم الذى يدعو إليه ويقرّع منافقى اليهود بسببه أن يهتم المسيح بالسيدة مريم؟ ثم ألم يكن من إكرام الوالد كذلك أن يسمح المسيح لتلميذه بالذهاب للاشتراك فى دفنه وأخذ العزاء فيه بدلا من أن يمنعه من ذلك قائلا: دع الموتى يدفنون موتاهم؟ كذلك سمعناه، عليه السلام، يوجب أن يهجر الإنسان أبويه وكل أقاربه ويتبعه فى كل شىء إذا أراد أن يفوز بملكوت السماوات؟ طيب، وهل هناك تناقض بين هذا وذاك؟ هل هناك تناقض بين العمل من أجل الفوز بالملكوت وبين إكرام الوالدين واحترامهما والقيام بحاجاتهما ورحمة ضعفهما ما داما لا يجاهدانه على الشرك بالله؟ أما أنا، ومعى فيما أتصور كل عاقل حكيم، وإن لم أكن أنا بالضرورة عاقلا حكيما حتى لا يقال عنى إنه يمدح نفسه، فإنى لا أرى أى تعارض بالمرة! وهذا ما حققه الإسلام ونفذه وشدد عليه، بل إن المسلم ليأخذ أجرا على رحمته واهتمامه بأبويه الكافرين. أليسا أبويه؟ ولقد عرض ابنُ عبدِ الله بن أبىّ زعيمِ النفاق والضلال فى المدينة على أيام الرسول أن يقتل أباه ويخلّص الإسلام من شره، لكن الرسول أمره بإحسان صحبته، بل كان هو نفسه، عليه الصلاة والسلام، يحسن إلى هذا الرجل حتى رَمَقه الأخير، إذ بعث له عند احتضاره بقميصه الشريف نزولا على رغبته كى يتخذه كَفَنًا وهَمَّ بأن يصلى عليه رغم اعتراض بعض المسلمين على ذلك لولا أن السماء حسمت المسألة ونهته بصريح العبارة عن أن يصلى على أحد من المنافقين مات أبدا أو يقوم على قبره!
إننا لا نُشَاحّ فيما نُقِل لنا عن إشعيا من أن الله غضب على اليهود لأنهم لا يعبدونه سبحانه ولا يطيعونه من قلوبهم، بل يكتفون بعبادة المظاهر: "7صَدَقَ إشَعْيا في نُبوءتِهِ عنكُم حينَ قالَ: 8هذا الشَّعبُ يُكرمُني بِشَفَتيهِ، وأمَّا قَلبُهُ فبعيدٌ عنَّي. 9وهوَ باطِلاً يَعبُدُني بِتعاليمَ وضَعَها البشرُ"، إلا أن هذا لا يقلب الحق المتمثل فى أن النظافة إنما هى من عند الله لا من عند الشيطان ولا من عند منافِقَة اليهود، فيجعله باطلا أبدا. الأمر بالنظافة هو من عند الله، كما أن الأمر بطهارة القلب هو أيضا من عند الله، لا فرق بين هذا وذاك إلا لمن فى عيونه رَمَدٌ بل عَمًى، وأولئك فى ضلال بعيد! وعلى هذا فإن ما يدخل الفم قد ينجِّس الإنسان ويصيبه بالغثيان والقىء والأمراض كأكل الخنزير وشرب الخمر وتناول أية خضراوات وفواكه لم تغسل جيدا. وهل فى ذلك أدنى شك؟ بالضبط مثلما أن ما يخرج من الفم ينجِّس إذا كان كذبا ونفاقا، أو إغراء بالزنا والفجور أو تحريضا على القتل أو نهشا فى أعراض الأبرياء، أو كفرا وتجديفا وقلة أدب كالتى يمارسها القوم فى المهجر الأمريكى فيستحق الإنسان بسببها أن يطوَّح فى أصل الجحيم حيث لن ينفعه بوش ولا رامسفيلد لأنهما سيكونان معه يَصْلَيَان هما ومن على شاكلتهما ألوان العذاب والخزى فى نار جهنم الحمراء، لعن الله كل من يسىء الأدب مع رسول الله ومع دين الله، ولعنته الملائكة والناس أجمعين. وفى الأمثال إذا كان المتكلم أبله فليكن المستمع عاقلا، وعلى هذا فإن كان الفَرِّيسّون والصَّدُّوقيّون مخبولين بالوسوسة فى الشكليات ونظافة الأيدى فحسب، فليكن المسيح، وهو بالتأكيد كان، مشغولا بالأمرين معا: بنظافة الأيدى والأفواه، وبطهارة الضمير والروح كليهما. على أننى لا أريد أن أغادر هذه النقطة قبل الترفيه على القارئ تعقيبا على قول المسيح عن اليهود المنافقين: "هُمْ عُميانٌ قادةُ عُميانٍِ. وإذا كانَ الأعمى يَقودُ الأعمى، سقَطا معًا في حُفرةٍ"، إذ يحضرنى الآن ما كنت قرأته فى ترجمة الشاعر العباسى الكفيف بشار بن برد، إذ مر به رجل لا يعرف الطريق فسأله، فأخذ يشرح له كيف يصل إلى غايته، والرجل لا يفهم، حتى ضاق بشار به ذرعا فأخذ يده وانطلق به يدلّه بنفسه على المكان، وهو يُنْشِد هذا البيت الذى يعضّد ما قاله السيد المسيح، وإن كان سلوك الشاعر الظريف يخالفه:
أعمى يقود بصيرًا، لا أبا لَكُمُو ** قد ضَلّ من كانت العميانُ تَهْدِيهِ
ثم نأتى إلى قصة المرأة الكنعانية التى تناولناها من قبل تناولا سريعا: "21 وخرَجَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ وجاءَ إلى نواحي صورَ وصيدا. 22فأَقبلَتْ إلَيهِ اَمرأةٌ كَنْعانِـيّةٌ مِنْ تِلكَ البلادِ وصاحَتِ: "اَرْحَمني، يا سيَّدي، يا اَبن داودَ! اَبنتي فيها شَيطانٌ، ويُعذَّبُها كثيرًا". 23فما أجابَها يَسوعُ بكَلِمَةٍ. فَدنا تلاميذُهُ وتَوَسَّلوا إلَيهِ بقولِهِم: "اَصرِفْها عنّا، لأنَّها تَتبَعُنا بِصياحِها!" 24فأجابَهُم يَسوعُ: "ما أرسلَني الله إلاّ إلى الخِرافِ الضّالَّةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ". 25ولكنَّ المرأةَ جاءَتْ فسَجَدَتْ لَه وقالَت: "ساعِدْني، يا سيَّدي!" 26فأجابَها: "لا يَجوزُ أنْ يُؤخذَ خُبزُ البَنينَ ويُرمى إلى الكِلابِ". 27فقالَت لَه المَرأةُ: "نَعم، يا سيَّدي! حتَّى الكلابُ تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يَتَساقَطُ عَنْ موائدِ أصحابِها". 28فأجابَها يَسوعُ: "ما أعظَمَ إيمانَكِ، يا اَمرأةُ! فلْيكُنْ لَكِ ما تُريدينَ". فشُفِيَت اَبنَتُها مِنْ تِلكَ السّاعةِ". والواقع أنه من الصعب علينا تصديق هذه القصة بما تعكسه من تعنت وقسوة فى موقف السيد المسيح لا مسوغ لهما، فمثل هذا النبى الكريم الذى ثار ثورة عارمة على نفاق اليهود واهتماهم الوسواسى بالشكليات على حساب الروح والجوهر لا يمكن أن يكون هذا موقفه من ألم إنسانى يتعذب به اثنان من البشر أحدهما أم ملهوفة على ابنها أشد اللهفة! لا ليس هذا هو مسيحنا الكريم الرحيم النبيل، ولا يقدر ضميرى ولا عقلى أن يصدقا بأن الاهتمام بخراف بنى إسرائيل الضالة المضلة يمكن أن يمحو من ذلك القلب الكبير الاهتمام بغير تلك الخراف التى لا يصلح معها إلا جَزّ رقابها طلبا للاستراحة منها ومن شرورها اللاصقة بها لا تغادرها كأنها القُرَاد اللابد فى جلد البعير. لقد أُذِلَّت المرأة الكنعانية إذلالا شديدا قبل أن يستجيب المسيح لها، وعندما تدخل الحواريون لم يتدخلوا رحمة بها ولا تعاطفا مع آلام ابنتها، بل للتخلص مها ومن وجع الدماغ الذى كانت تسببه لهم ليس إلا. لقد كان على المسكينة أن تتوسل وأن تبتلع الإهانة تلو الإهانة من أجل خاطر ابنتها المجنونة، فسجدت لعيسى بن مريم وتحملت أن توصف هى وابنتها وكل أبناء قومها بأنهم "كلاب"، وأعلنت أنها ترضى بالفتات كما تفعل الكلاب (وأى فتات؟ إنه الفتات المتساقط من الموائد، نكاية وتماديا فى إذلال المسكينة!)، فعندئذ وعندئذ فقط استجاب لها السيد المسيح وقال لها إن إيمانها عظيم! أما أنا فلا أصدق شيئا من هذا، وليغضب منى من يشاء، فليس فى هذا الأمر مجال للمجاملات الكاذبة. المسيح، كما أفهمه من دينى، أفضل من هذا كثيرا كثيرا كثيرا، عليه الصلاة والسلام. كذلك فلْنلاحظ أنه قد شهد لها بالإيمان رغم أنها لم تقل له: أنت ابن الله أو أنت الله، بل كل ما قالته هو: "يا اَبن داودَ"! ونحن أيضا لا نقول له إلا: "يا ابن داود"، أو إذا أردنا أن نكون أكثر مباشرة: "يا ابن مريم" لأن مريم عليها السلام هى أمه اللصيقة، على حين أن داود هو أبوه (أو بالأحرى: جدّه) البعيد جدا.
وفى النص التالى، وما زلنا مع البُرْص والعُرْج والبُكْم، أحب أن أتريث قليلا عند عبارة صغيرة عارضة لأبين للقارئ كيف أن الدقة كانت تُعْوِز فى كثير من الأحيان كاتبَ الإنجيل حتى ليقع فى التناقض من كلمة إلى الكلمة التى تليها. كيف؟ تعالَوْا نقرأ أولا السطور التالية: "29واَنتَقَلَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ إلى شاطئِ بحرِ الجليلِ، فصَعِدَ الجبَلَ وجَلَسَ هُناكَ. 30فجاءَتْهُ جُموعٌ كبـيرةٌ ومَعَهُم عُرْجٌ وعُميانٌ ومُقعَدونَ وخُرسٌ وغَيرُهُم كَثيرونَ، فطَرحوهُم عِندَ قدَمَيْهِ فشفاهُم. 31فتعجَّبَ النّاسُ عِندَما رأوا الخُرسَ يَتكَلَّمونَ، والعُرجَ يُشفَونَ، والمُقعَدينَ يَمشُونَ، والعُميانَ يُبصِرونَ. فمَجَّدوا إلهَ إِسرائيلَ". إن الكاتب يقول إن جموعا كثيرة جاءت بمجرد سماعها بوجود المسيح هناك ومعهم مرضاهم (طبعا ليشفيهم)، وهو ما يدل على أنهم تعودوا من عيسى شفاء المرضى دون تخلف، لكن نفس الكاتب يقول عقب ذلك إن الناس تعجبوا عندما رأوا الخُرْس يتكلمون، والعُرْج يمشون، والعُمْى يبصرون. لماذا يا ترى؟ هل هذه أول مرة يشاهدون فيها ذلك؟ لا، بل سبقها أمثالها مرارا. ولسوف نرى فيما يلى، مثلما رأينا من قبل، أمثلة على هذا التناقض وانعدام الدقة. ثم يختم الكاتب كلامه بأن الجموع قد مجّدت إله إسرائيل شكرا على ما رَأَوْه، وهذا هو الأحجى بكل عاقل: أن ينسب الفضل فى كل خير إلى الله أوَّلاً، على ألا ينسى الواسطة التى أجرى الله خيره على يديها، لكن دون تأليهها. وقد حدث مثل هذا الموقف من قبل.
وأخيرا إلى معجزات الطعام والشراب مرة أخرى، وقد قلنا إن القرآن لم يذكر لعيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، من المعجزات إلا إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، بالإضافة إلى أنه كان ينبئ قومه بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم. وهذه المعجزة الأخيرة لم يذكرها الإنجيل الذى بين أيدينا، مثلما لم يذكر القرآن معجزة الخبز والسمكات التى تكررت مرتين، وإن كانت الآيات الأخيرة من سورة "المائدة" تتحدث عن طلب الحواريين من نبيهم أن يدعو ربه حتى ينزّل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم وآية من الله، فهل معجزة الخبز والسمكات هى هذه المعجزة؟ لقد سكت القرآن فلم يبين لنا هل استجاب الله سؤال الحواريين أَوْ لاَ، وإن كنت أرجح أنه سبحانه وتعالى قد استجاب، ومن ثم فإن السكوت فى هذه القضية هو أجدر المواقف وأحصفها. إلا أن هناك جانبا آخر مهما فى المسألة، ألا وهو: ما دام إمداد كل هاتيك الجموع بالطعام سهلا إلى هذا المدى، فلِمَ لَمْ يلجأ إليه عيسى بن مريم دائما ليحل مشكلة الأكل والشرب لهؤلاء الفقراء الجوعى الذين هجروا مِهَنهم واتبعوه ولم يعودوا يَسْعَوْن على المعاش بناء على نصيحته لهم، وذلك بدلا من السطو على حقول الآخرين دون إذن منهم بل دون مجرد التفكير فى الحصول على ذلك الإذن؟ سؤال أرجو أن يوفق الله واحدا من القراء إلى طرح الجواب عليه! كما أود لو تطوع آخر بحل مشكلة السمكات التى من الواضح أنها كانت هناك مع التلاميذ منذ ثلاثة أيام فى البَرِّيّة دون أن تتعفن! على ألا يقول لى: "المعجزة!" لأن المعجزة لم تكن قد بدأت بعد! إنما بدأت المعجزة مع تكثير الرُّغْفان والأسماك لا قبله! أليس كذلك؟
الفصل السادس عشر:
"علامات الأزمنة.
وأقبَلَ إلَيهِ بَعضُ الفَرَّيسيـّينَ والصدٌّوقيـّينَ ليُجرَّبوهُ، فطَلَبوا مِنهُ أنْ يُريَهُم آيةً مِنَ السَّماءِ. 2فأجابَهُم: "تَقولونَ عِندَ غُروبِ الشَّمسِ: سيكونُ صحوٌ، لأنَّ السَّماءَ حَمراءُ كالنّارِ. 3وعِندَ الفَجرِ تَقولونَ: اليومَ مَطَرٌ، لأنَّ السَّماءَ حمراءُ على سَوادٍ. مَنظَرُ السَّماءِ تَعرِفونَ أنْ تُفسَّروهُ، وأمّا عَلاماتُ الأزمِنةِ فلا تَقدِرونَ أنْ تُفسَّروها. 4جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يَطلُبُ آيةً، ولن يكونَ لَه سوى آيةِ يونانَ". ثُمَّ تَركَهُم ومَضى.
خمير الفريسيـين والصدوقيـين.
ولمّا عبَرَ التَّلاميذُ إلى الشَّاطئِ المُقابِلِ، نَسوا أنْ يَتزَوَّدوا خُبزًا، 6فقالَ لهُم يَسوعُ: "اَنتبِهوا، إيّاكُم وخَميرَ الفَرَّيسيـّينَ والصَدٌّوقيـّينَ". 7فقالوا في أنفُسِهِم: "يقولُ هذا لأنَّنا ما تَزوَّدنا خُبزًا".
8فعَرَفَ يَسوعُ وقالَ لهُم: "يا قليلي الإيمانِ، كيفَ تَقولونَ في أنفُسِكُم: لا خُبزَ مَعنا؟ 9أما فهِمتُم بَعدُ؟ ألا تَذكُرونَ الأرغِفةَ الخَمسةَ لِلخَمسةِ الآلافِ وَكم قُفَّةً مَلأتُم؟ 10والأرغِفةَ السَّبعةَ للأربَعَةِ الآلافِ وكم سلَّةً ملأتُم؟ 11كيفَ لا تَفهمونَ أنّي ما عَنَيْتُ الخُبزَ بكلامي؟ فإيّاكُم وخميرَ الفَرّيسيـّينَ والصَدّوقيّـينَ!"
12ففَهِمَ التَّلاميذُ أنَّهُ قالَ لهُم يجِبُ أنْ يتَجَنَّبوا تعاليمَ الفَرّيسيَّينَ والصَدٌّوقيَّينَ لا خميرَ الخُبزِ.
بطرس يشهد بحقيقة يسوع.
13ولمّا وصَلَ يَسوعُ إلى نواحي قيْصَرِيَّةِ فيلبٌّسَ سألَ تلاميذَهُ: "مَنْ هوَ اَبنُ الإنسانِ في رأيِ النّاسِ؟" 14فأجابوا: "بعضُهُم يقولُ: يوحنّا المَعْمدانُ، وبعضُهُم يقولُ: إيليّا، وغيرُهُم يقولُ: إرميا أو أحَدُ الأنبـياءِ". 15فقالَ لهُم: "ومَنْ أنا في رأيِكُم أنتُم؟" 16فأجابَ سِمْعانُ بُطرُسُ: "أنتَ المَسيحُ اَبنُ الله الحيَّ". 17فقالَ لَه يَسوعُ: "هَنيئًا لَكَ، يا سِمْعانُ بنَ يُونا! ما كشَفَ لكَ هذِهِ الحَقيقةَ أحدٌ مِنَ البشَرِ، بل أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 18وأنا أقولُ لكَ: أنتَ صَخرٌ، وعلى هذا الصَّخرِ سأبني كَنيسَتي، وقوّاتُ الموتِ لنْ تَقوى علَيها. 19وسأُعْطيَكَ مفاتيحَ مَلكوتِ السَّماواتِ، فما تَربُطُهُ في الأرضِ يكونُ مَربوطًا في السَّماءِ، وما تحُلٌّهُ في الأرضِ يكونُ مَحلولاً في السَّماءِ". 20وأوصى يَسوعُ تلاميذَهُ أنْ لا يُخبِروا أحدًا بأنَّهُ المسيحُ.
يسوع ينبـئ أول مرة بموته وقيامته.
21وبدَأَ يَسوعُ مِنْ ذلِكَ الوَقتِ يُصَرَّحُ لِتلاميذِهِ أنَّهُ يجِبُ علَيهِ أنْ يذهَبَ إلى أُورُشليمَ ويَتألَّمَ كثيرًا على أيدي شُيوخِ الشَّعبِ ورُؤساءِ الكهَنةِ ومُعلَّمي الشَّريعةِ، ويموتَ قتلاً، وفي اليومِ الثّالثِ يَقومُ.
22فاَنفَرَدَ بِه بُطرُسُ وأخذَ يُعاتِبُهُ فيقولُ: "لا سمَحَ الله، يا سيَّدُ! لن تلقى هذا المَصيرَ!" 23فاَلتَفَتَ وقالَ لبُطرُسَ: "اَبتَعِدْ عنّي يا شَيطانُ! أنتَ عَقَبَةٌ في طريقي، لأنَّ أفكارَكَ هذِهِ أفكارُ البَشرِ لا أفكارُ الله".
24وقالَ يَسوعُ لِتلاميذِهِ: "مَنْ أرادَ أنْ يَتبعَني، فلْيُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعْني، 25لأنَّ الَّذي يُريدُ أن يُخلَّصَ حياتَهُ يَخسَرُها، ولكنَّ الَّذي يخسَرُ حياتَهُ في سبـيلي يَجِدُها. 26وماذا يَنفَعُ الإنسانَ لو رَبِـحَ العالَمَ كُلَّهُ وخسِرَ نَفسَهُ؟ وبِماذا يَفدي الإنسانُ نَفسَهُ؟ 27سيَجيءُ اَبنُ الإنسانِ في مَجدِ أبـيهِ معَ ملائِكَتِهِ، فيُجازي كُلَ واحدٍ حسَبَ أعمالِه. 28الحقَّ أقولُ لكُم: في الحاضِرينَ هُنا مَنْ لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا مَجيءَ اَبنِ الإنسانِ في مَلكوتِهِ".
النقطة الأولى التى سأتناولها فى هذا الفصل هى رفض عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن يستجيب للفَرِّيسيّين والصَّدُّوقيّين فيأتيهم بآية كما طلبوا منه، وهو ما تكرر من قبل حسبما تنص الفقرة 38 من الفصل رقم 13 من إنجيل متَّى، مع أنه كثيرا ما شفى المرضى المستحيل علاجهم وأعاد إلى الحياة بعض الموتى، ودعنا مما ذكره كاتب الإنجيل عن الطعام الذى كان يزود به تلاميذه والجموع التى تتبعه من مكان إلى مكان عندما لا يجد بين يديه ما يطعمهم به. فلماذا يا ترى هذه التفرقة؟ أغلب الظن أنه، عليه السلام، لم يكن يستجيب لمثل تلك الطلبات التى تنبع من التحدى والمعاندة لا من الإيمان. فإن صح هذا التفسير، وأغلب الظن أنه صحيح كما يظهر من كلام الإنجيل الذى بين أيدينا، فإنه يجرى مع ما جاء به القرآن من عدم استجابة السماء لمثل هذا المقترح من قبل كفار مكة حين كانوا يحاولون التعنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين إنهم لن يؤمنوا برسالته حتى يفعل كذا وكذا مما يخرق به السنن الطبيعية كما أخبرتنا به سورة "الإسراء" على سبيل المثال: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95)". ولتكملة الصورة لا بد من الإشارة إلى أن ثمة أحاديث نبوية تتحدث عن معجزاتٍ عملها النبى صلى الله عليه وسلم، لكنْ للمؤمنين ودون طلب أو اقتراح منهم، وليس لإقناع الكافرين، وهو نفسه الحال تقريبا فى حالة المعجزات العيسوية على صاحبها الصلاة والسلام.
ولعل القراء لم يَنْسَوْا بَعْدُ التناقضَ الذى وقع فيه كاتب الإنجيل فى الفصل الثالث عشر حينما ذكر ثناء المسيح على تلاميذه على النحو التالى: "10فدَنا مِنهُ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "لِماذا تُخاطِبُهُم بالأمثالِ؟" 11فأجابَهُم: "أنتُمُ أُعطيتُم أنْ تعرِفوا أسرارَ مَلكوتِ السَّماواتِ، وأمّا هُم فما أُعطُوا. 12لأنَّ مَنْ كانَ لَه شيءٌ، يُزادُ فيَفيضُ. ومَنْ لا شيءَ لَه، يُؤخَذُ مِنهُ حتى الَّذي لَه. 13وأنا أُخاطِبُهُم بالأمثالِ لأنَّهُم يَنظُرونَ فلا يُبصِرونَ، ويُصغونَ فلا يَسمَعونَ ولا يَفهَمونَ. 14ففيهِم تَتِمٌّ نُبوءةُ إشَعْيا: "مَهما سَمِعتُم لا تَفهَمونَ، ومَهما نَظَرْتُم لا تُبصِرونَ. 15لأنَّ هذا الشَّعبَ تحَجَّرَ قلبُهُ، فسَدٌّوا آذانَهُم وأغْمَضوا عُيونَهُم، لِـئلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهِم ويَسمَعوا بآذانِهِم ويَفهَموا بِقُلوبِهِم ويَتوبوا فأَشفيَهُم". 16وأمّا أنتُمْ فهَنيئًا لكُم لأنَّ عيونَكُم تُبصِرُ وآذانَكُم تَسمَعُ. 17الحقَّ أقولُ لكُم: كثيرٌ مِنَ الأنبـياءِ والأبرارِ تَمنَّوا أنْ يَرَوْا ما أنتمُ تَرَونَ فَما رأوا، وأنْ يَسمَعوا ما أنتُم تَسمَعونَ فما سَمِعوا"، ليعود بعد ذلك بقليل فيذكر لنا أن المسيح نفسه قد اتهمهم بقلة الفهم وقلة الإيمان معا. لقد تكرر اتهامه عليه السلام لهم هنا أيضا بضعف الاعتقاد وبلادة الفهم: ولمّا عبَرَ التَّلاميذُ إلى الشَّاطئِ المُقابِلِ، نَسوا أنْ يَتزَوَّدوا خُبزًا، 6فقالَ لهُم يَسوعُ: "اَنتبِهوا، إيّاكُم وخَميرَ الفَرَّيسيـّينَ والصَدٌّوقيـّينَ". 7فقالوا في أنفُسِهِم: "يقولُ هذا لأنَّنا ما تَزوَّدنا خُبزًا".8فعَرَفَ يَسوعُ وقالَ لهُم: "يا قليلي الإيمانِ، كيفَ تَقولونَ في أنفُسِكُم: لا خُبزَ مَعنا؟ 9أما فهِمتُم بَعدُ؟ ألا تَذكُرونَ الأرغِفةَ الخَمسةَ لِلخَمسةِ الآلافِ وَكم قُفَّةً مَلأتُم؟ 10والأرغِفةَ السَّبعةَ للأربَعَةِ الآلافِ وكم سلَّةً ملأتُم؟ 11كيفَ لا تَفهمونَ أنّي ما عَنَيْتُ الخُبزَ بكلامي؟ فإيّاكُم وخميرَ الفَرّيسيـّينَ والصَدّوقيّـينَ!". 12ففَهِمَ التَّلاميذُ أنَّهُ قالَ لهُم يجِبُ أنْ يتَجَنَّبوا تعاليمَ الفَرّيسيَّينَ والصَدٌّوقيَّينَ لا خميرَ الخُبزِ". ألا يحق لنا إذن أن نتشكك فى كلام صاحب الإنجيل، إذ يزعم أن المسيح قد فضّل تلاميذه حتى على الأنبياء فى الفهم والإيمان، لينقلب عليهم بتلك الطريقة ويتهمهم بعكس ذك تماما؟ أعتقد أن لنا كل الحق فى ذلك! وبالمناسبة فها هو ذا المسيح عليه السلام، كما تعكس تصرفاتِه صفحاتُ الإنجيل، ينفى الآخر الذى يمثّله هنا الفَرِّيسيّون والصَّدُّوقيّون، فهو لا يريد أن يكون بينه وبينهم أى حوار أو تفاهم، ولا يستجيب لأى مطلب من جانبهم، ولا يحب لأتباعه أن يسيروا على سنتهم ولا أن يعملوا بما يعملون. لكن لماذا؟ قبل أن ندين هذا الموقف ينبغى أن نعرف أنهم هم البادئون بالشر والسوء، أما المسيح صلى الله عليه وسلم فقد كان يردّ على إساءاتهم وغبائهم وكفرهم ونفاقهم وخبثهم وإجرامهم الذى كشَّر فى النهاية عن أنيابه الأفعوانية الزرقاء فخطّط لصلبه وقتله، ولولا لطف الله وحمايته لنبيه لشرب هذه الكأس حتى الثمالة! أى أن الدينونة إنما تقع عليهم لا عليه!
أما السطور التى تلى ذلك فهى فى حقيقة طبيعة السيد المسيح. ومن الواضح، إذا كان لنا أن نصدق كاتب الإنجيل، أنه كان هناك اختلاف كبير حول تلك الحقيقة: فبعضهم كان يقول إنه يحيى، وبعضهم إنه إيليا، وبعض ثالث إنه إرميا. وكان تلاميذه ينادونه بــ"يا سيد" أو "يا معلم". ومن قبل ذلك رأينا من يقول إنه ابن داود، ومن يقول: ابن مريم ويوسف. وهو نفسه كثيرا ما قال إنه ابن الإنسان، وفى نفس الوقت كان يقول عن الله: "أبى السماوى" أو "أبى الذى فى السماوات"، لكن لا بد أن نذكر كذلك أنه كان يستخدم هذه التسمية لتلاميذه أيضا: "أبوك/ أبوكم الذى فى السماوات". أما أنه ابن الله فلم يقلها له أحد من قبل لا من تلاميذه ولا من غير تلاميذه، وها هو ذا بطرس الآن، والآن فقط، يقولها فيشهد له السيد المسيح بأنه سيكون الصخرة الصلبة التى ستقام عليها كنيسته التى لن تقدر عليها قوات الموت! ليس ذلك فحسب، بل زاد فأعطاه مفاتيح ملكوت السماء حتة واحدة. عن أَحَدٍ ما حَوّش! وما ذا يعنى حتة ملكوت سماوى لا راح ولا جاء، وعليه فوق البيعة شويّة رَبْط وحَلّ فى الأرض تتم المصادقة عليه فى السماء فى التو واللحظة؟ إن بطرس قدّها وقدود! أى أن الآب قد تنازل للابن عن شؤون الملكوت السماوى، ثم جاء الابن فتنازل للتلميذ عنها، وهناك من يقول إن الباباوات قد ورثوا عن بطرس هذه الصلاحية.
فانظر أيها القارئ الكريم إِلاَمَ انتهت حلقات السلسلة! وهذا ما عناه القرآن بقوله: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (التوبة/ 31)، وهى الآية التى دار حوار بشأنها بين الرسول عليه الصلاة والسلام وعَدِىّ بن حاتم الطائى، الذى كان نصرانيا فجاء إلى النبى يعلن إسلامه، إذ نفى أنهم كانوا يعبدون الرهبان، فقال له الرسول: ألم يكونوا يحلّلون لكم ويحرّمون؟ فقال: بلى. فقال: فتلك عبادتكم إياهم. وطبعا كان اختيار المسيح لبطرس فى محله تماما، ومن لا يصدّق فليقرأ ما قاله كاتب الإنجيل بنفسه بعدها على الفور: "21وبدَأَ يَسوعُ مِنْ ذلِكَ الوَقتِ يُصَرَّحُ لِتلاميذِهِ أنَّهُ يجِبُ علَيهِ أنْ يذهَبَ إلى أُورُشليمَ ويَتألَّمَ كثيرًا على أيدي شُيوخِ الشَّعبِ ورُؤساءِ الكهَنةِ ومُعلَّمي الشَّريعةِ، ويموتَ قتلاً، وفي اليومِ الثّالثِ يَقومُ. 22فاَنفَرَدَ بِه بُطرُسُ وأخذَ يُعاتِبُهُ فيقولُ: "لا سمَحَ الله، يا سيَّدُ! لن تلقى هذا المَصيرَ!" 23فاَلتَفَتَ وقالَ لبُطرُسَ: "اَبتَعِدْ عنّي يا شَيطانُ! أنتَ عَقَبَةٌ في طريقي، لأنَّ أفكارَكَ هذِهِ أفكارُ البَشرِ لا أفكارُ الله". ولا تحاول يا عزيزى القارئ أن تعرف أبطرس يستحق أن يمسك بالمفتاح إياه ومعه حكاية الحَلّ والرّبْط ويكون محط الرجاء فى بناء الكنيسة التى لن تقدر عليها قوات الموت أم لا يستطيع ولا يستحق لكونه شيطانًا لا تنسجم أفكاره مع أفكار الله! أفكار الله؟! الله أكبر! عشنا وشفنا ربنا يفكر ويتوصل إلى نتائج باهرة.
لكننى لا أفهم حرص المسيح على ألا يعرف أحد خارج حلقة التلاميذ أنه هو المسيح! وهل مما ينسجم مع النبوة أن يخفى النبى حقيقة شخصه ودوره؟ إذن فكيف نؤمن به ما دمنا لا نعرف عنه ما يدفعنا إلى تصديق ما يقوله عن نفسه أو الانصراف عنه؟ ألا يتركز الإيمان به، عليه السلام، فى أنه المسيح ابن الله؟ إذن فلا بد من إعلان هذا الأمر، وإلا فكيف يعرف الناس أنه كذلك ويؤمنون به على هذا الأساس ويحصلون من ثَمّ على الخلاص، أو لا يؤمنون فيذهبون فى ستين داهية "ليَهْلِك من هَلَكَ عن بَيّنَةٍ ويحيا من حَىَّ عن بَيّنَة"؟ ألا إنها لقضية ملغزة تبرجل العقول كسائر أمور النصرانية! وقضية ملغزة أخرى: فالمسيح، صلى الله عليه وسلم، يبشّر بطرس أنه سيكون الصخرة الصلبة التى تقام عليها كنيسته. عظيم! لكن كيف لم يقف بطرس أمام هذا التصريح ويتساءل عن معنى كلمة "كنيسة" التى لم ترد على لسان أحد من الأنبياء أو الآباء فى التراث الإسرائيلى ولا على لسان المسيح نفسه من قبل، بما يعنى أنها كلمة جديدة تحتاج لمن يشرحها ويبين كيفية بناء تلك الكنيسة المذكورة وتنظيمها الإدارى والروحى وما إلى ذلك؟ أليس أمرا طبيعيا أن الواحد منا متى سمع بكلمة جديدة لم يسمعها من قبل، وبخاصة إذا ترتب عليها مستقبله كله وكانت تتعلق بمثل هذا الأمر الخطير الرهيب، أن يسأل عن معناها؟ لكننا نُصِيخ السمع ونرهف آذاننا جيدا فلا نسمع شيئا، وكأن المسيح لم يلمس موضوعا جديدا تمام الجدة على بطرس وسائر الحواريين بل على الدنيا أجمع. هل كان بطرس لَقِنًا فهيما لا يحتاج إلى مثل ذلك الشرح، مع أن الاستعناء عن الشرح فى مثل تلك الظروف أمر مستبعد تماما، لكننا نطرحه من باب الافتراض الجدلى ؟ لا أظن، فقد مر علينا أكثر من مثال على بطء فهمه وغيظ السيد المسيح ذاته منه لهذا السبب!
وقد أتت فى الفصل الذى نحن بصدده هذه الدرة النفيسة التى هى أشبه أن تكون من كلام النبيين: "وماذا يَنفَعُ الإنسانَ لو رَبِـحَ العالَمَ كُلَّهُ وخسِرَ نَفسَهُ؟ وبِماذا يَفدي الإنسانُ نَفسَهُ؟". صدق الله العظيم الذى قال فى محكم كتابه: "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفلا تَعْقِلُونَ (32)" (سورة "الأنعام")، "وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)" (سورة "النحل")، "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)" (سورة "الأحقاف"). لكنْ للأسف فإن كاتب الإنجيل لا يتركنا نهنأ بهذه الدرة طويلا، إذ سرعان ما "يأخذنا على مِشَمّنا" كما يقول التعبير العامى الظريف: "27سيَجيءُ اَبنُ الإنسانِ في مَجدِ أبـيهِ معَ ملائِكَتِهِ، فيُجازي كُلَ واحدٍ حسَبَ أعمالِه. 28الحقَّ أقولُ لكُم: في الحاضِرينَ هُنا مَنْ لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا مَجيءَ اَبنِ الإنسانِ في مَلكوتِهِ". ذلك أنه فى حدود علمى لم يأت المسيح حتى هذه اللحظة فى مجد أبيه ليجازى كل واحد حسب أعماله، مع أن كل من كانوا حوله وقتذاك قد ماتوا جميعا بعد ذلك بسنوات قلائل، أى منذ نحو ألفى عام. أم ترى هناك من لا يزال منهم على قيد الحياة؟ لا إخال! أم ترانى لم أفهم النص؟ ولا هذه أيضا! ثم كيف يتالم بطرس لفكرة قتل المسيح ابن الله حتى ليقول له: "لا سمَحَ الله، يا سيَّدُ! لن تلقى هذا المَصيرَ!"، وكأن ابن الله يمكن أن يموت حقا! ما أظرفها من كلمة تلك العبارة التالية: "لا سمَحَ الله، يا سيَّدُ!"، وكأننا بإزاء شخصين، مع أنه يقال لنا إن الآب والابن شىء واحد! فكيف يراد لنا أن نفهم أن هناك من يسمح، وهناك إلى جانبه من يخاف عليه بطرس هذا السماح؟ ما علينا! لا تأخذوا فى بالكم، وإلا فلن ننتهى، ولا يزال أمامنا نصف الإنجيل تقريبا!
الفصل السابع عشر:
"التجلي ومجيء إيليّا.
وبَعدَ سِتَّةِ أيّامِ أخَذَ يَسوعُ بُطرُسَ ويَعقوبَ وأخاهُ يوحنّا، واَنفَرَدَ بِهِم على جبَلٍ مُرتَفِـعِ، 2وتَجلَّى بمَشهَدٍ مِنهُم، فأشرقَ وجْهُهُ كالشَّمسِ وصارَتْ ثيابُهُ بَيضاءَ كالنٌّورِ. 3وظهَرَ لهُم موسى وإيليّا يُكلَّمانِ يَسوعَ. 4فقالَ بُطرُسُ ليَسوعَ: "يا سيَّدُ، ما أجمَلَ أن نكونَ هُنا: فإن شِئتَ، نَصَبتُ هُنا ثلاثَ مظالَ: واحِدةً لكَ وواحِدةً لموسى وواحِدةً لإيليّا". 5وبَينَما هوَ يتكلَّمُ، ظلَّلتْهُم سَحابَةٌ مُضيئَةٌ، وقالَ صوتٌ مِنَ السَّحابةِ: "هذا هوَ اَبني الحبـيبُ الذي بِه رَضِيتُ، فلَهُ اَسمَعوا!" 6فلمّا سَمِعَ التّلاميذُ هذا الصوتَ وقَعوا على وجوهِهِم وهُمْ في خوفٍ شديدٍ. 7فدَنا يَسوعُ ولَمَسَهُم وقالَ لهُم: "قوموا، لا تخافوا". 8فرَفَعوا عُيونَهُم، فما رأوا إلاّ يَسوعَ وحدَهُ.
9وبَينَما هُمْ نازلونَ مِنَ الجبَلِ، أوصاهُم يَسوعُ قالَ: "لا تُخبِروا أحدًا بِما رأيتُم إلى أنْ يقومَ اَبنُ الإنسانِ مِنْ بَينِ الأمواتِ". 10فسألَهُ التَّلاميذُ: "لِماذا يقولُ مُعَلَّمو الشَّريعَةِ: يجبُ أنْ يَجيءَ إيليّا أوَّلاً؟" 11فأجابَهُم: "نَعم، يَجيءُ إيليّا ويُصلِحُ كُلَ شَيءٍ. 12ولكنَّي أقولُ لكُم: جاءَ إيليّا فما عَرَفوهُ، بَلْ فَعلوا بِه على هَواهُم. وكذلِكَ اَبنُ الإنسانِ سيتألَّمُ على أيديهِم". 13ففَهِمَ التَّلاميذُ أنَّهُ كانَ يُكلَّمُهُم عَنْ يوحنّا المَعمدانِ.
يسوع يشفي صبـيُا فيه شيطان.
14ولمّا رَجَعُوا إلى الجُموعِ، أقبلَ إلَيهِ رَجُلٌ وسَجَدَ 15وقالَ لَه: "إرحمِ اَبني يا سيَّدي، لأنَّهُ يُصابُ بالصَّرَعِ ويتَألَّمُ ألمًا شديدًا. وكثيرًا ما يَقَعُ في النَّارِ وفي الماءِ. 16وجِئْتُ بِه إلى تلاميذِكَ، فما قَدِروا أنْ يَشفُوهُ". 17فأجابَ يَسوعُ: "أيٌّها الجِيلُ غَيرُ المُؤمِنِ الفاسِدُ! إلى متى أبْقى معكُم؟ وإلى متى أحتَمِلُكُم؟ قَدَّموا الصَّبـيَّ إليَّ هُنا!" 18واَنتهَرَهُ يَسوعُ، فَخرَجَ الشَّيطانُ مِنَ الصَّبـيَّ، فشُفِـيَ في الحالِ.
19فاَنفَرَدَ التَّلاميذُ بـيَسوعَ وسألُوهُ: "لِماذا عَجِزْنا نَحنُ عَنْ أنْ نَطرُدَهُ؟" 20فأجابَهُم: "لِقِلَّةِ إيمانِكُم! الحقَّ أقولُ لكُم: لو كانَ لكُم إيمانٌ بِمقدارِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لَقُلتُم لِهذا الجبَلِ: اَنتَقِلْ مِنْ هُنا إلى هُناكَ فَينتَقِلُ، ولَمَا عَجِزتُم عَنْ شَيءٍ. 21[وهذا الجِنْسُ مِنَ الشَّياطينِ لا يُطرَدُ إلاَّ بالصَّلاةِ والصَّومِ]".
يسوع ينبـئ مرّة ثانية بموته وقيامته.
22وكانَ التَّلاميذُ مُجتَمِعينَ في الجليلِ، فقالَ لهُم يَسوعُ: "سيُسلَّمُ اَبنُ الإنسانِ إلى أيدي النّاسِ، 23فيَقتُلونَهُ، وفي اليومِ الثّالِثِ يَقومُ مِنْ بَينِ الأمواتِ". فحَزِنَ التَّلاميذُ كثيرًا.
يسوع يدفع ضريبة الهيكل.
24وعِندَما رجَعَ يَسوعُ وتلاميذُهُ إلى كَفْرَناحومَ، جاءَ جُباةُ ضَريبةِ الهَيكَلِ إلى بُطرُسَ وسألوهُ: "أما يُوفي مُعَلَّمُكُم ضَريبةَ الهَيكَلِ؟" 25فأجابَ: "نعم". فلمّا دخَلَ بُطرُسُ إلى البَيتِ، عاجَلَهُ يَسوعُ بِقولِهِ: "ما رأيُكَ، يا سِمْعانُ؟ مِمَّنْ يأخُذُ مُلوكُ الأرضِ الجِبايَةَ أو الجِزيَةَ؟ أمِنْ أَبناءِ البِلادِ أم مِنَ الغُرَباءِ؟" 26فأجابَ بُطرُسُ: "مِنَ الغُرَباءِ". فقالَ لَه يَسوعُ: "إذًا، فالأبناءُ أحرارٌ في أمرِ إيفائِها. 27لكنَّنا لا نُريدُ أنْ نُحرِجَ أحدًا، فاَذهبْ إلى البحرِ وألقِ الصِنّارَةَ، وأَمسِكْ أوَّلَ سَمكَةٍ تَخرُجُ واَفتَحْ فمَها تَجِدْ فيهِ قِطعةً بأربعةِ دَراهمَ، فخُذْها واَدفَعْها إلَيهِم عنّي وعَنْكَ".
والآن ماذا نقول؟ ها هنا المسيح يختار ثلاثة فقط من حوارييه ويترك الباقين. على أى أساس؟ لا ندرى! وكان على رأس من اختارهم لصحبته فى هذا اللقاء بطرس، الذى لم يجفّ الحبر الذى كتبنا به وصف السيد المسيح له بأنه "شيطان" بعد! كذلك من المسائل المحيرة أن يُغْشَى على الحواريين الثلاثة ويسقطوا على وجوههم من الرعب لمجرد سماعهم صوتا من السماء المفروض أنه حين يعلن أن المسيح هو ابن الله فإنه لا يأتى بشىء جديد بعدما تنبه بطرس لتلك البنوة وأثنى عليه السيد المسيح بسببها، وهو ما يدفعنا إلى الاستغراب من رد فعلهم العنيف هذا، مع أن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا فى سطوع النور من وجه عيسى وملابسه ولا من ظهور موسى وإيليا بعد موتهما بمئات السنين وكلامهما مع سيدهم ما يخيفهم ويسقطهم على الأرض مغشيًّا عليهم، بَلْهَ أن يقتلهم من الرعب؟ والغريب أيضا أنهم بعد ذلك لما "دَنا يَسوعُ ولَمَسَهُم وقالَ لهُم: "قوموا، لا تخافوا". 8فرَفَعوا عُيونَهُم، فما رأوا إلاّ يَسوعَ وحدَهُ" لم يعلقوا بشىء على اختفاء موسى وإيليا ثم عودة الأمور كلها إلى وضعها الطبيعى، وكأن شيئا لم يكن (أكاد أضيف: "وبراءةُ الأطفال فى عينيهم" كى يكمل بيت نزار من قصيدة "أيظن؟")!
ومرة أخرى لماذا تحرص السماء على أن يكون إعلانها لبنوة المسيح لله سبحانه (تعالى الله عن ذلك) محصورا فى نطاق شخص واحد (فى المرة الأولى، وهو يحيى عليه السلام) أو ثلاثة فقط (الآن، وهم بطرس ويعقوب وأخوه يوحنا)؟ كيف ذلك يا ترى، وهذا هو لباب النصرانية كما يقولون؟ ثم من يا ترى الذين كانوا ينبغى أن يسمعوا هذا الإعلان؟ أهم التلاميذ الذين كانوا قد عرفوا ذلك كما رأينا وانتهى الأمر أم هم الجموع الذين لم يكونوا ينادونه إلا بــ"ابن داود" أو "ابن يوسف ومريم"؟ مسألة محيرة أخرى! وأشد منها تحييرا أن يقول لهم عيسى عليه السلام: "لا تُخبِروا أحدًا بِما رأيتُم إلى أنْ يقومَ اَبنُ الإنسانِ مِنْ بَينِ الأمواتِ". أليس فى ذلك ظلم للبشر، الذين يجب عليهم أن يؤمنوا ببنوة المسيح لله الآب، ومع هذا يحرص هذا الإله الآب أن يخفى عنهم تلك الحقيقة ولا يذيعها (آسف، بل الأحرى أن أقول: لا يُسِرّها) إلا لــ"مِنْ شخص واحد إلى ثلاثة على أكثر تقدير"، علاوة على أنهم آخر من يحتاجون إلى سماع هذه الحقيقة، التى ليست بحقيقة عندنا على الإطلاق، ولا يمكن أن تكون، مع إيماننا بأن لكل إنسان الحق فى أن يعتقد ما يشاء. أما قلة الأدب وشغل الصياعة فلا يسكت عليها حر! وعندنا أيضا قول المسيح إن إيليا قد جاء ومهّد له الطريق، وفَهْم الحواريين أن إيليا هو يحيى. كيف يا ترى؟ لا جواب! وقد تناولنا هذه النقطة من قبل وتساءلنا عن حل لهذه الأُحْجِيّة، ولكن عبثًا! ومن الواضح أن الخيوط قد دخل بعضها فى بعض ولم يعد أحد قادرا على تسليكها! ثم إن المسيح يؤكد أن إيليا (أى يحيى) يجىء ليصلح كل شىء. فما الذى أصلحه يحيى، وقد قتلوه (أو بتعبير المسيح: "فعلوا به على هواهم") قبل أن يكون عنده وقت لإصلاح أى شىء؟
فإذ ما مضينا إلى الأمام قليلا راعنا شَتْم المسيحُ نبىُّ الصبر والرحمة والرقة والوداعة والتواضع للمرأة التى أتته تستنجد بعطفه وقدرته على شفاء ابنها، بل شَتْمه الجيل كله متهما إياه بالفساد وعدم الإيمان دون أدنى سبب، إذ إن مجيئها إليه لا معنى له إلا أنها مؤمنة به، وإلا فلماذا جاءت؟ إنها لم تأت إليه على سبيل التحدى كما كان اليهود الخبثاء يفعلون، بل أتت من أجل شفاء ابنها. ثم إنه هو الذى بدأ عملية المعجزات هذه ولم يضربه أحد على يده كى يصنعها. كما أنه لا يليق به، وهو الله أو ابن الله، أن يشكو من طول تحمله للناس! وإلا فلأىّ رب آخر يمكن الناس أن يلجأوا إذا ما حزبهم أمر من الأمور؟ وإذا كان الرب يضيق صدره بهذه السرعة، فكيف نفسر أنه لم يضق صدره بتدبير شؤون العالم كله بما فيه من ملائكة وجن وبشر وحيوان وطير وحشرات ونباتات وجمادات وهواء منذ أول الخليقة حتى تلك اللحظة، لا بالاستجابة لبعض المرضى وأهليهم فقط؟
هذا عن المرأة وشَتْم المسيح لها هى والجيل كله دون سبب، أما عجز الحواريين عن شفاء الصبى فهذه "حكاية" تحتاج لكتب. كيف؟ لا أظنكم قد نسيتم ما قاله متّى فى الفصل العاشر من هذا الإنجيل مما قرأناه معا من قبل عن السلطة التى أعطاها المسيح تلاميذه كى يشفوا به كل مرض... إلخ. على كل حال هأنذا أعيد نقل الكلام لتقرأوه بأنفسكم مرة أخرى لأهميته: "ودَعا يَسوعُ تلاميذَهُ الاثنيَ عشَرَ وأعْطاهُم سُلطانًا يَطرُدونَ بِه الأرواحَ النَّجسَةَ ويَشْفونَ النّاسَ مِنْ كُلٌ داءٍ ومرَضٍ. 2وهذِهِ أسماءُ الرٌّسُلِ الاثني عشَرَ: أوَّلُهُم سِمْعانُ المُلَقَّبُ بِبُطرُسَ وأخوهُ أندَراوُسُ، ويَعقوبُ بنُ زَبدي وأخوهُ يوحنّا، 3وفيلُبٌّسُ وبَرْتولماوُسُ، وتوما ومتَّى جابـي الضَّرائبِ، ويَعقوبُ بنُ حَلْفَى وتَدّاوسُ، 4وسِمْعانُ الوطنيٌّ الغَيورُ، ويَهوذا الإسخَرْيوطيٌّ الذي أسلَمَ يَسوعَ. 5وأرسَلَ يَسوعُ هؤُلاءِ التلاميذَ الاثنَي عشَرَ وأوْصاهُم قالَ: "لا تَقصِدوا أرضًا وثَنِـيَّةً ولا تَدْخُلوا مدينةً سامِريَّةً، 6بَلِ اَذْهَبوا إلى الخِرافِ الضّالةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ، 7وبَشَّروا في الطَّريقِ بأنَّ مَلكوتَ السَّماواتِ اَقتَرَبَ. 8واَشفوا المَرضى، وأقيموا الموتَى، وطَهَّروا البُرْصَ، واَطرُدوا الشَّياطينَ. مجّانًا أخَذتُمْ، فمَجّانًا أعْطُوا. 9لا تَحمِلوا نُقودًا مِنْ ذَهَبٍ ولا مِنْ فِضَّةٍ ولا مِنْ نُحاسٍ في جُيوبِكُم، 10ولا كِيسًا لِلطَّريقِ ولا ثوبًا آخَرَ ولا حِذاءً ولا عصًا، لأنَّ العامِلَ يَسْتَحِقٌّ طعامَهُ. 11وأيَّةَ مدينةٍ أو قريةٍ دَخَلْتُم، فاَستَخبِروا عَنِ المُستحِقَّ فيها، وأقيموا عِندَهُ إلى أنْ تَرحَلوا".
وبعد، فما الذى تفهمونه ويفهمه كل إنسان من هذا النص؟ أليس معناه الذى لا يستطيع أحد أن يمارى فيه هو أنه، عليه الصلاة والسلام، قد وهبهم المقدرة على شفاء كل مرض وطرد أى شيطان يدخل جسم أى إنسان وإعادة كل من مات للحياة كرّة ثانية؟ هل هناك أى استثناء فى الكلام؟ ومع ذلك فها هم أولاء يفشلون سريعا فى المهمة التى انتدبهم لها وزودهم بأسباب النجاح اللازمة لها رغم كل ما قاله عن السلطان الذى أفاضه عليهم لشفاء جميع الأمراض وإخراج كل الشياطين من الأجساد الممسوسة. عجيبة! هل هو كلام عيال؟ إنه الرب، فكيف يتخلف وعد الرب، والرب ليس لأحد ولا لشىء سلطان عليه يعوق مشيئته؟ ثم إنه قد أعطاهم ذلك السلطان بملء إرادته، ولم يأخذوه منه بسيف الحياء ولا حتى بسيف من سيوف الموالد الخشبية. لقد تحجج المسيح لهم بأن هذا الصنف من العفاريت يحتاج إلى صوم وصلاة، وهذه أول مرة نعرف فيها أن العفاريت التى تسكن الأجساد أصناف وألوان، وكأننا بصدد إصلاح سيارة مرسيدس، فلا يستطيع إصلاحها ميكانيكى الفيات! طيب، فهل صلى هو وصام ساعتها؟ لقد كانوا جميعا معا، وما يجرى على واحد منهم يجرى على الباقين. كما أن كاتب الإنجيل إذا صام المسيح أو صلى فإنه ينص على ذلك، وهذه المرة لم ينص على شىء، وليس فى السياق ما يمكن أن يشير إلى أنه، صلى الله عليه وسلم، كان قد صلى أو صام. ثم أليس هو الذى منعهم من الصيام عندما سأله تلاميذ يحيى عليه السلام عن عدم صيامهم كما يفعلون هم واليهود فكان جوابه أنهم الآن مع العريس (يقصد أنهم معه)، ولا يليق أن يصوم أهل العريس ما دام موجودا بينهم؟ ألم يكن وقتها يعلم أنهم سوف يحتاجون إلى الصوم فى طرد هذا النوع من الشياطين؟ فلماذا لم ينبههم إلى ذلك منعا للإحراج؟: "14وجاءَ تلاميذُ يوحنّا المَعمَدانِ إلى يَسوعَ. وقالوالَه:"لِماذا نَصومُ نَحنُ والفرَّيسيّونَ كثيرًا، وتلاميذُكَ لا يَصومونَ؟ 15فأجابَهُم يَسوعُ: "أتَنتَظِرونَ مِنْ أهلِ العَريسِ أنْ يَحزَنوا، والعَريسُ بَينَهُم؟ لكنْ يَجيءُ وقتٌ يُرفَعُ فيهِ العَريسُ مِنْ بَينِهِم فيَصومونَ".
ولزيادة الطين بِلَّةً يأبى متّى إلا أن يسبّهم المسيح ويتهمهم فى إيمانهم، وهى الشتيمة الجاهزة دوما على لسانه طبقا لما نقرؤه فى الإنجيل: "سألُوهُ: "لِماذا عَجِزْنا نَحنُ عَنْ أنْ نَطرُدَهُ؟" 20فأجابَهُم: "لِقِلَّةِ إيمانِكُم! الحقَّ أقولُ لكُم: لو كانَ لكُم إيمانٌ بِمقدارِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لَقُلتُم لِهذا الجبَلِ: اَنتَقِلْ مِنْ هُنا إلى هُناكَ فَينتَقِلُ، ولَمَا عَجِزتُم عَنْ شَيءٍ". وأخيرا فإنا نتساءل: إذا كان الحواريون، وهم خلاصة الخلاصة، لا يتمتعون ولا بمقدار حبة من خردل من الإيمان، فمن الذين آمنوا إذن بالسيد المسيح؟ لا ليس هذا هو السيد المسيح الذى وصفه القرآن فقال على لسانه عليه السلام فى سورة "مريم": "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)". ثم إذا قلنا إن كتابهم قد حُرِّف شتموا نبينا وقالوا عنا إننا أولاد زوانٍ ومنافقون وكفرة وشهوانيون وقتلة وخوّفونا من "ماما أمريكا أم رجل مسلوخة"، مع أن الذى أعرفه أن أمهاتنا أحسن من أمهاتهم ومن جداتهم أيضا!
ويتبقى من هذا الفصل مما نريد أن نتناوله: الحكايةُ الطريفةُ التالية: "24وعِندَما رجَعَ يَسوعُ وتلاميذُهُ إلى كَفْرَناحومَ، جاءَ جُباةُ ضَريبةِ الهَيكَلِ إلى بُطرُسَ وسألوهُ: "أما يُوفي مُعَلَّمُكُم ضَريبةَ الهَيكَلِ؟" 25فأجابَ: "نعم". فلمّا دخَلَ بُطرُسُ إلى البَيتِ، عاجَلَهُ يَسوعُ بِقولِهِ: "ما رأيُكَ، يا سِمْعانُ؟ مِمَّنْ يأخُذُ مُلوكُ الأرضِ الجِبايَةَ أو الجِزيَةَ؟ أمِنْ أَبناءِ البِلادِ أم مِنَ الغُرَباءِ؟" 26فأجابَ بُطرُسُ: "مِنَ الغُرَباءِ". فقالَ لَه يَسوعُ: "إذًا، فالأبناءُ أحرارٌ في أمرِ إيفائِها. 27لكنَّنا لا نُريدُ أنْ نُحرِجَ أحدًا، فاَذهبْ إلى البحرِ وألقِ الصِنّارَةَ، وأَمسِكْ أوَّلَ سَمكَةٍ تَخرُجُ واَفتَحْ فمَها تَجِدْ فيهِ قِطعةً بأربعةِ دَراهمَ، فخُذْها واَدفَعْها إلَيهِم عنّي وعَنْكَ". ألم يخالف المسيح اليهود فى كل شىء: الشريعة وغسل الأيدى والقَسَم والصوم... إلخ؟ ألم يعالنهم بهذا دون مواربة؟ ألم يمطر عليهم من اللعنات أكواما تطول السماء؟ ألم يقل لهم: "يا أولاد الأفاعى! يا مراؤون!"؟ ألم يهجم عليهم فى الهيكل وطردهم منه بعد أن قلب موائدهم وسبَّهم أشنع سَبّ؟ فما الذى جعله يعمل لهم كل هذا الخاطر إذن بعد أن أصبح موقفه منهم واضحا لا لبس فيه؟ ثم إذا كان لا بد من الدفع (أو الحبس!) فلماذا هذه اللفة الطويلة من أخذ بطرس الصنارة وذهابه للبحر وإلقائه إياها فى الماء وإخراجه سمكة وفتحه فمها ليعثر فى نهاية المطاف على أربعة دراهم هى ضريبة الهيكل؟ ألم يكن من الأفضل والأسرع والأوجز والأنجز أن يمد يده فى الهواء ويكبش ويعطى الجابى ما يريد ما دامت المسألة ترضية خواطر؟ كما أن كاتب الإنجيل قد اقتصر فى كلامه على الضريبة الخاصة بعيسى وبطرس، ولم يقل لنا كيف دبَّر باقى التلاميذ المبلغ المستحق عليهم. أم نقول: البركة فى البحر والسمك، والسمك، والحمد لله، فى البحر بلا عدد؟ كذلك لم يقل لنا كاتب الإنجيل لماذا لم يتذكر جابى الضرائب المسيحَ وتلاميذَه فى مسألة الدفع إلا الآن! والله حاجة تطير العقل من الدماغ! وأخيرا دعونا من هذا كله وتعالَوْا نتساءل: أليس المسيح هو الله أو ابن الله؟ فلماذا يتعين عليه أن يخضع لسدنة الهيكل وقوانينهم؟ منذ متى يخضع الرب للعبد؟ ودعونا من هذه أيضا: ألم تأت النصرانية تحديا لسلطة الهيكل ورجال الهيكل المنافقين؟ فلماذا عندما جَدَّ الجِدّ ينسحب السيد المسيح بحجة المجاملة والرغبة فى عدم الإحراج؟ هل يصح فى الأديان تخلى أصحابها عن مبادئها من أجل هذا الاعتبار؟ وأخيرا هل يصح أن يكون الرد بــ"نعم" فى جواب الإثبات عن سؤال منفى كما حدث فى سؤال جباة الضرائب لبطرس وجوابه لهم؟ الصواب هو استخدام "بلى" فى هذه الحالة بدلا من "نعم"!
الفصل الثامن عشر:
"الأعظم في ملكوت السماوات.
ودَنا التَّلاميذُ في ذلِكَ الوَقتِ إلى يَسوعَ وسألوهُ: "مَنْ هوَ الأعظَمُ في مَلكوتِ السَّماواتِ؟"
2فدَعا يَسوعُ طِفلاً وأقامَهُ في وسَطِهِم 3وقالَ: "الحقَّ أقولُ لكُم: إنْ كُنتُم لا تَتَغيَّرونَ وتَصيرونَ مِثلَ الأطفالِ، فلن تَدخُلوا مَلكوتَ السَّماواتِ. 4مَن اَتَّضعَ وصارَ مِثلَ هذا الطَّفلِ، فهوَ الأعظمُ في مَلكوتِ السَّماواتِ. 5ومَنْ قَبِلَ طِفلاً مِثلَهُ باَسمي يكونُ قبِلَني.
6مَنْ أوقعَ أحَدَ هؤُلاءِ الصَّغارِ المؤمنينَ بـي في الخَطيئةِ، فخَيرٌ لَه أنْ يُعلَّقَ في عُنُقهِ حجَرُ طَحْنٍ كبـيرٍ.يُرمى في أعماقِ البحرِ. 7الويلُ لِلعالمِ ممّا يُوقِـعُ الناسَ في الخطيئةِ! ولا بُدَّ أنْ يَحدُثَ ما يُوقِـعُ في الخَطيئةِ، ولكنَّ الويلَ لمَنْ يُسَبَّبُ حُدوثَهُ!
8فإذا أوقَعَتكَ يَدُكَ أو رِجلُكَ في الخَطيئةِ، فاَقْطَعْها وألْقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَدخُلَ الحياةَ الأبديَّةَ ولكَ يدٌ أو رِجلٌ واحدةٌ، مِنْ أنْ يكونَ لكَ يَدانِ ورِجلانِ وتُلقى في النّارِ الأبديَّةِ. 9وإذا أوقَعَتكَ عَينُكَ في الخَطيئةِ، فاَقلَعْها وألقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَدخُلَ الحياةَ الأبديَّةَ ولكَ عَينٌ واحدةٌ، مِنْ أنْ يكونَ لكَ عَينانِ وتُلقى في نارِ جَهنَّمَ.
10إيّاكُم أنْ تَحتقروا أحدًا مِنْ هَؤلاءِ الصَّغارِ. أقولُ لكُم: إنَّ ملائِكَتَهُم في السَّماواتِ يُشاهِدونَ كُلَ حِينٍ وجهَ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 11[فاَبنُ الإنسانِ جاءَ ليُخـلَّصَ الهالِكينَ].
الخروف الضال.
12"وما قولُكُم؟ إنْ كانَ لِرجلٍ مِئَةُ خَروفٍ وضَلَ واحدٌ مِنها، ألا يَترُكُ التَّسعةَ والتَّسعينَ في الجِبالِ ويَبحَثُ عَن الخَروفِ الضَّالٌ؟ 13وإذا وجَدَهُ، ألا يَفرَحُ بِه؟ الحقَ أقولُ لكُم: إنَّهُ يَفرَحُ بِه أكثرَ مِنْ فَرَحِهِ بالتَّسعةِ والتَّسعينَ الَّتي ما ضَلَّت. 14وهكذا لا يُريدُ أبوكُمُ الَّذي في السَّماواتِ أنْ يَهلِكَ واحدٌ مِنْ هَؤلاءِ الصَّغارِ.
التسامح الأخوي.
15 "إذا خَطِـئَ أخوكَ إليكَ، فاَذهَبْ إلَيهِ وعاتِبْهُ بَينَكَ وبَينَهُ، فإذا سَمِعَ لكَ تكونُ رَبِحتَ أخاكَ. 16وإنْ رَفَض أنْ يَسمعَ لكَ، فَخُذْ معَكَ رَجُلاً أو رَجُلينِ، حتَّى تُثْبِتَ كُلَ شيءٍ بِشَهادَةِ شاهِدَينِ أو ثلاثَةٍ. 17فإنْ رَفَضَ أنْ يَسمَعَ لهُم، فقُلْ لِلكنيسةِ، وإنْ رَفَضَ أنْ يَسمَعَ لِلكنيسةِ، فَعامِلْهُ كأنَّهُ وثَنيٌّ أو جابـي ضرائبَ. 18الحقَّ أقولُ لكُم: ما تَرْبُطونَهُ في الأرضِ يكونُ مَربوطًا في السَّماءِ، وما تَحُلٌّونَهُ في الأرضِ يكونُ مَحلولاً في السَّماءِ.
19الحقَّ أقولُ لكُم: إذا اَتَّفَقَ اَثنانِ مِنكُم في الأرضِ أنْ يَطلُبا حاجةً، حَصَلا علَيها مِنْ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 20فأينَما اَجتمعَ اَثنانِ أو ثلاثَةٌ باَسمي، كُنتُ هُناكَ بَينَهُم".
مثل العبد الذي لا يغفر.
21فدَنا بُطرُسُ وقالَ لِـيَسوعَ: "يا سيَّدُ، كَم مرَّةً يَخطَأُ إليَّ أخي وأَغفِرُ لَهُ؟ أسبعَ مَرّاتٍ؟"
22فأجابَهُ يَسوعُ: "لا سَبعَ مرّاتٍ، بل سَبعينَ مرَّةً سبعَ مرّاتٍ. 23فمَلكوتُ السَّماواتِ يُشبِهُ مَلِكًا أرادَ أنْ يُحاسِبَ عَبـيدَهُ. 24فلمّا بَدَأَ يُحاسِبُهُم، جِـيءَ إلَيهِ بِواحدٍ مِنهُم علَيهِ عَشَرةُ آلافِ دِرهَمِ مِنَ الفِضَّةِ. 25وكانَ لا يَملِكُ ما يُوفي، فأمَرَ سيَّدُهُ بأنْ يُباعَ هوَ واَمرأتُهُ وأولادُهُ وجميعُ ما يَملِكُ حتَّى يُوفيَهُ دَينَهُ. 26فركَعَ العبدُ لَه ساجدًا وقالَ: أمهِلني فأُوفيَكَ كُلَ ما لك علَيَّ! 27فأشفَقَ علَيهِ سيَّدُهُ وأطلَقَهُ وأعفاهُ مِنَ الدَّينِ. 28ولمّا خرَجَ الرَّجلُ لَقِــيَ عَبْداً مِنْ أصحابِه كانَ لَه علَيهِ مئةُ دينارٍ، فأمسكَهُ بِعُنُقِهِ حتَّى كادَ يَخنُقُهُ وهوَ يقولُ لَه: أوفِني ما لي علَيكَ! 29فركَعَ صاحِبُهُ يَرجوهُ ويقولُ: أمْهِلْني، فأوفيكَ. 30فما أرادَ، بل أخَذَهُ وألقاهُ في السَّجنِ حتَّى يُوفيَهُ الدَّينَ.
31ورأى العَبـيدُ أصحابُهُ ما جرى، فاَستاؤوا كثيرًا وذَهَبوا وأَخْبَروا سيَّدَهُم بِكُلٌ ما جرى. 32فدَعاهُ سيَّدُهُ وقالَ لَه: يا عَبدَ السُوءِ! أعْفَيْــتُكَ مِنْ دَينِكَ كُلَّهِ، لأنَّكَ رَجَوْتَني. 33أفما كانَ يَجبُ علَيكَ أنْ تَرحَمَ صاحِبَكَ مِثلَما رحَمتُكَ؟
34وغَضِبَ سيَّدُهُ كثيرًا، فسَلَّمَهُ إلى الجَلاَّدينَ حتى يُوفِـيَهُ كُلَ ما لَه علَيهِ. 35هكذا يَفعَلُ بِكُم أبـي السَّماويٌّ إنْ كانَ كُلُّ واحدٍ مِنكُم لا يَغفِرُ لأخيهِ مِنْ كُلٌ قَلبِهِ".
ألعل المسيح، عليه السلام، يريد أن يقول إن الأطفال، لكونهم غير مكلَّفين، سوف يدخلون الجنة بغير حساب؟ هذا أقرب ما أستطيع أن أفكر فيه. لكن هناك شيئا يحوك فى الصدر من جَرّاء ما قاله صلى الله عليه وسلم، لا من ناحيته هو، فكلا وحاشا، بل من ناحية ما يقوله الذين يَرَوْن أنهم على سُنّته. ألا وهو توعده من يرتكب خطيئة بالنار الأبدية، ومن هنا كانت نصيحته للخاطئ أن يقلع عينه أو يقطع رجله أو يده التى اجترحت الخطيئة خيرا له من أن يُلْقَى به كله فى الجحيم. ووجه الحيرة أنهم يقولون إنه، عليه السلام، قد جاء ليفدى البشرية من خطاياها وأخطائها. فلماذا الحساب والعقاب إذن؟ أو لماذا التجسد والصلب والموت إن لم تكن هناك كفارة؟ هذى القطة، فأين اللحم؟ أو هذا اللحم، فأين القطة؟ إنهم يصدعون أدمغتنا بالمقارنة البلهاء بين الله فى الإسلام ويسوع الرحيم الحنون الذى لا يعاقب أحدا، على عكس ربنا الذى يزعمون أنه قاس لا يفلت شيئا عند الحساب. أترى الرب كما يصوره كاتب الإنجيل فى النص الحالىّ رحيما ودودا يغفر لعباده كل شىء؟ ثم ألم يسمعوا بقوله تعالى: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (البقرة/ 286)، "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا" (النساء/ 26- 28)، "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا" (النساء/ 110)، "إن الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ" (هود/ 114)، "قال: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ؟" (الحجر/ 56) "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر/ 53)...؟ ألم يقرأوا هذه الأحاديث النبوية الشريفة: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة: فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" (أى أن الذنوب درجات، وليس الأمر سبهللا دون ضابط، والعبرة على كل حال بمقارفة الخطيئة لا بمجرد التفكير فيها أو التطلع بالجارحة ناحيتها)، "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال :لا، فقتله فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره"، "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار"، "عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أذنب ذنبا فقال: رب، إني أذنبت ذنبا أو قال: عملت عملا ذنبا، فاغفره. فقال عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر أو أذنب ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر أو أذنب ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء"، و"عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"...؟
وبطبيعة الحال فلست أقصد أن الإسلام لا يعرف العقاب فى الآخرة. كلا، إنه يعرفه، إلا أن الأولوية فيه لتضعيف الأجر على الحسنات، فى الوقت الذى تقف المؤاخذة على السيئات عند حدود المِثْل على أسوإ تقدير، وقد تُغْفَر السيئة، بل قد تتحول إلى حسنة فى بعض الظروف. قال تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة/ 261)، "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (الأنعام/ 160)، "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (القصص/ 84)، "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (غافر/ 40). ومن أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة. فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة. فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة"، "يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ثم يقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: يا رب، أعرف. حتى إذا بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ قال: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. قال: ثم يُعْطَى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه"، و"عن أبي هريرة (أبى هريرة، الذى يجنّن زيكو كلما جاءت سيرته، إذ يذكّره فى الحال بأن دين التوحيد قد قصم ظهر وثنياته وخرافاته الخِرْفانية، فترى زيكو يتقلقل ويأكله دبره وتشتعل فيه النار)، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرِّقوه ثم أَذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمي.ن فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب، وأنت أعلم. قال: فغفر له"، "من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي. لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة".
وبالنسبة لِمَثَل الخروف الضالّ فهناك مثل يشبهه ضربه الرسول الكريم فى نفس المعنى، وكلا المَثَلَيْن جميل ورائع، لكن رواية الحديث التى أستشهد بها الآن أروع لما فيها فى جزئها الأخير من هدم للحاجز الذى قد يقف حائلا بين بعض الناس ومولاهم. عن أنس بن مالك رضى الله عنه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأَيِسَ منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أَيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح". الحق أننى، منذ قرأت هذا الحديث فى شبابى لأول مرة، وأنا مفتون به أشد الفُتُون، إذ أجد الرسول لا يتحرج أن يقول بلسان صاحب الناقة الضائعة التى عادت له فى خطابه لربه: "شكرا يا عبدى. أنا ربك!"، وذلك من شدة الفرح، وكأنه يخاطب صديقا له يمكن أن يغلط فى الكلام إليه دون أن ترتجّ الأرض والسماوات. فأى تقريب بين الله والإنسان أحسن وأكثر حنانا ودفئا وبساطة وأَرْيَحِيّةً من هذا التقريب؟ أيذكر القراء الحديث الذى يقول فيه الرسول الكريم إن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فإنه لا يعاقَب ولا يعاتَب ولا حتى يُكْتَفَى بالعفو عنه، بل يأخذ أجرا (واحدا)؟ أتلحظون الصلة بين الحديثين؟ ثم فلنلاحظ قول السيد المسيح لمخاطَبيه عن ربه وربهم عز وجل: "أبوكُمُ الَّذي في السَّماواتِ"، ولا أزيد هنا عن التنبيه، مجرد التنبيه!
وقد سبق أن قال المسيح، فيما رواه صدقًا أو كذبًا أو وَهْمًا متّى وغيره فى أناجيلهم: "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"، وقلنا إن هذه الدعوة هى تشنج مثالى لا يصلح لحياة البشر، بل يشجع كل مجرم على أن يتمادى فى إجرامه وبطشه وقلة أدبه كما يفعل مجرمو المهجر مثلا كلما رَأَوُا المسلمين يسكتون على سفالتهم. وها نحن أولاء الآن نسمع نغمة أخرى: 15 "إذا خَطِـئَ أخوكَ إليكَ، فاَذهَبْ إلَيهِ وعاتِبْهُ بَينَكَ وبَينَهُ، فإذا سَمِعَ لكَ تكونُ رَبِحتَ أخاكَ. 16وإنْ رَفَض أنْ يَسمعَ لكَ، فَخُذْ معَكَ رَجُلاً أو رَجُلينِ، حتَّى تُثْبِتَ كُلَ شيءٍ بِشَهادَةِ شاهِدَينِ أو ثلاثَةٍ. 17فإنْ رَفَضَ أنْ يَسمَعَ لهُم، فقُلْ لِلكنيسةِ، وإنْ رَفَضَ أنْ يَسمَعَ لِلكنيسةِ، فَعامِلْهُ كأنَّهُ وثَنيٌّ أو جابـي ضرائبَ. 18الحقَّ أقولُ لكُم: ما تَرْبُطونَهُ في الأرضِ يكونُ مَربوطًا في السَّماءِ، وما تَحُلٌّونَهُ في الأرضِ يكونُ مَحلولاً في السَّماءِ". إننا هنا أمام عتاب وقَعْر مجلس والذى منه، ولسنا مع مصفوعٍ على خده الأيمن يدير على الفور خده الأيسر ليأخذ حظه مما لذ وطاب من الصفع (والذى يفرقع لا يُحْسَب)، ثم يستدير ليعطى ضاربه أردافه لينال فيها كم شَلُّوتا مُعْتَبَرًا كى يكون نصيبه فى ملكوت السماوات عظيما! وبطبيعة الحال فإن الكلام هنا أقرب إلى الطبيعة البشرية، وإن كان لا بد من القول بكل قوة وصراحة ودون ثعلبيات خبيثة إنه لا بد من القانون والقضاء والشرطة والمحاكم إذا لم تنجع الحسنى فى إيقاف المعتدى عند حده، بخلاف ما لو كان الخطأ من البساطة بحيث يمكن التغاضى عنه، أو وقع من ضعيف طائش لا يقصد العدوان المجتاح مثلا.
أما كلام المسيح التالى عن العبد المتعنت الذى يحب أن يُغْفَر له ولا يحب أن يغفر هو لأحد: "مَلكوتُ السَّماواتِ يُشبِهُ مَلِكًا أرادَ أنْ يُحاسِبَ عَبـيدَهُ. 24فلمّا بَدَأَ يُحاسِبُهُم، جِـيءَ إلَيهِ بِواحدٍ مِنهُم علَيهِ عَشَرةُ آلافِ دِرهَمِ مِنَ الفِضَّةِ. 25وكانَ لا يَملِكُ ما يُوفي، فأمَرَ سيَّدُهُ بأنْ يُباعَ هوَ واَمرأتُهُ وأولادُهُ وجميعُ ما يَملِكُ حتَّى يُوفيَهُ دَينَهُ. 26فركَعَ العبدُ لَه ساجدًا وقالَ: أمهِلني فأُوفيَكَ كُلَ ما لك علَيَّ! 27فأشفَقَ علَيهِ سيَّدُهُ وأطلَقَهُ وأعفاهُ مِنَ الدَّينِ. 28ولمّا خرَجَ الرَّجلُ لَقِــيَ عَبْداً مِنْ أصحابِه كانَ لَه علَيهِ مئةُ دينارٍ، فأمسكَهُ بِعُنُقِهِ حتَّى كادَ يَخنُقُهُ وهوَ يقولُ لَه: أوفِني ما لي علَيكَ! 29فركَعَ صاحِبُهُ يَرجوهُ ويقولُ: أمْهِلْني، فأوفيكَ. 30فما أرادَ، بل أخَذَهُ وألقاهُ في السَّجنِ حتَّى يُوفيَهُ الدَّينَ. 31ورأى العَبـيدُ أصحابُهُ ما جرى، فاَستاؤوا كثيرًا وذَهَبوا وأَخْبَروا سيَّدَهُم بِكُلٌ ما جرى. 32فدَعاهُ سيَّدُهُ وقالَ لَه: يا عَبدَ السُوءِ! أعْفَيْــتُكَ مِنْ دَينِكَ كُلَّهِ، لأنَّكَ رَجَوْتَني. 33أفما كانَ يَجبُ علَيكَ أنْ تَرحَمَ صاحِبَكَ مِثلَما رحَمتُكَ؟34وغَضِبَ سيَّدُهُ كثيرًا، فسَلَّمَهُ إلى الجَلاَّدينَ حتى يُوفِـيَهُ كُلَ ما لَه علَيهِ. 35هكذا يَفعَلُ بِكُم أبـي السَّماويٌّ إنْ كانَ كُلُّ واحدٍ مِنكُم لا يَغفِرُ لأخيهِ مِنْ كُلٌ قَلبِهِ"، فهو يذكّرنا بقوله تعالى: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور/ 22)، وإن كان العفو فى الآية يذهب مذهبا أبعد، إذ هو عفو من المحسن عمن يسىء إليه رغم تكرر إحساناته له، ثم لا يتوقف الأمر عند حد العفو، بل يحض الله سبحانه المحسن (وهو أبو بكر الصديق فى المقام الأول، ثم سائر المسلمين بعد ذلك) على الاستمرار رغم ذلك فى الإحسان والعطاء، وكأن شيئا لم يكن!
الفصل التاسع عشر:
"الزواج والطلاق.
ولمّا أتَمَّ يَسوعُ هذا الكلامَ، تَرَكَ الجَليلَ وجاءَ إلى بِلادِ اليَهودِيَّةِ مِنْ عَبرِ الأُردُنِ. 2فتبِعَتْهُ جُموعٌ كبـيرةٌ، فشَفاهُم هُناكَ.
3ودَنا إلَيهِ بَعضُ الفَرّيسيّينَ وسألوهُ لِـيُحرِجوهُ: "أيَحِلُّ لِلرَّجُلِ أنْ يُطلَّقَ اَمرأتَهُ لأيَّ سَبَبٍ كانَ؟" 4فأجابَهُم: "أما قَرأْتُم أنَّ الخالِقَ مِنَ البَدءِ جعَلَهُما ذكَرًا وأُنثى 5وقالَ: لذلِكَ يَترُكُ الرّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويَتَّحِدُ باَمرأتَهِ، فيَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا؟ 6فلا يكونانِ اثنينِ، بل جسَدٌ واحدٌ. وما جمَعَهُ الله لا يُفرَّقُهُ الإنسانُ".
7وسألَه الفَرّيسيّونَ: "فلِماذا أوصى موسى بأنْ يُعطيَ الرَّجُلُ اَمرأتَهُ كِتابَ طَلاقٍ فتُطلَّقُ؟" 8فأجابَهُم يَسوعُ: "لِقساوَةِ قُلوبِكُم أجازَ لكُم موسى أنْ تُطلَّقوا نِساءَكُم. وما كانَ الأمرُ مِنَ البَدءِ هكذا. 9أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ اَمرأتَهُ إلاّ في حالَةِ الزَّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى".
10فقالَ لَه تلاميذُهُ: "إذا كانَت هذِهِ حالُ الرَّجُلِ معَ المرأةِ، فخَيرٌ لَه أنْ لا يتَزوَّجَ". 11فأجابَهُم يَسوعُ: "لا يَقبلُ هذا الكلامَ إلاّ الَّذينَ أُعطِـيَ لهُم أن يَقبَلوهُ. 12ففي النّاسِ مَنْ ولَدَتْهُم أُمَّهاتُهُم عاجِزينَ عَنِ الزَّواجِ، وفيهِم مَنْ جَعلَهُمُ النّاسُ هكذا، وفيهِم مَنْ لا يَتزَوَّجونَ مِنْ أجلِ مَلكوتِ السَّماواتِ. فمَنْ قدِرَ أنْ يَقبَل فليَقبَلْ".
يسوع يبارك الأطفال.
13وجاءَهُ بَعضُ النّاسِ بأطفالٍ ليَضَعَ يَدَيْهِ علَيهِم ويُصلّيَ، فاَنتهَرَهُمُ التَّلاميذ. 14فقالَ يَسوعُ: "دَعُوا الأطفالَ يأْتُونَ إليَّ ولا تَمنَعوهُم، لأنَّ لأمثالِ هؤلاءِ مَلكوتَ السَّماواتِ". 15ووضَعَ يَدَيْهِ علَيْهِم ومَضى مِنْ هُناكَ.
الشاب الغني.
16 وأقبَلَ إليهِ شابٌ وقالَ لَه: "أيٌّها المُعَلَّمُ، ماذا أعمَلُ مِنَ الصَّلاحِ لأنالَ الحَياةَ الأبدِيَّةَ؟" فأجابَهُ يَسوعُ: "17 لِماذا تَسألُني عمّا هوَ صالِـحٌ؟ لا صالِـحَ إلاّ واحدٌ. إذا أَرَدْتَ أنْ تَدخُلَ الحياةَ فاَعمَلْ بالوصايا". 18فقالَ لَه: "أيَّ وصايا؟" فقالَ يَسوعُ: "لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بالزٌّورِ، 19أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ، أحِبَّ قريبَكَ مِثلما تُحبٌّ نَفسَكَ".
20فقالَ لَه الشّابُ: "عَمِلتُ بِهذِهِ الوصايا كُلَّها، فما يَعوزُني؟" 21أجابَهُ يَسوعُ: "إذا أردتَ أنْ تكونَ كامِلاً، فاَذهَبْ وبِـــــعْ ما تملِكُهُ ووَزَّعْ ثمَنَهُ على الفُقراءِ، فيكونَ لكَ كنزٌ في السَّماواتِ، وتعالَ اَتْبَعْني!"
22فلمّا سَمِعَ الشابُ هذا الكلامَ. مَضى حَزينًا لأنَّهُ كانَ يملِكُ أموالاً كثيرةً.
23وقالَ يَسوعُ لِتلاميذِهِ: "الحقَّ أقولُ لكُم: يَصعُبُ على الغنيَّ أنْ يَدخُلَ مَلكوتَ السَّماواتِ. 24بل أقولُ لكُم: مُرورُ الجمَلِ في ثَقبِ الإبرةِ أسهَلُ مِنْ دُخولِ الغنيَّ مَلكوتَ الله".
25فتعجَّبَ التَّلاميذُ كثيرًا مِنْ هذا الكلامِ وقالوا: "مَنْ يُمكِنُهُ أنْ يَخلُصَ، إذًا؟" 26فنَظَرَ إلَيهِم يَسوعُ وقالَ لهُم: "هذا شيءٌ غيرُ مُمكنٍ عِندَ النّاسِ، أمّا عِندَ الله فكُلُّ شيءٍ مُمكِنٌ".
27وقالَ لَه بُطرُسُ: "ها نَحنُ تَركْنا كُلَ شيءٍ وتَبِعْناكَ، فماذا يكونُ نَصيبُنا؟"
28فأجابَ يَسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: متى جلَسَ اَبنُ الإنسانِ على عَرشِ مَجدِهِ عِندَ تَجديدِ كُلٌ شيءٍ، تَجلِسونَ أنتُم الَّذينَ تَبِعوني على اَثني عشَرَ عَرشاً لتَدينوا عَشائرَ إِسرائيلَ الاثني عشَرَ. 29وكُلُّ مَنْ ترَكَ بـيوتًا، أو إخوَةً أو أخواتٍ، أو أبًا، أو أُمُا، أو أبناءً، أو حُقولاً مِنْ أجلِ اَسمي، يَنالُ مِئةَ ضِعفٍ ويَرِثُ الحياةَ الأبديَّةَ. 30وكثيرٌ مِنَ الأوَّلينَ يَصيرونَ آخِرينَ، ومِنَ الآخِرينَ يَصيرونَ أوَّلينَ".
الحق أننى لا ينقضى عجبى كلما قرأت أن الله أو ابنه (أى عيسى علي السلام حسبما يردد القوم) أكل أو شرب أو تعب أو أُحْرِج أو دخل أو خرج أو صلى وصام، ودعونا من جوعه وظمئه ونومه وتبوّله وتبرّزه وقيئه وخوفه وقلقه وتردده ودفعه ضريبة الهيكل خوفا من اليهود... إلى آخر ما يصنع البشر، وأتساءل: يا إلهى، ما الذى دفع بالقوم إلى هذه المضايق والمآزق، وعندهم سَعَةٌ وسيعةٌ فى التوحيد الذى أتى به سيد الأنبياء والمرسلين؟ كيف يا إلهى يأكل الله ويشرب وينام ويقلق ويدخل ويخرج ويعمل حسابا لهذا ولذاك ويشعر بالحرج...؟ ما الفرق بين من يؤمن بهذا إذن وبين الوثنيين؟
وبالنسبة لما نسب إليه من قوله عن الزواج والطلاق، وهو الجواب الذى أجاب به على الفريسيين فى النص التالى: "3ودَنا إلَيهِ بَعضُ الفَرّيسيّينَ وسألوهُ لِـيُحرِجوهُ: "أيَحِلُّ لِلرَّجُلِ أنْ يُطلَّقَ اَمرأتَهُ لأيَّ سَبَبٍ كانَ؟" 4فأجابَهُم: "أما قَرأْتُم أنَّ الخالِقَ مِنَ البَدءِ جعَلَهُما ذكَرًا وأُنثى 5وقالَ: لذلِكَ يَترُكُ الرّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويَتَّحِدُ باَمرأتَهِ، فيَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا؟ 6فلا يكونانِ اثنينِ، بل جسَدٌ واحدٌ. وما جمَعَهُ الله لا يُفرَّقُهُ الإنسانُ"، فعند التحليل لا يثبت على المحك رغم ما قد يبدو عليه من مثالية. إن الكلام عما جمعه الله فلا يفرقه إنسان هو فى الواقع كلام لا معنى له، إذ إن الذى يجمع هو الذى يفرق فى الحالين، وهو الله بمعنى، والناس بمعنى آخر: فالواقع أنه ما من شىء إلا ووراءه مشيئة الله، صغيرا كان ذلك الشىء أو كبيرا، جليلا أو تافها، ومنه الزواج والطلاق. ثم إنه ما من شىء يحدث فى دنيا العلاقات الاجتماعية إلا كان الناس هم فاعليه، ومنه الزواج والطلاق أيضا. فالخاطب يذهب لخطبة امرأة وبعد الاتفاق على كل شىء يأتى بالمأذون والطعام والفرقة التى تحيى الليلة...، وكل هذا عمل بشرى، وإن كانت وراءه مشيئة الله فى ذات الوقت، ولولا هذه المشيئة ما تم شىء فى العالم. لكن ليس معنى المشيئة الإلهية أن الرجل والمرأة ينامان ثم يقومان من النوم فيجدان نفسيهما ملتصقين بغراء إلهى كما يوحى النص. وبالمثل عندما يقع طلاق فإنه، وإن كان البشر من زوج ومأذون... إلخ هم مُوقِعيه أيضا، فإن وراء ذلك مشيئة الله، ولولا هذه المشيئة ما وقع طلاق.
إذن فمشيئة الله موجودة فى كل الأحوال زواجا وطلاقا. ثم ما الفرق بين الطلاق المرفوض فى النصرانية والطلاق المقبول؟ هل نقول إن الله موجود فى الثانى وغير موجود فى الأول؟ وهل مثل هذا الكلام مما يجوز قوله أصلا؟ إن الله لم يجمع الرجل والمرأة بالمعنى الذى يوحى به كلام النص، بل خلقهم ذكرا وأنثى، وقد يجتمعان فيكون الاجتماع بالزنا أو بالزواج، وربما لا يجتمعان كما هو الحال لو ماتا صغيرين لم يبلغا سن الزواج مثلا، أو كانا لا مأرب لهما فى الزواج لعلة من العلل النفسية أو البيولوجية، أو آثرا ملكوت السماء حسبما قال متّى. الزواج والطلاق إذن عمل اجتماعى تنظمه الشريعة أو القانون. ولا شك أن هناك ظروفا كثيرة جدا قد تجعل من الزواج عبئا على طرفيه أو على طرف واحد، فلا بد حينئذ من مخرج للمتضرر حتى لا تتحول الحياة إلى جحيم. إن الإسلام ينادى بالصبر والتسامح والتحمل والتجمل حتى لا تغرق السفينة الزوجية، لكن ما العمل إذا كان كل من الطرفين أو أحدهما "رأسه وألف برطوشة قديمة" أنهما لا بد أن ينفصلا؟ أنعاند نحن ونقول: ما جمعه الله لا يفرقه إنسان؟ لكن الواقع أنه ما من شىء مجموع إلا والله هو الذى جمعه، أو شىء مفرّق إلا والله هو الذى فرّقه، والمهم ألا يكون هناك ظلم، أو على الأقل تنبغى مراعاة الخروج من الموضوع بأدنى درجة من الخسائر وأعلى قدر من المكاسب! والطلاق فى الإسلام قد رُوعِىَ فيه كل ما قلته هنا، وهو أفضل الحلول عند تعذر كل الحلول الأخرى، أما أن نقسر الطرفين على أن يستمرا فى وضع يرفضانه ولا يجدان فيه سوى الشقاء والعنت بحجة أن ما جمعه الله... إلخ، فهو استبداد وتعنت ومكابرة تؤدى إلى مزيد من الشقاء بل إلى الكوارث والتعرض لسخط الله، على الأقل من خلال الزنا، الذى لن يجد الزوجان الكارهان سبيلا سواه لإشباع غرائزهما. وأمامنا العبرة فى الرهبان والراهبات، ومعروف مدى العفن الذى يرتكسون فيه رغم التعتيم المقصود على ذلك العفن، ولا داعى للتفصيل، فالله أمر بالستر، وما ستره الله لايصح أن يهتكه إنسان، يا زيكو يا عابد الخرفان! والطلاق إذن ليس دائما سببه قساوة القلب، بل كثيرا، وكثيرا جدا، ما يكون هو الوسيلة الوحيدة للخروج من جحيم الخلاف والتنافر والتعاسة الذى يقاسى ناره الزوجان ويستحيل معه الاستمرار. ومن هنا فالقاعدة التى تقول: "مَنْ طلَّقَ اَمرأتَهُ إلاّ في حالَةِ الزَّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى" هى تضييق وإعنات وخلط للأمور وهدم لشريعة موسى دون تقديم بديل أفضل أو حتى مساوٍ لما هو موجود فيها. ثم هى قبل ذلك كله خروج على ما قاله المسيح نفسه فيما نسبه إليه كتاب الأناجيل حين أكد أنه ما جاء لينقض الناموس، ثم استدار فى التو واللحظة فنقض الناموس، يا زيكو يا فلحوس، يا من يعيث فى دبرك السُّوس!
وكالعادة نجد أن ما قاله المسيح (أو بالأحرى: ما هو منسوب إليه) فى شأن المال يتسم بما يتسم به كلامه ووصاياه غالبا، فقد اشترط على الشاب الغنى أن يتخلص من جميع ما يملك كى يُكْتَب له ملكوت السماوات، وهو ما استصعبه الحواريون أنفسهم. والواقع أنه ليس مستصعَبا فحسب، بل مستحيلا فى الواقع، لأنه يصادر غريزة قوية جدا وضاربة بجذورها الحديدية فى أعماق نفوسنا، ومن غير المعقول أن يطالبنا الله بالمستحيل، إذ "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، وإلا لم يكن هذا عدلا، حاشاه تعالى عن ذلك، فهو ليس أهل العدل وحسب، بل الرحمة والكرم أيضا. وفى الإسلام يستطيع الإنسان أن يتصرف، بعيدا عما سيتركه لذريته، فى نطاق الثلث، والثلث كثير كما قال سيد الرسل والأنبياء رغم أن من الصحابة من كان ينفق فى سبيل الله ووجوه الخير ما يتعدى ذلك كثيرا. إلا أن هؤلاء يمثلون الخروج على القاعدة الذى لا يقاس عليه، على الأقل فى الظروف العادية. والقول بغير ذلك من شأنه أن يدعو الناس لليأس ويصرفهم عن الإيمان، بل عن عمل الخير جملة، وهو ما حدث للشاب فى القصة التالية: 16 وأقبَلَ إليهِ شابٌ وقالَ لَه: "أيٌّها المُعَلَّمُ، ماذا أعمَلُ مِنَ الصَّلاحِ لأنالَ الحَياةَ الأبدِيَّةَ؟" فأجابَهُ يَسوعُ: "17 لِماذا تَسألُني عمّا هوَ صالِـحٌ؟ لا صالِـحَ إلاّ واحدٌ. إذا أَرَدْتَ أنْ تَدخُلَ الحياةَ فاَعمَلْ بالوصايا". 18فقالَ لَه: "أيَّ وصايا؟" فقالَ يَسوعُ: "لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بالزٌّورِ، 19أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ، أحِبَّ قريبَكَ مِثلما تُحبٌّ نَفسَكَ". 20فقالَ لَه الشّابُ: "عَمِلتُ بِهذِهِ الوصايا كُلَّها، فما يَعوزُني؟" 21أجابَهُ يَسوعُ: "إذا أردتَ أنْ تكونَ كامِلاً، فاَذهَبْ وبِـــــعْ ما تملِكُهُ ووَزَّعْ ثمَنَهُ على الفُقراءِ، فيكونَ لكَ كنزٌ في السَّماواتِ، وتعالَ اَتْبَعْني!" 22فلمّا سَمِعَ الشابُ هذا الكلامَ. مَضى حَزينًا لأنَّهُ كانَ يملِكُ أموالاً كثيرةً. 23وقالَ يَسوعُ لِتلاميذِهِ: "الحقَّ أقولُ لكُم: يَصعُبُ على الغنيَّ أنْ يَدخُلَ مَلكوتَ السَّماواتِ. 24بل أقولُ لكُم: مُرورُ الجمَلِ في ثَقبِ الإبرةِ أسهَلُ مِنْ دُخولِ الغنيَّ مَلكوتَ الله".25فتعجَّبَ التَّلاميذُ كثيرًا مِنْ هذا الكلامِ وقالوا: "مَنْ يُمكِنُهُ أنْ يَخلُصَ، إذًا؟" 26فنَظَرَ إلَيهِم يَسوعُ وقالَ لهُم: "هذا شيءٌ غيرُ مُمكنٍ عِندَ النّاسِ، أمّا عِندَ الله فكُلُّ شيءٍ مُمكِنٌ"". أما فى الإسلام فــ"نِعْمَ المالُ الصالحُ للعبد الصالح"، و"إنك إن تَذَرْ ورثتك أغنياء خير من أن تَذَرَهم عالةً يتكفّفون الناس (أى يسألونهم ويشحذون منهم). كل ما هو مطلوب منك أن تكسبه من حلال، وتنفقه فى حلال، وتُخْرِج حق الآخرين فيه، ولا يستعبدك المال ويطغى على اهتمامك فيفسد روحك، وقد يدمر إنسانيتك. إن بعض الناس يعشقون الكلام الكبير الذى لا يُؤَكّل عيشا، وهؤلاء عبيد شقشقة اللسان، فدعهم بشقشقتهم يتصايحون! إن المال نعمة من نعم الله، فكيف يراد لنا النظر إليه على أنه رجس من عمل الشيطان؟
وكالعادة أيضا نرى السيد المسيح (طبقا لما يروى لنا كتّاب الأناجيل) يغالى أشد مغالاة فى حديثه عن مصير التلاميذ. لقد أعطاهم سلطانا على الأمراض والشياطين التى تسكن الأجساد، وقال لهم إن ما يَحُلّونه هنا على الأرض سيكون محلولا فى السماء، وما يربطونه سيكون مربوطا فى السماء، لكنه انقلب عليهم أكثر من مرة فنعتهم بقلة الإيمان بل بانعدامه تماما، ووصف بطرس بأنه شيطان ومعوِّق عن المهمة التى نزل من السماء لأدائها تبعا لما يزعمه القوم. ثم ها نحن نسمعه هنا يَعِدُهم بالجلوس على العروش فى الملكوت ليحاكموا بنى إسرائيل، مسندا إليهم خصيصة من خصائص الألوهية التى لا يمكن عيسى ولا مليون واحد كعيسى عليه السلام أن يدّعيها، فضلا عن أن يستولى عليها: "وقالَ لَه بُطرُسُ: "27ها نَحنُ تَركْنا كُلَ شيءٍ وتَبِعْناكَ، فماذا يكونُ نَصيبُنا؟"28فأجابَ يَسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: متى جلَسَ اَبنُ الإنسانِ على عَرشِ مَجدِهِ عِندَ تَجديدِ كُلٌ شيءٍ، تَجلِسونَ أنتُم الَّذينَ تَبِعوني على اَثني عشَرَ عَرشاً لتَدينوا عَشائرَ إِسرائيلَ الاثني عشَرَ. 29وكُلُّ مَنْ ترَكَ بـيوتًا، أو إخوَةً أو أخواتٍ، أو أبًا، أو أُمُا، أو أبناءً، أو حُقولاً مِنْ أجلِ اَسمي، يَنالُ مِئةَ ضِعفٍ ويَرِثُ الحياةَ الأبديَّةَ. 30وكثيرٌ مِنَ الأوَّلينَ يَصيرونَ آخِرينَ، ومِنَ الآخِرينَ يَصيرونَ أوَّلينَ". إن عيسى وموسى ومحمدا وسائر الأنبياء والرسل ما هم إلا عباد له جل وعلا، لا يملكون يوم القيامة لأنفسهم، فضلا عن غيرهم، شيئا، إلا إذا شاء الله لأحد منهم أن يشفع لبعض المؤمنين الذى ربما تكون أعمالهم الصالحة قد قصّرت بهم: "ما مِنْ شفيعٍ إلا مِنْ بعد إذنه" (يونس/ 3)، "يَوْمَئِذٍ َلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً" (طه/ 109). أما الجلوس على العرش فتلك مرتبة لا يبلغها بشر أو مَلَك، إذ العرش إنما هو لله فقط: "الرحمن على العرش استوى" (طه/ 5)، وكل كلام غير هذا لا معنى له، وإن كنا لا نصادر من يريد ترديده رغم مخالفته لمقتضيات الألوهية.
وبالمناسبة فإن الميزة التى أسبغها المسيح على التلاميذ تدل من ناحية أخرى على أن دعوته مقصورة على بنى إسرائيل، إذ إن التلاميذ سوف يدينون العشائر الإسرائيلية الاثنى عشر فقط. ولقد سمعناها صريحة من فمه قبل ذلك حينما رد على المرأة الكنعانية التى ابتهلت إليه أن يشفى ابنها بأنه إنما بُعِث لخراف بنى إسرائيل الضالة. وصدق الله العظيم إذ يقول: "إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)" (آل عمران)، "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" (الصف/ 6).
الفصل العشرون:
"مثل العمّال في الكرم
"فمَلكوتُ السَّماواتِ كمَثَلِ صاحِبِ كَرْمِ خرَجَ معَ الفَجْرِ ليَسْتأجِرَ عُمّالاً لِكرمِهِ. 2فاَتفَقَ معَ العُمّالِ على دينارٍ في اليومِ وأرْسلَهُم إلى كرمِهِ. 3ثُمَّ خرَجَ نحوَ السّاعةِ التّاسِعةِ، فرأى عُمّالاً آخرينَ واقِفين في السّاحَةِ بطّالينَ. 4فقالَ لهُم: اَذهبوا أنتُمْ أيضًا إلى كَرمي، وسأُعطيكُم ما يَحقٌّ لكُم، 5فذَهبوا. وخرَجَ أيضًا نحوَ الظٌّهرِ، ثُمَّ نحوَ السّاعةِ الثّالِثةِ، وعمِلَ الشّيءَ نفسَهُ. 6وخرَجَ نحوَ الخامِسَةِ مساءً، فلَقيَ عُمّالاً آخرينَ واقفينَ هُناكَ، فقالَ لهُم: ما لكُم واقفينَ هُنا كُلَ النَّهارِ بطّالينَ؟ 7قالوا لَه: ما اَستأجَرَنا أحدٌ. قالَ لهُم: اَذهبوا أنتُم أيضًا إلى كرمي.
8ولمّا جاءَ المساءُ، قالَ صاحِبُ الكرمِ لوكيلِهِ: أُدْعُ العُمّالَ كُلَّهُم واَدفَعْ لهُم أجورَهُم، مُبتدِئًا بالآخِرينَ حتَّ? تَصِلَ إلى الأوَّلينَ. 9فجاءَ الَّذينَ اَستَأْجَرَهُم في الخامِسةِ مساءً وأخَذَ كُلُّ واحدٍ منهُم دينارًا. 10فلمّا جاءَ الأوَّلونَ، ظَنّوا أنَّهُم سيأخُذونَ زِيادةً، فأخَذوا هُمْ أيضًا دينارًا لِكُلٌ واحدٍ مِنهُم. 11وكانوا يَأْخُذونَهُ وهُمْ يَتذمَّرونَ على صاحِبِ الكرمِ، 12فيقولونَ: هَؤُلاءِ الآخِرونَ عَمِلوا ساعةً واحدةً، فساوَيْتَهُم بِنا نَحنُ الَّذينَ اَحتمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وحَرَّهُ. 13فأجابَ صاحِبُ الكرمِ واحدًا مِنهُم: يا صديقي، أنا ما ظَلَمتُكَ. أما اَتَّفَقْتُ معَكَ على دينارٍ؟ 14خُذْ حَقَّكَ واَنصرِفْ. فهذا الَّذي جاءَ في الآخِرِ أُريدُ أنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ، 15أما يَجوزُ لي أنْ أتصرَّفَ بِمالي كيفَما أُريدُ؟ أم أنتَ حسودٌ لأنَّي أنا كَريمٌ؟"
16وقالَ يَسوعُ: "هكذا يَصيرُ الآخِرونَ أوَّلينَ، والأوَّلونَ آخِرينَ".
يسوع ينبـئ مرّة ثالثة بموته وقيامته.
17 وكانَ يَسوعُ صاعدًا إلى أُورُشليمَ، فأخذَ التَّلاميذَ الاثني عشَرَ على اَنفِرادٍ، وقالَ لهُم في الطَّريقِ: 18"ها نَحنُ صاعِدونَ إلى أُورُشليمَ، وسَيُسلَّمُ اَبنُ الإنسانِ إلى رُؤساءِ الكَهنَةِ ومُعلَّمي الشَّريعةِ، فيَحكمونَ علَيهِ بالموتِ 19ويُسلَّمونَهُ إلى أيدي الغُرباءِ، فيَستهزِئونَ بِه ويجلِدونَهُ ويَصلِبونَهُ، وفي اليومِ الثّالثِ يقومُ".
طلب أم يعقوب ويوحنا.
20وجاءَت إلَيهِ أمٌّ يَعقوبَ ويوحنّا اَبنَي زَبدي ومَعَها اَبناها، وسَجَدَت لَه تَطلُبُ مِنهُ حاجةً. 21فقالَ لها: "ماذا تُريدينَ؟" قالَت: "مُرْ أنْ يَجلِسَ اَبنايَ هذانِ، واحدٌ عَنْ يمينِكَ وواحدٌ عَنْ شَمالِكَ في مَمْلكتِكَ".
22فأجابَ يَسوعُ: "أنتُما لا تعرفانِ ما تَطلُبانِ. أتقْدِرانِ أنْ تَشرَبا الكأسَ التي سأشرَبُها؟" قالا لَه: "نَقدِرُ!" 23فقالَ لهُما: "نعم، ستَشرَبانِ كَأسي، وأمّا الجُلوسُ عَنْ يَميني وعَنْ شَمالي فَلا يَحِقٌّ لي أنْ أُعطيَهُ، لأنَّهُ للَّذينَ هيَّأَهُ لهُم أبـي".
24ولمّا سمِعَ التَّلاميذُ العَشَرَةُ، غَضِبوا على الأخوَينِ. 25فدعاهُمْ يَسوعُ إلَيهِ وقالَ لهُم: "تَعلَمونَ أنَّ رُؤساءَ الأُممِ يَسودونَها، وأنَّ عُظماءَها يتَسلَّطونَ علَيها، 26فلا يكُنْ هذا فيكُم. بلْ مَنْ أرادَ أنْ يكونَ عَظيمًا فيكُم، فلْيكُنْ لكُم خادِمًا. 27ومَنْ أرادَ أنْ يكونَ الأوَّلَ فيكُم، فلَيكُنْ لكُم عَبدًا: 28هكذا اَبنُ الإنسانِ جاءَ لا ليَخدِمَهُ النّاسُ، بلْ ليخدِمَهُم ويَفدي بحياتِهِ كثيرًا منهُم".
يسوع يشفي أعميـين.
29وبَينَما هُم خارِجونَ مِنْ أريحا، تَبِعَت يَسوعَ جُموعٌ كبـيرةٌ. 30وسَمِعَ أعمَيانِ جالسانِ على جانِبِ الطَّريقِ أنَّ يَسوعَ يمُرٌّ مِنْ هُناكَ، فأخذا يَصيحان: "اَرحمنا يا سيَّدُ، يا اَبنَ داودَ!"
31فاَنتَهَرَتْهُما الجُموعُ ليَسكُتا. لكنَّهُما صاحا بصوتٍ أعلى: "اَرحَمْنا، يا سيَّدُ، يا اَبنَ داودَ!" 32فوقفَ يَسوعُ وناداهُما وقالَ لهُما: "ماذا تُريدانِ أنْ أعمَلَ لكُما؟" 33أجابا: "أنْ تَفتَحَ أعيُنَنا، يا سيَّدُ!" 34فأشفقَ يَسوعُ علَيهِما ولَمَسَ أعيُنَهُما، فأبصرا في الحالِ وتَبِعاهُ".
المسألة الأولى التى بدأ بها هذا الفصل تبدو وكأنها تريد أن تقول إن الجزاء الإلهى لا يقوم عى أساس مفهوم أو عادل، بل على نزوة أو استبداد على اعتبار أنه سبحانه وتعالى "لا يُسْأَل عما يفعل". ولا أحب، قبل أن أمضى لمناقشة هذه الفكرة، أن يفهم أحد أنى أعترض على أنه سبحانه وتعالى "لا يُسْأَل عما يفعل" فعلا، فمن أنا أو أى مخلوق حتى نعترض أو لا نعترض؟ إنه فعلا وحقا وصدقا "لا يُسْأَل عما يفعل"، وإلا فأَرُونى من استطاع أن يعقِّب على ما يقول وبلغ شيئا سوى ما يريده الله فى ملكه. على أن هذا لا يعنى أنه لا توجد فى الدنيا أشياء غير مفهومة، فما أكثر الأشياء التى لا نستطيع لها فهما ولا تعليلا ولا نصل فيها إلى وجه الحكمة! ومن يَقُلْ بغير ذلك يكن من المدلسين. إلا أنه لا بد أيضا من إضافة القول بأن هناك عناصر كثيرة فى الصورة غائبة عن أعيننا وعقولنا بل خارج نطاق قدرتنا تماما على الإدراك والتصور، مما من شأنه أن يجعل الحكم فى هذه المسألة صعبا بل مستحيلا. ومن ثم فإذا أردنا أن نكون منصفين وعاقلين فلْنُقِرّ أننا لا نقدر على إصدار حكم فى تلك القضية، فذاك أدعى إلى أن نريح ونستريح، وإن كان لا بد من القول كذلك إن هذا لن يمنع الشعور بالقلق والحيرة إزاء كثير من أمور الحياة.
أترانى أريد أن أقول إن على الإنسان أن يسكت فلا يفتح فمه ولا يفكر ولا يحاول البحث عن باب أو نافذة أو حتى كُوّة أو ثَقْب حتى لو كان هذا الثقب ثقب إبرة؟ أبدا والله لم أقل هذا ولا خطر لى ببال، وإنما أردت أن أقول إن علينا أن نعرف قدراتنا وحدودنا، فإذا أردنا أن نتناول مثل هذه المسائل فلنتناولها بروح التواضع ولنعرف أننا نخوض محيطا عميق القرار مهلكا فنبقى بقدر الإمكان بجوار الشط إلى أن نطمئن إلى مقدرتنا على السباحة فى هذه المنطقة قبل أن ننطلق إلى منطقة أبعد قليلا، وإن كنت شخصيا لا أعتقد أن أحدا سوف يصل فى الأسئلة الكبرى إلى شىء نافع، فقد تتالت الأجيال وكَتَبَ الكاتبون وفَكَّر الفلاسفة والمفكرون، والحيرة هى الحيرة، ولا شىء أنجع من الإيمان بأن هناك ربًّا وأن قدراتنا محدودة جدا جدا جدا...، وأن ثمة عالما آخر سوف يعوضنا فيه الله عما نشعر أننا لم ننل فيه ما كان يمكننا أن نناله هنا على الأرض. وقد جرب العبد لله مرات ومرات ووصلت إلى ما ظننته حلولا حاسمة، لكننى كنت أكتشف بعد قليل أن هناك فيما أقمته من أبنية فكرية ثغرات كثيرة لم تظهر لى للوهلة الأولى، لكنها بدت عند المراجعة والمقارنة والصدق مع النفس رغم أنها تبدو لى مع هذا أفضل من كثير من المطروح فى الساحة. لكننى أرجع فأقول لنفسى: ومن أدراك يا فلان أن غيرك لا يرى مخلصا أن ما بلغه هو أيضا أفضل من كثير من المطروح فى الساحة؟ وهكذا أستمر فى الحوار مع نفسى إلى أن أنهى الكلام بالقول بأنى مسؤول فقط عما أعتقد مخلصا أنه هو الصواب أو الأقرب للصواب، وأن الله سوف يحاسبنى على مدى جهدى وإخلاصى، ومن ثم يتعين علىّ فى كل فرصة تسنح لى أن أراجع ما فى يدى كى أطمئن أننى لم أَجُرْ عن الطريق! فهذا ما أتصور أن المسيح يقصده، وإلا فليسامحنى الذى بعثه! يقصد، عليه السلام، بعبارة أخرى أن يقول إن لك ألا تُظْلَم فيما ستأخذ من أجر، أما ما يأخذه الآخرون فلا شأن لك به لأن هناك عوامل ومعايير كثيرة غائبة عن عقلك وميزانك، لا أن الله لن يراعى أية معايير أو قواعد، إلا أن هذه القواعد هو الذى وضعها ولم يفرضها أحد، وهو وحده الذى يعرف كيف يزن وكيف يحاسب وكيف يعطى وكيف يحرم، وهذا كل ما هنالك، ولعلى لم أخطئ الفهم أو التعبير، وإلا فإنى مُبْدٍ ندمى واعتذارى من الآن!
مثلا هل يمكن أن يكون الحساب واحدا لشخصين أحدهما تربى فى بيت علم وفضل وأخلاق، والثانى فى بيت رقص وبغاء؟ أو أن يكون الحساب واحدا للذكى والغبى على السواء؟ أو أن يؤاخَذ العصبى الشديد الانفعال بما يؤاخَذ به الوقور الهادئ الذى تربى منذ صغره على التحكم فى مشاعره وعواطفه ووزن كل شىء بهدوء قبل اتخاذ أى قرار؟ أو أن يُنْظَر بنفس العين للغنى الشبعان وللفقير المحروم الجوعان العريان؟ أو أن يعامَل المريض بنفس المعاملة التى يعامَلها القوى الصحيح؟...إلخ. لكن من الذى يبت فى ذلك كله؟ إنه الله لا محمّد ولا المسيح ولا الصحابة ولا الحواريون، فهؤلاء كلهم إنما هم عباد الله لا شركاؤه، وهم أول من يعرف هذا، ولا يمكن أن يكون قد دار فى خاطر أى منهم شىء آخر غير الذى نقول. قال تعالى عن عبده ورسوله محمد: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران/ 129)، وقال عن عبده ورسوله عيسى بن مريم: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة/ 116- 118). نفس الكلام هنا وهناك: كلاهما عبد ورسول لله لا يحق له أن يتخطى الحدود، وليس فى الأمر هزل ، بل هو الجِدّ كل الجِدّ، ولا مكان فيه للوثنيات والتطاول على مقام الألوهية تحت أى مسمًّى أو ستار!
جاء فى الفصل الذى بين يدينا الكلام الآتى المنسوب لعيسى عليه السلام: "فمَلكوتُ السَّماواتِ كمَثَلِ صاحِبِ كَرْمِ خرَجَ معَ الفَجْرِ ليَسْتأجِرَ عُمّالاً لِكرمِهِ. 2فاَتفَقَ معَ العُمّالِ على دينارٍ في اليومِ وأرْسلَهُم إلى كرمِهِ. 3ثُمَّ خرَجَ نحوَ السّاعةِ التّاسِعةِ، فرأى عُمّالاً آخرينَ واقِفين في السّاحَةِ بطّالينَ. 4فقالَ لهُم: اَذهبوا أنتُمْ أيضًا إلى كَرمي، وسأُعطيكُم ما يَحقٌّ لكُم، 5فذَهبوا. وخرَجَ أيضًا نحوَ الظٌّهرِ، ثُمَّ نحوَ السّاعةِ الثّالِثةِ، وعمِلَ الشّيءَ نفسَهُ. 6وخرَجَ نحوَ الخامِسَةِ مساءً، فلَقيَ عُمّالاً آخرينَ واقفينَ هُناكَ، فقالَ لهُم: ما لكُم واقفينَ هُنا كُلَ النَّهارِ بطّالينَ؟ 7قالوا لَه: ما اَستأجَرَنا أحدٌ. قالَ لهُم: اَذهبوا أنتُم أيضًا إلى كرمي. 8ولمّا جاءَ المساءُ، قالَ صاحِبُ الكرمِ لوكيلِهِ: أُدْعُ العُمّالَ كُلَّهُم واَدفَعْ لهُم أجورَهُم، مُبتدِئًا بالآخِرينَ حتَّى تَصِلَ إلى الأوَّلينَ. 9فجاءَ الَّذينَ اَستَأْجَرَهُم في الخامِسةِ مساءً وأخَذَ كُلُّ واحدٍ منهُم دينارًا. 10فلمّا جاءَ الأوَّلونَ، ظَنّوا أنَّهُم سيأخُذونَ زِيادةً، فأخَذوا هُمْ أيضًا دينارًا لِكُلٌ واحدٍ مِنهُم. 11وكانوا يَأْخُذونَهُ وهُمْ يَتذمَّرونَ على صاحِبِ الكرمِ، 12فيقولونَ: هَؤُلاءِ الآخِرونَ عَمِلوا ساعةً واحدةً، فساوَيْتَهُم بِنا نَحنُ الَّذينَ اَحتمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وحَرَّهُ. 13فأجابَ صاحِبُ الكرمِ واحدًا مِنهُم: يا صديقي، أنا ما ظَلَمتُكَ. أما اَتَّفَقْتُ معَكَ على دينارٍ؟ 14خُذْ حَقَّكَ واَنصرِفْ. فهذا الَّذي جاءَ في الآخِرِ أُريدُ أنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ، 15أما يَجوزُ لي أنْ أتصرَّفَ بِمالي كيفَما أُريدُ؟ أم أنتَ حسودٌ لأنَّي أنا كَريمٌ؟"16وقالَ يَسوعُ: "هكذا يَصيرُ الآخِرونَ أوَّلينَ، والأوَّلونَ آخِرينَ". صحيح، هل ظلمك صاحب الكَرْم يا صديقه؟ أم تراك تحسد زميلك لأن صاحب الكَرْم قد أكرمه؟ ومن أنت حتى تنصّب من نفسك ربا إلها، أو على الأقل معقّبا ومستدركا على الرب الإله؟ لا إله إلا الله! والله إنك إن لمن الغبيّين! وعن جندب أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتأَلَّى عليّ ألاّ أغفر لفلان؟ فإني قد غفرتُ لفلان، وأحبطتُ عملك. أو كما قال".
ثم نأتى للصلب والقتل، والمسلمون لا يؤمنون بشىء من هذا: فلا خطيئة بشرية قد بقيت طوال تلك الأحقاب دون بَتٍّ فيها، ولا عيسى قد أتى لتكفيرها ولا هو صُلِب وقُتِل، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيما. أما الكلام الذى يلى ذلك فهو يبعث على الابتسام من أحوال الطبيعة البشرية، إذ يبدو الأمر وكأننا فى مجلس توزيع تركة من التركات: فهذا الحوارى يطالب بزيادة نصيبه من الميراث لأنه كذا وكذا، وهؤلاء الحواريون الآخرون يغضبون لأنهم يَرَوْن أنهم بهذه الطريقة سيفقدون ما يعتقدون أنه حق من حقوقهم! وهناك شىء عندنا مشابه لذلك الموقف، ولكن من بعيد: عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "تحدثنا ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكرينا الحديث، ثم رجعنا إلى أهلنا، فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عُرِضَتْ عليَّ الأنبياء بأممها وأتباعها من أممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة من أمته، والنبي معه العصابة من أمته، والنبي معه النفر من أمته، والنبي معه الرجل من أمت، والنبي ما معه أحد، حتى مر عليَّ موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم في كبكبة من بني إسرائيل. فلما رأيتهم أعجبوني قلت: يا رب، من هؤلاء؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بني إسرائيل. قلت: يا رب، فأين أمتي؟ قال: انظر عن يمينك. فإذا الظِّرَابُ، ظرابُ مكة، قد سُدّ بوجوه الرجال. قلت: من هؤلاء يا رب؟ قال: أمتك. قلت: رضيت ربِّ. قال: أرضيت؟ قلت: نعم. قال: انظر عن يسارك. قال: فنظرت، فإذا الأفق قد سُدّ بوجوه الرجال. فقال: رضيت؟ قلت: رضيت. قيل: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة لا حساب لهم. فأنشأ عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: اللهم اجعله منهم. ثم أنشأ رجل آخر فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة".
فأما وجه الشبه بين القصتين فواضح، وأما وجه البُعْد ففى أن الرسول لم يقل إن الرجل الأول سوف يدخل الجنة. ليس ذلك فقط، بل إن ذلك الصحابى لم يطلبها بل لم يدر فى خاطره أن يفعل. ذلك أن محمدا قد غرس فى نفوسهم المعنى الصحيح للعبودية والربوبية، فكان كل شىء واضحا فى نفوسهم وعقولهم ولم تختلط عليهم المفاهيم. كذلك فأقصى ما قاله الرسول الكريم أن عكاشة قد سبق زميله بها. ولنلاحظ أن المقصود ليس أن عكاشة قد سبقه بالجنة، بل بالدعوة فحسب. ولعل هذا التوضيح يكون قد جلَّى الفرق بين الموقفين، وكذلك بين الصحابة والحواريين، وهذا إن كان لنا أن نعتمد على ما قاله مَتَّى، وهذا هو السبب فى أن الصحابيين لم يختلفا حول الأمر، بل تقبل كل منهما ما قال الرسول رغم حرص كل منهما على الفوز بالجنة. ومن هنا لم نشاهد ولم نسمع شيئا مثل الذى دار فى مجلس المسيح بين التلاميذ والأخوين: يعقوب ويوحنا ابن زبدى: "24ولمّا سمِعَ التَّلاميذُ العَشَرَةُ، غَضِبوا على الأخوَينِ. 25فدعاهُمْ يَسوعُ إلَيهِ وقالَ لهُم: "تَعلَمونَ أنَّ رُؤساءَ الأُممِ يَسودونَها، وأنَّ عُظماءَها يتَسلَّطونَ علَيها، 26فلا يكُنْ هذا فيكُم. بلْ مَنْ أرادَ أنْ يكونَ عَظيمًا فيكُم، فلْيكُنْ لكُم خادِمًا. 27ومَنْ أرادَ أنْ يكونَ الأوَّلَ فيكُم، فلَيكُنْ لكُم عَبدًا: 28هكذا اَبنُ الإنسانِ جاءَ لا ليَخدِمَهُ النّاسُ، بلْ ليخدِمَهُم ويَفدي بحياتِهِ كثيرًا منهُم"، وهو ما يذكّرنى بما يفعله بعض المسلمين عند الكعبة إذ تراهم يزاحمون الآخرين بمناكبهم فى منتهى الخشونة ويدفعونهم بعيدا عن الحجر الأسود كى يفوزوا بلمسه وتقبيله، وكأن المسألة هى مجرد اللمس والتقبيل وليس الإخبات والتقوى والتعامل الرقيق مع الآخرين، مع أن الرسول قد نهى الأقوياء عن مثل هذه المزاحمة وآثر لهم الاكتفاء بالإيماء للحجر من بعيد. والطريف أن الحواريين قد وقعوا فيما كان قد حذر منه السيد المسيح لتوه، إذ نهانا عن حسد من يعطيه الله من فضله حتى لو قام فى وهمنا أنه يسوّيه بنا فيما نرى أنه لا يصلح فيه التسوية. فالحمد لله أنهم لم يجلسوا على عرش الملكوت ويحاسبونا كما تقول الأسطورة النصرانية، وإلا "رُحْنا فى أبى نِكْلَة" من زمان على يد أولئك العصبيين الذين لا صبر ولا تفاهم لديهم، وليس عندهم شىء من رحمة الله وسَعَة إمهاله، والذين كانوا كفيلين بــ"طربقة" الدنيا على دماغنا من أول غلطة!
ومرة أخرى نرى البشر يكرهون أن تنال الرحمة سواهم، فها هى ذى الجموع تضيق باستغاثة الأعميين ورغبتهما فى استعادة النظر وتنهرهما آمرة إياهما بالسكوت، وكأنها حريصة على عدم إزعاج السيد المسيح، مع أنه سبق لكثير منهم أن نال الشفاء على يد المسيح عليه السلام وأزعجوه كما يزعجه هذان، وكان أحرى بهم أن يأخذوا بناصر ذَيْنِكَ المسكينين. لكن لا، فقد حصلوا على ما يريدون وانتهى الأمر بالنسبة لهم، وليذهب الباقون إلى الجحيم! إنها الطبيعة البشرية فى عُرْيها دون تجمل. والعجيب أن الذى فعل هذا هم الضعفاء الأشقياء الذين يشبهون الأعميين العاجزين: "29وبَينَما هُم خارِجونَ مِنْ أريحا، تَبِعَت يَسوعَ جُموعٌ كبـيرةٌ. 30وسَمِعَ أعمَيانِ جالسانِ على جانِبِ الطَّريقِ أنَّ يَسوعَ يمُرٌّ مِنْ هُناكَ، فأخذا يَصيحان: "اَرحمنا يا سيَّدُ، يا اَبنَ داودَ!" 31فاَنتَهَرَتْهُما الجُموعُ ليَسكُتا. لكنَّهُما صاحا بصوتٍ أعلى: "اَرحَمْنا، يا سيَّدُ، يا اَبنَ داودَ!" 32فوقفَ يَسوعُ وناداهُما وقالَ لهُما: "ماذا تُريدانِ أنْ أعمَلَ لكُما؟" 33أجابا: "أنْ تَفتَحَ أعيُنَنا، يا سيَّدُ!" 34فأشفقَ يَسوعُ علَيهِما ولَمَسَ أعيُنَهُما، فأبصرا في الحالِ وتَبِعاهُ". آه لو عاش المسيح إلى الأبد يشفى المساكين ويبرئ كل الكُمْه والبُرْص ويحيى الموتى بقدرة الله سبحانه وتعالى فلا يكون هناك مرض ولا شقاء ولا موت! لكن عيسى نفسه قد عانى وقَلِقَ وخاف وترك الدنيا كلها ومضى لربه، فكيف إذن يتصور واحد مثلى (المفروض أنه عاقل) أن ذلك ممكن؟ يا أخى أنا أقول: مثلا! أتراك خسرت شيئا؟ دعنا إذن نحلم، الله لا يسوؤك! وقبل أن نمضى للفصل التالى ينبغى ألا يفوتنا ما نادى الأعميان به عيسى بن مريم، وهو: "يا ابن داود"! وقد سلف منا القول إن اسم "عيسى بن مريم" أفضل من ذلك لأنه أكثر مباشرة.
الفصل الحادى والعشرون:
"يسوع يدخل أورشليم.
ولمّا قَرُبوا مِنْ أُورُشليمَ ووَصَلوا إلى بَيتِ فاجي عِندَ جبَلِ الزَّيتونِ، أرسَلَ يَسوعُ اَثنَينِ مِنْ تلاميذِهِ، 2وقالَ لهُما: "اَذهَبا إلى القريةِ التي أمامكُما، تَجِدا أتانًا مربوطةً وجَحشُها مَعها، فحُلاَّ رِباطَهُما وجيئا بِهِما إليَّ. 3وإنْ قالَ لكُما أحدٌ شيئًا، فأجيبا: "السيَّدُ مُحتاجٌ إلَيهِما، وسيُعيدُهُما في الحالِ".
4وكانَ هذا لِـيَــتِمَّ ما قالَ النَّبـيٌّ: 5."قولوا لابنَةِ صِهيونَ: ها هوَ مَلِكُكِ قادِمٌ إلَيكِ وديعًا راكِبًا على أتانٍ وجَحشٍ اَبنِ أتانٍ".
6فذهَبَ التَّلميذانِ وفَعَلا ما أمرَهُما بِه يَسوعُ 7وجاءا بالأتانِ والجَحشِ. ثُمَّ وضَعا علَيهِما ثَوبَيْهِما، فركِبَ يَسوعُ. 8وبَسَطَ كثيرٌ مِنَ النّاسِ ثيابَهُم على الطَّريقِ، وقطَعَ آخَرونَ أغصانَ الشَّجرِ وفَرَشوا بِها الطريقَ. 9وكانَتِ الجُموعُ التي تتَقَدَّمُ يَسوعَ والتي تَتْبَعُهُ تَهتِفُ: "المَجْدُ لاَبنِ داودَ! تبارَكَ الآتي بِاَسمِ الرَّبَّ! المجدُ في العُلى!"
10ولمّا دخَلَ يَسوعُ أُورُشليمَ ضَجّتِ المدينةُ كُلٌّها وسألَتْ: "مَنْ هذا؟" 11فأجابَتِ الجُموعُ: "هذا هوَ النَّبـيٌّ يَسوعُ مِنْ ناصرةِ الجليلِ".
يسوع يطرد الباعة من الهيكل.
12.ودخَلَ يَسوعُ الهَيكلَ وطرَدَ جميعَ الَّذينَ يَبـيعونَ ويَشتَرونَ فيهِ، فقَلَبَ مناضِدَ الصَّيارِفَةِ ومَقاعِدَ باعَةِ الحَمامِ، 13وقال لهُم: "جاءَ في الكِتابِ: بَيتي بَيتُ الصَّلاةِ، وأنتُم جَعَلْتُموهُ مغارَةَ لُصوصٍ!"
.14وجاءَ إلَيهِ العُرجُ والعُميانُ وهوَ في الهَيكلِ فشَفاهُم. 15فغَضِبَ رُؤساءُ الكَهنَةِ ومُعلَّمو الشَّريعةِ عِندَما رَأَوا المُعْجزاتِ التي صَنَعَها، وغاظَهُم هُتافُ الأولادِ في الهَيكَلِ: "المجدُ لاَبنِ داودَ!" 16فقالوا لَه: "أتَسمَعُ ما يَقولُ هؤُلاءِ؟" فأجابَهُم: "نعم، أما قرأتُم هذِهِ الآيةَ: مِنْ أفواهِ الصَّغارِ والأطفالِ أخرَجْتَ كلامَ الحمدِ؟" 17ثُمَّ تَركَهُم وخرَجَ مِنَ المدينةِ إلى بَيتِ عَنيا وباتَ فيها.
يسوع يلعن شجرة التين.
18وبَينَما هوَ راجِـــعٌ إلى المدينةِ في الصَّباحِ، أحَسَّ بالجوع 19فَجاءَ إلى شَجرَةِ تِـينٍ رَآها على جانِبِ الطَّريقِ، فما وجَدَ علَيها غَيرَ الوَرقِ. فقالَ لها: "لن تُثمِري إلى الأبدِ!" فيَبِسَتِ التّينةُ في الحالِ.
20ورأى التَّلاميذُ ما جرى، فتَعجَّبوا وقالوا: "كيفَ يَبِسَتِ التّينةُ في الحالِ?" 21فأجابَهُم يَسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: لو كُنتُم تؤمنونَ ولا تَشُكٌّونَ، لَفعَلْتُم بِهذِهِ التّينةِ مِثلَما فعَلتُ، لا بلْ كُنتُم إذا قُلتُم لِهذا الجبَلِ: قُمْ واَنطَرِحْ في البحرِ، يكونُ لكُم ذلِكَ. 22فكُلُّ شيءٍ تَطلُبونَهُ وأنتُم تُصلٌّونَ بإيمانٍ، تنالونَهُ".
السلطة المعطاة ليسوع.
23ودخَلَ يَسوعُ الهَيكلَ. وبَينَما هوَ يُعَلَّمُ، جاءَ إلَيهِ رؤَساءُ الكَهنَةِ وشُيوخُ الشَّعبِ وقالوا لَه: "بأيَّةِ سُلطَةٍ تَعمَلُ هذِهِ الأعمالَ؟ ومَنْ أعطاكَ هذِهِ السٌّلطَةَ؟"
24فأجابَهُم يَسوعُ: "وأنا أسألُكُم سُؤالاً واحدًا، إن أجَبْتُموني عَنهُ، قُلْتُ لكُم بأيَّةِ سُلطَةٍ أعمَلُ هذِهِ الأعمالَ: 25مِنْ أينَ ليوحنّا سُلطةُ المَعمودِيَّةِ؟ مِنَ السَّماءِ أمْ مِنَ النّاسِ?"
فقالوا في أنفُسِهِم: "إنْ قُلنا مِنَ الله، يُجيبُنا: فلِماذا ما آمنتُم بِه؟ 26وإنْ قُلنا مِنَ النّاسِ، نَخافُ الشَّعبَ، لأنَّهُم كُلَّهم يَعُدٌّون يوحنّا نبـيُا". 27فأجابوا يَسوعَ: "لا نَعرِفُ". فقالَ لهُم: "وأنا لا أقولُ لكُم بأيَّةِ سُلطَةٍ أعمَلُ هذِهِ الأعمالَ".
مثل الاِبنينِ.
28وقالَ يَسوعُ: "ما رأيُكُم؟ كانَ لِرَجُلٍ اَبنانِ. فجاءَ إلى الأوَّل وقالَ لَه: يا اَبني، اَذهَبِ اليومَ واَعمَل في كرمي. 29فأجابَهُ: لا أريدُ. ولكِنَّه نَدِمَ بَعدَ حينٍ وذهَبَ إلى الكَرمِ. 30وجاءَ إلى الابنِ الآخَرِ وطَلَبَ مِنهُ ما طلَبَهُ مِنَ الأوَّلِ، فأجابَهُ: أنا ذاهِبٌ، يا سيَّدي! ولكِنَّه ما ذهَبَ. 31فأيَّهُما عَمِلَ إرادةَ أبـيهِ؟" قالوا: "الأوَّلُ". فقالَ لهُم يَسوعُ: "الحقَ أقولُ لكُم: جُباةُ الضَّرائبِ والزَّواني يَسبِقونكُم إلى مَلكوتِ الله. 32جاءَكُم يوحنّا المَعمَدانُ سالِكًا طَريقَ الحَقَّ فما آمنتُم بِه وآمنَ بِه جُباةُ الضَّرائبِ والزَّواني. وأنتُم رأيتُم ذلِكَ، فما ندِمتُم ولو بَعدَ حينٍ فتـؤْمنوا بِه".
مثل الكرّامين.
33"إسمَعوا مَثَلاً آخَرَ: غرَسَ رجُلٌ كرمًا، فسَيَّجَهُ وحفَرَ فيهِ مَعْصَرَةً وبَنى بُرجًا وسَلَّمَهُ إلى بَعضِ الكرّامينَ وسافَرَ. 34فلمّا جاءَ يومُ القِطافِ، أرسَلَ خدَمَهُ إليهِم ليأخُذوا ثمَرَهُ. 35فأمسَكَ الكرّامونَ خدَمَهُ وضَرَبوا واحدًا منهُم، وقَتَلوا غَيرَهُ، ورَجَموا الآخَرَ. 36فأرسَلَ صاحِبُ الكرمِ خَدَمًا غَيرَهُم أكثرَ عددًا مِنَ الأوَّلينَ، ففَعَلوا بِهِم ما فَعلوهُ بالأوَّلينَ. 37وفي آخِر الأمرِ أرسلَ إلَيهِم اَبنَهُ وقالَ: سَيَهابونَ اَبني. 38فلمّا رأى الكرّامونَ الاَبنَ قالوا في ما بَينَهُم: ها هوَ الوارِثُ! تعالَوْا نَقْتُلُه ونأخُذُ ميراثَهُ! 39فأمسكوهُ ورمَوْهُ في خارِجِ الكرمِ وقَتَلوهُ.
40فماذا يفعَلُ صاحِبُ الكرمِ بِهؤلاءِ الكرّامينَ عِندَ رُجوعِهِ؟" 41قالوا لَه: "يَقتُلُ هؤُلاءِ الأشرارَ قَتلاً ويُسلَّمُ الكرمَ إلى كرّامينَ آخرينَ يُعطونَهُ الثَمرَ في حينِهِ".
42فقالَ لهُم يَسوعُ: "أما قرأتُم في الكُتُبِ المُقَدَّسةِ: الحجَرُ الَّذي رَفضَهُ البنّاؤونَ صارَ رأسَ الزّاويَةِ؟ هذا ما صنَعَهُ الرَّبٌّ، فيا للْعجَبِ!
43لذلِكَ أقولُ لكُم: سيأخُذُ الله مَلكوتَهُ مِنكُم ويُسلَّمُهُ إلى شعبٍ يَجعلُهُ يُثمِرُ. 44مَنْ وقَعَ على هذا الحَجَرِ تَهَشَّمَ. ومَنْ وقَعَ هذا الحجَرُ علَيهِ سَحقَهُ".
45فلمّا سَمِعَ رُؤساءُ الكَهنَةِ والفَرّيسيّونَ هذَينِ المَثلينِ مِنْ يَسوعَ، فَهِموا أنَّهُ قالَ هذا الكلامَ علَيهِم. 46فأرادوا أن يُمسكوهُ، ولكنَّهُم خافوا مِنَ الجُموعِ لأنَّهُم كانوا يَعُدّونَهُ نَبـيُا".
ويبدأ هذا الفصل بعملية سرقة مستوفية الأركان، فالمسيح يرسل اثنين من حوارييه ليأخذا أتانا وابنها من أحد البيوت دون إذن من أهله، وإن كان قد أضاف على سبيل الاحتياط فى حالة التلبس أن يقول الرسولان إن السيد (أى سيد؟ لا يهم. المهم أنه السيد، وخلاص، رغم أنه لا أحد هناك كان يعرف السيد!) قد أرسلنا لأخذهما لأنه محتاج إليهما، وهو يعدكما بأنه سيعيدهما فى الحال. ولما لم يرهما أحد عند أخذهما لهما فإن السيد قد حُلَّ من وعده، ومن ثم لم يعد الجحش ولا الست والدته المحترمة إلى الحظيرة، وهذا هو السبب فى أن كاتب الإنجيل "طَنَّشَ" على الموضوع. ثم متى كان المسيح يركب فى أسفاره؟ إنه دائما يسير على قدميه هو وتلاميذه. ولقد أتوا إلى أورشليم على أقدامهم، بل إنه حتى فى البحر قد مشى مرة على قدميه، فلماذا الإصرار على الركوب هذه المرة؟ إنها النبوءة! فما أصدقها من نبوءة تلك التى تستلزم سرقة حمارة وحمار!
إن هذا يذكرنا بما كانت تقوله جريدة "الوفد" المصرية فى ثمانينات القرن الماضى حين كانت تكايد الدكتور ر. م. فتشير إلى أقاربه المشهورين (والعهدة عليها) بسرقة الحمير فى قريتهم وجوارها وصبغهم إياها إيغالا منهم فى التمويه على أصحاب الحمير المسروقة كما يفعل لصوص الكائنات النهاقة فى الأرياف المصرية! أما العبد لله فيرى أن هذا كله كلام لا حقيقة له، كلام وطحينة! ولم يحدث أن أمر بسرقة جحش وحمارة، لأنه عليه السلام كان نبيا ولم يكن صبّاغ حمير من أجوار دمياط! ونقول لهم إن كتابكم محرَّف فيشتمون الرسول الكريم ويتطاولون عليه، وما دَرَوْا أنهم إنما يتسافلون وينحطون أكثر مما هم سفلة منحطون! ولعن الله دبر زيكو، الذى هو السبب فى هذا كله! وحديثا قيل فى الأمثال: "فَتِّشْ عن الدبر"! وبمناسبة النبوءة هناك فزورة كانوا يسألونناها ونحن صغار، إذ يقولون: لماذا تُبْنَى الجسور فوق الأنهار؟ وبدلا من أن تكون الإجابة الصحيحة: "لكى يعبر عليها الناس من ضفة إلى الضفة الأخرى" يقولون: "إنها قد أقيمت لكى يمر الماء من تحتها"، قالبين بذلك الآية مثلما قلبها كتبة الأناجيل. ومثلها القول بأن الله خلق للإنسان أنفا لكى يضع عليه النظارة! فكأن المسيح قرأ العهد القديم فى طفولته وصباه كما جاء فى روايات تلك الأناجيل، وكان يعرف أن هناك نبوءة تقول إنه سوف يدخل أورشليم على جحش وأتان (كيف؟ لا أدرى، إلا أن يقال إنه سوف يُفَرْشِح فيفتح ساقيه على الآخر حتى تحتويا الركوبتين معا، فيتفوق بذلك على لاعبى الأكروبات)! لكن فات كاتب السفر، لأنه ضعيف الخيال ركيك التفكير، أن يشرح لنا كيف استطاع الرسولان التعرف على البيت الذى حدده لهما السيد، وكيف دخلا البيت دون مفتاح، وكيف سرقا الحمارين من غير أن يتعرض لهما الجيران، وذلك بافتراض أن أصحاب البيت كانوا مسافرين مثلا! لا لا، إن هذا رجل لا يصلح لحكاية الحواديت!
لكن النبوءة (يا خسارة!) تقول إن هذا الداخل ملك وديع. وهذا هو نصها بالحرف حسبما ساقها السيد متى: "قولوا لابنَةِ صِهيونَ: ها هوَ مَلِكُكِ قادِمٌ إلَيكِ وديعًا راكِبًا على أتانٍ وجَحشٍ اَبنِ أتانٍ". وبطبيعة الحال لم يكن المسيح عليه السلام مَلِكًا، وهذه لا شك فيها ولا تحتمل الجدال والمراء. وكذلك لم يكن وديعا طبقا للذى افتراه عليه متّى ورفاقه الآخرون: فقد صوروه لعّانا عصبيا جافيا قلقا دائم الاتهام حتى لحوارييه بعدم الإيمان، وسوف نسمعه بعد أسطر يشنّف آذانهم بهذا الاتهام لا أدرى للمرة الــ"كم"، كما سنراه وهو يقلب موائد البيع والشراء والصرافة فى الهيكل، وكذلك وهو يلعن شجرة التين المسكينة التى لم يكن فيها تين لأنه لم يكن موسم تين، لكن الملك الوديع من وداعته، بدلا من أن يمد يده من كم قميصه أو يمد يده فى الهواء (أليس هو اله أو ابن الله؟) فيأتى بما شاء من تين وعنب ورمان وبلح وجوافة وفراولة وكاكا (لأنى أحب الكاكا، ولا داعى للموز، رغم أنى أحبه، لأنه شديد السكرية، وخَلِّنا فى البرتقال لأننا فى الشتاء الآن)، بدلا من أن يفعل السيد المسيح ذلك لعنها فيبست فى الحال! يا سلام على الوداعة! وانظروا إلى الوداعة أيضا فى "الهيصة والزمبليطة" التى صاحبت دخوله أورشليم وهتاف الجماهير له وفَرْشهم أثوابهم لدابتيه: "المَجْدُ لاَبنِ داودَ! تبارَكَ الآتي بِاَسمِ الرَّبَّ! المجدُ في العُلى!"! يا لها من وداعة لم تحدث من قبل! لكنْ إذا كانت هذه هى الوداعة، فما هو الكِبْر والغطرسة إذن؟ ثم هل كان المسيح، وهو الذى كان بارعا فى المعجزات براعةً لم تكن لأحد بهذه الكثافة من قبل، عاجزا عن أن يأتى بدابّة أو اثنتين (ويا حبذا لو وفّر لكل تلميذ أيضا، ولن نقول: لكل واحد من الجموع التى كانت تصحبه فى هذا الدخول، دابة خاصة به) من عند أبيه السماوى بدلا من أن يرسل تلاميذه لأخذ الحمير دون إذن أصحابها ولا علمهم؟ وما السبب يا ترى فى أن الجماهير خرجت هذه المرة بالذات عن مألوفها، إذ كانت تكتفى قبل هذا بالالتفاف حوله كى يُبْرِئهم هم وأولادهم من مرض أو يُطْعِمهم من جوع أو يُحْيِىَ موتاهم بإذن الله، فخالفت هذه المرة عن سلوكها المعتاد وفرشت له الطريق بالملابس والأغصان وأخذت تهتف له حتى داخل الهيكل؟
ليس ذلك فحسب، بل إن تفسير النبوءة كله تضليل فى تضليل، فالنبوءة ليست خاصة بالسيد المسيح ولا بدينه البتة، بل بخلاص اليهود! وأين المسيح عليه السلام من خلاص اليهود وعودة مجدهم لهم، وهو الذى تنبأ فى هذا الفصل نفسه أن ملكوت السماء سوف يتحول عنهم إلى أمة أخرى (هى أمة العرب كما هو واضح). ولنقرإ الفصل كله لنرى ونحكم بأنفسنا: "كلامٌ مُوحًى مِنَ الرّبِّ إلى النَّبيِّ في أرضِ حَدْراخ ودِمشقَ مَوضِعِ إقامتِهِ، لأنَّ لِلرّبِّ كُلَ البشَرِ كما لَه كُلُّ أسباطِ إسرائيلَ. 2ولَه حماةُ التي تُتاخمُ تِلكَ الأرضَ وصُورُ وصَيدونُ بكُلِّ مَناعتِها. 3بَنتْ صُورُ حِصنًا لها وكنَزَتِ الفِضَّةَ كالتُّرابِ، والذَّهبَ كوحلِ الشَّوارِعِ. 4ها السَّيِّدُ يَمتلِكُها ويَضرِبُ في البحرِ قُدرَتَها فتُؤكَلُ بالنَّارِ. 5تَرى ذلِكَ أشقَلونُ فتَخافُ، وغزَّةُ فتنحلُّ عزيمتُها، وعقرونُ فتَخزى مِنْ ضَعفِها. ويَبيدُ المُلكُ مِنْ غزَّةَ، وأشقَلونُ لا تُسكنُ، 6ويَسكُنُ الغُرَباءُ في أشدودَ. وأقضي على كبرياءِ الفلِسطيِّين، يقولُ الرّبُّ، 7وأُزِيلُ دَمَ الذَّبائحِ مِنْ أفواهِهِم، ولَحمَها الرَّجسَ مِنْ بَينِ أسنانِهِم. فتبقى مِنهُم بقيَّةٌ لإلهِنا، ويألَفونَ السَّكنَ في يَهوذا، ويكونُ أهلُ عَقرونَ هؤلاءِ كما كانَ اليبوسيُّونَ. 8وأَنزِلُ في بَيتي وأحرسُهُ مِنَ العابرِ والمُقيمِ، يقولُ الرّبُّ، فلا يَمرُّ على شعبي طاغيةٌ بَعدَ أنْ رأيتُ الآنَ بعينَيَ ما قاسُوهُ مِنَ الآلامِ. 9إِبْتَهِجي يا بنتَ صِهيَونَ، واَهتفي يا بِنتَ أُورُشليمَ ها مَلِكُكِ يأتيكِ عادلاً مُخلِّصًا وديعًا راكبًا على حمارٍ، على جحشٍ اَبنِ أتانٍ. 10سأقضي على مَركباتِ الحربِ في أفرايمَ، والخيلِ وأقواسِ القِتالِ في أورُشليمَ، فيَتكلَّمُ مَلِكُكِ بالسَّلامِ للأُمَمِ ويكونُ سُلطانُهُ مِنَ البحرِ إلى البحرِ ومِنَ النَّهرِ إلى أقاصي الأرضِ 11ولأجلِ عَهدي المَختومِ بدَمِ الضَّحايا أُطلِقُ أسرَاكِ مِنَ البِئرِ التي لا ماءَ فيها، 12فأقولُ لهُم: إِرجعوا إلى الحُصنِ أيُّها الأسرَى الذينَ لهُم رجاءٌ. اليومَ أُخبركُم أنِّي أُبارِكُكُم وأعوِّضُكُم منْ آلامِكُم ضِعفَينِ، 13فأنا سأَحني يَهوذا قَوسًا لي وأجعَلُ أفرايمَ سِهامًا لها، وأُثيرُ بنيكِ يا صِهيَونُ على بني يونانَ وأُشهِرُكِ كسَيفِ الجبَّارِ. 14ثُمَ يَظهرُ الرّبُّ علَيهم وسَهمُهُ يخرُج كالبَرقِ، والسَّيِّدُ الرّبُّ يَنفخُ في البُوقِ وينطلِقُ في زوابعِ الجنوبِ. 15الرّبُّ القديرُ يُحامي عَنهُم، فيرُوزونَ حجارةَ المِقلاعِ ويتناولونَها بمِلءِ أكُفِّهِم ويشربونَ دِماءَ أعدائِهِم كالخمرِ، ويَمتلئونَ بها كَقِصاعِ المذبَحِ وزواياهُ. 16في ذلِكَ اليومِ يُخلِّصُ الرّبُّ الإلهُ شعبَهُ كما يُخلِّصُ الرَّاعي غنَمَهُ، فيُقيمونَ في أرضِهِ كالحجارةِ الفريدةِ. 17فما أطيبَها وما أوفاها تكونُ لهُم. بِحِنطتِها ينمو الفِتيانُ وبِخمرِها العَذارَى".
إن الأمر، كما هو واضح حتى للعُمْى، إنما يختص ببنى إسرائيل والخلاص من المذلة التى كتبها الله عليهم وألّفوا له تلك الكتب وادَّعَوْا أنها وحى من الله. وعلى أية حال فلا القدس عادت أيامها لبنى إسرائيل، ولا السلام عمّ العالم أو حتى عرفته أرض الشام وفلسطين، ولا المسيح قامت له حينذاك مملكة، ولا سلطانه اتسع من البحر للبحر كما جاء فى النبوءة. يعنى باختصار: كله كلام فى الهجايص! وأخيرا فكل ما وصفته به الجموع، ولم يعترض عليه السلام على شىء منه بالمناسبة، أنه "ابن داود" و"النبى يسوع" فقط لا غير! وهذا هو الذى نقوله نحن المسلمين، لكن لا نسميه فى لغتنا: "يسوع" بل "عيسى"، "عيسى بن مريم" عليه السلام، ودُمْتُمْ!
وإلى الهيكل ندخل مع المسيح عليه الصلاة والسلام فنفاجأ به يثور على ما يجده هناك من تحويل اليهود له إلى دكان للبيع والشراء والمراباة، ويقلب أيضا الموائد والكراسى ويطرد الباعة والصيارفة قائلا إن الله إنما جعل العيكل للعبادة لا للبيع والشراء وخداع الناس وسرقة آمالهم بالغش والتزوير. ونحن لا نملك إلا أن نكون معه فى هذا الذى فعل، وإن كنا نستغرب انهزام الأشرار بهذه السهولة أمامه، وهو الذى لم يكن يمثل أية سلطة: لا دينية ولا سياسية ولا عسكرية! أتراها المفاجأة والجرأة التى عاملهم بها وقولة الحق التى بدههم بها قبل أن يستعدوا له لأنهم لم بكونوا يتوقعون منه ما صنع؟ ربما كان هذا أوجه تفسير لما حدث. إلا أننا فى ذات الوقت نستغرب أن يرضى عن الهتافات التى كانت تجلجل فى داخل الهيكل بتمجيده! أليست هى أيضا مما لم يُنْشَأ له الهيكل؟ أم ماذا؟ هذه فقط نقطة نظام ننبه إليها ولا نتوقف لديها طويلا لأنها غنية بنفسها عن كل شرح أو تعليق. أما شفاؤه المرضى فى الهيكل فلست أجد به بأسا، فقد قلنا إن الدين إنما جاء لراحة الإنسان وخدمته لا العكس، وإن فضلت مع ذلك لو أنه انتظر حتى يخرج من المعبد ثم يشفيهم كما يحب، وذلك للحفاظ على هيبة المكان وجلاله، إذ العامة لا تفهم المعانى العالية التى تحدثنا عنها هنا، ومن ثم فإن مثل هذا التصرف من جانبه قد يُفْهَم خطأ فيظنون أن كل شىء يجوز عمله فى المعبد.
وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد كان النبى عليه الصلاة والسلام يستهجن أن يَنْشُد فاقدُ الشىء شَيْئَه فى المسجد، ويُؤْثَر عنه أنه كان يعقّب على من يسمعه يفعل ذلك بألا يردّ الله عليه ضالّته، إذ كان يريد أن تبقى للمساجد حرمتها فى نفوس الناس لأن المساجد ليست أماكن يؤدى فيها المصلون صلواتهم فحسب، بل هى فوق هذا وقبل هذا معانٍ وعواطفُ وإشعاعات! ومع ذلك فقد رأى ذات مرة أعرابيا جافيا حديث عهد بالإسلام لم يستطع أن يتحكم فى نفسه فشرع يتبول فى ركن من أركان المسجد فهاج الصحابة عليه وهمّوا به يمنعونه من ذلك، لكنه صلى الله عليه وسلم، بما فُطِر عليه من رحمةٍ هاميةٍ ولمعرفته العميقة الصادقة بالضعف البشرى وبأن ثمة حاجات إنسانية يشقّ على البشر تأجيلها أو تجاهلها ولإدراكه جهل الأعرابى وأنه لم يقصد شيئا من الإساءة ولا كانت اللامبالاة هى باعثه على ذلك التصرف المشين، لكل ذلك قد كفّهم عنه قائلا: لا تقطعوا عليه بَوْلَته. ذلك أن المبادئ، حين تنزل من عليائها إلى أرض البشر، قد تتلون إلى حد ما بالسياق الذى يراد تطبيقها فيه والظروف التى تكتنفها آنذاك، ومن هنا كان لا بد من المرونة فى بعض الأحيان، وإلا توقفت سفينة الحياة والنجاة! وهذه نصوص بعض الأحاديث فى ذلك الموضوع:
عن أبى هريرة فال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سمع رجلا يَنْشُد ضالَّة في المسجد فليقل: لا رد الله عليك. فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا". وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من يَنْشُد فيه ضالَّة فقولوا :لا رد الله عليك". قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، كرهوا البيع والشراء في المسجد، وهو قول أحمد وإسحق. وقد رخص فيه بعض أهل العلم في البيع والشراء في المسجد". وعن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ! مَهْ! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِموه، دَعُوه. فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر. إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه". ولست أريد أن أقارن بين تصرف الرسول وتصرف عيسى بن مريم وأقول إن تصرف سيد الأنبياء أحكم وأهدأ وأرفق، فلكل مقام مقال وسلوك. ولم يكن اليهود الذين حولوا معبد أورشليم إلى سوق للصيرفة وتجارة الطيور كذلك الأعرابى الجاهل الذى لم يكن عنده أية فكرة عما ينبغى للمساجد من احترام وإجلال، على عكس الصيارفة والباعة الذين حولوا الهيكل إلى سوق لا تراعى فيه أدنى درجات الحياء ولا الاحتشام، مع معرفتهم رغم ذلك بكتابهم وما يوجبه عليهم تجاه بيت عبادتهم.
لكن هذا لا يسوغ السكوت على لعنه، صلى الله عليه وسلم، شجرة التين لأنه كان جائعا وكان يبحث عن شىء يتقوّت به فلم يجد فيها إلا الورق فلعنها ألا تثمر أبدا، لأنها ما ذنبها؟ إنها نبات لا يعقل ولا يفهم ولا يقدّر آلام الجائعين ولا يعرف أنه فى ساعة البطون تتيه عقول البشر الفانين! فكيف فات هذا عيسى عليه السلام، وهو نبى الرحمة والسلام كما يصوره من يزعمون أنهم على دينه، وهو ودينه منهم براء؟ ولو قلنا إنه إله كما يقولون، فلماذا لم يوفر لنفسه طعاما يأكله، مع ما فى هذا الكلام من مفارقة، إذ لو كان إلها لما جاع، ولو افترضنا المستحيل الذى لا تقبله العقول وقلنا إن الآلهة قد تجوع (الآلهة أم العشرة بمليم!)، أفلم يكن جديرا به ألا يكشف جوعه وضعفه هكذا على رؤوس الأشهاد فيَرَوْه مغتاظا نافد الصبر لا يستطيع أن يمسك نفسه لدقائق، مع أنه (فيما ذكروا لنا) قد صام عن الطعام والشراب أربعين يوما، فماذا يكون صبر دقائق أو حتى ساعات إزاء ذلك؟ وعلى أية حال فالتينة لا تملك إلا أن تطيع القوانين الكونية التى خلقها الله على أساسها. وعلى هذا فلو أراد منها المسيح أن تعطيه تينا لكان عليه أن يلغى تلك القوانين بوصفه الإله أو ابن الإله. أما أن يلعن الشجرة المسكينة على شىء ليس لها أى ذنب فيه فهو ما لا أفهمه ولا يفهمه أى عاقل! ودعونا من هذا كله، أفلم يكن من آياته إطعام الآلاف من بضع كِسْرات من الخبز وسمكات قليلة لا تصلح إلا لإطعام فرد واحد؟ أم تراه لا يستطيع أن يصنع المعجزات الطعامية إلا إذا كان عنده أساس من كِسَرٍ وأسماك وما أشبه يقيم عليه معجزته لأنه لا يمكنه أن يبدأ هذه المعجزات من الصِّفْر كما هو الحال مع الخبز، الذى لا يمكن صنعه إلا بوجود الخميرة أولا؟ أعطونى عقولكم أتصبَّر بها أيها القراء، فقد احترت واحتار دليلى، لا حَيَّر الله لكم دليلا! ولكى يزداد الطين بِلّةً نراه عليه السلام، للمرة التى لا أدرى "كَمْ"، يتهم حوارييه بأنهم شكاكون ليس عندهم إيمان، قائلا لهم: "لو كُنتُم تؤمنونَ ولا تَشُكٌّونَ، لَفعَلْتُم بِهذِهِ التّينةِ مِثلَما فعَلتُ"، وكأن ما فعله هو مما يُفْتَخَر به ويُقَاس عليه وينبغى تكراره. وعلى أية حال إذا كان هذا هو رأى المسيح عليه السلام فى الحواريين فى مسألة الإيمان والتصديق، فما وضع النصارى العاديين؟
وبالنسبة للنص التالى الذى أبدى فيه عيسى بن مريم عليه السلام رأيه فيمن يسارع من الزوانى وجُبَاة الضرائب إلى الإيمان فى الوقت الذى ينكل فيه رؤساء الكهنة عنه: "الحقَ أقولُ لكُم: جُباةُ الضَّرائبِ والزَّواني يَسبِقونكُم إلى مَلكوتِ الله. 32جاءَكُم يوحنّا المَعمَدانُ سالِكًا طَريقَ الحَقَّ فما آمنتُم بِه وآمنَ بِه جُباةُ الضَّرائبِ والزَّواني. وأنتُم رأيتُم ذلِكَ، فما ندِمتُم ولو بَعدَ حينٍ فتـؤْمنوا بِه"، فهو كلام نبيل ورائع وجميل. وقل فيه ما تشاء من مديح وثناء من هنا للصبح فلن توفيه حقه أبدا. إنه، صلى الله عليه وسلم، يؤسس قاعدة إنسانية عظيمة لا يمكن أن تكون إلا من عند الله الرحيم الكريم الذى لا تغره مظاهر الناس ولا أشكالهم بل تقواهم وإخلاصهم واستعدادهم للانخلاع عن ماضيهم الملوث وبدء صفحة جديدة طاهرة، والذى يعلم أنهم كثيرا ما تغلبهم الظروف القاهرة على أنفسهم دون رغبة منهم فيُضْطَرّون اضطرارًا إلى مقارفة الإثم، وإن قلوبهم لتلعنه وتتمنى التخلص منه وتتربص لذلك الفرصَ المواتية. وفى أحاديث المصطفى أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، وأن الله لا ينظر إلى صوركم وأشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وأن التقوى فى الصدور لا فى الطقوس، وأن مومسًا استحقت دخول الجنة بسبب شربة ماء سقتها كلبًا برّح به الظمأ فخلعت خفها عطفا على الحيوان الأعجم ودلّته إلى البئر وملأته ماء وسقته، فغفر الله لها وأدخلها الجنة، وهل يمكن أن يكون الله أقل رحمة بها منها بالكلب، وهو خالق الرحمات التى فى الدنيا كلها؟ عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غُفِر لامرأةٍ مُومِسَةٍ مرّت بكلب على رأس رَكِيٍّ يلهث قد كاد يقتله العطش، فنزعت خُفّها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك". وفى القرآن نقرأ الآية التالية عن جاريةٍ لزعيم المنافقين كان ابن سَلُول يُكْرِهها على ممارسة البغاء على تضررٍ منها واشمئزازٍ وتطلُّعٍ إلى يوم يتوب الله عليها فيه من هذا القذر: "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور/ 33). يا لله لهذا الكلام الرائع العظيم، وصلى الله على عيسى ومحمد ما ذَرَّ شارقٌ، وما سجعتْ يمامةٌ على أغصان الحدائق. هكذا الدين الصحيح، وإلا فلا.
وهناك النبوءة الخاصة بالـحَجَر الذى رفضه البناؤون، فما ذلك الحجر؟ واضح أن الله قد نَفِدَ صبره مع اليهود، أى أن المسألة تتعلق بأمة تحل محل بنى إسرائيل. وأنا أفهم هذا على أن المقصود به أمة العرب، الذين ينتمون إلى إسماعيل ابن الجارية، والذين كان بنو إسرائيل فى غبائهم العنصرى ينظرون إليهم مِنْ عَلٍ، والذين لم يقف فى طريقهم عند دعوتهم بدعوة الإسلام أحد، إذ انتصروا انتصارا ساحقا على إمبراطوريات ذلك الزمان. وأحسب أننا حين قلنا إن المقصود بالنبوءة هم العرب لم نَفْتَرِ على الحقيقة ولا اعتسفنا الكلام ولا لويناه عن وجهه شيئا، وإلا فمَنْ تلك الأمة التى ينطبق عليها هذا الكلام؟ ليست هناك أمة من أمم الأرض ورثت النبوة وفتحت الأرض وخضعت لها الشعوب وكانت انتصاراتها باهرة لم يسبق لها شبيه سواء فى السرعة أو فى الحسم أو فى اتساع رقعة الفتح غير العرب. وعلى هذا فالعرب بلا جدال هم المرادون بتلك النبوءة! وقبل أن ننتهى من هذا الفصل ننبه مرة أخرى إلى أن الذين قبلوا من قوم عيسى عليه السلام دعوته إنما آمنوا به نبيا لا ابنا لله، فضلا عن أن يكون هو الله ذاته كما تقول الأساطير المأخوذة عن وثنيات الشعوب القديمة، فهو عندهم مثل يحيى عليه السلام لا يزيد ولا ينقص! وبالمناسبة فلو كان السيد المسيح إلها أو ابن الله ما جرؤ يحيى على أن يعمّده ولأعلن للناس جميعا أنه من عنصر إلهى. وها هو ذا النص الخاص بالنبوءة والنبوة لكى يحكم القراء على ما قلناه بأنفسهم:
"إسمَعوا مَثَلاً آخَرَ: غرَسَ رجُلٌ كرمًا، فسَيَّجَهُ وحفَرَ فيهِ مَعْصَرَةً وبَنى بُرجًا وسَلَّمَهُ إلى بَعضِ الكرّامينَ وسافَرَ. 34فلمّا جاءَ يومُ القِطافِ، أرسَلَ خدَمَهُ إليهِم ليأخُذوا ثمَرَهُ. 35فأمسَكَ الكرّامونَ خدَمَهُ وضَرَبوا واحدًا منهُم، وقَتَلوا غَيرَهُ، ورَجَموا الآخَرَ. 36فأرسَلَ صاحِبُ الكرمِ خَدَمًا غَيرَهُم أكثرَ عددًا مِنَ الأوَّلينَ، ففَعَلوا بِهِم ما فَعلوهُ بالأوَّلينَ. 37وفي آخِر الأمرِ أرسلَ إلَيهِم اَبنَهُ وقالَ: سَيَهابونَ اَبني. 38فلمّا رأى الكرّامونَ الاَبنَ قالوا في ما بَينَهُم: ها هوَ الوارِثُ! تعالَوْا نَقْتُلُه ونأخُذُ ميراثَهُ! 39فأمسكوهُ ورمَوْهُ في خارِجِ الكرمِ وقَتَلوهُ. 40فماذا يفعَلُ صاحِبُ الكرمِ بِهؤلاءِ الكرّامينَ عِندَ رُجوعِهِ؟" 41قالوا لَه: "يَقتُلُ هؤُلاءِ الأشرارَ قَتلاً ويُسلَّمُ الكرمَ إلى كرّامينَ آخرينَ يُعطونَهُ الثَمرَ في حينِهِ".42فقالَ لهُم يَسوعُ: "أما قرأتُم في الكُتُبِ المُقَدَّسةِ: الحجَرُ الَّذي رَفضَهُ البنّاؤونَ صارَ رأسَ الزّاويَةِ؟ هذا ما صنَعَهُ الرَّبٌّ، فيا للْعجَبِ! 43لذلِكَ أقولُ لكُم: سيأخُذُ الله مَلكوتَهُ مِنكُم ويُسلَّمُهُ إلى شعبٍ يَجعلُهُ يُثمِرُ. 44مَنْ وقَعَ على هذا الحَجَرِ تَهَشَّمَ. ومَنْ وقَعَ هذا الحجَرُ علَيهِ سَحقَهُ". 45فلمّا سَمِعَ رُؤساءُ الكَهنَةِ والفَرّيسيّونَ هذَينِ المَثلينِ مِنْ يَسوعَ، فَهِموا أنَّهُ قالَ هذا الكلامَ علَيهِم. 46فأرادوا أن يُمسكوهُ، ولكنَّهُم خافوا مِنَ الجُموعِ لأنَّهُم كانوا يَعُدّونَهُ نَبـيُا".
الفصل الثانى والعشرون:
"مثل وليمة الملك.
وعادَ يَسوعُ إلى مُخاطَبَةِ الجُموعِ بالأمثالِ، فقالَ: 2"يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ مَلِكًا أقامَ وليمَةً في عُرسِ اَبنِه. 3فأرسَلَ خدَمَهُ يَستَدْعي المَدعُوَّينَ إلى الوَليمَةِ، فرَفَضوا أنْ يَجيئوا. 4فأرسَلَ خدَمًا آخرينَ ليقولوا للمَدعُوّينَ: أعدَدْتُ وليمَتي وذَبَحتُ أبقاري وعُجولي المُسمَّنةَ وهيَّأتُ كُلَ شيءٍ، فتعالَوْا إلى العُرسِ! 5ولكنَّهُم تهاوَنُوا، فمِنهُم مَنْ خرَجَ إلى حقلِهِ، ومِنهُم مَنْ ذهَبَ إلى تِجارَتِهِ، 6والآخرونَ أمسكوا خَدَمَهُ وشَتَموهُم وقَتَلوهُم. 7فغَضِبَ الملِكُ وأرسَلَ جُنودَهُ، فأهلَكَ هؤلاءِ القَتَلةَ وأحرَقَ مَدينَتَهُم. 8ثمَّ قالَ لخَدَمِهِ: الوَليمةُ مُهيَّأةٌ ولكنَّ المَدعُوّينَ غَيرُ مُستحقّينَ، 9فاَخرُجوا إلى مَفارقِ الطٌّرُقِ واَدعُوا إلى الوَليمَةِ كُلَ مَنْ تَجِدونَهُ. 10فخرَجَ الخَدَمُ إلى الشَّوارعِ وجَمَعوا مَنْ وجَدوا مِنْ أشرار وصالِحينَ، فاَمتلأتْ قاعَةُ العُرسِ بالمدعُوَّينَ.
11فلمّا دخَلَ المَلِكُ ليَرى المدعوّينَ، وجَدَ رجُلاً لا يَلبَسُ ثِـيابَ العُرسِ. فقالَ لَه: 12كيفَ دَخَلتَ إلى هُنا، يا صَديقي، وأنتَ لا تلبَسُ ثِـيابَ العُرسِ? فسكَتَ الرَّجُلُ. 13فقالَ المَلِكُ للخَدَمِ: اَربُطوا يَدَيهِ ورِجلَيهِ واَطرَحوهُ خارِجًا في الظَّلامِ فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ. 14لأنَّ المدَعُوّينَ كَثيرونَ، وأمّا المُختارونَ فَقليلونَ".
دفع الجزية إلى القيصر.
15وذهَبَ الفَرّيسيّونَ وتَشاوَروا كيفَ يُمسِكونَ يَسوعَ بِكلِمَةٍ. 16فأرسلوا إلَيهِ بَعضَ تلاميذِهِم وبَعضَ الهيرودُسيـّينَ يَقولونَ لَه: "يا مُعَلَّمُ، نَعرِفُ أنَّكَ صادقٌ، تُعلَّمُ بِالحَقَّ طَريقَ الله، ولا تُبالي بأحدٍ، لأنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النّاسِ. 17فقُلْ لنا: ما رأيُكَ؟ أيَحِلُّ لنا أنْ نَدفَعَ الجِزْيَةَ إلى القَيصَرِ أم لا؟"
18فعرَفَ يَسوعُ مَكرَهُم، فقالَ لهُم: "يا مُراؤونَ! لِماذا تُحاوِلونَ أنْ تُحْرِجوني؟ 19أرُوني نَقدَ الجِزْيةِ!" فناولوهُ دينارًا. 20فقالَ لهُم: "لِمَن هذِهِ الصّورَةُ وهذا الاسمُ؟" 21قالوا: "لِلقَيصَرِ!" فقالَ لهُم: "اَدفَعوا، إذًا، إلى القَيصَرِ ما لِلقَيصَرِ، وإلى الله ما لله!" 22فتَعَجَّبوا مِمّا سَمِعوهُ، وتَركوهُ ومَضَوْا.
قيامة الأموات.
23وفي ذلِكَ اليومِ جاءَ إلى يَسوعَ بَعضُ الصدّوقيـّينَ، وهُمُ الَّذينَ يُنكِرونَ القِـيامَةَ، وسألوهُ: 24"يا مُعلَّمُ، قالَ موسى: إنْ ماتَ رجُلٌ لا ولَدَ لَه، فَلْيَتَزوَّجْ أخوهُ اَمرأتَهُ ليُقيمَ نَسلاً لأخيهِ. 25وكانَ عِندَنا سبعةُ إخوةٍ، فتَزوَّجَ الأوَّلُ وماتَ مِنْ غَيرِ نَسلٍ، فتَرَكَ اَمرأتَهُ لأخيهِ. 26ومِثلُهُ الثّاني والثّالِثُ حتَّ? السّابِــــــعُ. 27ثُمَّ ماتَتِ المرأةُ مِنْ بَعدِهِم جميعًا. 28فلأيَّ واحدٍ مِنهُم تكونُ زوجةً في القيامةِ؟ لأنَّها كانَت لَهُم جميعًا".
29فأجابَهُم يَسوعُ: "أنتُم في ضَلالٍ، لأَّنكُم تَجهَلونَ. الكُتُبَ المُقَدَّسةَ وقُدرَةَ الله. 30ففي القِـيامَةِ لا يَتَزاوَجونَ، بلْ يكونونَ مِثلَ مَلائِكَةٍ في السَّماءِ. 31وأمّا قيامَةُ الأمواتِ، أفَما قَرَأتُم ما قالَ الله لكُم: 32أنا إلــهُ إبراهيمَ، وإلــهُ إسحقَ، وإلــهُ يعقوبَ؟ وما كانَ الله إلــهَ أمواتٍ، بل إلــهُ أحياءٍ".
33وسَمِعَ الجُموعُ هذا الكلامَ، فتَعَجَّبوا مِنْ تَعليمِهِ.
الوصية العظمى.
34وعَلِمَ الفَرّيسيّونَ أنَّ يَسوعَ أسكَتَ الصَدّوقيـّينَ، فاَجتمعوا معًا. 35فسألَهُ واحِدٌ مِنهُم، وهوَ مِنْ عُلماءِ الشَّريعةِ، ليُحرِجَهُ: 36"يا مُعَلَّمُ، ما هي أعظمُ وصِيَّةٍ في الشَّريعةِ؟"
37فأجابَهُ يَسوعُ: "أحِبَّ الرَّبَّ إلهَكَ بِكُلٌ قَلبِكَ، وبِكُلٌ نفسِكَ، وبكُلٌ عَقلِكَ. 38هذِهِ هيَ الوصِيَّةُ الأولى والعُظمى. 39والوصِيَّةُ الثّانِـيةُ مِثْلُها: أحِبَّ قَريبَكَ مِثلَما تُحبٌّ نفسَكَ. 40على هاتينِ الوصِيَّـتَينِ تَقومُ الشَّريعةُ كُلٌّها وتَعاليمُ الأنبـياءِ".
المسيح وداود.
41وبَينَما الفَرّيسيّونَ مُجتمِعونَ سألَهُم يَسوعُ: 42"ما قولُكُم في المَسيحِ؟ اَبنُ مَنْ هوَ؟" قالوا لَه: "اَبنُ داودَ!" 43قالَ لهُم: "إذًا، كيفَ يَدعوهُ داودُ رَبُا، وهوَ يَقولُ بِوَحْيٍ مِنَ الرٌّوحِ: 44قالَ الرَّبٌّ لِرَبّـي: اَجلِسْ عَنْ يَميني حتَّى أجعَلَ أعداءَكَ تَحتَ قَدَمَيْكَ. 45فإذا كانَ داودُ يَدعو المَسيحَ رَبُا، فكَيفَ يكونُ المَسيحُ اَبنَهُ؟"
46فما قدِرَ أحدٌ أن يُجيبَهُ بكَلِمَةٍ، ولا تجرَّأَ أحدٌ مِنْ ذلِكَ اليومِ أنْ يَسألَهُ عَنْ شَيءٍ".
أحسب أن القارئ الآن يدرك أفضل من ذى قبل كيف أن رسالة السيد المسيح محصورة فى ضرب الأمثال عن ملكوت السماوات وإلقاء بعض المواعظ المغرقة فى المثالية والتى تبدو للعيون عن بعد شيئا رائعا، لكننا إذا اقتربنا منها وحللناها هالنا عدم واقعيتها وتأبيها على التطبيق مهما فعلنا، ببساطة لأنها تدابر الفطرة البشرية، وإلا فكم واحدا من البشر، وبالذات من المنافقين الذين يرددون كالثعالب هذا الكلام، ينفّذ شيئا من هذا فى الواقع؟ والعجيب أن فريقا كبيرا من أولئك الذين يسببون لنا خَوْتة الدماغ بسبب تصايحهم الساذج بهذه الشعارات الخاوية هم أول الناس تمردا عليها ونفورا من التمسك بها على أرض الواقع، فتراهم قليلى الأدب سفلة هجامين معتدين كذابين مزورين متباذئين يتطاولون على أشرف المرسلين رغم كل كلامهم عن التسامح و"من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر" حتى مللنا وأحسسنا بالغثيان والرغبة فى القىء! هذه هى رسالة السيد المسيح، ولست أقلل منها ولا منه عليه السلام، لكنى أقول إننا إذا وضعناها تجاه رسالة المصطفى لبدا لنا للوهلة الأولى كيف أن نبوة ابن مريم لا تشكل أكثر من ركن صغير لطيف من الدار الوسيعة الفسيحة التى بناها ابن عبد الله، أو هى بمثابة "دكّانة صغيرة مُحَنْدَقة" بالنسبة لما يسمونه فى الإنجليزية: "هايبر ماركت". هذا بالضبط هو الوضع الحقيقى لتَيْنِك الرسالتين ورسوليهما، مع احترامنا للاثنين لأنهما كليهما من عند الله.
وقد وصلتنى الليلة رسالة مضحكة ينصحنى فيها السذج الثلاثة الذين نقلوها من أحد المواقع المهجرية وبعثوا بها لى أن أُسْلِم نفسى للسيد المسيح وأترك الإسلام، ذلك الدين النرجسى السادى الذى أتى به رسول شيطان. يقولون هذا بكل أدب ظاهرى، لكن فيه قلة الأدب التى تخطر والتى لا تخطر على البال، وفيه كذلك الكفر كله، والسفالة التى فى الدنيا جمعاء. وهؤلاء المآبين الزِّيكُووِيّون السادرون فى سذاجتهم وهمجيتهم وبدائية تفكيرهم وتدنى مستوى فهومهم وعامية منطقهم يتصورون أن هذا الأسلوب يمكن أن يؤثر فى أحدٍ ممن لديه ذرة من العقل والثقافة، ولا يريدون أن يفهموا أن ما يطلبونه إنما هو التخلف بعينه، وأن أتباع محمد (لا الذين يعبدون عيسى من دون الله) هم فى الحقيقة محبّو عيسى الذين يفهمون رسالته حق الفهم ويخلصون لها من كل قلوبهم. إننا مع التوحيد الذى جاء به المسيح وكل الأنبياء صلى الله عليهم أجمعين، ولا يعقل أن يشذ المسيح عليه السلام عن جميع النبيين والمرسلين فيأتى وحده دونهم بالتثليث. هذه وثنية وتخلف عقيدى ذهب وذهبت أيامه، لا أرجعها الله، أما إذا أرادت طائفة من البشر أن يتمسكوا بهذا التخلف وتلك البدائية التى إنما تناسب الناس فى جاهليتهم الأولى فهم وشأنهم، لكن ينبغى أن يتمتعوا بما يسمَّى فى لغة المتحضرين: "الذوق"! فليس من المعقول أن يأتى رجلٌ كلُّ حظه من الثقافة أنه يفك الخط فيطلب من أستاذ جامعى مثلا أن يترك أستاذيته وينصت لما عنده من علم عظيم لم يأت به عالم من قبل ولن يأتى به من بعد! بالله ما الذى يمكن أن تقوله لمثل هذا الجاهل المتخلف الذى يتصور بجهله وتخلفه أن الله يتجسد ويتبول ويخرأ ويقتله عباده ويهينونه ويبصقون عليه؟ أى إلهٍ هُزُؤٍ هذا الإله؟ أَوَعَدِمَتِ الآلهةُ ولم يعد هناك آلهة بحق وحقيق؟ بئست هذه ألوهية!
ثم عاد المسيح إلى تهديده لبنى إسرائيل بأن النبوة ستتحول عنهم جراء صلابة رقابهم واستمرار كفرهم وإيذائهم الأنبياء أو قتلهم إياهم، وهذا هو المغزى الذى يومئ إليه المثل الأول فى هذا الفصل. لقد فضل الله سبحانه وتعالى بنى إسرائيل يوما على العالمين، لكنهم لقصور عقولهم وغرورهم حسبوا أنه جل وعلا إنما فضلهم لما فيهم من فضل ذاتى لا لنزول رسالات السماء فيهم وتمثيلهم العقيدة التوحيدية ردحا من الزمن فى المحيط الوثنى العالمى من حولهم، وأنهم مهما فعلوا وعاندوا وكفروا لا يمكن أن يحاسَبوا ويعاقَبوا كسائر الأمم، أما إن كانت هناك مؤاخذة وحساب فلن تمسهم النار إلا أياما معدودات، "وغَرَّهم فى دينهم ما كانوا يَفْتَرُون" كما جاء فى القرآن الكريم، فنبههم السيد المسيح أنْ "صَحّ النوم"، فقد أصبحنا فى "الضُّحَى العالى" و"راحت عليكم نومة" بل راح عليكم كل شىء، واقتضى الوضع الجديد أن تتحول عنكم النبوة إلى أمة أخرى هى أمة العرب، التى اقتضت مشيئة الله أن يظهر من بينها رسول يحمل رسالة السماء إلى الدنيا كلها لا إلى قومه وحدهم، وهو ما كان، لكن بنى إسرائيل ظلوا بعقولهم الزَّنِخة على جحودهم وعنادهم ماضين لا يريدون أن يفهموا أن الدنيا قد تغيرت، ثم جاء أتباع السيد المسيح فغَلَوْا فيه وبدلا من أن يصلحوا الأمر أفسدوه إفسادا شنيعا. ولنقرأ:
وعادَ يَسوعُ إلى مُخاطَبَةِ الجُموعِ بالأمثالِ، فقالَ: 2"يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ مَلِكًا أقامَ وليمَةً في عُرسِ اَبنِه. 3فأرسَلَ خدَمَهُ يَستَدْعي المَدعُوَّينَ إلى الوَليمَةِ، فرَفَضوا أنْ يَجيئوا. 4فأرسَلَ خدَمًا آخرينَ ليقولوا للمَدعُوّينَ: أعدَدْتُ وليمَتي وذَبَحتُ أبقاري وعُجولي المُسمَّنةَ وهيَّأتُ كُلَ شيءٍ، فتعالَوْا إلى العُرسِ! 5ولكنَّهُم تهاوَنُوا، فمِنهُم مَنْ خرَجَ إلى حقلِهِ، ومِنهُم مَنْ ذهَبَ إلى تِجارَتِهِ، 6والآخرونَ أمسكوا خَدَمَهُ وشَتَموهُم وقَتَلوهُم. 7فغَضِبَ الملِكُ وأرسَلَ جُنودَهُ، فأهلَكَ هؤلاءِ القَتَلةَ وأحرَقَ مَدينَتَهُم. 8ثمَّ قالَ لخَدَمِهِ: الوَليمةُ مُهيَّأةٌ ولكنَّ المَدعُوّينَ غَيرُ مُستحقّينَ، 9فاَخرُجوا إلى مَفارقِ الطٌّرُقِ واَدعُوا إلى الوَليمَةِ كُلَ مَنْ تَجِدونَهُ. 10فخرَجَ الخَدَمُ إلى الشَّوارعِ وجَمَعوا مَنْ وجَدوا مِنْ أشرار وصالِحينَ، فاَمتلأتْ قاعَةُ العُرسِ بالمدعُوَّينَ. 11فلمّا دخَلَ المَلِكُ ليَرى المدعوّينَ، وجَدَ رجُلاً لا يَلبَسُ ثِـيابَ العُرسِ. فقالَ لَه: 12كيفَ دَخَلتَ إلى هُنا، يا صَديقي، وأنتَ لا تلبَسُ ثِـيابَ العُرسِ? فسكَتَ الرَّجُلُ. 13فقالَ المَلِكُ للخَدَمِ: اَربُطوا يَدَيهِ ورِجلَيهِ واَطرَحوهُ خارِجًا في الظَّلامِ فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ. 14لأنَّ المدَعُوّينَ كَثيرونَ، وأمّا المُختارونَ فَقليلونَ". صلى الله وسلم على عيسى بن مريم، الذى جاء بالحق وصدّق المرسلين، لكن القوم ألهوه وأعادونا إلى المربع رقم واحد، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت! ومع ذلك فمذهبنا أن كل إنسان حر فيما يختار لنفسه، لكن قلة الأدب والسفالة لا يمكن أن يسكت عليها أىّ حرّ كريم!
ثم ينتقل متّى فى حكايته المسماة خطأً بــ"الإنجيل" إلى موضوع آخر مهم هو موضو ع الجزية. وأرجو أن يقرأ الجميع (مسلمون ونصارى وعفاريت زرق) الكلام الذى قاله السيد المسيح فى هذا الموضوع طبقا لما حدثنا به متّى: "15وذهَبَ الفَرّيسيّونَ وتَشاوَروا كيفَ يُمسِكونَ يَسوعَ بِكلِمَةٍ. 16فأرسلوا إلَيهِ بَعضَ تلاميذِهِم وبَعضَ الهيرودُسيـّينَ يَقولونَ لَه: "يا مُعَلَّمُ، نَعرِفُ أنَّكَ صادقٌ، تُعلَّمُ بِالحَقَّ طَريقَ الله، ولا تُبالي بأحدٍ، لأنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النّاسِ. 17فقُلْ لنا: ما رأيُكَ؟ أيَحِلُّ لنا أنْ نَدفَعَ الجِزْيَةَ إلى القَيصَرِ أم لا؟"18فعرَفَ يَسوعُ مَكرَهُم، فقالَ لهُم: "يا مُراؤونَ! لِماذا تُحاوِلونَ أنْ تُحْرِجوني؟ 19أرُوني نَقدَ الجِزْيةِ!" فناولوهُ دينارًا. 20فقالَ لهُم: "لِمَن هذِهِ الصّورَةُ وهذا الاسمُ؟" 21قالوا: "لِلقَيصَرِ!" فقالَ لهُم: "اَدفَعوا، إذًا، إلى القَيصَرِ ما لِلقَيصَرِ، وإلى الله ما لله!" 22فتَعَجَّبوا مِمّا سَمِعوهُ، وتَركوهُ ومَضَوْا". فعيسى بن مريم يوجب على أتباعه أن يدفعوا الجزية لحكامهم أيا كان هؤلاء الحكام وألا يثيروا بشأنها شَغْبًا تحت أى دعوى. فهل يتصرف من يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام بناء على هذه الفتوى الصريحة الواضحة التى لا تحتمل لبسا، ورغم ذلك نراهم يختلقون المشاكل فى البلاد الإسلامية التى يعيشون فيها على أحسن ما يرام ودون أن يدوس أحد لهم على طرف، فيزعمون أن دفعهم الجزية أمر غير مقبول، مع أن أحدا من المسلمين لم يقل لهم: ادفعوا الجزية. وهل هناك دولة إسلامية تمشى الآن على شريعة محمد كاملة؟
هذه واحدة، والثانية أن المسيح يقول فى معرض رده على سؤال المنافقين اليهود الغَدَرة إنهم يريدون أن يحرجوه، ومن الواضح أنه كان ضائق الصدر بهذا الإحراج، فهل هناك إله يقول هذا لعباده، اللهم إلا أن يكون إلها فالصو وارد العالم الثالث من الآلهة التى تصنع تحت السلم، وليس إلها أصليا من الذين تصنعهم اليابان؟ لقد كنت أظن أنه سيمحقهم بكلمة واحدة من فمه أو بإشارة من إصبعه أو بمكالمة من هاتفه الخلوى لمَلَكٍ من الملائكة الذين وضعهم الله فى ملكوت السماوات تحت أمره وفى خدمته! أم تراه لما وجد نفسه وحيدا دون ملائكة حوله شعر بالارتباك والحيرة وأخذه الخجل وكان ما كان من خوفه من الإحراج، ناسيا أنه إله أو ابن إله، وأنه من العيب أن يشعر إله بالحرج، وممن؟ من بعض مخلوقاته! ونقول لهم إن هذا الكلام لا يمكن أن يكون وحيا سماويا ولا أن يكون وراءه الروح القدس، فيتركون الجواب عن هذا الاعتراض ويستديرون يشتمون الرسول الكريم صلى لله عليه وسلم! يا سفلة، هل عليكم عفريت اسمه "محمد"؟ فأين الوداعة والسماحة والرقة والمحبة والتواضع والسلام والسكينة (كفاية يا عمنا! قطّعتَ قلبى! حرام عليك!)؟ ودعونا من حكاية الصفع على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر! ثم لماذا الإحراج، وهو إنما جاء ليُقْتَل على الصليب؟ فمم يخاف إذن؟ إنه مقتول مقتول، فلم الخوف؟ أم تراه كان يريد أن يفطّ من أداء المهمة التى كلفه أبوه بها؟ ولنلاحظ أنه لم يعترض على مناداة اليهود له بــ"يا معلم"، أى أنه لا هو ابن الله ولا الله ذاته، أستغفر الله.
ثم السؤال الخاص بالعلاقة بين الرجال والنساء فى ملكوت السماوات: كيف ستكون؟ وقد طرح اليهود السؤال وكأنه سيكون هناك زواج وتزويج وعقدٌ وتسجيل وشهود وتحريمٌ وتحليلٌ كالذى هنا. وبطبيعة الحال لا يوجد شىء كهذا هناك، بل سعادة دائمة ولذائذ لا حصر لها ولا تَنْفَد أبدا ولا يعتريها قلق ولا ألم ولا خوف، ولا يصاحبها شىء مما يصاحبها فى الدنيا من مَغْص أو طَمْث أو بول أو بَراز أو صُنَان...إلخ. لذلك كان جواب المسيح، إن صح أنه جوابه فعلا، أن هؤلاء المنافقين الغَدَرَة لا يعرفون شيئا عن الكتب المقدسة وقدرة الله. وهذا صحيح، فقدرة الله لا حد لها، وقياس الجنة أو ملكوت الله على الدنيا خطأ منهجى وإيمانى معا، فللعالم الآخر قوانينه التى تختلف عن قوانين الدنيا: "يومَ تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ". وما المانع إذن أن يخلق الله من كل شخص أكثر من نسخة إن أراد أكثرُ من واحد من أهل الجنة أن يستمتعوا بصحبته أو صداقته أو مسامرته... إلخ. وعلى هذا فلا نستبعد أن تكون هناك أكثر من نسخة لتلك المرأة التى ضربها اليهود مثلا يحرجون به المسيح عليه السلام، بحيث تكون لكل واحد من السبعة التى يريدونها جميعا: نسخته الخاصة به. وهذا طبعا إن راح أولئك الغجر الأوغاد رائحتها من على بُعْد مليون سنة ضوئية، ولا إخال!
أما سؤال عيسى عليه السلام: من يكون المسيح؟ وابن من هو؟ فهو خِزْىٌ ما بعده خزى لكل الأطراف، وإلى القراء بيان ذلك: إن عيسى يعترض على من قال إنه "ابن داود" بقوله: لو أنه كان حقا ابن داود فلماذا قال عنه داود: "رَبِّى"؟ ومعنى هذا أنه ليس ابن داود، مع أنه قد سبق (كما رأينا أكثر من مرة) أن ناداه بعضهم أو وصفه بــ"ابن داود"، فلم يعترض عليه ولا قدم له البديل الصحيح، بل كان يجيبه ويقضى له ما يريد! ليس ذلك فقط، بل إن كاتب الإنجيل الذى بين يدينا، وهو السيد متّى، يقول بعظمة لسانه إنه من سلالة داود كما شاهدنا فى سلسلة النسب الكريم التى تضم بين حلقاتها "داود وبتشبع"، ولا داعى لأن نقلب الصفحات القديمة الفاضحة الخاصة بهذين العاشقين الفاجرين ولا بنسبة السيد المسيح إلى يوسف النجار حسبما يَرْوُون هم لا نحن، لأن كلامنا "كخّة"!
ثم كيف يمكننا أن نعتمد على كلام داود، ذلك الزانى المجرم قتَّال القَتَلة كما صوروه؟ هذه أولا. وثانيا كيف يمكن من يدعى أن المسيح هو الرب أن يثبت أن كلام داود هنا هو عن السيد المسيح؟ هل يصدقنى أحد إذا قلت له إننى أنا المقصود بكلمة "ربى" هذه؟ طبعا ستقولون: وما دليلك على هذا؟ وهذه فى الواقع إجابة سديدة وحصيفة، ولذلك سوف أتكئ عليها فى ردى على هذا التخبيص، فأقول: وأين الدليل على أن المقصود بــ"ربى" فى كلام داود هو المسيح؟ لا دليل والله العظيم، إنما هو العبث والتعسف والاستبلاه! هل جاء ذكر المسيح فى هذا المزمور على نحو ينصرف الكلام معه حتما إلى عيسى بن مريم؟ ورابعا (أو خامسا، لا أدرى بالضبط): أليس داود هذا هو ابن الله كما جاء فى العهد القديم ذاته الذى تريدون منا أن نصدق الآن بما قاله عن "رَبِّى" هذه كى تَبْنُوا عليها أن المسيح هو ابن الله؟ فارْسُوا لكم أوّلاً على بَرّ: من هو ابن الله؟ داود أم المسيح أم آدم أم لا أدرى من أيضا؟ فإذا أردتم أن تعتمدوا على العهد القديم فى إثبات بنوة المسيح لله رب العالمين، فقولوا أولا إن آدم ابن الله، وإن داود ابن الله، وإن أولئك الشبان الذين كانوا فى مبتدإ التاريخ البشرى والذين رَأَوْا أن بنات الناس حَسَنات واتخذوهن زوجات لهم حسبما ذكر لنا ملفقو سفر "التكوين" هم أبناء الله أيضا، كما لا بد لكم أولا من الإقرار بأن كل النصارى هم أبناء الله بنصّ الصلاة التى علمهم إياها المسيح: "أبانا الذى فى السماوات..."...إلخ، وأن موسى كان إله هارون، وهارون نبيّه طبقا لما قاله ملفّق سِفْر "الخروج". كما أنكم لصوصٌ غُشْم، وهذا النوع من التزوير والبكش يحتاج لموهبة لصٍّ أذكى منكم كثيرا، لصٍّ يستطيع أن يسرق الكحل من العين، وهو ما لم وما لن تصلوا إليه! وسادسا أن كلمة "ربى" (كما جاء فى "تفسير الكتاب المقدس" للدكتور فرانسيس دافدسون وغيره/ ط2/ دار منشورات التفسير/ بيروت/ 3/ 110) هى ترجمة لكلمة "أدوناى" بالعبرية التى تعنى أيضا مجرد لقب يدل على الاحترام مثلما ورد فى سفر "التكوين" (23/ 6)، ولذلك تُرْجِمت فى نسخة الكتاب المقدس اللبنانية التى أعتمد عليها هنا بــ"سيدى الملك": "قالَ الرّبُّ لسيِّدي الملِك: إجلسْ عَنْ يَميني حتى أجعَلَ أعداءَكَ مَوطِئًا لِقدَمَيكَ"، بالإضافة إلى ما جاء فى ذلك التفسير من أن هذا الكلام ينطبق، على نحو ما، على داود وسليمان، اللذين كانا يمارسان الحكم باسم الرب. كما ورد فى الفصل الأول من إنجيل لوقا أنها تعنى "المعلم": "35 وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 36 فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ ! . 37 فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟"! ولماذا نضيع وقتنا إذا كان بمكنتنا أن نضع نص المزمور كله بين أيدى القراء الكرام ليَرَوْا بأنفسهم ماذا يقصد كاتبه؟ وها هو ذا النص من النسخة اللبنانية التى أعتمد عليها فى هذه الدراسة:
"مزمورٌ لِداوُدَ: قالَ الرّبُّ لسيِّدي الملِك: "إجلسْ عَنْ يَميني حتى أجعَلَ أعداءَكَ مَوطِئًا لِقدَمَيكَ». 2صَولجانُ عِزِّكَ يُرسِلُهُ الرّبُّ مِنْ صِهيَونَ، ويقولُ: «تسَلَّطْ في وسَطِ أعدائِكَ». 3شعبُكَ يَلتَفُّ حَولَكَ طَوعًا يومَ تقودُ جنودَكَ على الجبالِ المُقدَّسةِ، فَمِنْ رَحِمِ الفَجرِ حَلَ كالنَّدى شبابُكَ. 4أقسَمَ الرّبُّ ولن يندَمَ: «أنتَ كاهنٌ إلى الأبدِ على رُتبَةِ مَلكيصادَقَ". 5الرّبُّ يقِفُ عَنْ يَمينِكَ ويُهَشِّمُ المُلوكَ يومَ غضَبِهِ. 6يَدينُ في الأمَمِ، وبالجثَثِ يملأُ الأوديةَ. تحْمَرُّ تِلالُ الأرضِ الشَّاهِقَة ُ 7وتُسقَى الأوديةُ دِماءً، فيرتَفِعُ رَأسُكَ أيُّها المَلِكُ". وكما ترى فمتّى قد اقتطع كعادته المهبَّبة ما يريد وما يظن أنه ينفعه وتَرَك ما لا يريد لأنه سيفضحه. كيف؟ لقد أخذ الجلوسَ على يمين الرب ظنا منه أنه يدل على أن المسيح هو ابن الله، مع أنه رغم ذلك لا يدل على هذا المعنى. وفوق هذا فإن الله لم يجعل أعداء المسيح موطئا لقدميه، بل مكّنهم من قتله وصلبه وإهانته وشتمه وتكسير ركبتيه وطعْنه فى جنبه بالرمح كما أخبرنا كتاب الأناجيل. ثم إن المسيح لم يكن له جنود يقودها لا على الجبال المقدسة ولا على الجبال المدنسة لأنه لم يكن قائدا أصلا: لا عسكريا ولا سياسيا، بل عندما سئل عن الجزية قال لهم: أَدُّوها لقيصر، وعدّ ذلك إحراجا له، وهرب بتلك الطريقة بعيدا عن الموضوع، وليس هذا تصرف القادة. ثم متى كان المسيح كاهنا على رتبة ملكيصادق أو حتى على رتبة الفريق صادق؟ لقد كان حملة شرسة على الكهانة والكهان كما رأينا. وفى النهاية ففى أول النص أن الله سيُجْلِسه على يمينه، على حين نفاجأ فى آخر النص بأنه سوف يُجْلِسه على شماله (ما دام سبحانه سوف يجلس عن يمينه). وحين يجدون لهذه وحدها حلا يستطيعون أن يقابلونى! ثم عندما نقول لهم: إن كتابكم مخرِّف ومحرَّف، يشتمون سيد البشر والأنبياء. خيبة الله على أصحاب العقول المظلمة التى يخيّم عليها العنكبوت ويَعِيث فيها الدود مثل أدبارهم المنتنة!
الفصل الثالث والعشرون:
"يسوع يحذر من معلمي الشريعة والفريسيـين.
وخاطَبَ يَسوعُ الجُموعَ وتلاميذَهُ، 2قالَ: "مُعلَّمو الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ على كُرسِيَّ موسى جالسونَ، 3فاَفعَلوا كُلَ ما يَقولونَهُ لكُم واَعمَلوا بِه. ولكِنْ لا تَعمَلوا مِثلَ أعمالِهِم، لأنَّهُم يَقولونَ ولا يَفعلونَ: 4يَحزِمونَ أحمالاً ثَقيلَةً شاقَّةَ الحَمْلِ ويُلْقونَها على أكتافِ النّاسِ، ولكنَّهُم لا يُحَرَّكونَ إصْبَعًا تُعينُهُم على حَمْلِها. 5وهُمْ لا يَعمَلونَ عَمَلاً إلاّ لِـيُشاهِدَهُمُ النّاسُ: يجعَلونَ عَصائِبَهُم عريضَةً على جِباهِهِم وسواعِدِهم، ويُطَوَّلونَ أطرافَ ثِـيابِهِم، 6ويُحبّونَ مَقاعِدَ الشَّرَفِ في الوَلائِمِ ومكانَ الصَّدارَةِ في المجامِـعِ 7والتحِيّاتِ في الأسواقِ، وأنْ يَدْعُوَهُمُ النّاسُ: يـا مُعلَّمُ. 8أمّا أنتُم فلا تَسمَحوا بأنْ يَدْعُوَكُم أحدٌ: يا مُعلَّمُ، لأنّـكُم كُلَّكُم إخوَةٌ ولكُم مُعلَّمٌ واحدٌ. 9ولا تَدْعوا أحدًا على الأرضِ يا أبانا، لأنَّ لكُم أبًا واحدًا هوَ الآبُ السَّماويٌّ. 10ولا تَسمَحوا بأنْ يَدْعوَكُم أحدٌ: يا سيَّدُ، لأنَّ لكُم سيَّدًا واحدًا هوَ المَسيحُ. 11وليكُنْ أكبَرُكُم خادِمًا لكُم. 12فَمَن يَرفعْ نَفسَهُ يَنخفِضْ، ومَنْ يَخفِضْ نفسَهُ يرتَفِـعْ.
13الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُغلِقونَ مَلكوتَ السَّماواتِ في وُجوهِ النّاسِ، فلا أنتُم تَدخُلونَ، ولا تَترُكونَ الدّاخلينَ يَدخُلونَ.
14[الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تأكُلونَ بُيوتَ الأرامِلِ وأنتُمْ تُظهِرونَ أنَّـكُم تُطيلونَ الصَّلاةَ، سيَنـالُكُم أشدٌّ العِقابِ].
15الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تَقطَعونَ البحرَ والبَـرَّ لتكسِبوا واحدًا إلى دِيانَتِكُم، فإذا نَجَحتُم، جَعَلْتموهُ يستَحِقٌّ جَهنَّمَ ضِعفَ ما أنتُم تَستَحِقٌّونَ!
16. الوَيلُ لكُم أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تَقولونَ: مَنْ حَلفَ بالهَيكلِ لا يَلتزِمُ بـيَمينِهِ، ولكنْ مَنْ حَلَفَ بذَهَبِ الهَيكَلِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 17فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها الجُهّالُ العُميانُ؟ الذهَبُ أمِ الهَيكَلُ الَّذي قَدَّسَ الذهَبَ؟ 18وتَقولونَ: مَنْ حلَفَ بالمَذبحِ لا يلتَزمُ بـيمينِهِ، ولكِنْ من حَلفَ بالقُربانِ الَّذي على المذبَحِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 19فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها العُميانُ؟ القُربانُ أمِ المَذبحُ الَّذي يُقدَّسُ القُربانَ؟ 20أما ترَوْن أنَّ الَّذي يَحلِفُ بالمذبَحِ يَحلِف بِه وبِكُلٌ ما علَيهِ، 21والَّذي يَحلِفُ بالهَيكَلِ يَحلِفُ بِه وبالله السَّاكنِ فيهِ، 22والَّذي يحلِفُ بالسَّماءِ يحلِفُ بعَرشِ الله وبالجالِسِ علَيهِ؟
23الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تُعطُونَ العُشْرَ مِنَ النَعْنعِ والصَعتَرِ والكَمّونِ، ولكنَّـكُم تُهمِلونَ أهمَّ ما في الشَّريعةِ: العَدلَ والرَّحمةَ والصَّدقَ، وهذا ما كانَ يَجبُ علَيكُم أنْ تَعمَلوا بِه مِنْ دونِ أن تُهمِلوا ذاكَ. 24أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تُصَفّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ، ولكنَّـكُم تَبتَلِعونَ الجمَلَ.
25الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُطَهَّرونَ ظاهِرَ الكأسِ والصَّحنِ، وباطنُهُما مُمتلِـئ بِما حصَلتُم علَيهِ بالنَّهبِ والطَمَعِ. 26أيٌّها الفَرَّيسيٌّ الأعمى! طَهَّرْ أوَّلاً باطنَ الوِعاءِ، فيَصيرَ الظَّاهِرُ مِثلَهُ طاهرًا.
27الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! أنتُم كالقُبورِ المبـيَضَّةِ، ظاهرُها جميلٌ وباطِنُها مُمتَلئ~ بعِظامِ الموتى وبكُلٌ فسادٍ. 28وأنتُم كذلِكَ، تَظهَرونَ لِلنّاسِ صالحينَ وباطِنُكُم كُلٌّهُ رِياءٌ وشَرٌّ.
29.الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تَبْنونُ قُبورَ الأنبـياءِ وتُـزَيَّنونَ مدافِنَ الأتقياءِ، 30وتَقولونَ: لو عِشنا في زَمَنِ آبائِنا، لما شارَكْناهُم في سَفْكِ دَمِ الأنبـياءِ. 31فتَشهَدونَ على أنفُسِكُم بأنَّـكُم أبناءُ الَّذينَ قَتلوا الأنبـياءَ. 32فتَمَّموا أنتُم ما بَدأَ بِه آباؤُكُم.
33أيٌّها الحيّاتُ أولادَ الأفاعي! كيفَ ستَهرُبونَ مِنْ عِقابِ جَهنَّمَ؟ 34لذلِكَ سأُرسِلُ إلَيكُم أنبـياءَ وحُكَماءَ ومُعَلَّمينَ، فمِنهُم مَنْ تَقتُلونَ وتَصلِبونَ، ومِنهُم مَنْ تَجلِدونَ في مجامِعِكُم وتُطارِدونَ مِنْ مدينةٍ إلى مدينةٍ، 35حتَّ? يَنزِلَ بِكُم العِقابُ على سَفكِ كُلٌ دمِ بريءٍ على الأرضِ، مِنْ دمِ هابـيلَ الصَّدّيقِ إلى دمِ زكريّا بنِ بَرَخِيّا الَّذي قتَلتُموهُ بَينَ المَذبحِ وبَيتِ الله. 36الحقُّ أقولُ لكُم: هذا كُلٌّهُ سيَقَعُ على هذا الجِيلِ!
محبة يسوع لأورشليم.
37"أُورُشليمُ، أُورُشليمُ! يا قاتِلَةَ الأنبـياءِ وراجِمةَ المُرسَلينَ إلَيها. كَم مَرَّةٍ أرَدتُ أنْ أجمَعَ أبناءَكِ، مِثلَما تَجمَعُ الدَّجاجةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها، فما أردتُم. 38وها هوَ بَيتُكُم مَتروكٌ لكُم خَرابًا. 39أقولُ لكُم: لَن تَرَوْني إلاّ يومَ تهتِفونَ: تَبارَكَ الآتي بِاَسمِ الرَّبَّ".
سبق أن سمعنا عيسى بن مريم، عليه وعليها السلام، يقرر أنه إذا كان القدماء قد قالوا كذا وكذا فهو يقول شيئا آخر لم تأت به الشريعة من قبل. وها نحن أولاء الآن نسمعه يقول شيئا مختلفا عن هذا الذى قال، إذ يوصى تلاميذه والجموع التى كانت تلتف حوله بأن يفعلوا كل ما يأمرهم به رجال الدين اليهودى. أى أن عليهم الالتزام بقوانين الشريعة كما يعلمهم إياها معلّمو الشريعة والفَرِّيسيّون، وهو ما لا معنى له سوى أن عليهم نسيان ما كان قد قاله لهم. وهذا تناقض آخر من التناقضات الحادة فى مواقف السيد المسيح وفى كلامه طبقا لما كتبته عنه الأناجيل، وإن كنا نحن لا نصدق شيئا من هذا الذى تتقوله عليه تلك الأناجيل. وهذا هو النص المريب: "مُعلَّمو الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ على كُرسِيَّ موسى جالسونَ، 3فاَفعَلوا كُلَ ما يَقولونَهُ لكُم واَعمَلوا بِه".
أما ما جاء بعد هذا فى هجومه على المعلمين والفريسيين فهو يستحق أن يسجَّل بالإِبَر على آماق البَصَر لأنه من الكنوز الوعظية النفيسة التى لا يمكن تقويمها ولا دفع ثمنها: "4يَحزِمونَ أحمالاً ثَقيلَةً شاقَّةَ الحَمْلِ ويُلْقونَها على أكتافِ النّاسِ، ولكنَّهُم لا يُحَرَّكونَ إصْبَعًا تُعينُهُم على حَمْلِها. 5وهُمْ لا يَعمَلونَ عَمَلاً إلاّ لِـيُشاهِدَهُمُ النّاسُ: يجعَلونَ عَصائِبَهُم عريضَةً على جِباهِهِم وسواعِدِهم، ويُطَوَّلونَ أطرافَ ثِـيابِهِم، 6ويُحبّونَ مَقاعِدَ الشَّرَفِ في الوَلائِمِ ومكانَ الصَّدارَةِ في المجامِـعِ 7والتحِيّاتِ في الأسواقِ، وأنْ يَدْعُوَهُمُ النّاسُ: يـا مُعلَّمُ. 8أمّا أنتُم فلا تَسمَحوا بأنْ يَدْعُوَكُم أحدٌ: يا مُعلَّمُ، لأنّـكُم كُلَّكُم إخوَةٌ ولكُم مُعلَّمٌ واحدٌ. 9ولا تَدْعوا أحدًا على الأرضِ يا أبانا، لأنَّ لكُم أبًا واحدًا هوَ الآبُ السَّماويٌّ. 10ولا تَسمَحوا بأنْ يَدْعوَكُم أحدٌ: يا سيَّدُ، لأنَّ لكُم سيَّدًا واحدًا هوَ المَسيحُ. 11وليكُنْ أكبَرُكُم خادِمًا لكُم. 12فَمَن يَرفعْ نَفسَهُ يَنخفِضْ، ومَنْ يَخفِضْ نفسَهُ يرتَفِـعْ. 13الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُغلِقونَ مَلكوتَ السَّماواتِ في وُجوهِ النّاسِ، فلا أنتُم تَدخُلونَ، ولا تَترُكونَ الدّاخلينَ يَدخُلونَ. 14[الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تأكُلونَ بُيوتَ الأرامِلِ وأنتُمْ تُظهِرونَ أنَّـكُم تُطيلونَ الصَّلاةَ، سيَنـالُكُم أشدٌّ العِقابِ]. 15الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تَقطَعونَ البحرَ والبَـرَّ لتكسِبوا واحدًا إلى دِيانَتِكُم، فإذا نَجَحتُم، جَعَلْتموهُ يستَحِقٌّ جَهنَّمَ ضِعفَ ما أنتُم تَستَحِقٌّونَ! 16. الوَيلُ لكُم أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تَقولونَ: مَنْ حَلفَ بالهَيكلِ لا يَلتزِمُ بـيَمينِهِ، ولكنْ مَنْ حَلَفَ بذَهَبِ الهَيكَلِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 17فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها الجُهّالُ العُميانُ؟ الذهَبُ أمِ الهَيكَلُ الَّذي قَدَّسَ الذهَبَ؟ 18وتَقولونَ: مَنْ حلَفَ بالمَذبحِ لا يلتَزمُ بـيمينِهِ، ولكِنْ من حَلفَ بالقُربانِ الَّذي على المذبَحِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 19فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها العُميانُ؟ القُربانُ أمِ المَذبحُ الَّذي يُقدَّسُ القُربانَ؟ 20أما ترَوْن أنَّ الَّذي يَحلِفُ بالمذبَحِ يَحلِف بِه وبِكُلٌ ما علَيهِ، 21والَّذي يَحلِفُ بالهَيكَلِ يَحلِفُ بِه وبالله السَّاكنِ فيهِ، 22والَّذي يحلِفُ بالسَّماءِ يحلِفُ بعَرشِ الله وبالجالِسِ علَيهِ؟ 23الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تُعطُونَ العُشْرَ مِنَ النَعْنعِ والصَعتَرِ والكَمّونِ، ولكنَّـكُم تُهمِلونَ أهمَّ ما في الشَّريعةِ: العَدلَ والرَّحمةَ والصَّدقَ، وهذا ما كانَ يَجبُ علَيكُم أنْ تَعمَلوا بِه مِنْ دونِ أن تُهمِلوا ذاكَ. 24أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تُصَفّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ، ولكنَّـكُم تَبتَلِعونَ الجمَلَ. 25الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُطَهَّرونَ ظاهِرَ الكأسِ والصَّحنِ، وباطنُهُما مُمتلِـئ بِما حصَلتُم علَيهِ بالنَّهبِ والطَمَعِ. 26أيٌّها الفَرَّيسيٌّ الأعمى! طَهَّرْ أوَّلاً باطنَ الوِعاءِ، فيَصيرَ الظَّاهِرُ مِثلَهُ طاهرًا. 27الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! أنتُم كالقُبورِ المبـيَضَّةِ، ظاهرُها جميلٌ وباطِنُها مُمتَلئ بعِظامِ الموتى وبكُلٌ فسادٍ. 28وأنتُم كذلِكَ، تَظهَرونَ لِلنّاسِ صالحينَ وباطِنُكُم كُلٌّهُ رِياءٌ وشَرٌّ. 29.الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تَبْنونُ قُبورَ الأنبـياءِ وتُـزَيَّنونَ مدافِنَ الأتقياءِ، 30وتَقولونَ: لو عِشنا في زَمَنِ آبائِنا، لما شارَكْناهُم في سَفْكِ دَمِ الأنبـياءِ. 31فتَشهَدونَ على أنفُسِكُم بأنَّـكُم أبناءُ الَّذينَ قَتلوا الأنبـياءَ. 32فتَمَّموا أنتُم ما بَدأَ بِه آباؤُكُم. 33أيٌّها الحيّاتُ أولادَ الأفاعي! كيفَ ستَهرُبونَ مِنْ عِقابِ جَهنَّمَ؟ 34لذلِكَ سأُرسِلُ إلَيكُم أنبـياءَ وحُكَماءَ ومُعَلَّمينَ، فمِنهُم مَنْ تَقتُلونَ وتَصلِبونَ، ومِنهُم مَنْ تَجلِدونَ في مجامِعِكُم وتُطارِدونَ مِنْ مدينةٍ إلى مدينةٍ، 35حتَّ? يَنزِلَ بِكُم العِقابُ على سَفكِ كُلٌ دمِ بريءٍ على الأرضِ، مِنْ دمِ هابـيلَ الصَّدّيقِ إلى دمِ زكريّا بنِ بَرَخِيّا الَّذي قتَلتُموهُ بَينَ المَذبحِ وبَيتِ الله. 36الحقُّ أقولُ لكُم: هذا كُلٌّهُ سيَقَعُ على هذا الجِيلِ"!
وهذا الكلام الذى يُنْسَب للمسيح يَصْدُق على كثير من علماء الدين ورجاله الذين اتخذوه حرفة وقتلوا روحه وقلبوه رأسا على عقب، وهو لا يقتصر على رجال الدين اليهود وحدهم، بل يشملهم هم وعلماء الدين النصارى والمسلمين أيضا، إذ قد يتحول الدين على أيديهم إلى شكليات ميتة لا تحيى روحا ولا تستنهض همة ولا تدفئ قلبا ولا تصحح مفهوما ولا تسعد نفسا ولا تخلق عطفا ولا مرحمة ولا تنشر محبة ولا تطرد الوحشة من حياة أى إنسان. ترى ما فائدة الدين إذن؟ إن كثيرا من المتدينين وعلماء الدين يقيمون الدنيا مثلا كلاما عن تقصير الثياب أو تطويل اللحية، فى الوقت الذى لا يتطرقون إلى الحديث عن حقوق الشعوب تجاه حكامها أو حقوق الفقراء فى أموال القادرين. وكثير ممن يمارسون الدعوة إلى الدين يحرصون أشد الحرص على تصدر المجالس وتقدم الصفوف وتمجيد الناس لهم وتلقيبهم بأفخم الألقاب، وإلا فلا دعوة ولا يحزنون. ومنهم من يأكلون الدنيا باسم الدين، ويبتلعون السحت ويقولون: هل من مزيد؟ وكأنهم جهنم الحمراء التى سَيَصْلَوْنها ويُشْوَوْن فيها يوم القيامة. وكما حمل السيد المسيح حملته الشعواء على المرائين من كهان اليهود فقد حمل القرآن أيضا على الرهبان والأحبار من اليهود والنصارى جميعا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة/ 34- 35)، "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ* ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد/ 26- 27). ولننظر فى نَهْى السيد المسيح لتلاميذه عن أن ينادوا أحدا على وجه الأرض بكلمة "يا أبانا" لأنهم ليس لهم، كما قال، إلا أب واحد هو الله فى السماء. وهذا دليل آخر على أن أبوة الله للسيد المسيح، إذا كان حقا قد قالها، إنما هى أبوة الرمز والدلالة على أنه هو الخالق الرازق الكريم الرحيم الغفور الودود...
ثم عندنا أيضا كلامه، صلى الله عليه وسلم،عن القَسَم. وكلامه فى هذا المضمار يدل على أنه قد نَسِىَ ما قاله من النهى عن الحَلِف، فها هو ذا يحاجّ الفريسيين ومعلمى الشريعة بأن الحَلِف بالهيكل أقوى من الحَلِف بذهب الهيكل لأن الحلف بالهيكل يساوى الحلف بالله الساكن فيه، كما أن الحلف بالسماء يساوى الحلف بعرش الله وبالله ذاته. ولو كان القَسَم منهيًّا عنه فعلا لما أتعب نفسه فى هذا الجدال ولقال باختصار إن القَسَم مرفوض فى دينه، ولكنه كما نرى لم يفعل. فعلام يدل هذا؟ ألا يدل على أن معظم ما جاء فى الأناجيل هو مجرد "كلام فى الهجايص"؟ كذلك لدينا هذا العنف فى الخطاب العيسوى مع الكتبة والفريسيين، وهو عنف يناقض الصورة التى يرسمها البكاشون له بناء على ما جاء فى الأناجيل على زعمهم، ويسوقونها زاعمين أنه كان وديعا وعطوفا ورحيما مع الجميع: الأعداء قبل التابعين! إنها كذبة كبرى استطاعت للأسف أن تعشش فى أذهان الأغبياء قرونا وقرونا، وساعد على هذا ما وصف به القرآن أخلاق عيسى بن مريم وسلوكه. لكن لا بد من معرفة أن ثمة فارقا واسعا وعميقا بن العيسيين: عيسى القرآن، وهو عِيسًى رقيقٌ لطيفٌ ودودٌ بارٌّ بأمه يدعو إلى التوحيد ويعرف حدوده فيلتزمها ولا يتعالى على قدره ولا يخطر له التطلع إلى مقام الألوهية. ثم عيسى الأناجيل، وهو عِيسًى شتامٌ هجامٌ يتربص بالآخرين الأخطاء ولا يحترم أمه ولا يتورع عن تحقير تلاميذه متهما إياهم بقلة الإيمان بل بانعدامه، ويهدد الدنيا بأنه إنما جاء بالسيف لا بالسلام، وبإثارة المنازعات حتى داخل البيت الواحد لا بالحب والمودة والتعايش السلمى بين الطوائف المختلفة! وهذه بعض شتائمه وسخائمه: الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! الوَيلُ لكُم أيٌّها القادَةُ العُميانُ! أيٌّها العُميانُ! أيٌّها الجُهّالُ العُميانُ! أيٌّها الحيّاتُ أولادَ الأفاعي! كيفَ ستَهرُبونَ مِنْ عِقابِ جَهنَّمَ؟ تُصَفّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ، ولكنَّـكُم تَبتَلِعونَ الجمَلَ. أيٌّها الفَرَّيسيٌّ الأعمى! أُورُشليمُ، أُورُشليمُ! يا قاتِلَةَ الأنبـياءِ وراجِمةَ المُرسَلينَ إلَيها! إننى حين أقول هذا لا أريد الانحياز لصفوف الفريسيين والمعلمين، بل كل ما أبغيه أن أبين للقراء الكرام أن ما يقال عن وداعة عيسى وتواضعه فى الإنجيل ليس إلا دعوى يكذّبها الرجوع بأنفسنا لذلك الإنجيل كما فعل العبد لله، فعندئذ تتضح الصورة الصحيحة على الفور بمجرد لمسك القشرة الرقيقة لذلك الإنجيل، تلك القشرة التى تتساقط من مجرد اللمس! وبالمناسبة فالكتبة الدينيون اليهود والفريسيون يستحقون فعلا كل ما قاله فى حقهم السيد المسيح، لكن القول بأن المسيح، حسبما صوره الإنجيل، هو شخص وديع بَلْهَ المثال الأعلى فى الرقة والرحمة والوداعة والتواضع، هو قولٌ كاذب أو على الأقل: قولٌ واهم. وبالمناسبة أيضا فإن يرابيع المهجر وكلابه المسعورة لهى أشد استحقاقا لأن يقال لها: أيٌّها الجُهّالُ العُميانُ! أيها المراؤون الكذبة! أيتها الحيات أولاد الأفاعى! الوَيلُ لكُم أيٌّها الصمّ العُميانُ ذوى العقول والقلوب الغُلْف! ليس لكم يوم القيامة عند الله إلا ربط أيديكم وأرجلكم بالجنازير الشائكة وطَلْى أبدانكم المنتنة بالزفت والقَطِران ثم إلقاؤكم فى قعر جهنم جزاء وفاقا على كفركم بالله وإشراككم به ثم التطاول على سيد النبيين والمرسلين! ألا لعنة الله عليكم أجمعين أكتعين أبصعين!
الفصل الرابع والعشرون:
"يسوع ينبـئ بخراب الهيكل.
وخرَجَ يَسوعُ مِنَ الهَيكَلِ. وبَينَما هوَ يَبتَعِدُ عَنهُ، دَنا إلَيهِ تلاميذُهُ يُوجَّهونَ نظَرَهُ إلى أَبنِـيةِ الهَيكَلِ. 2فقالَ لهُم: "أتَرَونَ هذا كُلَّهُ؟ الحقَّ أقولُ لكُم: لن يُترَكَ هُنا حجَرٌ على حجَرٍ، بل يُهدَمُ كُلٌّهُ".
الاضطراب والاضطهاد.
3وبَينَما يَسوعُ جالسٌ في جبَلِ الزَّيتونِ، سألَهُ تلاميذُهُ على اَنفِرادٍ: "أخبِرْنا متى يَحدُثُ هذا الخَرابُ، وما هِـيَ علامَةُ مَجيئِكَ واَنقِضاءِ الدَّهرِ؟"
4فأجابَهُم يَسوعُ: "اَنتَبِهوا لِـئلاّ يُضلَّلَكُم أحدٌ. 5سيَجيءُ كثيرٌ مِنَ النّاسِ مُنتَحِلينَ اَسمي، فيقولونَ: أنا هوَ المَسيحُ! ويَخدعونَ كثيرًا مِنَ النّاسِ. 6وستَسمَعونَ بالحُروبِ وبِأخبارِ الحُروبِ، فإيّاكُم أن تَفزَعوا. فهذا لا بُدَّ مِنهُ، ولكنَّها لا تكونُ هيَ الآخِرةَ. 7ستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّةٍ، ومَملَكَةٌ على مملَكَةٍ، وتَحدُثُ مجاعاتٌ وزَلازِلُ في أماكِنَ كثيرةٍ. 8وهذا كُلٌّهُ بَدءُ الأوجاعِ.
9وفي ذلِكَ الوَقتِ يُسلَّمونَكُم إلى العَذابِ ويَقتُلونَكُم. وتُبغِضُكُم جميعُ الأُممِ مِنْ أجلِ اَسمي. 10ويَرتَدٌّ عَنِ الإيمانِ كثيرٌ مِن النّاسِ، ويَخونُ بعضُهُم بَعضًا ويُبغِضُ واحدُهُم الآخَرَ. 11ويَظهَرُ أنبـياءُ كذّابونَ كثيرونَ ويُضلَّلونَ كثيرًا مِنَ النّاسِ. 12ويَعُمٌّ الفَسادُ، فَتبرُدُ المَحبَّةُ في أكثرِ القُلوبِ. 13ومَنْ يَثبُتْ إلى النَّهايَةِ يَخلُصْ. 14وتَجيءُ النَّهايةُ بَعدَما تُعلَنُ بِشارةُ مَلكوتِ الله هذِهِ في العالَمِ كُلَّهِ، شَهادةً لي عِندَ الأُمَمِ كُلَّها.
الخراب العظيم.
15"فإذا رَأيتُم "نَجاسَةَ الخَرابِ" التي تكلَّمَ علَيها النَّبـيٌّ دانيالُ قائِمةً في المكانِ المُقَدَّسِ (إفهَمْ هذا أيٌّها القارئْ)، 16فَلْيَهرُبْ إلى الجِبالِ مَنْ كانَ في اليهودِيَّةِ. 17ومَنْ كانَ على السَّطحِ، فلا يَنزِلْ لِـيأخُذَ مِنَ البَيتِ حوائجَهُ. 18ومَنْ كانَ في الحَقْلِ فلا يَرجِـــعْ ليَأخُذَ ثَوبَهُ. 19الوَيلُ لِلحَبالى والمُرضِعاتِ في تِلكَ الأيّامِ. 20صَلٌّوا لِـئلاَّ يكونَ هرَبُكُم في الشَّتاءِ أو في السَّبتِ. 21فسَتَنزِلُ في ذلِكَ الوقتِ نكبةٌ ما حدَثَ مِثلُها مُنذُ بَدءِ العالَمِ إلى اليومِ، ولن يَحدُثَ. 22ولولا أنَّ الله جعَلَ تِلكَ الأيّامَ قَصيرةً، لَما نَجا أحدٌ مِنَ البشَرِ. ولكِنْ مِنْ أجلِ الَّذينَ اَختارَهُم جعَلَ تِلكَ الأيّامَ قصيرةً. 23فإذا قالَ لكُم أحدٌ: ها هوَ المَسيحُ هُنا، أو ها هوَ هُناكَ! فلا تُصدَّقوهُ، 24فسيَظهرُ مُسَحاءُ دجّالونَ وأنبـياءُ كذّابونَ، يَصنَعونَ الآياتِ والعَجائبَ العَظيمةَ ليُضَلَّلوا، إنْ أمكَنَ، حتَّى الذينَ اَختارَهُمُ الله. 25ها أنا أُنذِرُكُم. 26فإنْ قالوا لكُم: ها هوَ في البرّيَّةِ! فلا تَخرُجوا إلى هُناكَ، أو ها هوَ في داخِلِ البُيوتِ! فلا تُصدَّقوا، 27لأنَّ مجيءَ اَبنِ الإنسانِ يكونُ مِثلَ البَرقِ الَّذي يلمَعُ مِنَ المشرقِ ويُضيءُ في المغرِبِ. 28وحَيثُ تكونُ الجِيفَةُ تَجتَمِـعُ النٌّسورُ.
مجيء ابن الإنسان.
29"وفي الحالِ بَعدَ مصائبِ تِلكَ الأيّامِ، تُظلِمُ الشَّمسُ ولا يُضيءُ القمَرُ. وتتساقَطُ النٌّجومُ مِنَ السَّماءِ، وتَتَزعزعُ قُوّاتُ السَّماءِ. 30وتَظهَرُ في ذلِكَ الحينِ علامةُ اَبنِ الإنسانِ في السَّماءِ، فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأرضِ، ويَرى النّاسُ اَبنَ الإنسانِ آتـيًا على سَحابِ السَّماءِ في كُلٌ عِزّةٍ وجلالٍ. 31فيُرسِلُ ملائِكَتَهُ بِبوقٍ عَظيمِ الصَوتِ إلى جِهاتِ الرّياحِ الأربعِ ليجمَعوا مُختاريهِ مِنْ أقصى السَّماواتِ إلى أقصاها.
عبرة التينة.
خُذوا مِنَ التَّـينةِ عِبرةً: إذا لانَتْ أغصانُها وأورَقَتْ، علِمتُم أنَّ الصَّيفَ قريبٌ. 33وكذلِكَ إذا رأيتُم هذا كُلَّهُ، فاَعلَموا أنَّ الوقتَ قريبٌ على الأبوابِ. 34الحقَّ أقولُ لكُم: لن ينقضِيَ هذا الجِيلُ حتى يتِمَّ هذا كُلٌّهُ. 35السَّماءُ والأرضُ تَزولانِ وكلامي لنْ يَزولَ.
السهر الدائم.
36"أمّا ذلِكَ اليومُ وتِلكَ السَّاعةُ فلا يَعرِفُهُما أحدٌ، لا ملائِكةُ السَّماواتِ ولا الاَبنُ، إلاّ الآبُ وحدَهُ. 37وكما حدَثَ في أيّامِ نوحِ فكذلِكَ يَحدُثُ عِندَ مجيءِ اَبنِ الإنسانِ. 38كانَ النّاسُ في الأيّامِ التي سَبَقتِ الطُوفانَ يأكُلونَ ويَشرَبونَ ويَتَزاوَجونَ، إلى يومِ دخَلَ نوحٌ الفُلكَ. 39وما كانوا ينتَظِرونَ شيئًا، حتَّى جاءَ الطُوفانُ فأغرَقهُم كُلَّهُم. وهكذا يَحدُثُ عِندَ مَجيءِ اَبنِ الإنسانِ: 40فيكونُ رَجُلانِ في الحقلِ، فيُؤخذُ أحدُهُما ويُترَكُ الآخَرُ. 41وتكونُ اَمرأتانِ على حجَرِ الطحنِ، فتُؤخَذُ إحداهُما وتُتركُ الأُخرَى.
42فاَسهَروا، لأنَّكُم لا تَعرِفونَ أيَّ يومِ يَجيءُ رَبٌّكُم. 43واَعلَموا أنَّ رَبَّ البَيتِ لو عَرَفَ في أيَّةِ ساعَةٍ مِنَ اللَّيلِ يَجيءُ اللَّصٌّ، لسَهِرَ وما تَركَهُ يَنقُبُ بَيتَهُ. 44فكونوا أنتُم أيضًا على اَستِعدادٍ، لأنَّ اَبنَ الإنسانِ يَجيءُ في ساعةٍ لا تَنتَظِرونَها.
مثل الخادم الأمين.
45"فَمَن هوَ الخادِمُ الأمينُ العاقِلُ الَّذي أوكَلَ إلَيهِ سيَّدُهُ أن يُعطِيَ خَدمَهُ طعامَهُم في حينِهِ؟ 46هنيئًا لذلِكَ الخادِمِ الَّذي يَجدُهُ سيَّدُهُ عِندَ عَودَتِهِ يقومُ بِعَمَلِهِ هذا. 47الحقَّ أقولُ لكُم: إنَّه يُوكِلُ إلَيهِ جميعَ أموالِهِ. 48أمّا إذا كانَ هذا الخادِمُ شِرَّيرًا وقالَ في نَفسِهِ: سيَــتأخَّرُ سيَّدي، 49وأخذَ يَضرِبُ رِفاقَهُ ويأكُلُ ويَشرَبُ معَ السِكَّيرينَ، 50فيَرجِـــعُ سيَّدُهُ في يومِ لا يَنتَظِرُهُ وساعةٍ لا يَعرِفُها، 51فيُمزَّقُهُ تَمزيقًا ويَجعلُ مصيرَهُ معَ المُنافِقينَ. وهُناكَ البُكاءُ وصريفُ الأسنان"ِ.
أما الهيكل فقد انتهى أمره، والنبوءة نبوءة صحيحة، ومن هنا فإننا نؤمن أنها جزء من الوحى السماوى الذى نزل على عيسى بن مريم عليه السلام لأنه ما من بشر يستطيع أن يعلم الغيب إلا بإلهام من السماء. أما القول المنسوب إليه من أنه "سيَجيءُ كثيرٌ مِنَ النّاسِ مُنتَحِلينَ اَسمي، فيقولونَ: أنا هوَ المَسيحُ! ويَخدعونَ كثيرًا مِنَ النّاسِ"، فيبدو أنه أقل مصداقية من نبوءة تهدم الهيكل، فإن "كثيرين" لم يأتوا منتحلين اسمه صلى الله عليه وسلم. وأذكر الآن اثنين من هؤلاء: الأول هو اليهودى التركى سباتاى زفى، الذى ظهر فى النصف الثانى من القرن السابع عشر وادعى أنه المسيح المنتظر، ثم تحول ظاهريا بعد ذلك إلى الإسلام. وهذا الرجل هو الجذر الذى نبت وتفرع منه يهود الدونمة فى تركيا. والثانى نبى قاديان المزيف غلام أحمد الهندى، الذى أعلن دعواه فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. أما الأنبياء الكذبة فمنهم مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسى فى الماضى، والقاديانى والباب والبهاء ورشاد خليفة وبريقع والخنزير شاروش، الذى زعم هبوط "الفرقان الحق" على استه المنتنة وعدد آخر من الرجال والنساء لا يحضرنى أسماؤهم الآن فى العصر الحديث. ويبقى قوله إن حروبا ستقع، وزلازل وبراكين ستثور وما إلى ذلك، وهو كلام عام فى وقائع لا يختص بها عصر دون عصر، فالحروب والزلازل والبراكين عنصر أساسى من عناصر تاريخ البشر وجغرافية الأرض التى يعيشون فوقها لم يتوقف نشاطه فى يوم من الأيام.
ثم نأتى إلى تصريحاته عن القيامة، ونلاحظ أن كلامه يختلف فى بعض الأشياء عما قاله الرسول، ويتفق معه فى بعض الأشياء الأخرى: فمثلا نرى أن ما نصح به من أنه "إذا رَأيتُم "نَجاسَةَ الخَرابِ" التي تكلَّمَ علَيها النَّبـيٌّ دانيالُ قائِمةً في المكانِ المُقَدَّسِ، 16فَلْيَهرُبْ إلى الجِبالِ مَنْ كانَ في اليهودِيَّةِ. 17ومَنْ كانَ على السَّطحِ، فلا يَنزِلْ لِـيأخُذَ مِنَ البَيتِ حوائجَهُ. 18ومَنْ كانَ في الحَقْلِ فلا يَرجِـــعْ ليَأخُذَ ثَوبَهُ" لا يتسق مع ما طالب الرسول به المسلمين من أنه "إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فَسْلة، فلْيغرسها"، وإن كان كل من القولين يتسق مع المنحى العام للدين الذى يتبعه: فعيسى عليه السلام، إذا كان لنا أن نصدق كل ما نُسِب له فى الأناجيل، يدعو إلى هجران الدنيا وتطليقها بالثلاث وعدم الاهتمام بأمورها بتاتا كما قرأنا فى نصوص غير قليلة مرت بنا قبلا، فما بالنا إذا كانت الدنيا تلفظ أنفاسها الأخيرة فعلا؟ أما محمد ودينه فيدعوان بغير هذه الدعوة. إنهما يعملان على أن يجمع المسلم، مثلما رأينا من قبل، بين خَيْرَىِ الدنيا والآخرة. ولنلاحظ أيضا أنه حين سأل التلاميذُ معلّمَهم عن رجوعه بعد موته إلى الحياة لم يذكر سوى عودته قبيل القيامة، ولم يتطرق إلى عودته الأخرى التى لا يذكرها إلا النصارى، وهى قيامه المزعوم من الأموات بعد ثلاثة أيام من موته ودفنه، مما لا نصدق نحن المسلمين منه شيئا لأننا نؤمن أنه لم يُصْلَب ولم يقتل، بل "شُبِّه لهم" كما قال القرآن، ولا ندرى ماذا حدث له بالضبط لأن القرآن قد سكت عن ذلك تماما، وإن كان هناك جماعة تنتسب للإسلام زورا (وهم طائفة القاديانية أو الأحمدية) يقولون إنه بعد أن أُنْزِل من فوق الصليب كان لا يزال حيا، وإنه سافر حينذاك إلى الهند لدعوة اليهود الذين كانوا هناك، ثم مات بعد عمر طويل ودفن فى كشمير، وإن له قبرا هناك يسمى "قبر صاحب".
وهناك توافق بين ما جاء فى الإنجيل عن علامات يوم القيامة وما ذكره القرآن عن ذات الموضوع: ففى الإنجيل نقرأ: "تُظلِمُ الشَّمسُ ولا يُضيءُ القمَرُ. وتتساقَطُ النٌّجومُ مِنَ السَّماءِ، وتَتَزعزعُ قُوّاتُ السَّماءِ. 30وتَظهَرُ في ذلِكَ الحينِ علامةُ اَبنِ الإنسانِ في السَّماءِ، فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأرضِ، ويَرى النّاسُ اَبنَ الإنسانِ آتـيًا على سَحابِ السَّماءِ في كُلٌ عِزّةٍ وجلالٍ. 31فيُرسِلُ ملائِكَتَهُ بِبوقٍ عَظيمِ الصَوتِ إلى جِهاتِ الرّياحِ الأربعِ ليجمَعوا مُختاريهِ مِنْ أقصى السَّماواتِ إلى أقصاها"، وهو ما تنبأ القرآن بأشياء مشابهة له مثل قوله تعالى فى سورة "القيامة": "بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)"، وقوله فى سورة "التكوير": "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)"، وقوله فى سورة "الانفطار": "إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)". كذلك هناك البوق العظيم الصوت الذى يزعم كاتب الإنجيل أن ابن الإنسان "سيُرسِلُ ملائِكَتَهُ (به) إلى جِهاتِ الرّياحِ الأربعِ ليجمَعوا مُختاريهِ مِنْ أقصى السَّماواتِ إلى أقصاها"، إذ لدينا نحن أيضا "النفخ فى الصور" الذى ذُكِر فى سورة "الزمر" و"ق" و"الحاقة"، بيد أن هذا النفخ لا يجمع المختارين وحدهم، بل يقوم الموتى جميعا لدن سماعه من مقابرهم ويحدث البعث والنشور استجابة لأمر الله لا لأمر ابن الإنسان أو خلافه! كما سيأتى الله سبحانه بكل جلاله فى ظُلَلٍ من الغمام ومعه ملائكته حاملين عرشه طبقا لما ورد فى سورة "البقرة" و"الحاقة" و"الفجر" مثلا، وليس هناك ذكر بأى شىء لابن الإنسان لأنه ليس لله شريك لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، بل هو الله الواحد الأحد: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210)"، "فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)"، " كَلاّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)".
إلا أن القول المنسوب للمسيح من أنه "لن ينقضِيَ هذا الجِيلُ حتى يتِمَّ هذا كُلٌّهُ" هو قول غير صحيح، ببساطة لأنه لم يحدث، وهذا يكفى فى تكذيبه! ومثله قوله: "السَّماءُ والأرضُ تَزولانِ وكلامي لنْ يَزولَ"، إذ لا أظن إلا أن القراء قد تيقنوا بأنفسهم أن الإنجيل الحقيقى لم يعد له وجود، وأن ما يسمى بالأناجيل قد تم العبث بها والتحريف فيها. لكن قوله: "أمّا ذلِكَ اليومُ وتِلكَ السَّاعةُ فلا يَعرِفُهُما أحدٌ، لا ملائِكةُ السَّماواتِ ولا الاَبنُ، إلاّ الآبُ وحدَهُ" فهو نفسه ما يقوله الإسلام: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (الأعراف/ 187)، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا* فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا* إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا* إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا* كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا" (النازعات/ 42- 46). ولا شك أن التفرقة بن الآب من جهة، والابن والملائكة من ناحية أخرى فى مسألة الوقت الذى تقوم فيه الساعة هو برهان خطير على أن ما يزعمه القوم عن أن الآب هو الابن هو الروح القدس، فهم جميعا شىء واحد بأقانيم ثلاثة، كلام غير صحيح، فهاهو ذا عيسى عيه السلام ينكر بكل حسم ووضوح قدرته هو أو الملائكة على معرفة الوقت الذى تقوم فيه القيامة. أى أنه، عليه السلام، ليس فيه شىء من الألوهية، بل هو مجرد بشر من البشر رغم الحمل الإعجازى!
الفصل الخامس والعشرون:
مثل العذارى
"ويُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ عَشرَ عَذارى حمَلْنَ مَصابـيحَهُنَّ وخرَجْنَ لِلقاءِ العَريسِ. 2وكانَ خَمسٌ مِنهُنَّ جاهِلاتٍ وخَمسٌ عاقِلاتٍ. 3فحَمَلتِ الجاهِلاتُ مَصابـيحَهُنَّ، وما أخَذنَ معَهنَّ زَيتًا. 4وأمّا العاقِلاتُ، فأخَذْنَ معَ مَصابـيحِهِنَّ زَيتًا في وِعاءٍ. 5وأبطأَ العَريسُ، فنَعِسنَ جميعًا ونِمنَ.
6وعِندَ نِصفِ اللَّيلِ عَلا الصَّياحُ: جاءَ العَريسُ، فاَخْرُجْنَ لِلقائِهِ! 7فقامَتِ العَذارى العَشْرُ وهيَّأْنَ مَصابـيحَهُنَّ.
8فقالَتِ الجاهِلاتُ لِلعاقِلاتِ: أعطينَنا من زَيْتِكُنَّ، لأنَّ مَصابـيحَنا تَنطفِـئْ. 9فأجابَتِ العاقِلاتُ: رُبَّما لا يكفي لنا وَلكُنَّ، فاَذهَبْنَ إلى البَــيّاعينَ واَشترِينَ حاجَتَكُنَّ.
10وبَينَما هُنَّ ذاهباتٌ ليَشترينَ، وصَلَ العَريسُ. فدَخلَتْ معَهُ المُستعِدّاتُ إلى مكانِ العُرسِ وأُغلقَ البابُ.
11وبَعدَ حينٍ رجَعَتِ العَذارى الأُخَرُ فقُلنَ: يا سيَّدُ، يا سيَّدُ، اَفتَحْ لنا! 12فأجابَهُنَّ العريسُ: الحقَّ أقولُ لكُنَّ: أنا لا أعرِفُكُنَّ.
13فاَسهَروا، إذًا، لأنََّـكُم لا تَعرِفونَ اليومَ ولا السّاعَةَ.
مثل الوزنات.
14"ويُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ رجُلاً أرادَ السَّفَرَ، فدَعا خدَمَهُ وسَلَّمَ إلَيهِم أموالَهُ، 15كُلُّ واحدٍ مِنهُم على قَدْرِ طاقَتِهِ. فأعطى الأوّلَ خمسَ وزَناتٍ مِنَ الفِضَّةِ، والثّاني وزْنَــتَينِ، والثّالثَ وزنَةً واحدةً وسافرَ. 16فأسرَعَ الَّذي أخذَ الوَزَناتِ الخَمسَ إلى المتُاجَرةِ بِها، فربِـحَ خَمسَ وزَناتٍ. 17وكذلِكَ الَّذي أخذَ الوَزْنَتينِ، فرَبِـحَ وزْنَتينِ. 18وأمّا الَّذي أخذَ الوَزْنَة الواحدَةَ، فذهَبَ وحفَرَ حُفْرةً في الأرضِ ودفَنَ مالَ سيَّدِهِ.
19وبَعدَ مُدّةٍ طويلةٍ، رجَعَ سيَّدُ هؤُلاءِ الخَدَمِ وحاسَبَهُم. 20فجاءَ الَّذي أخَذَ الوَزَناتِ الخَمسَ، فدَفَعَ خَمسَ وزَناتٍ مَعَها وقالَ: يا سيَّدي، أعطيتَني خَمسَ وَزَناتٍ، فخُذْ خَمسَ وزَناتٍ رَبِحتُها. 21فقالَ لَه سيَّدُهُ: أحسَنتَ، أيٌّها الخادمُ الصالِـحُ الأمينُ! كُنتَ أمينًا على القليلِ، فسَأُقيمُكَ على الكَثيرِ: اَدخُلْ نَعيمَ سيَّدِكَ.
22وجاءَ الَّذي أخَذَ الوَزْنتَينِ، فقالَ: يا سيَّدي، أعطَيتَني وزْنَــتَينِ، فخُذْ معَهُما وزْنتَينِ رَبِحتُهُما. 23فَقالَ لَه سيَّدُهُ: أحسنتَ، أيٌّها الخادِمُ الصّالِـحُ الأمينُ! كُنتَ أمينًا على القَليلِ، فسأُقيمُكَ على الكَثيرِ: اَدخُلْ نَعيمَ سيَّدك
َ24وجاءَ الَّذي أخَذَ الوَزْنةَ الواحِدَةَ، فقالَ: يا سيَّدُ، عَرَفْتُكَ رجُلاً قاسِيًا، تحصِدُ حيثُ لا تَزرَعُ، وتَجمَعُ حيث لا تَبذُرُ، 25فخِفتُ. فذَهبتُ ودفَنْتُ مالَكَ في الأرضِ، وها هوَ مالُكَ. 26فأجابَهُ سيَّدُهُ: يا لَكَ من خادِمِ شِرّيرٍ كَسلانَ! عَرَفتَني أحصِدُ حَيثُ لا أزرَعُ وأجمَعُ حيثُ لا أبذُرُ، 27فكانَ علَيكَ أنْ تضَعَ مالي عِندَ الصَّيارِفَةِ، وكُنتُ في عَودتي أستَرِدٌّهُ معَ الفائِدَةِ. 28وقالَ لخَدَمِه: خُذوا مِنهُ الوَزْنَةَ واَدْفَعوها إلى صاحِبِ الوَزَناتِ العَشْرِ، 29لأنَّ مَنْ كانَ لَه شيءٌ، يُزادُ فيَفيضُ. ومَنْ لا شيءَ لَه، يُؤخذُ مِنهُ حتى الَّذي لَه. 30وهذا الخادِمُ الَّذي لا نَفْعَ مِنهُ، اَطرَحوهُ خارِجًا في الظّلامِ. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ.
يوم الدينونة.
31"ومَتى جاءَ اَبنُ الإنسانِ في مَجدِهِ، ومعَهُ جميعُ ملائِكَتِهِ يَجلِسُ على عرشِهِ المَجيدِ، 32وتَحتَشِدُ أمامَهُ جميعُ الشٌّعوبِ، فيُفرِزُ بَعضَهُم عَنْ بَعضٍ، مِثلَما يُفرِزُ الرّاعي الخِرافَ عَنِ الجداءِ، 33فيَجعَلُ الخِرافَ عَنْ يَمينِهِ والجِداءَ عن شِمالِه. 34ويقولُ المَلِكُ للَّذينَ عن يَمينِهِ: تَعالَوا، يا مَنْ باركهُم أبـي، رِثُوا المَلكوتَ الذي هَيَّـأهُ لكُم مُنذُ إنشاءِ العالَمِ، 35لأنَّي جُعتُ فأطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيْتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآوَيْتُموني، 36وعُريانًا فكَسَوْتُموني، ومَريضًا فَزُرتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إليَّ. 37فيُجيبُهُ الصّالِحونَ: يا ربٌّ، متى رأيناكَ جوعانًا فأطْعَمناكَ؟ أو عَطشانًا فَسَقيْناكَ؟ 38ومتى رَأيناكَ غَريبًا فآويناكَ؟ أو عُريانًا فكَسوناكَ؟ 39ومتى رَأيناكَ مَريضًا أو سَجينًا فزُرناكَ؟ 40فيُجيبُهُمُ المَلِكُ: الحقَّ أقولُ لكُم: كُلَ مَرَّةٍ عَمِلْتُم هذا لواحدٍ من إخوتي هَؤلاءِ الصَّغارِ، فلي عَمِلتُموهُ!
41ثُمَّ يَقولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمالِهِ: اَبتَعِدوا عنَّي، يا ملاعينُ، إلى النّارِ الأبدِيَّةِ المُهيّـأةِ لإبليسَ وأعوانِهِ: 42لأنَّي جُعتُ فما أطعَمْتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيْتُموني، 43وكُنتُ غَريبًا فما آوَيْتموني، وعُريانًا فما كَسَوْتُموني، ومريضًا وسَجينًا فما زُرْتُموني. 44فيُجيبُهُ هؤُلاءِ: يا ربٌّ، متى رأيناكَ جوعانًا أو عَطشانًا، غريبًا أو عُريانًا، مريضًا أو سَجينًا، وما أسْعَفْناكَ؟ 45فيُجيبُهُم المَلِكُ: الحقَّ أقولُ لكُم: كُلَ مرَّةٍ ما عَمِلتُم هذا لِواحدٍ مِنْ إخوتي هؤلاءِ الصَّغارِ، فلي ما عمِلتُموهُ. 46فيذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأبديَّ، والصّالِحونَ إلى الحياةِ الأبدِيَّةِ".
قد يستغرب قارئ الأناجيل حين يجد هذا الإلحاح على ملكوت السماوات وكأنه لا يوجد تقريبا شىء آخر من بضاعة الروح عند السيد المسيح. وقد وقفت طويلا أمام تلك الظاهرة فبدا لى أنها ربما ترجع إلى أن طوائف من اليهود لم تكن تعتقد فى القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب، وأنه حتى لو كان هناك بعث وحساب فإن الله محابيهم ولن يعذّبهم (إن عذّبهم) إلا أياما معدودات كما ورد فى القرآن تصويرا لعقائد أولئك البشر: "وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة/ 80-82)، "قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " (البقرة/ 94- 96)، "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ* فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (آل عمران/ 23- 25)، "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة/ 5- 8). ولا ننس أن القرآن يمتلئ هو أيضا بالحديث المتكرر كثيرا عن البعث والجنة والنار، لكن فى القرآن، إلى جانب هذا، كلاما كثيرا كذلك عن أمور الدنيا المختلفة من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمل واجتهاد وإتقان وتفكير وعلم وعلاقات اجتماعية وأوضاع اقتصادية وشؤون عسكرية وسياسية ومعاملات يومية وزواج وطلاق وميراث وتركات... إلخ مما لا نظير له فى الأقوال المنسوبة للمسيح إلا فى بعض الأمور الضيقة، وليس بهذا الاتساع والتفصيل كما بينت مرارا.
شىء آخر يلفت النظر فى الأمثال التى يضربها السيد المسيح حسبما هو موجود فى الأناجيل، ألا وهو حديثه أحيانا عن العُرْس والزواج والأطفال رغم ما هو معروف فى النصرانية الحاليّة من ميل طائفة من رجال دينها إلى الترهب مما دانه القرآن لما اعتراه من غلوّ لا تستحبّه السماء ورغم ما هو معروف عنه، صلى الله عليه وسلم، من أنه لم يتزوج، ومن ثم لم ينجب أطفالا. ومعروف كذلك ما نطالعه فى إعلانات وَفَيَات القوم فى الصحف من أن الآنسة الفلانية المتوفاة ستكون عروسا للمسيح فى السماوات، مع أن المسيح، حسبما قلنا، لم يخطب ولم يتزوج، وإن لم يمنع هذا بعض الملاحدة الغربيين من غمزه ولمزه واتهامه، كما سبقت الإشارة، بأنه كانت له علاقة بهذه المرأة أو ذلك الشاب من أتباعه، لعن الله كل من يسىء إلى أى نبى من المُصْطَفَيْن الأخيار، وعلى رأسهم سيد الرسل والأنبياء. وفى ضوء هذا نقرأ المثل التالى الذى ذكره كاتب الإنجيل فى الفصل الذى نحن فيه الآن: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ عَشرَ عَذارى حمَلْنَ مَصابـيحَهُنَّ وخرَجْنَ لِلقاءِ العَريسِ. 2وكانَ خَمسٌ مِنهُنَّ جاهِلاتٍ وخَمسٌ عاقِلاتٍ. 3فحَمَلتِ الجاهِلاتُ مَصابـيحَهُنَّ، وما أخَذنَ معَهنَّ زَيتًا. 4وأمّا العاقِلاتُ، فأخَذْنَ معَ مَصابـيحِهِنَّ زَيتًا في وِعاءٍ. 5وأبطأَ العَريسُ، فنَعِسنَ جميعًا ونِمنَ. 6وعِندَ نِصفِ اللَّيلِ عَلا الصَّياحُ: جاءَ العَريسُ، فاَخْرُجْنَ لِلقائِهِ! 7فقامَتِ العَذارى العَشْرُ وهيَّأْنَ مَصابـيحَهُنَّ. 8فقالَتِ الجاهِلاتُ لِلعاقِلاتِ: أعطينَنا من زَيْتِكُنَّ، لأنَّ مَصابـيحَنا تَنطفِـئْ. 9فأجابَتِ العاقِلاتُ: رُبَّما لا يكفي لنا وَلكُنَّ، فاَذهَبْنَ إلى البَــيّاعينَ واَشترِينَ حاجَتَكُنَّ. 10وبَينَما هُنَّ ذاهباتٌ ليَشترينَ، وصَلَ العَريسُ. فدَخلَتْ معَهُ المُستعِدّاتُ إلى مكانِ العُرسِ وأُغلقَ البابُ. 11وبَعدَ حينٍ رجَعَتِ العَذارى الأُخَرُ فقُلنَ: يا سيَّدُ، يا سيَّدُ، اَفتَحْ لنا! 12فأجابَهُنَّ العريسُ: الحقَّ أقولُ لكُنَّ: أنا لا أعرِفُكُنَّ. 13فاَسهَروا، إذًا، لأنََّـكُم لا تَعرِفونَ اليومَ ولا السّاعَةَ". ومما هو جدير بالذكر ولم يلتفت إليه على خطورته أحد فى حدود علمى أن المسيح قد جعل للعريس الواحد عدة عرائس بلغ عددهن عشرا، وإن كان بعضهن لم يتم زواجهن لكسلهن وتهاونهن لا لشىء آخر. ترى أولو كان تعدد الزوجات أمرا محرما فى ديانة عيسى، أكان عليه السلام يضرب مِثْل هذا المَثَل؟ الواقع والحق والحقيقة أنه لا يوجد فى الأناجيل نص واحد فى تحريم تعدد الزوجات، فلماذا إذن التطاول والتسافه والتباذؤ والسفالة وشغل الصياعة والإجرام مع سيد الخلق ودينه العظيم؟
كذلك يلفت النظر فى أمثال الأناجيل تكرر الكلام فيها عن المال والتجارة والزراعة والصَّيْرَفة... إلخ مما يبدو متناقضا مع مناداة المسيح، حسبما رأينا من قبل، بنبذ الدنيا وما فيها من مال ومناصب، وهو ما من شأنه أن يؤدى إلى العدمية أو فى أقل القليل: إلى التخلف والرضا بالدونية فى كل شؤون الحياة. ومن هنا قلنا ونقول إن النصرانية بوضعها الحالى لا تصلح لتنظيم أمور الدنيا، بل هى ديانة هروبية لا تواجه الواقع وتكتفى بالمثاليات المتشنجة التى لا تؤكّل عَيْشًا ولا جُبْنًا لأنها لا تخاطب الطبيعة البشرية، بل تهوّم فى الفراغ ولا حديث لها تقريبا إلا عن الملكوت، وكأنه لا يوجد قبل ذلك الملكوت حاجة اسمها: "الدنيا"! وفى هذا المثل لا يتحرج ضاربه (أستغفر الله) من تشبيهه سبحانه وتعالى بالمرابى الشحيح المتحجر القلب الذى يعبد الدينار والدرهم ولا هَمّ له سوى زيادة رأس ماله، والسلام، ولا يطيق أحدا أن يضيّع عليه أية صفقة من صفقات الربا، فلذلك يكون تعذيبه لمثل هذا الشخص رهيبا لا رحمة فيه: "24وجاءَ الَّذي أخَذَ الوَزْنةَ الواحِدَةَ، فقالَ: يا سيَّدُ، عَرَفْتُكَ رجُلاً قاسِيًا، تحصِدُ حيثُ لا تَزرَعُ، وتَجمَعُ حيث لا تَبذُرُ، 25فخِفتُ. فذَهبتُ ودفَنْتُ مالَكَ في الأرضِ، وها هوَ مالُكَ. 26فأجابَهُ سيَّدُهُ: يا لَكَ من خادِمِ شِرّيرٍ كَسلانَ! عَرَفتَني أحصِدُ حَيثُ لا أزرَعُ وأجمَعُ حيثُ لا أبذُرُ، 27فكانَ علَيكَ أنْ تضَعَ مالي عِندَ الصَّيارِفَةِ، وكُنتُ في عَودتي أستَرِدٌّهُ معَ الفائِدَةِ. 28وقالَ لخَدَمِه: خُذوا مِنهُ الوَزْنَةَ واَدْفَعوها إلى صاحِبِ الوَزَناتِ العَشْرِ، 29لأنَّ مَنْ كانَ لَه شيءٌ، يُزادُ فيَفيضُ. ومَنْ لا شيءَ لَه، يُؤخذُ مِنهُ حتى الَّذي لَه. 30وهذا الخادِمُ الَّذي لا نَفْعَ مِنهُ، اَطرَحوهُ خارِجًا في الظّلامِ. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ".
أما فيا يلى فإنى لعلى يقين أن كتبة هذه السير العيسوية التى يسمونها: "الأناجيل" قد استبدلوا "ابن الإنسان" باسم الله كما حدث من قبل فى بعض الحالات التى نبهنا إليها فى حينها: "ومَتى جاءَ اَبنُ الإنسانِ في مَجدِهِ، ومعَهُ جميعُ ملائِكَتِهِ يَجلِسُ على عرشِهِ المَجيدِ، 32وتَحتَشِدُ أمامَهُ جميعُ الشٌّعوبِ، فيُفرِزُ بَعضَهُم عَنْ بَعضٍ، مِثلَما يُفرِزُ الرّاعي الخِرافَ عَنِ الجداءِ، 33فيَجعَلُ الخِرافَ عَنْ يَمينِهِ والجِداءَ عن شِمالِه. 34ويقولُ المَلِكُ للَّذينَ عن يَمينِهِ: تَعالَوا، يا مَنْ باركهُم أبـي، رِثُوا المَلكوتَ الذي هَيَّـأهُ لكُم مُنذُ إنشاءِ العالَمِ، 35لأنَّي جُعتُ فأطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيْتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآوَيْتُموني، 36وعُريانًا فكَسَوْتُموني، ومَريضًا فَزُرتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إليَّ. 37فيُجيبُهُ الصّالِحونَ: يا ربٌّ، متى رأيناكَ جوعانًا فأطْعَمناكَ؟ أو عَطشانًا فَسَقيْناكَ؟ 38ومتى رَأيناكَ غَريبًا فآويناكَ؟ أو عُريانًا فكَسوناكَ؟ 39ومتى رَأيناكَ مَريضًا أو سَجينًا فزُرناكَ؟ 40فيُجيبُهُمُ المَلِكُ: الحقَّ أقولُ لكُم: كُلَ مَرَّةٍ عَمِلْتُم هذا لواحدٍ من إخوتي هَؤلاءِ الصَّغارِ، فلي عَمِلتُموهُ! 41ثُمَّ يَقولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمالِهِ: اَبتَعِدوا عنَّي، يا ملاعينُ، إلى النّارِ الأبدِيَّةِ المُهيّـأةِ لإبليسَ وأعوانِهِ: 42لأنَّي جُعتُ فما أطعَمْتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيْتُموني، 43وكُنتُ غَريبًا فما آوَيْتموني، وعُريانًا فما كَسَوْتُموني، ومريضًا وسَجينًا فما زُرْتُموني. 44فيُجيبُهُ هؤُلاءِ: يا ربٌّ، متى رأيناكَ جوعانًا أو عَطشانًا، غريبًا أو عُريانًا، مريضًا أو سَجينًا، وما أسْعَفْناكَ؟ 45فيُجيبُهُم المَلِكُ: الحقَّ أقولُ لكُم: كُلَ مرَّةٍ ما عَمِلتُم هذا لِواحدٍ مِنْ إخوتي هؤلاءِ الصَّغارِ، فلي ما عمِلتُموهُ. 46فيذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأبديَّ، والصّالِحونَ إلى الحياةِ الأبدِيَّةِ".
إن الذى ستحمله الملائكة على العرش يوم القيامة ويحاسب البشر إنما هو الله لا ابن الإنسان. ونستطيع فى ضوء هذا أن نقرأ النصوص التالية من سورة "مريم" و"يس" و"فُصِّلَتْ" و"الحاقّة" و"المطفِّفين" و"الانشقاق" على التوالى: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)"، "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)"، "فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ (29)"، "فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ويحمل عرشَ ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية* يومئذ تُعْرَضون لا تَخْفَى منكم خافية، "أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)"، "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)".
أما المسيح بن مريم عليه السلام فيقول عنه القرآن المجيد، ولنكتف بما جاء فى سورة "المائدة" وحدها: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة/ 17)، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)"، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)".
وامتدادا لهذه العقيد فى السيد المسيح هناك حديث عن رب العزة يقول فيه سبحانه ما نُسِب فى الفصل الحالىّ للسيد المسيح عليه السلام، وهو ما يرجع إلى أن كتبة الأناجيل قد استبدلوا فى بعض المواضع اسم المسيح باسم الله: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتُك فلم تطعمني. قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي". فهأنت ترى، أيها القارئ العزيز، أننا قريبون من الله لدرجة انهدام الحواجز تماما بيننا وبينه جل وعلا، فنحن إذن فى معيته على الدوام، وأن ما نفعله لإخواننا فى البشرية إنما يقع فى يد الله قبل أن يقع فى أيديهم ويرضيه سبحانه كما لو كان هو المنتفع به، تعالى الله عن الحاجة إلى أى شىء أو الانتفاع بأى شىء، لكنه أسلوب المجاز الأقوى على التأثير وتحريك النفوس، والأفعل فى إجاشة القلوب وبعثها على فعل الخير، وإلا فالله سبحانه أكبر من الكون ومن الزمن والتاريخ لأنه هو خالق الزمن والكون والتاريخ، ويستحيل من ثم أن يتجسد فيحتويه ما صنعته يداه من كون وزمن وتاريخ، فضلا عن أن يُعْطَى ثدى أمه ويُرْضَع ويعضه الجوع فيبكى (خُذِ البِزَّة ونَمْ!)، ويبول ويخرأ ويُضْرَب ويهان وتُكْسَر ركبته ويُطْعَن بالرمح فى جنبه ويتألم ويصرخ ويُصْلَب ويُقْتَل (أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! وأعوذ بالله من غضب الله!)، وإلا كانت الألوهية مَلْعَبَةً ومَعْيَلَةً، تعالى الله عن ذلك! ولنلاحظ كيف استبدل كاتب الإنجيل أيضا عبارة "واحد من إخوتى هؤلاء الصغار" بكلمة "عبدى فلان" تمشيا مع اتجاهه فى تأليه المسيح وزعمه أنه عليه السلام هو الذى سوف يجلس على العرش يوم القيامة ويحاسب البشر. بيد أن هاهنا موضعا لملاحظة سريعة هى أن المسيح عليه السلام قد وَجَدَ فى الدنيا، من بين محبّيه على الأقل، من يطعمه ويسقيه ويقف معه فى أوقات التعب والقلق، فبأى حق ينكر هذا كله؟ الواقع أنْ ليس ذلك إلا ثمرة من ثمرات العبث والتبديل الذى تعرضت له النصرانية والأناجيل.
هذا ما نؤمن به بشأنه صلى الله عليه وسلم، وطبعا هذا لا يُرْضِى القوم فى المهجر مثلما لا يرضينا قولهم إنه هو الله أو ابن الله، وهم يَرَوْن أن عقيدتنا هذه فى المسيح تسىء إليهم، ويريدون منا أن نكف عن الإيمان بما نؤمن به فيما يخصه عليه السلام حسبما قرأت فى أحد مواقعهم السافلة المنحطة التى تسب القرآن والرسول عليه السلام والمسلمين وتشمت بهم لأنهم أخيرا، كما جاء فى ذات الموقع المأبون كالقائمين عليه، أخذوا يذوقون من نفس الكأس ويستمعون لأول مرة فى حياتهم نقدًا وسَبًّا لدينهم وكتابهم ونبيهم. وإنى لأسأل ولا أتوقع بل لا أريد منهم جوابا، فهم أهون عندى من هذا: أَوَتعدَّى المسلمون يوما على المسيح بن مريم بالسب والتحقير والكذب واختلاق الروايات كما يفعلون هم مع سيد النبيين والمرسلين؟ بطبيعة الحال نحن المسلمين قلنا ونقول وسنظل نقول إن عيسى ليس إلا عبدا رسولا، وليس فيه من الألوهية بعض شىء على الإطلاق. فإن أغضبهم هذا، ولسوف يغضبهم بكل يقين، فهو ما لا نملك لهم ولا لنا فيه شيئا، لأننا إذا لم نقل ذلك كنا كافرين بما نزل على نبينا ولم نكن مسلمين، وليس من المعقول ألا يؤمن أحد بما يقتنع به إلا بعد أن يلف "كعب داير" وفى يديه "الكَلَبْشَات" على سائر الملل والديانات والفلسفات والمذاهب يطلب منهم السماح بأن يتركوه يؤمن بما يؤمن به. نحن لم ولن نطلب من القوم أو من غيرهم أن يراعوا مشاعرنا فى ما يؤمنون به، لكننا نقول إن قلة الأدب مع سيد الأنبياء والرسل ليست داخلة فى الإيمان بالسيد المسيح، وإلا فهل هناك نص واحد فى الأناجيل أو فى العهد القديم يسب محمدا عليه الصلاة والسلام أو يقول فيه ما لا نقوله نحن المسلمين، وبالتالى فهم يتعبدون به ولا يملكون تجاهه شيئا؟ أبدا لا وجود لمثل هذا النص، ومن ثم فإننا لا نكلفهم من أمرهم عسرا إذا قلنا إن قلة أدبهم وسفالتهم لا معنى لها على الإطلاق. ومع هذا فليمضوا إذا شاء لهم شيطانهم فى هذه السفالة والسفاهة كما يحبون، ونحن نشعر أن ديننا أقوى من كل هذا السخف الذى يشنّعون به بالباطل على نبينا، والمهم ألا يصرخوا تحت وقع مطارق الحق التى لا تعرف إلا قول الحق، ولاشىء إلا الحق، ولا تتوسل إلى ما تريد بما يتوسلون هم به من البكش والكذب واللف والدوران واختراع القصص والبهلوانيات الفكرية والعقيدية مما لم ولن يوصلهم إلى شىء! خذوا راحتكم على الآخر واشتموا واصرخوا كما تَبْغُون (وكل أموركم بَغْىٌ وعدوانٌ وإجرامٌ)، فوَحَقِّ جلالِ الله لن يزيد بَغْيُكم وجَئِيرُكم وصراخُكم جلالَ رسولِ الله إلا عظمة وتألقا وسطوعا، ولا دينَه (رغم ضعف أتباعه لتكاسلهم ورضاهم بالدنيّة والتخلف والهوان) إلا عِزًّا وانتشارًا، ولا أمريكا فى بلاد المسلمين (رغم كل التفوق الحربى والعلمى والاقتصادى الذى تحظى به، ومعه الخيانة التى يتبرع بها بعض المسلمين لمساعدتهم ضد أمتهم) إلا انهزامًا فى نهاية المطاف واندحارًا! أتظنون أن نجاستكم المنتنة يا أنجاس يمكنها، من مجارى البلاعات والبكابورتات التى تسكنها الصراصير والديدان والخنافس والفيران، أن تطول أو تنال الطاهر ابن الطاهرين ؟ تفُوّ على وجوهكم الكريهة الكالحة أجمعين، وهذه "التفُوّ" بالمناسبة ليست من عندى حتى لا أُتَّهم بالسرقة وتكتبنى "عرب تايمز" عندها فى باب "اللصوص الظرفاء"، بل أخذته من عنوان رسالة إلى د. أسامة فوزى محرر تلك الجريدة كان المرسل يشتمه فيها! وفى النهاية نعلنها واضحة صريحة من أعماق قلوبنا رغم ذلك كله فنقول إننا لا يمكننا أن نفكر ولو فى مس شعرة فى قدم عيسى بن مريم بأية كلمة مسيئة، بل نحن مستمرون فى تبجيله واحترامه وحبه والإيمان به، صلى الله عليه وعلى آله وعلى كل من آمن بما دعا إليه من التوحيد النقى الصافى ولم يشركه مع الله فى شىء، وصدّق بما بشر به من رسالة أحمد المصطفى وسَلَّمَ تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
الفصل السادس والعشرون:
"محاولة قتل يسوع.
ولمّا أتمَّ يَسوعُ هذا الكلامَ كُلَّهُ، قالَ لِتلاميذِهِ: 2"تَعرِفون أنَّ الفِصحَ يَقَعُ بَعدَ يَومينِ، وفيهِ يُسلَّمُ اَبنُ الإنسانِ ليُصلَبَ".
3واَجتَمَعَ في ذلِكَ الحينِ رُؤساءُ الكهَنةِ وشُيوخُ الشَّعبِ في دارِ قيافا رَئيسِ الكَهنَةِ، 4وتَشاوروا ليُمسِكوا يَسوعَ بحيلَةٍ ويقتُلوهُ. 5ولكنَّهُم قالوا: "لا نفعَلُ هذا في العيدِ، لِـئلاَّ يَحدُثَ اَضطِرابٌ في الشَّعبِ".
امرأة تسكب الطيب على يسوع.
6وبَينَما يَسوعُ في بَيتَ عَنْيا عِندَ سِمْعانَ الأبرصِ، 7دَنَتْ مِنهُ اَمرأةٌ تَحمِلُ قارورةَ طِيبٍ غالي الثَّمَنِ، فسكَبَتهُ على رأسِهِ وهوَ يَتناولُ الطعامَ. 8فلمّا رأى التَّلاميذُ ما عمِلَتْ، اَستاؤُوا وقالوا: "ما هذا الإسرافُ؟ 9كانَ يُمكِنُ أنْ يُباعَ غالِـيًا، ويُوزَّعَ ثَمنُهُ على الفُقَراءِ!" 10فعَرفَ يَسوعُ وقالَ لهُم: "لِماذا تُزعِجونَ هذِهِ المَرأةَ؟ فهيَ عَمِلَتْ لي عَملاً صالِحًا. 11فالفُقراءُ عِندَكُم في كُلٌ حينٍ، وأمَّا أنا فلا أكونُ في كُلٌ حينٍ عِندَكُم. 12وإذا كانَت سكبَتْ هذا الطّيبَ على جَسدي، فَلِتُهَيَّئَهُ للدَفْنِ. 13الحقَّ أقولُ لكُم: أينَما تُعلَنُ هذِهِ البِشارةُ في العالَمِ كُلَّهِ، يُحدَّثُ أيضًا بعمَلِها هذا، إحياءً لِذكرِها".
خيانة يهوذا.
14وفي ذلِكَ الوقتِ ذَهبَ أحدُ التَّلاميذِ الاثنَي عشَرَ، وهوَ يهوذا الملقَّبُ بالإسْخَريوطِـيَّ، إلى رُؤساءِ الكهَنَةِ 15وقالَ لهُم: "ماذا تُعطوني لأُسَلَّمَ إلَيكُم يَسوعَ؟" فوَعدوهُ بثلاثينَ مِنَ الفِضَّةِ. 16وأخَذَ يَهوذا مِنْ تِلكَ السّاعةِ يترَقَّبُ الفُرصةَ ليُسَلَّمَ يَسوعَ.
عشاء الفصح مع التلاميذ.
17وفي أوّلِ يومِ من عِيدِ الفَطير، جاءَ التَّلاميذُ إلى يَسوعَ وقالوا لَه: "أينَ تُريدُ أنْ نُهيَّـئَ لكَ عشاءَ الفِصحِ؟" 18فأجابَهُم: "إذهَبوا إلى فُلانٍ في المدينةِ وقولوا لَه: يقولُ المُعلَّمُ: جاءَتْ ساعَتي، وسأتناوَلُ عَشاءَ الفِصحِ في بَيتِكَ معَ تلاميذي". 19فعَمِلَ التّلاميذُ ما أمرَهُم بِه يَسوعُ وهيَّـأوا عَشاءَ الفِصحِ.
20وفي المَساءِ، جلَسَ يَسوعُ لِلطَّعامِ معَ تلاميذِهِ الاثني عشَرَ. 21وبَينَما هُمْ يأكُلونَ، قالَ يَسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: واحدٌ مِنكُم سيُسلَّمُني". 22فحَزِنَ التَّلاميذُ كثيرًا وأخَذوا يسألونَهُ، واحدًا واحدًا: "هل أنا هوَ، يا سيَّدُ؟" 23فأجابَهُم: "مَنْ يَغمِسُ خُبزَهُ في الصَّحنِ معي هوَ الَّذي سَيُسلِمُني. 24فاَبنُ الإنسانِ سيَموتُ كما جاءَ عَنهُ في الكِتابِ، ولكِنَّ الويلَ لمن يُسلَّمُ اَبنَ الإنسانِ! كانَ خيرًا لَه أنْ لا يُولدَ". 25فسألَهُ يَهوذا الَّذي سيُسلِمُهُ: "هل أنا هوَ، يا مُعَلَّمُ؟" فأجابَهُ يَسوعُ: "أنتَ قُلتَ".
عشاء الرب.
26وبَينَما هُم يأكُلونَ، أخذَ يَسوعُ خُبزًا وبارَكَ وكَسَّرَهُ وناوَلَ تلاميذَهُ وقالَ: "خُذوا كُلوا، هذا هوَ جَسَدي". 27وأخَذَ كأسًا وشكَرَ وناوَلَهُم وقالَ: "إشرَبوا مِنها كُلٌّكُم. 28هذا هوَ دَمي، دمُ العَهدِ الَّذي يُسفَكُ مِنْ أجلِ أُناسٍ كثيرينَ. لِغُفرانِ الخطايا. 29أقولُ لكُم: لا أشرَبُ بَعدَ اليومِ مِنْ عَصيرِ الكَرمةِ هذا، حتى يَجيءَ يومٌ فيهِ أشرَبُهُ مَعكُم جَديدًا في مَلكوتِ أبـي".
30ثُمَّ سبَّحوا وخَرَجوا إلى جبَلِ الزَّيْتونِ.
يسوع ينبـئ بإنكار بطرس.
31وقالَ لهُم يَسوعُ: "في هذِهِ اللَيلَةِ ستَترُكوني كُلٌّكُم، فالكِتابُ يَقولُ: سَأضرِبُ الرّاعيَ، فتَتَبدَّدُ خِرافُ القَطيعِ. 32ولكِنْ بَعدَ قيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ أسبُقُكُم إلى الجليلِ". 33فقالَ بُطرُسُ: "لَو تَركوكَ كُلٌّهُم، فأنا لن أترُكَكَ". 34فقالَ لَه يَسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكَ: في هذِهِ اللَّيلَةِ، قَبلَ أن يَصيحَ الدّيكُ، تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ". 35فأجابَهُ بُطرُسُ: "لا أُنكِرُكَ وإنْ كانَ علَيَّ أن أموتَ معَكَ". وهكذا قالَ التَّلاميذُ كُلٌّهُم.
يسوع يصلّي في جتسماني.
36ثُمَّ جاءَ يَسوعُ معَ تلاميذِهِ إلى موضِعِ اَسمُهُ جَتْسِماني، فقالَ لهُم: "أُقعُدوا هُنا، حتَّى أذهَبَ وأُصلّيَ هُناكَ". 37وأخَذَ مَعهُ بُطرُسَ واَبنيْ زَبَدي، وبَدأَ يَشعُرُ بالحُزنِ والكآبَةِ. 38فقالَ لهُم: "نفسي حَزينَةٌ حتَّى الموتِ. اَنتَظِروا هُنا واَسهَروا مَعي".39واَبتَعَدَ عنهُم قَليلاً واَرتَمى على وجهِهِ وصلَّى فَقالَ: "إنْ أمكَنَ يا أبـي، فلْتَعبُرْ عنّي هذِهِ الكأسُ. ولكن لا كما أنا أُريدُ، بل كما أنتَ تُريدُ".
40ورجَعَ إلى التَّلاميذِ فوجَدَهُم نِـيامًا، فقالَ لبُطرُسَ: "أهكذا لا تَقدِرونَ أنْ تَسهَروا مَعي ساعةً واحدةً؟ 41إسهَروا وصلٌّوا لِـئلاَّ تَقَعُوا في التَّجرِبَةِ. الرّوحُ راغِبةٌ، ولكنَّ الجسَدَ ضَعيفٌ".
42واَبتَعدَ ثانيةً وصلّى، فقالَ: "يا أبـي، إذا كانَ لا يُمكِنُ أنْ تَعبُرَ عنّي هذِهِ الكأسُ، إلاّ أنْ أشرَبَها، فلْتكُنْ مَشيئتُكَ". 43ثُمَّ رجَعَ فوَجَدَهُم نِـيامًا، لأنَّ النٌّعاسَ أثقَلَ جُفونَهُم.
44فتَركَهُم وعادَ إلى الصَّلاةِ مرَّةً ثالِثةً، فردَّدَ الكلامَ نفسَهُ. 45ثُمَّ رجَعَ إلى التَّلاميذِ وقالَ لهُم: "أنِـيامٌ بَعدُ ومُستَريحونَ؟ جاءَتِ السّاعَةُ الَّتي فيها يُسلَّمُ ابنُ الإنسان إلى أيدي الخاطِئينَ. 46قوموا نَنصرِفُ! اَقترَبَ الَّذي يُسَلَّمُني".
القبض على يسوع.
47وبَينَما يَسوعُ يتكَلَّمُ وصَلَ يَهوذا، أحدُ التَّلاميذِ الاثنَي عشَرَ، على رأسِ عِصابةٍ كبـيرةٍ تَحمِلُ السُيوفَ والعِصِيَّ، أرسلَها رُؤساءُ الكَهنَةِ وشُيوخُ الشَّعبِ.
48وكانَ الَّذي أسلَمَهُ أعطاهُم عَلامَةً، قالَ: "هوَ الَّذي أُقبَّلُهُ، فأمسِكوهُ!" 49ودَنا يَهوذا في الحالِ إلى يَسوعَ وقالَ لَه: "السَّلامُ علَيكَ، يا مُعَلَّمُ!" وقَبَّلَهُ. 50فقالَ لَه يَسوعُ: "اَفعَلْ ما جِئتَ لَه. يا صاحِبـي!" فتَقدَّموا وألقَوا علَيهِ الأيدي وأمْسكوهُ. 51ومَدَّ واحدٌ مِنْ رِفاقِ يَسوعَ يدَهُ إلى سَيفِهِ واَستلَّهُ وضرَبَ خادِمَ رئيسِ الكَهنَةِ، فقَطَعَ أُذُنَهُ. 52فقالَ لَه يَسوعُ: "رُدَّ سيفَكَ إلى مكانِهِ. فمَنْ يأخُذْ بالسّيفِ، بالسّيفِ يَهلِكُ. 53أتظُنٌّ أنَّي لا أقدِرُ أنْ أطلُبَ إلى أبـي، فيُرسِل لي في الحالِ أكثَرَ مِنْ اَثنَي عشَرَ جَيشًا مِنَ المَلائِكَةِ؟ 54ولكِنْ كيفَ تتِمٌّ الكُتبُ المقدَّسةُ التي تَقولُ إنَّ هذا ما يَجبُ أنْ يَحدُثَ؟"
55وقالَ يَسوعُ لِلجُموعِ: "أعَلى لِصٍّ خَرَجتُم بسُيوفٍ وعِصِيٍّ لتأخُذوني؟ كُنتُ كُلَ يومِ أجلِسُ مَعكُم في الهَيكَلِ أعَلَّمُ، فَما أخذتُموني. 56ولكِنْ حدَثَ هذا كُلٌّهُ لِتَتِمَّ كُتبُ الأنبـياءِ". فتَركَهُ التَّلاميذُ كُلٌّهُم وهرَبوا.
يسوع في مجلس اليهود.
57فالَّذينَ أمسكوا يَسوعَ أخَذوهُ إلى قَيافا رَئيسِ الكَهنَةِ، وكانَ مُعَلَّمو الشَّريعةِ والشٌّيوخُ مُجتَمِعينَ عِندَهُ. 58وتَبِعَه بُطرُسُ عَنْ بُعدٍ إلى دارِ رَئيسِ الكَهنَةِ. فدخَلَ وقَعدَ معَ الحَرَسِ ليرى النِهايةَ.
59وكانَ رُؤساءُ الكَهنَةِ وجميعُ أعضاءِ المَجلِسِ يَطلُبونَ شَهادةَ زُورٍ على يَسوعَ ليَقتُلوهُ، 60فما وجَدوا، معَ أنَّ كثيرًا مِنْ شهودِ الزّورِ تَقدَّموا بشَهاداتِهِم. ثُمَّ قامَ شاهدان 61وقالا: "هذا الرَّجُلُ قالَ: أقدِرُ أنْ أهدِمَ هَيكَلَ الله وأبنِـيَهُ في ثلاثةِ أيّامِ". 62فقامَ رئيسُ الكَهنَةِ وقالَ ليَسوعَ: "أما تُجيبُ بِشيءٍ؟ ما هذا الَّذي يَشهَدانِ بِه علَيكَ؟" 63فظَلَ يَسوعُ ساكِتًا. فقالَ لَه رَئيسُ الكَهنَةِ: "أستَحلِفُكَ بالله الحيَّ أنْ تَقولَ لنا: هَل أنتَ المَسيحُ اَبنُ الله؟" 64فأجابَ يَسوعُ: "أنتَ قُلتَ. وأنا أقولُ لكُم: سترَوْنَ بَعدَ اليومِ اَبنَ الإنسانِ جالِسًا عَنْ يَمينِ الله القَديرِ وآتــيًا على سَحابِ السَّماءِ!" 65فشَقَّ رَئيسُ الكَهنَةِ ثيابَهُ وقالَ: "تجديفٌ! أنَحتاجُ بَعدُ إلى شُهودٍ؟ ها أنتُم سَمِعتُم تَجديفَهُ. 66فما رأيُكُم؟" فأجابوهُ: "يَسْتَوجِبُ الموتَ!"
67فبَصَقوا في وَجهِ يَسوعَ ولطَموهُ، ومِنهُم مَنْ لكَمَهُ 68وقالوا: "تَنبّـأْ لنا، أيٌّها المَسيحُ، مَنْ ضَربَكَ!"
بطرس ينكر يسوع.
69وكانَ بُطرُسُ قاعِدًا في ساحَةِ الدّارِ، فدنَتْ إلَيهِ جاريَةٌ وقالَت: "أنتَ أيضًا كُنتَ معَ يَسوعَ الجليلّي!" 70فأنكَرَ أمامَ جميعِ الحاضرينَ، قالَ: "لا أفهَمُ ما تَقولينَ". 71وخرَجَ إلى مَدخَلِ السّاحةِ، فَرأتهُ جاريةٌ أخرى. فقالَت لِمَن كانوا هُناكَ: "هذا الرَّجُلُ كانَ معَ يَسوعَ النّاصريَّ!" 72فأنكَرَ بُطرُسُ ثانيةً وحلَفَ، قالَ: "لا أعرِفُ هذا الرَّجُلَ!" 73وبَعدَ قَليلٍ جاءَ الحاضِرونَ وقالوا لِبُطرُسَ: "لا شَكَّ أنَّكَ أنتَ أيضًا واحدٌ مِنهُم، فلَهْجتُكَ تَدُلُّ علَيكَ!" 74فأخذَ يَلعَنُ ويحلِفُ: "أنا لا أعرِفُ هذا الرَّجُلَ". فصاحَ الدّيكُ في الحالِ، 75فتذكَّرَ بُطرُسُ قَولَ يَسوعَ: "قَبلَ أنْ يَصيحَ الدّيكُ تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ". فخرَجَ وبكى بُكاءً مُرُا".
مما لا أستطيع أن أفهمه فى حكاية الصلب: السبب الذى دفع يهوذا إلى خيانة للمسيح: ترى هل آذاه المسيح بشىء؟ وهذا إذا كان المسيح بشرا، وهو ما نعتقده ولا نتصور سواه لأن سواه مخالف للمنطق ولطبيعة الألوهية تمام المخالفة. أما إن كان إلها أو ابن إله، فكيف واتت يهوذا نفسه فأقدمت على ذلك الجرم الشنيع، جُرْم الاعتداء على الله أو ابن الله، ويهوذا بوصفه أحد الحواريين كان يعرف، فيما هو مفترض، أن عيسى كذلك؟ وليس من المعقول فوق هذا أن يكون يهوذا منافقا ويَخْفَى نفاقه طوال تلك المدة منذ عرف المسيح واتبعه، وبخاصة أنه لم يكن فى الظروف المحيطة به وبالمسيح ما يدفعه إلى إعلان الإيمان به تقية ونفاقا، إذ لم يكن فى يد عيسى عليه السلام من السلطان ما يمكن اتخاذه تكأةً للقول بإيمان يهوذا رياء ونفاقا؟ ولو افترضنا أنه رغم ذلك كله كان منافقا منذ البداية، فكيف فات هذا الأمر ابن الله الذى يعلم (أو يعلم والده) دبة النملة ذاتها وماركة فانلّة صدّام حسين الداخلية؟ أمعقول أن تكون السى آى إيه الأمريكية أفضل من السى آى إيه السماوية؟ بأمارة إيه إن شاء الله؟ ولو تغاضينا عن ذلك كله وقلنا: لا داعى لتفتيح تلك المسائل المحرجة، فكيف يدين المسيح من سيسلمه لأعدائه كى يقتلوه فتتم مهمته التى أُنْزِل إلى الأرض من أجلها، تلك المهمة النبيلة القائمة على التضحية وتحمل الآلام وألوان العذاب رغم أن ابن الله، فيما نظن، وبعض الظن ليس إثما، أكبر من كل ألم وعذاب؟ هل كان يريد منه أن يقف حائلا دون تنفيذ القبض عليه ومحاكمته وصَلْبه وقتله فيكون هو وأبوه أول من يدينانه ويقذفان به فى الجحيم لاعتراضه على المشيئة الإلهية الرحيمة ولعرقلته إنقاذ أرواح البشر المساكين القلقين الخائفين من حساب يوم الدين، وبخاصة أولئك الذين تتقلقل أرواحهم فى قبورهم منذ بدء الخليقة حتى ذلك الوقت (واحسبوها أنتم براحتكم وقولوا لنا كم قرنا أو كم مليونا من السنين مرت منذ ذلك الحين)؟
إننى فى حيرة من أمرى وأمر السيد يهوذا معا؟ ولو كنت فى مكانه وعرفت من السيد المسيح أنه إنما نزل من السماء للصلب والقتل لكنت أول من يَسْعَوْن فى هذه الموضوع بكل همة وحماسة بوصفى ناشطا فى سبيل الدفاع عن حق الإنسان فى البراءة من الخطيئة الأصلية التى لم يكن له فيها ذنب، وعن حقه فى العيش دون خوف وقلق من مباحث أمن الكون أن تَطُبّ عليه فى أية لحظة وتسوقه أمامها إلى مصيره الأسود مثل وجهه دون إِحِمٍ ولا دستور، لأنه سيكون هو البرهان القاطع على أننى أومن بأنه ابن الله أو الله! ولا شك أن أية مؤاخذة ليهوذا (أو لى أنا إذا أقللت عقلى وحشرت نفسى فى هذه القضية المعقدة تعقيد "حِسْبة بِرْمَا" القريبة من قريتى!) هى ظلم غير مبرر ولا مفهوم! لكن ألا تَرَوْن معى أيها القراء العاقلون (العاقلون فقط، أما الغبيّون المهجريون فيمتنعون!) فى أن هذه "حَشْكَلَة" ليس لها نظير؟ واحدٌ (أم تراهما اثنين: آدم وحواء؟) ارتكب غلطة عمره منذ أول الخليقة وأكل من الشجرة، وسكت الله عليه مئات السنين حسب العهد القديم (أو ملايينها إذا كان لنا أن نصدق علماء الجيولوجيا والبيولوجيا) دون أن يفاتحه فى أمر هذا الذنب بكلمة منذ أنزله إلى الأرض، فظن المسكين أنه ليس هناك شىء ضده وأن المسألة انتهت عند ذلك الحد، على حين أن الله سبحانه وتعالى كان يخمّرها له على نار هادئة وفى السر طوال تلك الحقب والأزمان (يا طيبة قلب آدم! أكان يظن أن الغلطة ستمر هكذا ببساطة لمجرد أنه طُرِد من الفردوس؟ لا يا آدم يا حبيبى، كله إلا هذا! ودعك من حكاية "إنا أَسْفَأْناكم"!)، ثم فجأة تغير الموقف (ولا تسألونى كيف!) وأراد الله أن يكفّر عن آدم وجنس بنى آدم تلك الخطيئة، فاستبشرْنا خيرا وقلنا: الحمد لله أنه يريد أن يتوب علينا توبة نهائية، لنفاجأ مرة أخرى أن هناك كفارة وفداء يستلزمان نزول ابن الله الوحيد (مع أننا كنا نعرف بيقين أن الله ليس له ابن ولا بنت!) من السماء ليتعذب ويموت على الصليب، وهو ما بدا لنا عملا لا معنى (أو فى أحسن الأحوال: لا ضرورة) له، إذ الأمر كله هو أمره، ولا معقب عليه ولا يستطيع أجعص جعيص أن يفتح فمه اعتراضا بكلمة، وكان يمكن أن يعلن توبته على آدم وذريته بكلمة واحدة منه فينتهى الأمر عند هذا الحد. أم عند أحد منكم يا متخلفى العقل والفكر المهجريين القليلى الأدب والذوق أى اعتراض؟ أو تظنون أن بمستطاعنا الإيمان بأن ابن الله أو الله ذاته قد تعرض لهذا الذى يقوله مؤلفو الأناجيل من مثل: "67فبَصَقوا في وَجهِ يَسوعَ ولطَموهُ، ومِنهُم مَنْ لكَمَهُ 68وقالوا: "تَنبّـأْ لنا، أيٌّها المَسيحُ، مَنْ ضَربَكَ!". وهذه ليست إلا "تصبيرة" ع الماشى، فما زلنا فى البداية، و"القادم مُذْهِلٌ أكثر"!
ومع ذلك فقد قلنا إنه سبحانه يفعل ما يشاء ولا يُسْأَل عما يفعل، واستبشرنا خيرا على كل حال بأن ذنبنا القديم سوف (أخيييييييييييييييييييييييييييرا) يُغْفَر، لكننا قرأنا فى الإنجيل أن يهوذا الذى أعده الله لتسهيل الخطة الإلهية الخاصة بغفران الذنوب البشرية قد أُدِين. غريبة! إذن لقد رجعنا إلى خط البداية مرة أخرى وإلى خطيئة لا تَقِلّ (إن لم تزد) عن خطيئة آدم، ألا وهى خطيئة قتل ابن الله الوحيد، وهو ما يستلزم خلق ابن جديد مثل المسيح ليقتله ناس جُدُد ويخونه يهوذا جديد مرتكبا خطيئة جديدة يخلق الله من أجلها ابنا جديدا ليُقْتَل من جديد مما يستدعى خلق يهوذا جديدا يرتكب خطيئة جديدة تستلزم خلق ابن جديد كى يقتل من جديد فــ... (كَفَى! كَفَى! ارحمونا يا خلق هوووووه من هذه السلسلة التى لا تنتهى حلقاتها!)! ثم لماذا انتظرت السماء كل تلك الأحقاب والدهور قبل أن تقرر الفداء والغفران؟ وما وضْع الذين كانوا قد مَضَوْا قبل ذلك ولم يؤمنوا بأن المسيح هو فاديهم ومكفر سيئاتهم عنهم؟ وما وضعنا نحن الآن؟ أوبإمكاننا أن نرتكب الخطايا براحتنا دون خوف من عقاب؟ يقولون: لا. إذن فما جدوى كل هذه التعقيدات والحَشْكَلات التى دوّخت الإنسان السبع دوخات (دوخة تنطح دوخة!) إذا كنا كما يقول المثل العامى: وكأنك يا أبا زيد لا رحت ولا جئت؟
دعونا من هذه القضية التى هى، كما يقول العرب القدماء، أعقد من ذَنَب الضَّبّ، وتعالوا إلى الشعور بالألم الذى كان على المسيح أن يقاسيه: فيا ترى من الذى عانى ذلك الشعور؟ أهو الله (أو ابن الله)؟ لكن الآلهة لا تشعر بالآلام، ولو كانت تشعر بالآلام لما كانت هناك حاجة لتجسُّد المسيح واتخاذه صورة البشر حتى يستطيع أن يشعر بالألم كما يشعرون! أهو إذن النصف الثانى من المسيح، النصف البشرى؟ إذن فالذى تعذب وقاسى واحد من البشر وليس ابن الله، وعلى هذا فلا فداء ولا كفارة من ناحيته سبحانه ولا حاجة! فأين الرحمة الإلهية فى الأمر إذا كان الذى عَزَمَنا على الطعام ليس هو الذى دفع الحساب؟ ألم يسمع بقولهم: "من يُفَنْجِرْ يُفَنْجِرْ من جيبه!". ثم هل من الممكن أن يتضاءل الله، وهو المطلق اللامحدود، فيصبح كائنا محدودا يشغل حيزا ذا أبعاد متناهية (تُعَدّ بالمناسبة بالسنتيمترات)؟ إن الأمر كله مستحيل على أى وضع. ولقد كان ممكنا فى الأزمنة القديمة أن يتصور متخلف قليل العقل أن الله يمكن أن يتجسد، أما الآن، ونحن نعرف شيئا من اتساع الكون الرهيب الذى يدير العقل ويصيبه بالانبهار الخاطف للأنفاس، فنستطيع من ثم أن نتصور على نحو ما معنى كلمة "اللامحدود" التى نصف بها الله سبحانه وتعالى، وأن نقتنع بأنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتجسد فى مكان وزمان معينين، وهو (كما قلنا) خالق الزمان والمكان، ومُطْبِق قبضته على كل الكائنات والمخلوقات فى هذا العالم الذى تقاس مسافاته بملايين السنين الضوئية، فكيف يمكن أن يحتويه عَزَّ وجَلَّ شىء من خَلْقه؟ بصراحة لقد توقف مخى عن التفكير أمام هذا الخلل والتخلف العقلى، وبالتالى سوف أسكت وأقول إن كل إنسان وكل طائفة حرة فى أن تؤمن بما تشاء. لكن ما معنى أن يُشْتَم سيد الخلق؟ ومع هذا فهم أحرار فى شتمهم وقلة أدبهم. ونحن لا نستطيع أن نجاريهم فى سفاهتهم فننال المسيح عليه الصلاة والسلام بالأذى، ذلك أننا نحبه حبًّا جمًّا ونؤمن أنه أطهر من الطهر ذاته كسائر أنبياء الله ورسله، لكننا نستطيع أن نكشف سوآتهم الفكرية والعقيدية، والمهم ألا يتصايحوا ويقولوا إننا نعتدى عليهم، فنحن إنما نرد العدوان على نبينا، عليه وعلى عيسى بن مريم الصلاة والسلام.
وعودةً إلى ما رواه الإنجيل من قصة المسيح نتساءل: ألم يكن التلاميذ يرافقون المسيح عليه السلام ليل نهار ويتبعونه أينما ذهب أو جاء إلا أن يكلفهم بشىء يستدعى مفارقتهم له؟ فكيف تركهم يهوذا دون أن يأذن له السيد المسيح، بل دون أن يستفسر أحد عن سبب غيابه، وذهب ليعقد صفقة تسلميه لرؤساء اليهود؟ وعندما قال لهم المسيح إن الخائن هو من يغمس لقمته فى ذات الطبق الذى يأكل منه، كيف لم يتنبه يهوذا فيمتنع عن التغميس من الطبق؟ وحين قال له المسيح جوابا على سؤاله: "أنت قلت"، بما يعنى أنه هو الخائن، كيف سكت وسكتوا، وكأنْ ليس فى الأمر شىء؟ بل كيف تركوه يمضى ولم يضيقوا عليه الحصار كى يمنعوه من ارتكاب جريمته؟ وهل مبلغ الثلاثين فضة بالمبلغ الذى يغرى يهوذا أو غير يهوذا باجتراح هذا الإثم الفظيع؟ وحين عاد يهوذا (الله يخرب بيته جزاء ما صدّع دماغى من ضرب أخماس فى أسداس منذ ساعة وأكثر كى أفهم المسألة وأصل فيه إلى حل دون جدوى!)، أكان فى حاجة لأن يقبّل المسيحَ كى يعرفه من أَتَوْا للقبض عليه؟ أوكان عيسى عليه السلام مجهولا إلى هذا الحد؟ لقد رأينا الناس جميعا والكهنة والفَرِّيسيِّين والصَّدُّوقيِّين والضباط والعرج والبرص والمجانين والممسوسين والأطفال الذين قاموا بمظاهرة فى الهيكل وكانوا يهتفون له (لا أظن أنكم قد نسيتموهم)، وحتى الموتى يعرفونه جيدا بسبب معجزاته التى لم يشاهدوا مثلها من قبل وكان لها الفضل بعد الله فى إعادتهم إلى الحياة، فكيف تجهله الجماعة التى أتت للقبض عليه واحتاجت إلى أن يقبّله يهوذا حتى يعرفوه؟ وكيف نصدق أن بطرس يجلس هكذا بكل جرأة بين العساكر الذين يحرسون جلسة المحاكمة فى قلب دار رئيس الكهنة ذاته؟ ليس ذلك فقط، بل كان يستدفئ معهم بالنار أيضا! (مرقس/ 14/ 54)؟ أهى تكيّة؟
وهل لنا أن نصدق ما قاله راوى الحكاية من أن "واحدا مِنْ رِفاقِ يَسوعَ مد يدَهُ إلى سَيفِهِ واَستلَّهُ وضرَبَ خادِمَ رئيسِ الكَهنَةِ، فقَطَعَ أُذُنَهُ. بالله عليكم من أين حصل هذا الرجل على سيف؟ ألعلّه اشتراه خردة من سوق الخميس فى المطرية؟ أم تراه السيف الذى قال المسيح إنه جاء ليلقيه بدلا من السلام؟ لكن ها هو ذا المسيح يتنكر لما قاله ويقول للرجل: ما الذى تفعله يا مجنون؟ أتريد أن تجلب علينا المصائب؟ ارم السيف! فلم قال صلى الله عليه وسلم إذن إنه جاء ليلقى سيفا ونارا؟ أهو كلام وطحينة؟: "52فقالَ لَه يَسوعُ: "رُدَّ سيفَكَ إلى مكانِهِ. فمَنْ يأخُذْ بالسّيفِ، بالسّيفِ يَهلِكُ. 53أتظُنٌّ أنَّي لا أقدِرُ أنْ أطلُبَ إلى أبـي، فيُرسِل لي في الحالِ أكثَرَ مِنْ اَثنَي عشَرَ جَيشًا مِنَ المَلائِكَةِ؟ 54ولكِنْ كيفَ تتِمٌّ الكُتبُ المقدَّسةُ التي تَقولُ إنَّ هذا ما يَجبُ أنْ يَحدُثَ؟" وهل من المقنع أن يستل الرجل سيفه ويقطع أذن خادم رئيس الكهنة بحاله ومحتاله دون أن يطيِّر العساكرُ والجموعُ المتعطشة للدماء، وفى أيديها العِصِىّ والسيوف، رقبتَه فى الحال أو يقبضوا على الأقل عليه ويقدموه للمحاكمة؟ بل لقد ورد فى "لوقا" ما يُفْهَم منه أن التلاميذ جميعا كان معهم سيوف، إذ عرضوا على معلمهم أن يضربوا بالسيف (لوقا/ 22/ 49)! إن لوقا يقول إن المسيح قد مد يده فأعاد الأذن المقطوعة إلى مكانها فأبرأها (لوقا/ 22/ 51). عظيم! لكن ألم يكن هو أولى بأن يخلص نفسه من المأزق الذى وجد نفسه فيه وكان من الواضح أنه يريد أن يجد ثغرة لكى ينفذ منه ويهرب من شرب تلك الكأس المرة؟ سيقولون: لقد أرسله الله فى مهمة محددة، فكيف يهملها ويمضى؟ لكننا سمعناه يتألم ويشعر بالحزن حتى الموت كما قال، بل ابتهل لربه أن يزيح عنه الكأس، وهو ما يعنى أنه لم يكن يريد تأدية المهمة. ثم هل سمح الله له بإبراء أذن الشرطى؟ الواقع أن المسيح عملها دون انتظار إذنه سبحانه، أفلم يكن الأَوْلَى به أن ينقذ نفسه من تلك المصيبة التى توشك أن تقع؟ ثم هناك سؤال رئيس الكهنة وجواب المسيح عليه، وهذه مشكلة أخرى: "قالَ لَه رَئيسُ الكَهنَةِ: "أستَحلِفُكَ بالله الحيَّ أنْ تَقولَ لنا: هَل أنتَ المَسيحُ اَبنُ الله؟" 64فأجابَ يَسوعُ: "أنتَ قُلتَ. وأنا أقولُ لكُم: سترَوْنَ بَعدَ اليومِ اَبنَ الإنسانِ جالِسًا عَنْ يَمينِ الله القَديرِ وآتــيًا على سَحابِ السَّماءِ!"، فرئيس الكهنة يريد أن يعرف منه هل هو ابن الله، لكنه لا يجيب على السؤال مكتفيا بقوله: أنت قلت! وهى إجابة لا تقول شيئا، ومع ذلك فعندما يتحدث عما سيحدث عند القيامة يسمى نفسه: "ابن الإنسان"، فما دلالة ذلك؟ إنه اعتراف صريح بأنه إنسان. ولا أظن أحدا يمكنه أن يدعى بأنه كان خائفا، وإلا لقلنا: فلماذا لم يدافع عن نفسه كى ينقذها من هذا الذى يخاف منه؟ثم إن قوله عن نفسه بأنه سيظل يوم القيامة "ابنا للإنسان" لا يعنى إلا أنه ليس ولم يكن فى يوم من الأيام إلا "ابنا للإنسان"، لأننا إذا قلنا كما يقول القوم إنه تجسد على الأرض كى يخالط البشر فى ثوبه البشرى ويحس بآلامهم البشرية، فما الداعى إذن إلى بقائه حتى فى يوم القيام وأثناء جلوسه على يمين أبيه السماوى "ابنا للإنسان"؟ بل ما الداعى إلى بقاء الأقانيم الثلاثة أصلاً بعد أن انتهى التجسد فلم تعد إلى حالتها الأولى من التوحد بعدما انتهت حكاية التأقنم التى أوجعوا بها دماغنا ولخبطوا عقلنا ولم يعد هناك آبٌ وابنٌ وروح قدس؟ لماذا لم نَزَلْ نرى الابن جالسا على يمين أبيه، بما يعنى أننا ما بَرِحْنا أمام إلهين، والمفروض ألا يكون هناك الآن سوى الإله الواحد الذى يدّعى القوم أن هذه الأقانيم هى هو فى الحقيقة، لكنها انقسمت على الأرض لغرض التجسد والتضحية والفداء فقط؟ مصيبة أخرى من المصائب الثقيلة! ولكى ننتهى من هذه القضية الشائكة فإننا نتساءل: وماذا فيما وقع ليسوع على الصليب مما يستحق أن نتألم له أو نعجب به؟ إنه ابن الله كما يقول من يؤمنون بهذه الحكاية، فهل تشكّل مثل هذه الأمور شيئا ذا بال أو غير ذى بال للآلهة وأولادهم، وهم الذين اخترعوا الآلام والعذاب والصلب والقتل ولا يمثل هذا كله ولا أضعافه تريليونات المرات أية معضلة لهم على الإطلاق؟
وهناك نقطة عارضة نفتح لها هنا قوسين تتعلق بشرب الخمر فى النصرانية الذى ينفيه زيكو العجيب ذو الدبر الرحيب (الرحيب مثل ذمته لا عقله!) وتَشَنَّجَ فى إنكاره، على حين نسمع المسيح يقول لحوارييه: "لا أشرَبُ بَعدَ اليومِ مِنْ عَصيرِ الكَرمةِ هذا، حتى يَجيءَ يومٌ فيهِ أشرَبُهُ مَعكُم جَديدًا في مَلكوتِ أبـي"، بما يعنى أولا أنه كان يشرب "عصير الكرمة هذا" قبل تلك المرة، وثانيا أن التلاميذ شربوا تلك الليلة من "عصير الكرمة هذا". ثم ثالثا يهاجمنا المجرمون الكذابون متهمين ديننا بأنه دين لذائذ حسية يَعِدُ معتنقيه بالأكل والشرب فى الجنة، ومنه شرب الخمر، وها هو ذا المسيح يعلن بلغة لا مواربة فيها أنه سوف يشرب "عصير الكرمة هذا" من الآن فصاعدا فى ملكوت أبيه السماوى. فلماذا قلة الأدب إذن؟ ودعونا من أحلام يوحنا وسماديره التى اعترته فى قرصة جوع حادة فأخذ يهذى بألوان الطعام المضحكة الغريبة فى "رؤياه"!
هذا، ولن أعلق بشىء على قصة بطرس وأذان الديك: "كو.كو.كو.كوو.كو فى الفجرية، هيا بنا على باب الله يا صنايعية!"، بل أسوقها كما هى: "وكانَ بُطرُسُ قاعِدًا في ساحَةِ الدّارِ، فدنَتْ إلَيهِ جاريَةٌ وقالَت: "أنتَ أيضًا كُنتَ معَ يَسوعَ الجليلّي!" 70فأنكَرَ أمامَ جميعِ الحاضرينَ، قالَ: "لا أفهَمُ ما تَقولينَ". 71وخرَجَ إلى مَدخَلِ السّاحةِ، فَرأتهُ جاريةٌ أخرى. فقالَت لِمَن كانوا هُناكَ: "هذا الرَّجُلُ كانَ معَ يَسوعَ النّاصريَّ!" 72فأنكَرَ بُطرُسُ ثانيةً وحلَفَ، قالَ: "لا أعرِفُ هذا الرَّجُلَ!" 73وبَعدَ قَليلٍ جاءَ الحاضِرونَ وقالوا لِبُطرُسَ: "لا شَكَّ أنَّكَ أنتَ أيضًا واحدٌ مِنهُم، فلَهْجتُكَ تَدُلُّ علَيكَ!" 74فأخذَ يَلعَنُ ويحلِفُ: "أنا لا أعرِفُ هذا الرَّجُلَ". فصاحَ الدّيكُ في الحالِ، 75فتذكَّرَ بُطرُسُ قَولَ يَسوعَ: "قَبلَ أنْ يَصيحَ الدّيكُ تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ". فخرَجَ وبكى بُكاءً مُرُا". وهنا أدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام الفضّاح، لكنها لم تستطع مع ذلك أن تكف نفسها عن السؤال التالى (هى التى سألت ولست أنا)، شأن كل امرأة أمام إغراء "الكلمتين اللتين على السلم": يا ترى كيف تركوا بطرس يمضى لحال سبيله هكذا دون أن يتحققوا مما قالته عنه المرأة؟ ولن أتكلم عن كذبه وحَلِفه الباطل وخَيْسه فى الوعد الذى قطعه على نفسه قبل قليل للسيد المسيح وأكد فيه أنه لن ينكره ولن يسلمه لأعدائه أبدا مهما تكن الظروف، وهروبه وأخذ بقية التلاميذ ذيلهم فى أسنانهم وقولهم: يا فكيك! بل إن أحد الشبان الذين كانوا يتبعونه قد فَرّ عاريا بلبوصا (إى والله بلبوصا!) كما ولدته أمه بعدما ترك للمهاجمين إزاره الذى لم يكن على جسمه سواه (مرقس/ 14/ 51- 52)، فمثل هذه الأمور لا تساوى شيئا جَنْب البلايا المتلتلة الأخرى التى لم نعرف لها جوابا!
الفصل السابع والعشرون:
"يسوع عند بـيلاطس.
ولمّا طلَعَ الصٌّبحُ، تَشاورَ جميعُ رُؤساءِ الكَهنَةِ وشُيوخُ الشَّعبِ على يَسوعَ ليَقتُلوهُ. 2ثُمَّ قَيَّدوهُ وأخَذوهُ وأسلَموهُ إلى الحاكِمِ بـيلاطُسَ.
موت يهوذا.
3فلمّا رأى يَهوذا الَّذي أسلَمَ يَسوعَ أنَّهُم حكَموا علَيهِ، ندِمَ ورَدَّ الثَّلاثينَ مِنَ الفِضَّةِ إلى رُؤساءِ الكَهنَةِ والشٌّيوخِ، 4وقالَ لهُم: "خَطِئتُ حينَ أسلَمتُ دمًا بريئًا". فقالوا لَه: "ما علَينا؟ دَبَّرْ أنتَ أمرَكَ". 5فرَمى يَهوذا الفِضَّةَ في الهَيكلِ واَنْصرفَ، ثُمَّ ذهَبَ وشَنقَ نفسَهُ.
6فأخَذَ رُؤساءُ الكَهنَةِ الفِضَّةَ وقالوا: "هذِهِ ثمنُ دمِ، فلا يَحِلُّ لنا أنْ نضَعَها في صُندوقِ الهَيكَلِ". 7فاَتَّـفَقوا أنْ يَشتَروا بِها حَقلَ الخَزّافِ ليَجعَلوهُ مَقبرَةً لِلغُرَباءِ. 8ولِهذا يُسَمّيهِ الناسُ حقلَ الدَّمِ إلى هذا اليومِ.
9فتَمَّ ما قالَهُ النَّبـيٌّ إرميا: "وأخذوا الثَّلاثينَ مِنَ الفِضَّةِ، وهيَ ما اَتَّفقَ بَعضُ بَني إِسرائيلَ على أنْ يكونَ ثمنُهُ، 10ودَفَعوها ثَمنًا لِحَقلِ الخزّافِ. هكذا أمرَني الرَّبٌّ".
بـيلاطس يسأل يسوع.
11ووقَفَ يَسوعُ أمامَ الحاكِمِ فسألَهُ الحاكِمُ: "أأنتَ مَلِكُ اليَهودِ؟" فأجابَهُ يَسوعُ: "أنتَ قُلتَ". 12وكانَ رُؤساءُ الكَهنَةِ والشٌّيوخِ يتَّهِمونَهُ، فلا يُجيبُ بِشيءٍ. 13فقالَ له بـيلاطُسُ: "أما تسمَعُ ما يَشهَدونَ بِه علَيكَ؟" 14فما أجابَهُ يَسوعُ عَنْ شيءٍ، حتَّى تَعجَّبَ الحاكِمُ كثيرًا.
الحكم على يسوع بالموت.
15وكانَ مِنْ عادَةِ الحاكِمِ في كُلٌ عيدٍ أن يُطلِقَ واحدًا مِن السٌّجَناءِ يَختارُهُ الشّعبُ. 16وكانَ عِندَهُم في ذلِكَ الحينِ سَجينٌ شهيرٌ اَسمُهُ يشوعُ باراباسُ. 17فلمّا تَجَمْهرَ النّاسُ سألَهُم بـيلاطُسُ: "مَنْ تُريدونَ أنْ أُطلِقَ لكُم: يشوعُ باراباسُ أمْ يَسوعُ الَّذي يُقالُ لَه المَسيحُ؟" 18وكان بـيلاطُسُ يَعرِفُ أنَّهُم مِنْ حَسَدِهِم أسلموا يَسوعَ.
19وبَينَما بـيلاطُسُ على كُرسِـيَّ القَضاءِ، أرسَلَتْ إلَيهِ اَمرأتُهُ تَقولُ: "إيّاكَ وهذا الرَّجُلَ الصّالِـحَ، لأنَّي تألَّمتُ اللَّيلَةَ في الحُلمِ كثيرًا مِنْ أجلِهِ". 20لكنَّ رُؤساءَ الكَهنَةِ والشٌّيوخَ حَرَّضوا الجُموعَ على أنْ يَطلُبوا باراباسَ ويَقتُلوا يَسوعَ. 21فلمّا سألَهُمُ الحاكمُ: "أيٌّهُما تُريدونَ أنْ أُطلِقَ لكُم؟" أجابوا: "باراباسُ!" 22فقالَ لهُم بـيلاطُسُ: "وماذا أفعَلُ بـيَسوعَ الَّذي يُقالُ لَه المَسيحُ؟" فأجابوا كُلٌّهُم: "إصْلِبْهُ!" 23قالَ لهُم: "وَأيَّ شَرٍّ فَعلَ؟" فاَرتفَعَ صياحُهُم: "إصْلِبْهُ!"
24فلمّا رأى بـيلاطُسُ أنه ما اَستفادَ شيئًا، بلِ اَشتَدَّ الاَضطِرابُ، أخذَ ماءً وغسَلَ يَديهِ أمامَ الجُموعِ وقالَ: "أنا بَريءٌ مِنْ دَمِ هذا الــــرَّجُل! دَبَّروا أنتُم أمرَهُ". 25فأجابَ الشّعبُ كُلٌّهُ: "دمُهُ علَينا وعلى أولادِنا!" 26فأطلَقَ لهُم باراباسَ، أمّا يَسوعُ فجلَدَهُ وأسلَمَهُ لـــيُصْلَبَ.
الجنود يستهزئون بـيسوع.
27فأخذَ جُنودُ الحاكِمِ يَسوعَ إلى قَصرِ الحاكِمِ وجَمعوا الكَتيبةَ كُلَّها، 28فنزَعوا عَنهُ ثيابَهُ وألبَسوهُ ثَوبًا قِرمِزيُا، 29وضَفَروا إكليلاً مِنْ شَوكٍ ووضَعوهُ على رأسِهِ، وجَعَلوا في يَمينِهِ قصَبَةً، ثُمَّ رَكَعوا أمامَهُ واَستَهزأوا بِه فقالوا: "السّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهودِ!" 30وأمسكوا القصَبَةَ وأخَذوا يَضرِبونَهُ بِها على رأسِهِ وهُم يَبصُقونَ علَيهِ. 31وبَعدَما اَستَهزَأوا بِه نَــزَعوا عَنهُ الثَّوبَ القِرمِزيَّ، وألبَسوهُ ثيابَهُ وساقوهُ ليُصلَبَ يسوع على الصليب.
32وبَينَما هُمْ خارِجونَ مِنَ المدينةِ صادَفوا رَجُلاً مِنْ قَيرينَ اَسمُهُ سِمْعانُ، فسَخَّروهُ ليَحمِلَ صَليبَ يَسوعَ. 33ولمّا وصَلوا إلى المكانِ الَّذي يُقالُ لَه الجُلجُثَةُ، أي "مَوضِعُ الجُمجُمَةِ" 34أعطَوْهُ خَمرًا مَمزوجَةً بِالمُرَّ، فلمّا ذاقَها رفَضَ أنْ يَشرَبَها. 35فصَلبوهُ واَقتَرعوا على ثيابِهِ واَقتَسموها. 36وجَلَسوا هُناكَ يَحرُسونَه. 37ووضَعوا فَوقَ رأسِهِ لافِتَةً مكتوبًا فيها سَببُ الحُكمِ علَيهِ: "هذا يَسوعُ، مَلِكُ اليَهودِ". 38وصَلَبوا مَعهُ لِصَّينِ، واحدًا عَنْ يَمينِهِ وواحدًا عَنْ شِمالِهِ. 39وكانَ المارةُ يَهُزّونَ رُؤوسَهُم ويَشتِمونَهُ ويَقولونَ: 40"يا هادِمَ الهَيكَلِ وبانِـيَهُ في ثلاثَةِ أيّامِ، إنْ كُنتَ اَبنَ الله، فخلَّصْ نفسَكَ واَنزِلْ عَنِ الصَّليبِ". 41وكانَ رُؤساءُ الكَهنَةِ ومُـعلَّمو الشّريعَةِ والشٌّيوخُ يَستهزِئونَ بِه، فيَقولونَ: 42"خَلَّصَ غيرَهُ، ولا يَقدِرُ أنْ يُخلَّصَ نفسَهُ! هوَ مَلِكُ إِسرائيلَ، فلْيَنزِلِ الآنَ عَنِ الصَّليبِ لِنؤمِنَ بِه! 43توَكَّلَ على الله وقالَ: أنا اَبنُ الله، فليُنقِذْهُ الله الآنَ إنْ كانَ راضيًا عنهُ". 44وعيَّرَهُ اللَّصانِ المَصلوبانِ مَعهُ أيضًا، فقالا مِثلَ هذا الكلامِ.
موت يسوع.
45وعِندَ الظٌّهرِ خيَّمَ على الأرضِ كُلَّها ظلامٌ حتَّى السّاعةِ الثّالِثةِ. 46ونحوَ الساعةِ الثالثةِ صرَخَ يَسوعُ بِصوتٍ عَظيمِ: "إيلي، إيلي، لِما شَبقتاني؟" أي "إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟" 47فسَمِعَ بَعضُ الحاضرينَ هُناكَ، فقالوا: "ها هوَ يُنادي إيليّا!" 48وأسرَعَ واحدٌ مِنهُم إلى إسفِنْجَةٍ، فبَلَّــلَها بالخَلٌ ووضَعَها على طرَفِ قَصبَةٍ ورَفَعها إلَيهِ لِـيَشرَبَ. 49فقالَ لَه الآخرونَ: "اَنتَظِرْ لِنرى هَلْ يَجيءُ إيليّا ليُخَلَّصَهُ!" 50وصرَخَ يَسوعُ مرّةً ثانيةً صَرْخَةً قَوِيَّةً وأسلَمَ الرّوحَ.
51فاَنشَقَّ حِجابُ الهَيكلِ شَطرَينِ مِنْ أعلى إلى أسفَلَ. وتَزلْزَلتِ الأرضُ وتَشقَّقتِ الصٌّخورُ. 52واَنفتَحَتِ القُبورُ،. فقامَتْ أجسادُ كثير مِنَ القِدَّيسينَ الرّاقِدينَ. 53وبَعدَ قيامَةِ يَسوعَ، خَرَجوا مِنَ القُبورِ ودَخلوا إلى المدينةِ المقدَّسَةِ وظَهَروا لِكثير مِنَ النّاسِ.
54فلمّا رأى القائِدُ وجُنودُهُ الَّذينَ يَحرُسونَ يَسوعَ الزَّلزالَ وكُلَ ما حدَثَ، فَزِعوا وقالوا: "بالحَقيقةِ كانَ هذا الرَّجُلُ اَبنَ الله!" 55وكانَ هُناكَ كثيرٌ مِنَ النَّساءِ يَنظُرنَ عَنْ بُعدٍ، وهُنَّ اللَّواتي تَبِعنَ يَسوعَ مِنَ الجَليلِ ليَخدُمْنَه، 56فيهِنّ مَريمُ المَجدليَّةُ، ومَريمُ أمٌّ يَعقوبَ ويوسفَ، وأُمٌّ اَبنَي زَبدي.
دفن يسوع.
57وجاءَ عِندَ المساءِ رجُلٌ غَنِـيٌّ مِنَ الرّامةِ اَسمُهُ يوسُفُ، وكانَ مِنْ تلاميذِ يَسوعَ. 58فدَخَلَ على بـيلاطُسَ وطلَبَ جَسدَ يَسوعَ. فأمَرَ بـيلاطُسُ أنْ يُسلَّموهُ إلَيهِ. 59فأخَذَ يوسُفُ جَسدَ يَسوعَ ولفَّهُ في كفَنٍ نظيفٍ، 60ووضَعَهُ في قبرٍ جديدٍ كانَ حَفَرَهُ لِنفسِهِ في الصَّخرِ، ثُمَّ دَحرجَ حجرًا كبـيرًا على بابِ القبرِ ومَضى. 61وكانَت مَريَمُ المَجْدليَّةُ، ومَريَمُ الأُخرى، جالِستَينِ تُجاهَ القَبرِ.
حراسة القبر.
62وفي الغدِ، أيْ بَعدَ التَّهيئَةِ لِلسَّبتِ، ذهَبَ رُؤساءُ الكَهنَةِ والفَرّيسيّونَ إلى بـيلاطُس 63وقالوا لَه: "تَذكَّرنا، يا سيَّدُ، أنَّ ذلِكَ الدَّجالَ قالَ وهوَ حيٌّ: سأقومُ بَعدَ ثلاثةِ أيّـامِ. 64فأصْدِرْ أمرَكَ بِحِراسَةِ القَبرِ إلى اليومِ الثّالِثِ، لِـئلاَّ يَجيءَ تلاميذُهُ ويَسرِقوهُ ويقولوا للشَّعبِ: قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ، فتكونَ هذِهِ الخِدعَةُ شرُا مِنَ الأولى".
65فقالَ لهُم بـيلاطُسُ: "عِندَكُم حرَسٌ، فاَذهَبوا واَحتاطوا كما تَرَونَ". 66فذَهبوا واَحتاطوا على القَبرِ، فختَموا الحجَرَ وأقاموا علَيهِ حَرَسًا".
والآن أليس عجيبا أن يتراجع يهوذا عما أتاه من خيانة بمجرد أن حكموا على المسيح، وهو الذى كان أمامه الوقت الطويل قبل ذلك كى يفيق من نفاقه وكيده فلم يفعل، ومع هذا فبمجرد أن حكموا على المسيح كما تزعم القصة انقلب على نفسه ثمانين درجة وذهب فانتحر رغم أن الحكم لم يكن قد نفذ بعد، وكان ممكنا جدا أن يتغير لسبب أو لآخر، بل رغم أنه كان يستطيع أن يذهب للحاكم ويعترف له بما فعل ويشهد لصالح المسيح ما دام ضميره قد استيقظ وأخذ يأكله مثلما تأكل زيكو دبره بالضبط، فيتعرض من ثم لغضب الله لأنه قد أحبط الخطة الإلهية لغفران عموم الخطايا البشرية؟ يعنى يا يهوذا يا ابن الحلال: واقعتك مهببة مهببة مهما فعلت! ألم يكن عندى حق عندما قلت: "الله يخرب بيتك" لقاء ما بَرْجَلْتَ عقولنا وعقول البشرية كلها وأسلتَ من أحبارنا واستهلكتَ من أوراقنا وأوقاتنا ما كان يمكننا، على الأقل نحن سكان منطقة الشرق الأوسط المتخلفة هذه، أن ننفقه فيا هو أفيد؟ ثم لا تَنْسَوُا السيد متّى، الذى يظن نفسه من الذكاء وإيانا من الغباء بحيث يستطيع أن يزعم أن ما حدث قد تنبأ به الأنبياء (هذه المرة: إرميا)، فقال كعادته عبارته المشهورة التى حفظناها عن ظهر قلب أو عن قلب ظهر: لكى يتم ما قاله النبى، أو شيئا مشابها لهذا! لكن متَّى لم يكن للأسف ذكيا بما فيه "الكفاية" (ولعل هذا هو السبب فى أنه ليس من أعضاء حركة "كفاية" الحالية!)، لأنه لم يتصور أن هناك ناسا آخرين سوف يكتبون هم أيضا سيرة المسيح ويعكّون مثله فيقولون شيئا آخر غير ما قال. ألم يكن أجدر به أن يتفق معهم مقدما على ما ينبغى قوله حتى لا يأتى فى آخر الزمان واحد مثلى "قاعد لهم على القعيدة" فيفضح تخليطهم واضطرابهم ويكشف للناس جميعا أن ما قاله القرآن عن هذه الحكايات المسماة بــ"الأناجيل" من أنها كلام ملفق مزور محرف هو اتهام صحيح؟ كيف؟ لنأخذ فقط هذا الذى قاله النبى المذكور ونبين أنه، بغض النظر عن صحته أو لا، لا علاقة بينه وبين ما وقع للسيد المسيح وأن حكاية يهوذا كلها ليست سوى "شويّة خرابيط لخابيط"! ذلك أن الحكاية تتخذ شكلا آخر فى "أعمال الرسل"، إذ نقرأ فيه: "18فَإِنَّ هَذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. 19وَصَارَ ذَلِكَ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ حَتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا» (أَيْ: حَقْلَ دَمٍ). 20لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آَخَرُ" (أعمال الرسل/ 1/ 18- 19)، أى أن العهد القديم يتناقض مع نفسه من كتَابٍ إلى آخر. ولنلاحظ أن كاتب "أعمال الرسل" لم يقصّر هو أيضا فى الاستشهاد بما جاء فى "العهد القديم"، لكنه آثر "المزامير" على "إرميا"، ولم لا، وإرميا نبى، وداود نبى (وإن كان نبيا زانيا وقاتلا حقودا، لكنه على كل حال نبى)، وكل من له نبى يصلى عليه ويستند إليه؟ وواضح أن الحكاية مضطربة متناقضة بين المؤلفَيْن، فلنتركهما فى غَيّهما سادِرَيْن، ولنمض نحن إلى موضوع آخر، فاللخبطات كثيرة، والتناقضات لا تنتهى. ثم إذا قلنا لهم ذلك شتموا نبى الرحمة وأقلّوا أدبهم! ماشٍ! وبالمناسبة فالنص الخاص بالثلاثين فضة موجود فى الفصل الحادى عشر من سفر "زكريا"، وهو خاص بأجرة رعى الغنم التى استحقها الله من عمله لدى شعبه العنيد الصلب الرقبة، لكن متّى وأمثاله يلوون هذه النصوص الغامضة التى لا معنى لها ويزعمون أنها تتعلق بالسيد المسيح. وهذا طبيعى، فما دام لا وجود لمنهج ولا منطق فمن الممكن أن يقول الإنسان أى شىء عن أى شىء! إن ما قاله متّى فى تفسير تسمية الحقل المذكور بــ"حقل الدم" هو من جنس قولهم فى تفسير اسم "الفيوم" بأن يوسف عليه السلام قد بناها فى "ألف يوم"، أو تفسير اسم "هملت" بأن أمه "أهملت" فى تربيته!
وفوق هذا فإننا لا نستطيع أن نمضى دون أن نعلن استغرابنا لما حدث ليهوذا: لماذا بالله يصوَّر الرجل فى كتابات القوم على أنه شرير؟ إن دوره فى واقع الأمر مكمّل لدور المسيح: فهذا قد أتى ليموت على الصليب من أجل كذا وكذا مما يزعمونه، وذاك قد أتى ليساعد هذا على تأدية المهمة المنوطة به، وإلا فكيف بالله عليكم كان يمكن أن يتم الفداء والتكفير عن خطيئة البشرية لو لم يبع يهوذا المسيح لليهود ولو لم يقتل اليهود المسيح؟ أعطونى عقلكم، فقد تعبت من التفكير! لكنْ للأسف نسى الكاتب المحترم أن يقول لنا كيف شنق يهوذا نفسه. هل أتى بسلم وركّب فى السقف علاقة حديد وربط فيها حبلا متينا حتى يضمن أنه لن ينقطع إذا ما علق رقبته فيها وتدلى الحبل به، ثم أتى بكرسى ووقف عليه ووضع عنقه فى الخية، ثم شد الربقة جيدا حول عنقه، ثم "هُبَّا!" ضرب الكرسى بقدمه من تحته فأطاره بعيدا فأخذ يُفَلْفِص دون جدوى تحت مطارق الألم بسبب الاختناق وانكسار فقرات العنق حتى انقطعت أنفاسه تماما وتدلى لسانه وجحظت عيناه! يا حفيظ! أم إنه، على طريقة الأفلام المصرية، ما إن ضرب الكرسى من تحته حتى شد بثقله السقف إلى أسفل فانهار وتدفقت منه أوراق البنكنوت بالآلاف، فعوضه الله بذلك عن الثلاثين فضة التى لا تساوى فى هذه الأيام النحسات شيئا حيث تضاعف سعر كل شىء، وبعد أن كنا نشترى ونحن صغار عشر حبّات كراملة بتعريفة (نصف قرش صاغ) أصبحنا الآن نشترى الحبة الواحدة بخمسة قروش صاغ، وأحيانا بعشرة؟ بينى وبينكم: السيناريو الثانى أفضل فى نظرى لأنه أرحم وأقرب للعقلية الشرق أوسطية وأوفق للخطة الإلهية التى ترى فى يهوذا عاملا محفِّزا لتنفيذ المشيئة المقدسة! فما رأيكم أنتم؟
هل انتهينا هكذا؟ أبدا، فما زالت الأرض مملوءة بالألغام القاتلة: مثلا كيف يا ترى لم نر أحدا يدافع عن المسيح بين هاتيك الجموع، وكأن بينها وبينه ثأرا بائتا، فلا بد من أكل لحمه على عظمه وشرب دمه! أين الجماهير التى كانت تصحبه من مكان إلى مكان حتى داخل الهيكل ويهتفون باسمه ويسجدون له ويتحدَّوْن الكهنة والصدوقيين والفريسيين من أجله؟ أين الصبيان الذين دخلوا على الخط هم أيضا وجلجلت أصواتهم بين جدران المعبد تمجيدا له؟ لقد بلغ عدد هذه الجموع يوم السمك والخبز سبعة آلاف، وكان ذلك فى بدايات الدعوة، فكيف ذابوا بهذه البساطة كما يذوب فص الملح فى الماء فلم نعد نسمع لهم حِسًّا أو عنهم خبرا؟ أين تلك الجماهير يا ترى الذين قال المؤلف المضطرب الفكر والرواية إن رؤساء اليهود خَشُوا أن يؤذوا عيسى فى العيد كيلا يثيروها ضدهم لتعاطفها معه؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم قد خافوا من السلطات، فقد أخبرنا السيد متّى أن الحاكم كان متعاطفا مع المسيح، وكذلك زوجته التى رأت حلما فى المنام عنه كدّرها فتدخلت عنده تتشفع له، بل إنه كان من عادته أن يطلق لهم فى كل عيد سجينا يختارونه بأنفسهم، كما أن المسيح لم يكن يتحدى الدولة، فضلا عن أن رؤساء اليهود أنفسهم قد عملوا حساب تلك الجماهير ولم يشاؤوا مَسّ عيسى بأذى مراعاة لمشاعرهم وموقفهم منه، فلماذا الخوف إذن؟ إن العامة عندنا فى القرية، رغم جهلهم وانعدام الموهبة القصصية لديهم، دائما ما يقولون: "إن كذبتَ فاكذبْ كذبا متساويا". يعنون أنه لا بد من مراعاة أصول الفن والصنعة حتى فى الكذب! بيد أن متّى، كما هو واضح، يفتقر للحس الروائى!
كذلك عجبا أن يلوذ عيسى بن مريم بالصمت ولا يجيب على الأسئلة التى كان يوجهها له بيلاطس، وقد كان من المحتمل أن يطلق سراحه لو أنه اهتم بالدفاع عن نفسه وفضح الأكاذيب التى شنع بها اليهود عليه، فلماذا لم يفعل بالله عليه؟ ألم نره يناجى ربه فى ألم وحزن وانسحاق أن يصرف عنه تلك الكأس؟ فلماذا لم ينتهز هذه الفرصة السانحة ويجيب على أسئلة الحاكم بما يجلّى وجه الحق، ويترك الباقى على الله: فإن اقتضت مشيئته أن يُصْلَب ويُقْتَل لم يخسر شيئا، وإن غَيَّرَ سبحانه ما كان أراده من قبل، فبها ونعمت! أولم يكن ينبغى أن يهتبل هذه السانحة الأخيرة فيوضّح للناس حكاية الخطيئة الأولى وكيف نزل من عليائه كى يعيد الأمور لنصابها، على الأقل حتى يعطى الناس فرصة لمعرفة الحقيقة فلا تكون لهم حجة عند ربهم يوم القيامة، بدلا من هذا الغموض الذى يلف المسألة كلها فلا ندرى رأسنا من رجلينا؟ أيمكن أن يكون هناك حكم دون حيثيات وتوضيحات؟ ثم إن بيلاطس، لما حاول أن يثنى اليهود عن قتل عيسى وفشل، غسل يده وتبرأ من المشاركة فى ذلك العمل المجرم وقال لهم بالحرف الواحد: "أنا بَريءٌ مِنْ دَمِ هذا الــــرَّجُل! دَبَّروا أنتُم أمرَهُ"، لكننا بعد بضع كلمات نفاجأ بالسيد متّى يقول عن ذلك الحاكم بالحرف أيضا: "فأطلَقَ لهُم باراباسَ، أمّا يَسوعُ فجلَدَهُ وأسلَمَهُ لـــيُصْلَبَ"، فلا ندرى أى الروايتين نصدق؟
ثم نمضى فنقرأ: "27فأخذَ جُنودُ الحاكِمِ يَسوعَ إلى قَصرِ الحاكِمِ وجَمعوا الكَتيبةَ كُلَّها، 28فنزَعوا عَنهُ ثيابَهُ وألبَسوهُ ثَوبًا قِرمِزيُا، 29وضَفَروا إكليلاً مِنْ شَوكٍ ووضَعوهُ على رأسِهِ، وجَعَلوا في يَمينِهِ قصَبَةً، ثُمَّ رَكَعوا أمامَهُ واَستَهزأوا بِه فقالوا: "السّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهودِ!" 30وأمسكوا القصَبَةَ وأخَذوا يَضرِبونَهُ بِها على رأسِهِ وهُم يَبصُقونَ علَيهِ. 31وبَعدَما اَستَهزَأوا بِه نَــزَعوا عَنهُ الثَّوبَ القِرمِزيَّ، وألبَسوهُ ثيابَهُ وساقوهُ ليُصلَبَ يسوع على الصليب". ولا أظن عاقلا يصدق أن شيئا من ذلك يمكن أن يحدث للإله أو لابن الإله! هذه أسطورة كأساطير الهنود والإغريق والمصريين القدماء، وهذا الإله لا يمكن أن يكون هو الله رب العالمين، بل هو إله وثنى، تعالى الله عن أن يكون له ولد أو أن يُضْرَب ويهان ويُشْتَم ويُسْتَهْزَأ به، وهو عاجز لا يملك لنفسه شيئا! والمضحك أنه بعدما انتهى كل شىء وتم الصلب والقتل يتذكر الله فقط عندئذ ولده فإذا بالكون يظلم وتثور الزلازل وتنتثر القبور ويقوم الموتى بأكفانهم وينشق حجاب الهيكل... إلى آخر ما اخترعته خيالات الرواة وأوهامهم مما سنأتى له فيما بعد! بالله أين كان هذا كله قبل وقوع المصيبة؟ وهل بعد خراب بصرة يمكن أن يصنع الواحد منا شيئا؟ ثم لماذا يقع هذا كله ويغضب الله، وهو سبحانه إنما أرسل ابنه الوحيد (يا كبدى عليه!) ليُصْلَب ويُقْتَل؟ أتراه لم يتحمل قلبه ما حدث لفلذة كبده؟ فأى إله ذلك يا ربى؟ لقد حَيَّرَنا معه أشد حيرة ولم نعد نعرف ماذا يريد بالضبط! الرحمة يا صاحب الرحمة!
ثم لماذا يكلفون سمعان حمل الصليب عن المسيح، وهم إنما حكموا عليه بالصلب ليعذبوه، فهل يتفق مع هذا الغرض وتلك النية أن يريحوه ويكلفوا رجلا غريبا ليس له فى الثور ولا فى الطحين حمل الصليب؟ وفى الترجمات الأخرى أن سمعان هذا كان من القيروان، والمعروف أن القيروان لم تبن إلا بعد ذلك التاريخ بنحو ألف عام على يد عقبة بن نافع! ثم ننظر فنجد أن الجميع يسخرون من المسيح ويسمعونه قارص القول ويتحدَّوْنه أن ينقذ نفسه أو على الأقل أن يدعو ربه فينقذه، لكننا ننصت فنجده صامتا لا يتكلم. فلماذا يا ترى، وقد كان قادرا فى أدنى تقدير أن يدعو الله أو أن يأخذ أبوه المبادرة من تلقاء نفسه ويصنع آية، لا أقول لإنقاذه، بل لتعريفهم مركزهم وإلزامهم حدودهم وإلجام أفواههم عن التهكم وقلة الأدب وإنبائهم بأن هذا الرجل المصلوب "هو ابنى الوحيد. أرسلته إليكم يا أوباش للتكفير عن إجرامكم وسفالتكم وكتبت فى لوحى المحفوظ أنه سيُصْلَب ويُقْتَل من أجل خاطركم. عليكم اللعنة!"، وبهذا يخرسهم فلا يفتحون فمهم! أما أن يسكت طوال مدة المحاكمة والصلب والضرب والطعن والشتم والتجديف، ثم إذا ما انتهى كل شىء ولم يعد هناك جدوى من التدخل رأيناه يسوّد الدنيا ويثير الزلازل ويمزق الأستار ويبعث الموتى من قبورهم، ولا أدرى لماذا، فهو تصرف لا معنى له! كما لا أدرى أيضا ماذا حصل لأولئك الموتى بعد ذلك؟ أأبقاهم أحياء مقدِّرًا لهم بذلك استئناف حياة جديدة أم استردّهم سريعا وأعادهم للقبور التى جاؤوا منها قبل أن يذوقوا لذة الدنيا فيهربوا ولا يَرْضَوْا أن يعودوا مرة ثانية إلى ظلمة القبر وخنقته وديدانه وتحلل الأجساد فيه إلى رمم، وفوق ذلك يا حبيبى: "الثعبان الأقرع" الذى لم يعد شىء سواه يسكن خيالات بعض المسلمين فى الفترة الأخيرة، ولا أظن النصارى فى ذلك العهد كانوا أفضل عقلا منهم؟ ثم اللصان الظريفان اللذان لم يكونا يلقيان بالا إلى بلواهما التى يقاسيانها فوق الصليب، والمسامير المدقوقة فى أيديهما، وركبهما المكسورة، وحلقيهما المتشققين من العطش، ولا إلى المصيبة الأخرى التى تنتظرهما، وهى مصيبة الإعدام، وكانا يسخران منه مع الساخرين. غريبة! فى أى شىء نحن يا ترى: فى ... أم فى شَمّ وَرْد؟ أذكر الآن، وأنا أضحك من القرف، مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم، وفيها نجد نخّاسا عليه حكم بالإعدام سينفذ فيه بعد قليل فى تلك الليلة، ومع ذلك كان يبادل جلاده النكات ويضحك معه وكأنه مقبل على البناء بعروس شابة جميلة لا على تطيير رقبته بالسيف!
وهناك فضيحة الفضائح، ألا وهى صراخ مصلوبنا واستغاثته بأبيه وسؤاله إياه: لماذا تركتنى؟ الله أكبر! تَرَكَك؟ وماذا كنت تنتظر منه أن يفعل، وهو إنما اختارك اختيارا للصلب والقتل؟ ثم عندنا أيضا الــ"كم" معجزة التى وقعت عند طلوع روحه: انشقاق أرض، على قيام أموات، على تمزق ستار هيكل، على انفلاق صخور! ولا تسأل كيف لم يسجل التاريخ شيئا من ذلك، فهذه أمور بسيطة ينبغى ألا تعكر صفو مزاجنا ونحن نقرأ مثل هذه القصص المسلية! ولكن الإنسان لايستطيع أن يحبس نفسه عن الاستفسار عن وجه الحكمة فى هذه المعجزات الغاضبة: هل الله سبحانه وتعالى قد تراجع وندم بعدما أحس بلذع الفقد؟ لكن هل يتراجع الإله ويتألم ويشعر بالفقد مثلما نفعل نحن البشر الفانين؟ يا عيب الشؤم! إذن فلماذا هذا الغضب العنيف التى تزلزلت له الأرض وتناثرت الصخور واستيقظ الموتى وانشق حجاب المعبد؟ أم تراها تهويشا فاضيا لا يقدم ولا يؤخر لا هدف من ورائه سوى حفظ ماء الوجه: "51فاَنشَقَّ حِجابُ الهَيكلِ شَطرَينِ مِنْ أعلى إلى أسفَلَ. وتَزلْزَلتِ الأرضُ وتَشقَّقتِ الصٌّخورُ. 52واَنفتَحَتِ القُبورُ،. فقامَتْ أجسادُ كثير مِنَ القِدَّيسينَ الرّاقِدينَ. 53وبَعدَ قيامَةِ يَسوعَ، خَرَجوا مِنَ القُبورِ ودَخلوا إلى المدينةِ المقدَّسَةِ وظَهَروا لِكثير مِنَ النّاسِ". والطريف أن كل ما كان من رد فعل بين الحاضرين لهذه الكوارث هو ما قاله فقط الضابط والجنود المكلفون بحراسة المسيح: "فلمّا رأى القائِدُ وجُنودُهُ الَّذينَ يَحرُسونَ يَسوعَ الزَّلزالَ وكُلَ ما حدَثَ، فَزِعوا وقالوا: "بالحَقيقةِ كانَ هذا الرَّجُلُ اَبنَ الله!". وهذا كل ما هنالك، وكأن ابن الله حاجة "ببلاش كده" كالليمون! والأنكى أنه لم يكن هناك "رجل" واحد يهتم بابن الله رغم كل ذلك. كل من كان هناك كنّ من النساء: "55وكانَ هُناكَ كثيرٌ مِنَ النَّساءِ يَنظُرنَ عَنْ بُعدٍ، وهُنَّ اللَّواتي تَبِعنَ يَسوعَ مِنَ الجَليلِ ليَخدُمْنَه، 56فيهِنّ مَريمُ المَجدليَّةُ، ومَريمُ أمٌّ يَعقوبَ ويوسفَ، وأُمٌّ اَبنَي زَبدي". ولكن لم لا، والعصر الآن هو عصر الفيمينزم؟ ألم تسمعوا بالمرأة المخبولة التى تعلن تمردها على الحمل والولادة وتريد من زوجها أن يحمل مثلها ويلد، وإن كانت قد نسيت أن تخبرنا كيف يحمل ولا فى أى عضو من جسده يمكن أن يتم الحمل. إنها لمشكلة حقا، إلا أن الأمر بالنسبة للقُمّص المنكوح محسوم، فدبره يصلح لأشياء كثيرة، بل هو فى الواقع يصلح لكل شىء!
الفصل الثامن والعشرون:
"قيامة يسوع.
ولمّا مَضى السَّبتُ وطلَعَ فَجرُ الأحَدِ، جاءَتْ مَريمُ المَجْدَليَّةُ ومَريمُ الأُخرى لِزيارَةِ القَبرِ. 2وفجأةً وقَعَ زِلزالٌ عظيمٌ، حينَ نَــزَلَ مَلاكُ الرَّبَّ مِنَ السَّماءِ ودَحرَجَ الحَجَرَ عَنْ بابِ القَبرِ وجلَسَ علَيهِ. 3وكانَ مَنظرُهُ كالبَرقِ وثَوبُهُ أبـيَضَ كالثَّلجِ. 4فاَرتَعبَ الحَرَسُ لمّا رأوهُ وصاروا مِثلَ الأمواتِ.
5فقالَ المَلاكُ للمَرأتَينِ: "لا تَخافا. أنا أعرِفُ أنَّكُما تَطلُبانِ يَسوعَ المَصلوبَ. 6ما هوَ هُنا، لأنَّهُ قامَ كما قالَ. تَقدَّما واَنظُرا المكانَ الَّذي كانَ مَوضوعًا فيهِ. 7واَذهَبا في الحالِ إلى تلاميذِهِ وقولا لهُم: قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ، وها هوَ يَسبُقُكُم إلى الجَليلِ، وهُناكَ ترَوْنَهُ. ها أنا قُلتُ لكُما".
8فتَركَتِ المَرأتانِ القَبرَ مُسرِعَتَينِ وهُما في خَوفٍ وفَرَحِ عَظيمينِ، وذَهَبتا تحمِلانِ الخَبرَ إلى التَّلاميذِ. 9فلاقاهُما يَسوعُ وقالَ: "السَّلامُ علَيكُما". فتَقَدَّمَتا وأمسكَتا بِقَدَميهِ وسَجَدتا لَه. 10فقالَ لهُما يَسوعُ: "لا تَخافا! إذهَبا وقولا لإخوَتي أنْ يَمْضوا إلى الجَليلِ، فهُناكَ يَرَوْنَني.
أقوال الحرس.
11وبَينَما هُما ذاهبتانِ رَجَع بَعضُ الحَرَسِ إلى المدينةِ وأخبَروا رُؤساءَ الكَهَنَةِ بكُلٌ ما حدَثَ. 12فاَجتَمعَ رُؤساءُ الكَهنَةِ والشٌّيوخُ، وبَعدَما تَشاوَرُوا رَشَوا الجُنودَ بمالٍ كثيرٍ، 13وقالوا لهُم: "أشيعوا بَينَ النّاسِ أنَّ تلاميذَ يَسوعَ جاؤُوا ليلاً وسَرَقوهُ ونَحنُ نائِمونَ. 14وإذا سَمِعَ الحاكِمُ هذا الخبَرَ، فنَحنُ نُرضيهِ ونَرُدٌّ الأذى عنكُم". 15فأخَذَ الحَرَسُ المالَ وعمِلوا كما قالوا لهُم. فاَنتشَرَتْ هذِهِ الرَّوايةُ بَينَ اليَهودِ إلى اليوم.
يسوع يظهر لتلاميذه.
16أمّا التَّلاميذُ الأحدَ عشَرَ، فذَهبوا إلى الجَليلِ، إلى الجبَلِ، مِثلما أمرَهُم يَسوعُ. 17فلمّا رأوْهُ سَجَدوا لَه، ولكِنَّ بَعضَهُم شكّوا. 18فدَنا مِنهُم يَسوعُ وقالَ لهُم: "نِلتُ كُلَ سُلطانٍ في السَّماءِ والأرضِ. 19فاَذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأُمَمِ، وعَمَّدوهُم باَسمِ الآبِ والابنِ والرٌّوحِ القُدُسِ، 20وعلَّموهُم أن يَعمَلوا بِكُلٌ ما أوصَيْتُكُم بِه، وها أنا مَعكُم طَوالَ الأيّامِ، إلى اَنقِضاءِ الدَّهرِ".
هذا هو الموضع الوحيد الذى وردت فيه الإشارة إلى الثالوث، وكما هو واضح لم يحدث ذلك إلا بعد موت عيسى وقيامه من الأموات حسب رواية مؤلف الإنجيل. وعجيب أن يسكت عيسى عليه السلام طوال حياته فلا يذكر الثالوث بكلمة، ثم إذا ما مات وقام ولم يكن هناك أحد آخر من البشر سوى تلامذته جاءت أول إشارة منه إلى ذلك الموضوع، مع أننا قد رأينا معا كيف مرت أوقات وظروف كانت تتطلب هذا التصريح تطلبا حادًّا ومُلِحًّا فلم يفعل. وعلى أية حال فالتعميد هنا ليس بالنار كما قال يحيى حسبما قرأنا معا من قبل، بل ينفذه القوم بالماء: إما بالتغطيس الكامل أو بالاكتفاء برش نقاط من الماء على الجسد.
والآن ليس لى تعليق على أى شىء آخر فى هذا الفصل، فنحن قد بيَّنّا لا معقولية أحداث الصلب كلها هى والعقيدة التى وراءها، وإن كنا نحترم حرية كل إنسان وكل جماعة فى اعتناق ما يَرَوْنه، بيد أننا أردنا أن نبين لمن يشتمون نبينا أن بيوتهم من زجاجٍ تامّ الهشاشة يتحطم من مجرد مرور النسيم على مقربة منه. وقد قلنا إنهم أحرار فى أن يستمروا فى الشتم، فنحن لا نملك أفواه الآخرين، لكننا نملك أن نرد بالتحليل المنطقى، كما أننا لا نحب العنف بل نحب العلم والعقل ونحتكم إليهما ولا نرضى بهما بديلا. وقد درستُ وما زلتُ أنتهز كل فرصة لدراسة الدين الذى أدين به من جديد على ضوء المنطق الإنسانى والعلم الصحيح والمقارنة بينه وبين الأديان الأخرى، فأجدنى بعد كل مراجعة أزداد إيمانا واطمئنانا. ومع ذلك لا أذكر أنى كتبت يوما بهدف دعوة الآخرين إلى الإسلام رغم إيمانى بأنه لا بد أن تقوم طائفة بهذه المهمة. كل ما فى الأمر أننى غير مهيإ لهذا العمل وأننى إذا أردت أن أقوم به فلربما لم أحسنه، بل أحسن الدفاع عن دينى وعرض محاسنه ووجوه العبقرية فيه. وما كنت أود الدخول فى هذا الذى دخلنا رغم أنوفنا فيه، بيد أنك لا تستطيع أن تقف مشلولا وأنت ترى الآخرين يعتدون على دينك وعليك أنت نفسك وعلى أهلك وأمتك ويرمونكم بكل نقيصة وينالون من أعراضكم ويسبون قرآنك ورسولك الكريم الذى تؤمن به والذى هو، بكل معنى ومن أية زاوية نظرت إليه، سيد الأنبياء والمرسلين. فكان لا بد أن نرد حتى لا تكون فتنة فيتصور الناس أن المسلمين ليس عندهم القدرة على الرد لأن دينهم ضعيف لا يصمد للنقد. لكننا لم ولن نرد على سباب محمد صلى الله غليه وسلم بالتطاول على أخيه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، بل حصرت ردى فى ردع الشتامين المجرمين فحسب، دون توسيع نطاق الكلام إلى أحد آخر ممن هم على نفس دينهم.
وفى النهاية يحسن أن نوجز ما قلناه فى هذا التحليل: فعيسى بن مريم، كما تصوره لنا الأناجيل، ليس هو ذلك الإنسان الوديع المتواضع المسالم، بل هو إنسان عصبى هجّام يشتم مخالفيه ويفترض فيهم منذ البداية النية السيئة وليس لديه أدنى أمل فيهم ولا فى مصيرهم. بل إن جفاءه وخشونته لتطول أمه عليها السلام أيضا. كما رأينا معا أيضا كيف قال إنه لم يأت بالسلام بل بالسيف وتمزيق الروابط بين أبناء الأسرة الواحدة. كذلك ليس فى الإنجيل ما يدل على أنه اهتم بنشر بنوته لله، بل أقصى ما يمكن أن نفكر فيه هو أنه قد أشار إليها فى بعض الأحيان القليلة أثناء حديثه مع حوارييه، وانتهى الأمر عند هذا الحد، مع ملاحظة أنه كثيرا ما سمى نفسه: "ابن الإنسان"، وسماه الآخرون: "ابن داود" أو "ابن يوسف" أو "ابن يوسف ومريم"، ووصفوه بأنه "نبى" أو "سيد" أو "معلم"، وفى ذات الوقت كثيرا ما أشار فى إلى الآخرين فى كلامه معهم عن الله بكلمة "أبوكم السماوى".
وقد لاحظنا كذلك أن عقيدة الصلب والفداء مملوءة بالثقوب والتناقضات ومجافاة المنطق وطبيعة الألوهية والعبودية البشرية، وأنها لا تستطيع أن تفسر لنا تفسيرا سليما أى شىء فى حياة السيد المسيح، بل تزيد الأمور تعقيدا وتشابكا. كما أنه، عليه السلام، حسبما جاء فى سيرته الإنجيلية، قد دعا وألح فى الدعوة إلى أن ينبذ الناس الدنيا ويتبعوه، وإلا هلكوا، وهو ما يعنى أن ديانته لا تصلح لبناء حياة سليمة تكفل إشباع حاجات البشر المختلفة التى لا يمكنهم أن يديروا ظهورهم لها، وإلا فسدت أمورهم كلها فسادا شنيعا.
وبالمثل رأينا أن دعوته، عليه السلام، تنحصر فى بعض المبادئ المغرقة فى المثالية، ومن ثم يستحيل على الناس أن يبنوا حياتهم على أساسها رغم ما فى الكلمات التى تركها لنا من جمال وطيبة قلب ونية، فضلا عن حديثه المتكرر عن ملكوت السماوات، الذى لاحظت أنه أحيانا ما يكون المقصود به التفضيل الإلهى السابق لبنى إسرائيل على العالمين ووَشْك تحول النبوة عنهم إلى أمة العرب، وأحيانا ما يعنى الجنة السماوية. كما أن خطابه كان موجها لبنى إسرائيل فحسب لدرجة التزمت الشديد أحيانا مثلما رأينا فى حالة المرأة الكنعانية التى أتته تستنجد به ليشفى ابنتها من صَرْعها. وبمقارنة ما جاء به المسيح بما دعا إليه النبى محمد عليه الصلاة والسلام يتبين لنا مدى السعة الهائلة للمساحة التى تغطيها دعوة أبى القاسم، تلك الدعوة التى أتى بها إلى الدنيا جمعاء وشملت كل مجالات الحياة، مما أشبهت معه الديانتان "هايبر ماركت" ضخما هائلا يحتوى على كل ما يحتاجه الإنسان، ودكانة صغيرة تقوم ببعض متطلبات الحى لا أكثر.