نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى:
نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى:
سرقة أم ملكية صحيحة؟
د.إبراهيم عوض
ما زلتُ أذكر تلك المحاضرة التى كنت ألقيها بين العصر والمغرب فى أحد الأيام من خريف سنة 1989م على طلاب الفرقة الرابعة (قسم اللغة العربية وآدابها فى كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة) حين قام طالبٌ ممن يُسْعِدون أساتذتَهم بمناقشتهم فيما يقولون ولا يكتفون بالسماع السلبى القاتل، فعلَّق على ما كنتُ كتبتُه عن الدكتور طه حسين فى كتابى "معركة الشعر ا لجاهلى بين الرافعى وطه حسين" قائلا: يبدو لى أنك قد ظلمتَ الدكتور طه فى اتهامك إياه بأنه أخذ نظريته التى تشكك فى الشعر الجاهلى وشعرائه من المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث. وكعادتى فى مثل تلك الظروف توقفت قليلا وأنا أبتسم للطالب قبل أن أرد عليه بما يشبه الإلهام: غريبة! كيف فاتنى أن أرجع لما كتبه الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر" عن الشاعر الإغريقى هوميروس صاحب الإلياذة قبل أن أضع كتابى هذا؟ ثم أردفت قائلا: أرجو منك أن تنزل الآن فتستعير ذلك الكتاب من مكتبة الكلية وتحضره لى حتى نستكمل النقاش فى مكتبى، إذ يغلب على ظنى أن طه حسين قد تطرق إلى الحديث عن الشعر الجاهلى فى أول فصول ذلك الكتاب الذى كنت قرأته من زمن غير قريب، وأريد أن أرى ماذا قال فى ذلك الموضوع. ولم يكذّب الطالب خبرا، فما إن انتهت المحاضرة وعدت إلى مكتبى وبرفقتى بعض الطلاب المتحمسين لمتابعة النقاش حتى وجدته ينتظرنى وفى يده الكتاب المستعار. فشكرته وأخذته منه وشرعت أقلب صفحات الفصل المشار إليه، ولم يطل بنا الانتظار، فقد وقعتُ على نصٍّ مهمٍّ جدا للدكتور طه يقول فيه إنه ما كانت الحضارة الإسلامية، التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لِتُوجَد لو لم توجد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم. هكذا بالنص على ما سوف يأتى بيانه. فأريتُ النصّ للطلاب ثم شفعتُ ذلك، وأنا أضحك، بسؤال الطالب الذى فجَّر المسألة قائلا: "أوما تزال عند اتهامك لى بأنى ظلمت طه حسين؟ إن هذا الكتاب، كما يتضح من مقدمته، قد صدر قبل ظهور البحث الذى وضعه مرجليوث عن الشعر الجاهلى بأسابيع قليلة جدا جدا مما يدل على أن الدكتور طه لم يكن، حتى ظهور دراسة مرجليوث، يشك أدنى شك فى صحة الشعر الجاهلى أو فى وجود شعرائه. ثم إنه لم يكتف بذلك، بل ها هو ذا يؤكد أنه لولا وجود ذلك الشعر ما وُجِدت الحضارة الإسلامية. وهو كلام كبير وخطير!".
وبعدها بقليل فوجئت بالأستاذ عبد الرشيد صادق محمودى (الذى كنت قد رددتُ عليه فى كتابى المذكور بأن الدكتور طه لا يمكن أن يكون قد استقى شكه فى الشعر الجاهلى من الكاتب الفرنسى إرنست رينان كما يدَّعِى هو) فوجئت به يكتب فى شهر سبتمبر بــ"الأهرام" ثلاث حلقات يتناول فيها ما قلته عنه معزِّزًا رأيه السابق فى الموضوع ببراهينَ ظنَّها مفحمة مما دفعنى إلى التعليق على ما كتب، مستشهدا فى تعليقى، ضمن ما استشهدتُ، بما قرأته مع طلابى من كلام الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر"، ثم أرسلتُ الجزءَ الأول من هذا التعليق للصحيفة مع أحد الأشخاص، لكن الرسول عاد وأخبرنى، والعهدة عليه، بأنه قد فهم من كلامهم أنهم لا ينوون أن ينشروا ما بعثتُ به إليهم. وكنت أستعد فى ذلك الحين للسفر إلى السعودية مُعَارًا إلى جامعة أم القرى بالطائف فانشغلت بتجهيز أوراق السفر وما إلى ذلك عن متابعة الأمر. وها هى ذى السنون تدور، ويثير الإخوان الكرام فى جريدة "شباب مصر" هذه القضية فأجدها فرصة سانحة لمحاولة نشر ما كنت كتبته آنذاك بعد أن حصلت، بشق الأنفس من خلال البريد المشباكى، على مسوَّدة الجزء الثانى منه (مسوَّدة الجزء الثانى فقط، لا النسخةَ المنقَّحةَ من المقال كله)، وهى فى حال يُرْثَى لها من التهويش والتفكك بعد ذلك الزمن الطويل.
وتدور نظرية عبد الرشيد الصادق محمودى على أن إفادة طه حسين الرئيسية فيما يتعلق بشكّه فى الشعر الجاهلى مستلهَمة من المستشرق الفرنسى إرنست رينان، الذى يؤكد الأستاذ المحمودى أن الدكتور طه كان على علم، قبل أن يضع كتابه "فى الشعر الجاهلى" بسنوات طويلة، بما كتبه هو ورصفاؤه الألمان عن ذلك الشعر (انظر مقاله "منابع ألمانية وفرنسية لشكوك العميد" بالصفحة الثقافية من "أهرام" الجمعة 8 سبتمبر 1989م). والأستاذ المحمودى يريد، فيما هو واضح، أن يخفف من التفاف الحبل حول عنق طه حسين. إنه لا ينفى إفادته من كتابات المستشرقين، لكنْ فرقٌ بين إفادةٍ وإفادة: فطه حسين، فى حالة ثبوت الإفادة من مرجليوث، سارقٌ سرقةً لا يمكن أبرعَ المحامين أن يبرِّئ ساحته منها، أما فى حالة الإفادة من رينان فلن يكون الأمر أمر سرقة، فرينان لا ينكر الشعر الجاهلى، بل تنحصر الإفادة فى أن طه حسين قد استخدم الفكرة التى وجدها عنده حسبما قال، لأنى لم أَطَّلِع بنفسى على الدراسة المذكورة (وهى أن ذلك الشعر لا يعكس اختلاف اللهجات العربية فى الجاهلية ولا يقدّم لنا صورة الحياة الدينية أوانذاك) استخدمها فى نقض الشعر الجاهلى، وعلى هذا فإنه رغم إفادته منه يبقى مفكرًا أصيلاً لا يردِّد آراء غيره. أى أن طه حسين هو ابنُ بَجْدَتها، أو على الأقل صاحب مشاركة أصيلة فى الأمر لا سارقٌ يسطو على أفكار الآخرين. وهذا هو مربط الفرس!
وقد أصدر رينان كتابه "Histoire Generale et Systeme Compare des Langues Semitiques "، الذى تعرَّض فيه للشعر الجاهلى فى 1853م (بالنسبة للجزء الأول)، و1869م (للجزء الثانى)، كما عَرَض رينيه باسيه آراءَ المستشرقين الألمان حول ذلك الموضوع فى كتابه عن "الشعر العربى قبل الإسلام" عام 1880م (انظر، فى تاريخ صدور الكتابين، نجيب العقيقى/ المستشرقون/ ط3/ دار المعارف/ 1964م/ 1/ 202، 223. ويجد القارئ ترجمة لهذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث المشابهة فى كتاب د. عبد الرحمن بدوى: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى"). وبالمناسبة فهاتان الحجتان، أو قل: هاتان الشبهتان، لا تصمدان للنظر، فنحن العرب الآن مثلا نتكلم فى حياتنا اليومية اللهجات العامية المختلفة التى كثيرا ما يتعسّر فهمها على غير أصحابها، لكننا حين نكتب نصطنع اللغة الفصحى التى يفهمها الجميع، ولا تعارض بين هذا وذاك، ولا يمكن أن يأتى باحث بعد عدة مئات من السنين فينفى صحة هذا التراث العلمى والأدبى الضخم بحجة أنه لا يعكس ما كنا نتخاطب به من لهجات. ويؤكد هذا أنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه بأنه نزل بــ"لسانٍ عربىٍّ مبين"، ولم يقل: "بلسانٍ قرشىٍّ أو حجازىٍّ" مثلا، وهذا يعنى أنه كان هناك لسانٌ قومىٌّ للعرب جميعا يتواصلون به رغم اختلاف القبائل واللهجات. كما أن القول بخلو الشعر الجاهلى من الموضوعات الدينية هو دعوى غير صحيحة. وحتى لو كانت صحيحة فليس معنى ذلك أن هذا الشعر مزيَّف، فأقصى ما يمكن أن يقال فيه حينئذ أنه شعر ناقص لا أنه شعر زائف. هذا هو حكم المنطق، ولكن خّلِّنا فيما نحن فيه، فذلك موضوع آخر!
وأريد الآن أن أتتبع أفكار رينان والمستشرقين الألمان فيما كتبه المؤلفون المصريون والمتمصِّرون الذين تناولوا ذلك الشعر حتى أخرج طه حسين كتابه المذكور وكانوا متصلين بكتابات المستشرقين وبيئاتهم كى نعرف مدى انتباه النقاد ورجال الأدب لهذه الأفكار واهتمامهم بها. وأقدم هؤلاء، فيما نعرف، حسن توفيق العدل (1862- 1904م)، الذى كان من أوائل المبعوثين إلى ألمانيا لدراسة الآداب والتربية بجامعاتها، والذى اختاره الألمان للتدريس بالمدرسة الشرقية ببرلين، ثم حاضر بعد ذلك فى كمبردج سنة 1903م، وظل هناك حتى سنة 1904م. وقد كتب العدل "تاريخ آداب اللغة العربية" وطبعه على البالوظة عام 1904م، وتوجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب. فإذا ما قرأنا ما كتبه عن الشعر الجاهلى راعَنا أنه لم يكن يدور بذهنه أى شك فى ذلك الشعر مع أنه عاشر المستشرقين فى أوربا طالبا وأستاذا رَدَحًا من الزمن كما رأينا. وبالنسبة للنقطة الخاصة بلغة الشعر الجاهلى نراه يقول بأن أصحابه كانوا يستعملون لهجة قريش لكونها لغة العرب الأدبية ولحرصهم على شيوع شعرهم بين القبائل العربية جميعا (انظر عبد الحى دياب/ التراث النقدى قبل مدرسة الجيل الجديد/ دار الكاتب العربى/ القاهرة/ 1968م/ 90- 93، ود. عبد العزيز الدسوقى/ تطور النقد العربى الحديث فى مصر/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/1977م /183- 186).
ولدينا كذلك سليم البستانى مُعَرِّب الإلياذة الذى كتب مقدمة ضافية لها عرض فيها للشعر الجاهلى وقرر وثاقة الطريقة التى انتقل بها، ومن ثم فذلك الشعر منذ المهلهل بن ربيعة صحيح لديه، وإن لم يخل بعضه من النقد والشبهات (وهذا نص عبارته). وبالمثل نراه يقرِّر أن العرب، وإن اختلفت لهجاتهم، كانوا يؤلفون شعرهم ونثرهم بلهجة قريش لأنها أفصح اللهجات، فضلا عن أن سدانة هذه القبيلة للكعبة كَتَب للهجتها السيادة. كما أكد أن الشعر الجاهلى يصور الحياة العربية فى ذلك الوقت أدق تمثيل (انظر ترجمته للإلياذة/ مطبعة الهلال/ 1904م/ 1/ 107،111، 120- 121). ومن هذا يتضح لنا أنه لا يوجد أى انعكاس لشكوك المستشرقين فيما كتب البستانى عن ذلك الشعر. بل إنه لم يذكر أيًّا منهم، اللهم إلا رينان، وفى معرض الثناء على شعر هوميروس مما لا علاقة له بقضية الشك فى الشعر الجاهلى البتة (ص24). والملاحَظ أنه كان مطمئنا تمام الاطمئنان للشعر الجاهلى فى ذات الوقت الذى كان يعى فيه أن بعض الدارسين الغربيين فى أواخر القرن الثامن عشر كانوا يشكون فى وجود هوميروس (ص25).
ومن هؤلاء المؤلفين المطلعين على كتابات المستشرقين والمتصلين بهم اتصالا مباشرا أيضا جرجى زيدان، الذى تبحث فيما سطّره عن الشعر الجاهلى فى كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" المملوء بالمراجع الاستشراقية عن أثر لما كتبه رينان أو نولدكه أو آلفارت عن هذا الشعر ومدى صحته أو عدمها، فلا تجد لشىء من ذلك ظلاًّ أىّ ظل. وحتى فى المسألة الفرعية المتصلة بالمعلَّقات وهل عُلِّقت فعلاً على أستار الكعبة أَوْ لاَ نراه يرفض شك المستشرقين فى ذلك الأمر. وقد يظن بعض القراء أن جورجى زيدان ربما لم يطَّلع على كتابات أولئك المستشرقين فى ذلك الموضوع، فأسارع إلى طمأنتهم بأنه قد ذكر بين مراجعه دراسات هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم حو ل هذا الشعر (انظر كتابه"تاريخ آداب اللغة العربية"/ دار الهلال/ تعليق د. شوقى صيف/ 167) حيث يشير إلى ما كتبه نولدكه وآلفارت ولايال وسلان...إلخ، وكذلك كتابه "العرب قبل الإسلام"/ دار الهلال/ تعليق د. حسين مؤنس/ 35 حيث ذكر كِتَاب رينان الذى نحن بصدده).
أما د. أحمد ضيف، ولعله أول من عَرَض من المصريين لشكّ بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى، فإنه لخص موقف هؤلاء المستشرقين من ذلك الشعر وناقشه ورفض ما فيه من غلوّ، ولكنْ فى ثلاث فقرات ليس غير. والملاحظ أنه لم يذكر أسماء هؤلاء المستشرقين بل اكتفى بالقول بأنهم "جماعة من المستشرقين، خصوصا الألمانيين منهم". والملاحظ أيضا أنه لم يُسَمّ رينان فى هذا السياق، وإنما سماه فى سياق آخر، وهو مناقشته لمدى تمتع العرب بالخيال القادر على خلق الخرافات والأساطير أو حرمانهم منه (انظر كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"/ القاهرة/1921م/ 57- 62).
وإذا كان د. أحمد ضيف هو أول من عرض من المصريين لشك بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى فيما أعلم، فإن الرافعى هو أيضا، فى حدود ما قرأت وما أذكر، أول من عرض لشك علمائنا القدامى فى ذلك الشعر، وذلك فى كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذى صدر سنة 1911م. أى أن الرافعى قد تعرض لقضية الشك فى الشعر الجاهلى قبل طه حسين بنحو خمسة عشر عاما، الرافعى المتَّهَم بتقديس القديم لمجرد أنه قديم ومعاداة الجديد لمجرد أنه جديد. ولكى يكون القارئ على بينةٍ من قيمة ما صنع الرافعى أسوق له وصف د. ناصر الدين الأسد للباب الذى عقده فى كتابه لهذا الموضوع، إذ أكد أنه قد "حشد فيه من المادة ما لم يجتمع مثله من قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا فى صعيد واحد من كتابٍ لمَّ فيه شتات الموضوع من أطرافه كلها واستقصاه استقصاءً"، وإن ذكر أنه لم يتعرض لما قاله المستشرقون فى هذا السبيل (د. ناصر الدين الأسد/ مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ ط5/ دار المعارف بمصر/ 1978م/ 377)، وهو ما يشير إلى أن ما كتبه أولئك القوم لم يكن له من الأهمية ما يلفت أنظار كتّابنا فى ذلك الوقت.
فماذا عن طه حسين، الذى يزعم عبد الرشيد الصادق محمودى رغم كل ذلك أنه لابد أن يكون قد اطَّلع على ما كتبه رينان والمستشرقون الألمان قبل أن يكتب كتابه "فى الشعر الجاهلى" بأعوام طوال؟ وفى الجواب عن هذا السؤال سوف أتتبع كتابات طه حسين فى الفترة الممتدة ما بين دخوله الجامعة المصرية سنة 1908م واتصاله من ثم بالمستشرقين اتصالاً مباشرًا فى قاعات الدرس وخارجها إلى تاريخ تأليفه لكتابه: "فى الشعر الجاهلى"، الذى نحن بصدده.
لقد تناول طه حسين كتاب جرجى زيدان "تاريخ آداب اللغة العربية" فى عدة مقالات بمجلة "الهداية" (أعداد يونيه ويوليه، وأغسطس وسبتمبر، وأكتوبر ونوفمبر 1911م) وتعرَّض لبعض ما قاله زيدان حول الشعر الجاهلى، لكن لم تبدر مِنْ فيه كلمةٌ واحدةٌ يحيط بها طائف من الشك فى ذلك الشعر، بل إن كلامه ليدل على أنه كان يأخذ صحته قضية مسلَّمة: ففى المقال الأول مثلا لا يخرج ما قاله فى ذلك الصدد عن الاعتراض على زيدان لتقسيمه شعراء الجاهلية إلى أمراءَ وفرسانٍ وصعاليكَ وأصحاب معلقات بدلا من تقسيمهم على أساس من أشعارهم وما تتأثر به هذه الأشعار من طبيعة الإقليم والدين والأخلاق والعادات ونحو ذلك، أو الاعتراض عليه بأن زوجة امرئ القيس لم يكن اسمها "جندب" بل "أم جندب". وفى المقال الثانى نراه يتحدث عن امرئ القيس وزهير وابن أم كلثوم وعنترة وغيرهم من أصحاب المعلقات حديث المطمئن تمام الاطمئنان إلى حقيقتهم التاريخية وتمثيل أشعارهم للبيئة التى ظهروا فيها خير تمثيل.
وفى محاضرةٍ ألقاها فى 19 شهر أكتوبر من العام نفسه بعنوان "هل تستردّ اللغةُ مجدَها القديم؟" ونُشِرت فى المجلة ذاتها فى عدد أكتوبر- نوفمبر من ذلك العام نراه يتعرض لشعر الجاهليين بما يدل دلالة جازمة على أنه كان خالى البال تماما من الشك فيه: فهو مثلا يتحدث عن اللغة العربية فى الجاهلية مؤكدا أنها لغة فخمة الألفاظ ضخمة المعانى متينة الأساليب رصينة التراكيب كاملة القوى استطاعت أن تعبِّر آدابُها الوجدانية عن كل ما كان العرب يريدون التعبير عنه فى أى مجال من مجالات القول، وأن أشعارها تتفوق على الشعر المصرى فى عصره، ضاربا مثلا على هذا التفوق من شعر امرئ القيس نفسه، الذى سينفى وجوده فيما بعد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، ومستشهدا على ما يريد تقريره من أفكار وآراء بأشعار الملك الضِّلِّيل وغيره من شعراء الجاهلية كالأعشى وكبشة أخت عمرو بن معديكرب...وهكذا. بل إنه قد عرَّج فى تلك الخطبة على ابن سلام وكتابه "طبقات الشعراء"، وهو أول كتاب يؤصِّل نظرية الشك فى الشعر الجاهلى، ومع هذا لم يتطرق بكلمة واحدة، ولو همسًا، إلى الكلام عن النَّحْل فى ذلك الشعر! ليس ذلك فحسب، إذ نسمعه يقول فى الشعر الجاهلى هذه الكلمة الخطيرة الدلالة: "فى ذلكم العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالْتَهَم كلَّ شىء واحتكم فى كل إنسان، ولم تكن كلمةٌ إلا له، ولا رأىٌ إلا عنه، ولا اعتمادٌ إلا عليه. وكان يكفى للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه، أو يذم الرفيع فيضعه، أو يغرى بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القُوَى، أو يدعو إلى السِّلْم فتصبح الضغائن والأحقاد نَسْيًا منسيًّا". كما تعرّض لابن سلام وكتابه المذكور فى مقاله المنشور بــ"الجريدة" فى عدد 17 مايو 1911م بعنوان "الآداب العربية فى الجامعة"، لكن دون أن يتطرق إلى قضية الشك فى الشعر الجاهلى رغم إشارته البرقية إلى تكذيب ابن سلام لابن إسحاق فيما رواه من أخبار وأشعار عن عاد وثمود وطسم وجديس.
ومعروف أنه قد انتقد فى عام 1911م كتاب مصطفى صادق الرافعى "تاريخ آداب العرب"، الذى خصَّص فيه مؤلفه صفحات طويلة لقضية النَّحْل فى الشعر الجاهلى، ومع ذلك لا تحس فيما كتبه عن هذا الكتاب أنه كان يدور فى خَلَده أى شك فى ذلك الشعر. ومعروف كذلك أن هذا الكتاب الذى لم يعجب طه حسين آنذاك قد أعجبه بعد ذلك بـخمسة عشر عاما حين أثنى عليه ومدحه فى كتابه "فى الشعر الجاهلى". وقد قلت، فى تفسير هذا التغير الحاد فى موقفه ذاك، إنه أراد أن يخدّر الرافعى حتى لا يتعرض بالنقد لما كتبه عن القرآن والنبى فى ذلك الكتاب، وإن هذا التقرب لم يخدع الرافعى فشنّ عليه حملةً صاعقةً (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ القاهرة/ 1987م/ 15- 16). كما نجده، فى كتابه "تجديد ذكرى أبى العلاء"، الذى نشره فى عام 1914م، يستشهد بقصيدة للمرقش من "المفضَّليات" استشهادَ مَنْ لا يجد فيها ولا فى الشعر الجاهلى ما يمكن أن يثير شكوكه (انظر الكتاب المذكور/ دار الكتاب اللبنانى/ بيروت/ 1974م/ 64).
هذا قبل أن يسافر د. طه إلى فرنسا. ثم سافر وعاد، فهل نجد فى كتاباته قبل أن يؤلف بحثه "فى الشعر الجاهلى" ما يدل على أنه عَدَل عن موقفه من هذا الشعر بتأثير إقامته فى فرنسا عدة سنوات وإتقانه اللغة الفرنسية وزيادة اقترابه من المستشرقين وكتاباتهم؟ الجواب: لا. وربما أعاننا على فهم المسألة أن نعرف أن بعثة طه حسين إلى فرنسا إنما كانت لدراسة التاريخ، وأن الكتب التى ذكر فى الجزء الثالث من "الأيام" أنه قرأها هناك لا تتضمن أى شىء يتعلق بالأدب العربى ولا بالشعر الجاهلى على وجه الخصوص، وأن اسم رينان أو نولدكه أو آلفارت لم يرد بين عشرات الأسماء التى وردت فى ذلك الكتاب أو فى كتاب زوجته "معك"، وهو الكتاب الذى روت فيه حياتها معه، وأن الدكتور طه عندما عاد إلى مصر واشتغل بالتدريس فى الجامعة إنما كان يدرّس التاريخ الأوربى القديم حتى العام الدراسى 1925- 1926م حيث تحوَّل إلى تدريس الأدب العربى (الشعر الجاهلى بالذات)، وأن كل الكتب التى ظهرت للدكتور طه منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه "فى الشعر الجاهلى" إنما كانت تتعلق على نحوٍ أو على آخر بالتاريخ الأوربى القديم. ومنها كتابه "صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان" (المكتبة التجارية/ 1920م/ 49)، وفيه يشير إلى معلقة امرئ القيس إشارة المطمئن تمام الاطمئنان إلى صحتها.
وفى إبريل 1923م سافر طه حسن إلى بلجيكا ممثلا للجامعة المصرية فى مؤتمر العلوم التاريخية ببروكسل حيث دارت مناقشة بين أستاذين أوربيين أحدهما دوبريل البلجيكى، والآخر لفيفر الفرنسى، وكان من رأى الأول أن سقراط شخصية خرافية لا علاقة لها بالتاريخ مثلما هو الحال بالنسبة إلى هوميروس صاحب الإلياذة. وكان وقع هذا التشكيك على الدكتور طه شديد الصعوبة ، وكان من رأيه أن الشك فى الشخصيات التاريخية على هذا النحو يمكن أن يؤدى عاجلا أو آجلا إلى الشك فى أفلاطون وأرسطو بل ونابليون نفسه، وهو ما دفعه إلى مطالبة المؤرخين بالتريث وعدم الجرى فى طريق الفلاسفة المنكرين الشاكّين. وقد حمل على الأستاذ دوبريل مُلْمِحًا إلى أن ما فى نظريته تلك الغريبة من جاذبية خلابة لمخالفتها ما استقر عليه الإجماع ولما يمكن أن تؤمنه لصاحبها من خلود قد يكون هو السبب فى تحمّسه لها وعمله على نشرها (طه حسين/ من بعيد/ المجلد 12 من "المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين"/ 67- 73).
ثم كتب بعد ذلك بسنواتٍ طائفةً من المقالات عن الشعرين العباسى والأموى. وقد تعرَّض، فى عددٍ من هذه المقالات، للكلام عن الشعر الجاهلى وشعرائه، ولكن بطريقة من يؤمن بصحة هذا الشعر إيمانا تاما ولا يتخيل للحظة أنه يمكن أن يكون موضع شك، مما يقطع بأن كل ما قاله أ. عبد الرشيد الصادق من أن طه حسين لا بد أنه اطّلع على رينان والمستشرقين الذين شكّوا فى ذلك الشعر لا يستند إلى أساس. وبالمناسبة لم يَرِدْ لرينان ولا لغيره من المستشرقين الشاكّين فى ذلك الشعر أىّ ذكر فى هذه المقالات. وإلى القراء الكرام بعضا مما قاله عن الشعر الجاهلى فيها:
1- يقول فى مقال منشور بجريدة "السياسة" بتاريخ أول أكتوبر 1924م عن الغزل فى صدر الإسلام: "غزل الجاهليين كان ماديا خالصا فى حين كان فى غزل الإسلاميين شىء غير المادة. ما الذى كان يُعْنَى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزّلوا وذَكَروا النساء؟...كان الغزل عندهم ضّرْبًا من الوصف...، وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على تمثيلها، فإن وَجَدْتَ عندهم هذه العناية لم تلبث أن تزدرى هذه العاطفة ازدراءً لأنها كانت عاطفة مادية غليظة... كانت عواطفهم تصدر عن الشهوات وإيثار اللذة قبل كل شىء".
2- وفى" "السياسة" أيضا بتاريخ 17 أكتوبر 1924م، وتحت عنوان"عَوْدٌ إلى الغزلين- وضّاح اليمن"، نسمعه يقول: "أريد أن أحدثك عن هذا الشاعر الذى يلقبونه بــ"وضّاح اليمن"، والذى فُتِن به بعض أساتذة الأدب المُحْدَثين حتى خُيِّل إليهم أنه اخترع الشعر التمثيلى وأضافه إلى تراثنا القديم... ونَسُوا أن الحوار ليس هو التمثيل، وإنما هو أصل من أصول التمثيل، ونَسُوا أيضا أن هذا الحوار الذى يجدونه فى شعر وضّاح قد سبق إليه الشعراءُ جميعا فى جاهليتهم وإسلامهم، فحاور امرؤ القيس عشيقاته وحاور ابن أبى ربيعة أخدانه".
3- وفى نفس الجريدة بتاريخ 10 ديسمبر 1924م نجده يؤكد أن شعراء الجاهلية لم يكونوا يُعْنَوْن بالغزل إلا بوصفه "وسيلة شعرية إلى ما كانوا يذهبون فيه من مذاهبهم الشعرية المختلفة. ولا نكاد نعرف بين الجاهليين شاعرا قَصَر حياتَه الشعرية على الغزل. بل قليلٌ جدًّا عددُ القصائد الجاهلية التى لم يتناول فيها أصحابُها إلا الغزلَ وحده".
ثم أخيرًا نراه فى الفصل الذى خصصه للشاعر الإغريقى هوميروس من كتابه "قادة الفكر"، الذى صدر فى إبريل 1925م، وهو نفس الشهر الذى وضع فيه مرجليوث دراسته التى يشك فيها فى الشعر الجاهلى جميعه، نراه يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان وأشعارها وبين بداوة عرب الجاهلية وأشعارهم، فلا نجده يشك فى أشعار الجاهلية أى مقدار من الشك، بل يؤمن بها ويؤكد أنها أساس حضارة الإسلام، ولولاها ما كان الخلفاء والعلماء والقواد المسلمون. وقد ألحَّ على هذه الفكرة إلحاحًا كبيرا، فى الوقت الذى ذكر معها شكَّ بعض الباحثين الأوربيين المحدثين فى وجود هوميروس. وهذا نص عبارته: "عَلاَمَ تقوم الحياة العربية فى بداوة العرب وأو ل عهدهم بالإسلام؟ على الشعر... هل كانت توجَد الحضارة الإسلامية التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجَد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟" (قادة الفكر/ ط9/ دار المعارف بمصر/ 10- 11). والعجيب أن طه حسين، فى رده بعد ذلك على من انتقدوا غُلُوّه فى الشك فى الشعر الجاهلى، قد احتجّ عليهم بأنهم يجهلون أن النحل غير مقصور على العرب، بل عرفه اليونان والرومان، وأن الدراسات الحديثة قد نسفت اطمئنان الأقدمين إلى صحة إلياذة هوميروس وأوديساه (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1964/ 113- 116). وفاته أنه هو نفسه كان يعرف ذلك قبلا، لكنه لم ينتفع به، إذ ظل على اطمئنانه إلى الشعر الجاهلى إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث.
ظل هذا هو موقف طه حسين، كما قلنا، حتى إبريل 1926م على الأقل، وهو الشهر الذى كتب فيه مرجليوث مقاله الذى يشكك به فى الشعر الجاهلى، والذى نشره فى يوليه من ذلك العام، وإذا بالدكتور طه بعد هذا المقال بنحو عشرة أشهر يصدر كتابه "فى الشعر الجاهلى" مستديرا بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، إذ انطلق كالإعصار الهائج يشكّ فى ذلك الشعر لا يكاد يُبْقى منه على شىء. ويتساءل الباحث: ترى ما الذى جَدّ؟ والجواب: لم يَجِدّ إلا مقال مرجليوث، فكتاب رينان قد مَرَّ عليه عشرات الأعوام، فضلاً عن أنه لم يشكّ فى ذلك الشعر، وأقل قليلا من ذلك الزمن مرّ على ما كتبه نولدكه وآلفارت وباسيه، وليس فيه اختلاف يُذْكَر عما قاله نقادنا القدماء. كما مرَّت خَمْسُ سنواتٍ على صدور كتاب أحمد ضيف، الذى لم يكن فيه مع هذا ما يثير العقل العربى لعدم خروج آراء المستشرقين التى عرض لها عما وصلَنا من نقادنا القدماء خروجًا لافتًا حسبما سبق القول، علاوة على أن الدكتور ضيف لم يفصّل القول فى عَرْض تلك الآراء التى كان قد مضى عليها فوق ذلك زمن طويل، بل عرضها فى ثلاث فقرات ليس إلا. أما مقال مرجليوث فقد كان طازجا، وكان له دوىٌّ شديد بسبب إغراقه فى التطرف، فضلاً عن أن موقف طه حسين وأفكاره فى كتابه عن الشعر الجاهلى يشبهان إلى حد كبير موقف مرجليوث وأفكاره.
وحَرِىٌّ بالذِّكْر أن مرجليوث، الذى دافع عن طه حسين وحاول أن ينفى تهمة تأثره به كما سنبين بعد قليل، لم يقل إن د. طه قد انطلق من رينان أو نولدكه أو آلفارت. بل إن الدكتور طه هو نفسه لم يقل هذا، ولا قالته زوجته بعد مرور عشرات السنين رغم أنها خاضت فى هذه القضية فى كتابها "معك" فى أكثر من موضع، ولا قاله كذلك أي من الباحثين الذين تناولوا هذه القضية، وكثير منهم تلاميذه، ولا قاله أيضا أحد من المستشرقين الذين تناولوا هذا الجانب من كتابات الدكتور طه مما يمكن أن يجد القارئ عينة منه فى كتاب "طه حسين كما يعرفه كتّاب عصره". كما أن معظمهم يربطون بينه وبين مرجليوث حسبما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين". إنما تحكَّك هو بعد ذلك بالأخوين كروازيه ليدفع اتهامه بالسرقة من مرجليوث، والأخوان كروازيه لا علاقة لهما بالشعر الجاهلى، بل بالشك فى شعر هوميروس، وقد رأينا كيف ظل الدكتور طه على ما هو عليه من الاطمئنان التام لشعر الجاهلية وشعرائها حتى بعد قراءته ما كتبه هذان الأخوان، بل حتى بعد أن كتب هو الفصل الخاص بذلك الشاعر الإغريقى الذى كانا يشكان فىوجوده. ولو كان منطلقه من رينان لسارع إلى ذكر هذا منذ البداية، لأن ديَْدَن الدكتور طه أن يصرح بمن يخالفهم فى الرأى، أما من يقتبس أفكارهم فإنه يغفلهم تماما، وموقف رينان وأفكاره يختلفان عن موقفه هو وأفكاره، فوق أن المستشرقين قد ذكروا استمداد د. طه لأفكاره من مرجليوث، ولم يشيروا إلى رينان أو غيره، ومنهم المستشرق الألمانى بروكلمان فى كتابه عن تاريخ الأدب العربى (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ دار المعارف/ 1/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ 64). وقد كان أحرى به، لو كان طه حسين قد تأثر بنولدكه أو آلفارت الألمانيين، أن يذكر هذا التأثر انطلاقا على الأقل من اعتزازه بألمانيته.
ومن أغرب الغرائب أن ينبرى مرجليوث مع ذلك كله للدفاع عن طه حسين ضد من رَأَوُا التماثل الشديد بين كتاب الدكتور طه "فى الشعر الجاهلى" ومقاله: "The Origines of Arabic Poetry"، الذى نشره قبل ذلك الكتاب بعشرة شهور على الأقل فى يوليه 1925م بــ"Journal of Asiatic Royal Society"، مؤكدًا فى صفاقة أن الدراستين قد ظهرتا فى نفس الوقت تقريبا، متجاهلا بهذه الطريقة أن فرق عشرة أشهر ليس بالذى يمكن أن يقال معه إن الدراستين قد صدرتا تقريبا فى ذات الوقت. لكنه أكد رغم ذلك أن الفكرة فى كتاب طه حسين مماثلة إلى حد كبير للفكرة التى أدار حولها بحثه عن "أصول الشعر الجاهلى" (انظر كلمته عن كتاب "فى الأدب الجاهلى" لطه حسين فى عدد يوليه 1927م من "Journal of Asiatic Royal Society"). والعهد بالعلماء والكتاب وكل طوائف البشر أنهم حِراصٌ أشد الحرص على إبراز ريادتهم وسبقهم فى مجالات تخصصهم مهما كانت تفاهة ما سبقوا إليه، بل إن كثيرا منهم يلجأ إلى التوسُّل بالباطل من أجل بلوغ هذا الهدف، فما بال مرجليوث يسارع إلى التخلى عن سبقه إلى نظرية الشك فى الشعر الجاهلى بهذه البساطة وبذلك الفُجُور؟ والهدف واضح بطبيعة الحال، فإن إنقاذ رأس طه حسين يستحق هذه التضحية وأكثر منها. إنه رَجُلهم، وهم حريصون على عدم فضيحته، فضلا عن أن صدور إنكار الشعر الجاهلى من كاتب ينتمى إلى الإسلام مصحوبًا بالتشكيك فى القرآن الكريم والنبىّ الذى أتى به أَفْعَل وأقوى ألفَ مرة من صدوره عنه وعن أمثاله من غير العرب والمسلمين. وهذا هو المراد، وكل شىء بجانبه يهون!
كذلك انبرى أيضا د. إبراهيم عبد الرحمن ليدفع عن الدكتور طه التهمة التى تُطْبِق على عنقه قائلا إن مرجليوث قد ذكر أن آراء طه حسين تناقض آراءه هو (انظر كلمته "إلى خصوم طه حسين ومؤيديه: النص الكامل لمقالة مرجليوث فى براءة عميد الأدب العربى"/ الأهرام/ الجمعة 7 فبراير 1986م/ الصفحة الثقافية). وهذا، بطبيعة الحال، غير صحيح، والأستاذ الدكتور نفسه قد سبق فأورد ترجمة كلام المستشرق البريطانى مرةً باعتبار أن الفكرتين متشابهتان، ومرةً باعتبار أنهما متماثلتان إلى حد كبير (انظر كتابه "بين القديم والجديد- دراسات فى الأدب والنقد"/ مكتبة الشباب/ 1983م/ 440- 441). إلا أن المسألة لا تنتهى فصولها عند هذا الحد، إذ كتب الأستاذ الدكتور أن طه حسين كان يحاضر طلابه فى موضوع انتحال الشعر الجاهلى والشك فيه عامًا بعد عام قبل أن ينشر مرجليوث دراسته فى ذات الموضوع فى 1925م، حتى إذا ثبت له صحة ما انتهى إليه فى رواية هذا الشعر أذاعه على الناس فى شكل كتابٍ سنة 1926م (المرجع السابق/ 440). ويؤسفنى أن أقول هنا أيضا إن هذا الكلام غير صحيح البتة، لسبب بسيط جدا هو أن طه حسين لم يسبق له أن حاضر فى الجامعة لا فى هذا الموضوع ولا فى أى موضوع آخر من موضوعات الأدب العربى، إذ كان، كما سبق القول، يدرّس حتى ذلك العام مادة التاريخ اليونانى واللاتينى. بل لم يسبق له أيضا أن حاضر فى هذا الموضوع قط خارج الجامعة أو كتب فيه أى شىء، كتابا كان ذلك الشىء أو مقالا. أما الذى كان يقوم بتدريس مقرر الأدب العربى فى الجامعة قبل ذلك فهو د. أحمد ضيف حسبما جاء فى كتاب د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز: "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ط2/ دار الكتاب المصرى بالقاهرة، ودار الكتاب اللبنانى ببيروت/ 1402هــ- 1982م/ 30). مقطع الحق أن طه حسين قد سطا على بحث مرجليوث: لقد كان لا يشك فى الشعر الجاهلى، ثم بعد أن ظهر بحث مرجليوث عن ذلك الشعر أصبح فجأة من الشاكِّين فيه. كما أن شكه قد شمل تقريبا كل هذا الشعر بحيث إن الفرق بينه وبين مرجليوث فى مقدار ذلك الشك لا يكاد يُذْكَر. كذلك فإنه اعتمد فى شكه على عدد من الأدلة ارتكن إليها مرجليوث فى نفى شعر الجاهليين، وعلى رأسها الدليل اللغوى والدليل الدينى. ثم لا ننس الروح العدائية التى تتبدَّى فى كتاب طه حسين والتى تذكِّرنا بما كان يظهره المستشرق البريطانى المتطاول الحقود من بغضٍ ضد الإسلام ونبيه، وانحياز إلى صفوف اليهود. وأخيرا فقد اتصل د. طه بأعمال مرجليوث منذ وقت بعيد، فكتاب "الفصول والغايات"، الذى حققه هذا المستشرق لأبى العلاء المعرى، كان أحد مراجعه الأساسية فى رسالته عن الشاعر العباسى الكفيف التى تقدَّم بها للجامعة المصرية سنة 1914م قبل سفره إلى فرنسا. وفوق هذا وذاك فإن المجلة التى نُشِر فيها بحث مرجليوث كانت قد وصلت إلى مصر ولفتت أنظار المصريين المهتمين بهذه المسائل كيعقوب صروف وأحمد تيمور ومصطفى صادق الرافعى ومحمود شاكر قبل صدور كتاب د. طه بشهور. ومن الطبيعى أن تصل هذه المجلة فور صدرورها إلى مصر، على الأقل لأن فريقا من المستشرقين كانوا أساتذة فى الجامعة المصرية، ولا بد أنهم كانوا مشتركين فى مثل هذه المجلة التى لا يكتبها إلا هم ولا يُعْنَى بها أحدٌ آخرُ عنايتَهم، وكان طه حسين زميلاً وصديقًا حميمًا لهم يسهرون عنده مساء كل أَحَد كما حَكَتْ زوجته فى كتابها "معك" (انظر ص 33، وكذلك الفصل الذى عنوانه: "هل كان طه حسين على علم بمقالة مرجليوث فى الشعر الجاهلى؟" من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ 64- 77). بل إنى لا أستبعد أن تكون هناك أيدٍ خفيةٌ فى الجامعة قد أزاحت د. احمد ضيف من تدريس الأدب العربى، الذى كان متخصصا فيه، ووضعت فى مكانه طه حسين غير المتخصص كى يدعو لسانٌ ينتسب للإسلام والعروبة بدعوة مرجليوث المنكرة، مع توبلتها بشىء من الهجوم الحارّ على القرآن والرسول الذى أنزله الله عليه فيكون قد "شهد شاهدٌ من أهلها"!
على أن المدافعين عن طه حسين لا يسلِّمون بسهولة، وفيهم أساتذة فضلاء لا أدرى لماذا يحاولون أن يخففوا خطاياه مع معرفتهم التامة بما سببته من بلبلة فكرية ليس لها أساس من علم أو منطق، إذ نراهم يقولون إنه، رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إليه من نقد، قد حرّك بكتابه ذاك العقول وهزّ جماهير القراء، وبخاصةٍ المحافظون منهم. ومن هؤلاء د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز فى كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ص20). وقد طالعت نفس الفكرة فى مادة "طه حسين" من "الموسوعة العربية" المنشورة على موقع "كلمات"، إذ وُصِف كتاب "فى الشعر الجاهلي" بأنه "رغم أن الدراسات الحديثة أثبتت خطأه فى بعض الجوانب، إلا أن قيمة الكتاب الفكرية تظل من حيث تشجيعه للموقف النقدى من التراث الأدبى والبلاغى واللغوى العربى والكشف عن خضوع هذا التراث كغيره لقانون التطور التاريخى". وقد سبق طه حسين هؤلاء جميعا إلى ترديد هذه الحجة العجيبة المتهالكة ردًّا على سؤال وُجِّه إليه أثناء زيارته للمغرب سنة 1958م، إذ قيل له: ما بالك ارتددت عما كنت تقول به فى مستهل دخولك على العلم؟ فكان جوابه: يكفى أنى أثرت بما كنت أقول به إذ ذاك العقولَ إلى البحث وإلى النظر (د. نجيب محمد البهبيتى/ المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين/ 186).
ولعلى قرأت أيضا شيئا مثل هذا للدكتور ناصر الدين الأسد رغم أنه قد عرض عرضًا رائعًا، فى كتابه القيم "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية"، كلَّ ما كُتِب من دراسات وأبحاث تفضح ما فى كتاب طه حسين من سرقة وضعف وتهافت وتسرع وافتئات على حق العلم والتاريخ والدين. بل إنه عند المقارنة بين الرافعى وطه حسين فى هذه المسألة لم يجد مناصا من أن يحكم للأول بأنه "لم يحمِّل نصًّا أكثر مما يحتمل، ولم يعتسف الطريق اعتسافًا إلى الاستنتاج والاستنباط ولا إلى الظن والافتراض، ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةً عامّةً، ولا من الحالات الفردية نظريةً شاملةً" (مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ 379)، أما فى الثانى فعلى رغم الكلام الجميل الذى قاله عن أسلوبه وسِحْره نجده يحكم على منهجه قائلا: "ثم استقرّ الموضوع بين يَدَىِ الدكتور طه حسين فخلق منه شيئًا جديدًا لم يعرفه القدماء، ولم يقتحم السبيلَ إليه العربُ المحدثون من قبله، ثم أنكره بعدُ كثير من المحدثين إنكارًا خصبًا يتمثل فى هذه الكتب التى ألفوها فى الرد عليه ونَقْض كتابه. وقد استقى الدكتور طه حسين أكثر مادته، حيث يستشهد ويتمثل بالأخبار والروايات، من العرب القدماء، وسلك بها سبيل مرجليوث فى الاستنباط والاستنتاج والتوسع فى دلالات الروايات والأخبار وتعميم الحكم الفردى الخاص واتخاذه قاعدة عامة، ثم صاغ تلك المادة وهذه الطريقة بإطار من أسلوبه الفنى وبيانه الأخاذ، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من ا لجاهلية فى شىء، وإنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام... فنحن إذن بإزاء نظرية عامة لم نرها فيما عرضنا من آراء العرب القدماء، ونحسب أنها لم تخطر لهم على بال، ولكننا رأيناها واضحة المعالم فيما عرضنا من آراء مرجليوث، ولم يكتف بالإشارة إليها إشارة عابرة، وإنما نصّ عليها نصًّا صريحًا فى عبارات متكررة تختلف ألفاظها وتتفق مراميها، وجاء الدكتور طه حسين فلم يقنع كما قنع مرجليوث بأن يدلنا عليها فى مقالة أو مقالتين، وإنما فصّل لنا القول فى كتابٍ كاملٍ قائمٍ بذاته" (المرجع السابق/ 379- 380).
ومن الذين أَثْنَوْا ثناءً شديدًا على ما صنعه طه حسين وضخّموا، من فرط تحمسهم، دوره فى حقل الأدب والدراسات النقدية تضخيمًا شديدًا د. محمد زكى العشماوى، الذى يقول إن الدكتور طه "فى منهجه في دراسة الأدب ونقده...يعتبر حدا فاصلا بين عهدين، فما قبل طه حسين كانت دراسة الأدب ونقد الأدب مختلفة اختلافا كليا لأنها كانت تهتم بالشروح اللغوية للكلمات، ولم تكن تتعمق فى تحليل النص وفهمه ودراسته وفق منهج يعتمد على الذوق والذوق المعلَّل، وإنما مجرد أحكام جارفة أو كاسحة لا تنهض على مقدمات أو دلائل مقنعة. فلما جاء أرسى دعائم المنهج التحليلى النقدى السليم الذي ينهض على الاحتكام إلى العقل وعلى تذوق الأثر الفنى وتحليله وفق منهج يلتزم الموضوعية وينتهى إلى أحكام دقيقة ومقنعة بحيث خرج الحُكْم من حيز الخصوص إلى حيز العموم... هذا المنهج الذى أرسى دعائمه د. طه حسين هو الذى استفاد منه أساتذة الجامعات من بعده، وهو الذى عدّل الكثير من الأفكار التى كانت شائعة ومستبدة بحقل النقد الأدبى" (من حوار معه فى جريدة "الجمهورية والعالم" المِشْبَاكيّة).
والحق الذى لا جدال فيه، مع احترامى الشديد للدكتور العشماوى ورغم حبى لقراءة طه حسين واستمتاعى بأسلوبه وصوته، هو أنه كان هناك نقاد كبار سبقوا أو عاصروا طه حسين وأضافوا مثلما أضاف فى حقل النقد والدراسات الأدبية، وفى بعض الحالات أفضل مما أضاف، ومنهم حسن توفيق العدل وإبراهيم اليازجى وجرجى زيدان والرافعى وأمين الريحانى وروحى الخالدى وخليل سكاكينى ومحمد حسين هيكل ومحمد لطفى جمعة وأحمد ضيف وميخائيل نعيمة والعقاد وشكرى والمازنى وزكى مبارك وأمين الخولى ومحمد فريد الشوباشى وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم...إلخ. فضلا عن أن طه حسين لم يكن هو الذى افترع قضيةَ النَّحْل فى الشعر الجاهلى حتى نغضّ الطَّرْف عن خطاياه العلمية والمنهجية والأخلاقية الضخمة التى ارتكس فيها وهو يتناول ذلك الموضوع كما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، فقد سبقه من القدماء أبو عمرو بن العلاء وأبو عمرو الشيبانى والأصمعى وأبو عبيدة والسجستانى والجاحظ وابن قتيبة، ناهيك عن ابن هشام فى "السيرة النبوية"، وكذلك ابن سلام فى كتابه "طبقات الشعراء"، الذى تناول فيه هذه المسألة باستفاضة ومنهجية منضبطة تدلان على أستاذية وتمكن حقيقى لا بهلوانية فارغة كلّ همها إحداثُ الضجيج والضحك على ذقن الجمهور. كما سبقه من المحدثين مصطفى صادق الرافعى، الذى عرض فى كتابه "تاريخ آداب العرب" ذلك الموضوعَ عَرْض البصير الخبير الذى يزن كل كلمة من كلامه بميزانٍ دقيقٍ واعٍ حساس، فضلا عمن طَرَق من المستشرقين تلك القضية كما سبق أن أشرنا. وقد فصل القولَ فى هذه النقطة د. ناصر الدين الأسد فى الفصل الثانى والثالث والرابع من الباب الرابع من كتابه "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية". والطريف أننى بعد أن كتبتُ هذه الفقرة بيومين رجعتُ إلى كتاب د. السكوت ود. جونز عن مؤلفات طه حسين فوجدتهما يقولان ما قلته، بل ويذكران أيضا عددا من الأسماء التى ذكرتُها مما يؤكد كلامى بأن إسهام طه حسين فى مجال الدراسات الأدبية والنقدية لم ينشأ فى فراغ (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 27- 30).
ولعل هذا الموضع أن يكون مناسبا لعرض دفاع د. عبد الرحمن بدوى ومشايعه سامح كريم عن طه حسين. ذلك أن الدكتور طه، فى رأيهما، لم يأت إلا بما أتى به ابن سلام الجُمَحِىّ فى كتابه "طبقات الشعراء"، وعلى هذا فليس ثمة معنى للضجة التى قوبلت بها آراء الدكتور طه ولا لاتهامه بالمروق والانسياق وراء مؤامرات المستشرقين (انظر د. عبد الرحمن بدوى/ دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 10- 11، ومقال سامح كريم فى ذات الموضوع بـالصفحة الثقافية بــ"أهرام" الجمعة 17 يناير 1986م). وجوابنا على هذا هو أن كلام ابن سلام، بفرض أن طه حسين لم يقل شيئا أكثر مما قاله، كان بين يدى الدكتور طه كما بيّنّا قبلاً، فلماذا لم يتأثر به إلا بعد ظهور دراسة مرجليوث؟ بل لقد عرض الرافعى هذه القضية عرضًا مستقصيًا كما رأينا قبل قليل، فكيف لم يلتفت طه حسين إلى ما كتب الرافعى أيضا وظل غافلا عن هذه القضية إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث؟ كذلك هناك فرق هائل بين ما قاله ابنُ سلام المدققُ المحققُ المستأنى فى بحثه وحكمه، الواضعُ نصب عينيه بلوغَ الصواب لا التزلفَ إلى أعداء الإسلام، وإثارةَ الضجيج والعجيج والبلبلة دون وجه حقٍّ أو عدل،ٍ والتقحّمَ فى مجال التشكيك فى القرآن الكريم واتهامِه بالكذب وبمراءاة اليهود والرغبةِ فى التقرب إليهم، وبين ما كتبه طه حسين بما فيه من مآخذ قاتلة! ثم إن ابن سلام إنما يشك فى بعض الشعر الجاهلى، وحين تتوفر لديه دواعى هذا الشك فقط، أما طه حسن فينثر الريبة فى كل هذا الشعر تقريبا بناءً على خطرات غير ناضجة وأوهام، فضلا عن أنه قد أثار مسائلَ لم يتطرق إليها ابن سلام كقضية اختلاف اللهجات بين القبائل واتخاذها تكأة للتشكيك فى الشعر الجاهلى، وكذلك الزعم بأن ذلك الشعر لا يعكس عقائد أصحابه...إلخ، فكيف بالله يقال إن هذا هو ذاك؟ وقد انتهى الأمر بهذه الأوهام والخطرات المتهافتة إلى أَنْ هجرها الدارسون ولم يعد أحد يردد شيئا من الكلام الساذج الذى زعمه طه حسين فى كتابه وأصبح من مخلَّفات الماضى لا يجد من يقبل عليه أو يعيره أُذُنًا رغم الجهود الهائلة التى يبذلها المطبّلون والمزمّرون لإحياء العَظْم الرَّمِيم! وقد وصف د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز ما ورد فى كتاب الدكتور طه من آراء بأن بعضها مأخوذ من النقاد العرب القدامى، بينما معظمها للمستشرقين، وليس له شىء فيها تقريبا (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 20).
ولقد قيل كلامٌ كثيرٌ وكبيرٌ عن الشك الديكارتى، الذى اتخذه طه حسين، حسبما يدّعى مشايعوه، منهجا فى هذا البحث لتحرير العقول من الجمود ومن تقديس القديم لمجرد كونه قديما. إلا أن الذين يطنطنون بهذا الكلام يَنْسَوْن أن طه حسين لم يُحْسِن استخدامَ هذا المنهج، ومن ثم فاته الانتفاع به كما ينبغى، إذ لم يكن يشك إلا فى الروايات التى لا تعجبه ولا تؤدى إلى ما يريد تقريره منذ البداية، أما الروايات التى يرى أنها مُبْلِغَتُه غايتَه من التشكيك فى الشعر الجاهلى والإساءة إلى القرآن والدين فإنه يقبلها بعُجَرها وبُجَرها دون أى تمحيص حسبما لاحظ الرافعى رحمه الله (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/175). وفى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" استطعت، من خلال النصوص التى اقتطفتُها من كتاب "فى الشعر الجاهلى"، أن أبين أن الدكتور طه لم يهضم أصلاً منهج الفيلسوف الفرنسى، كما أنه لم يطبق إلا جانبًا واحدا فحسب من جوانبه المتعددة (معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1987م/ 105- 115).
والآن نترك القارئ مع النصين التاليين اللذين تعرض فى أولهما الدكتور طه حسين بحماقةٍ وغشمٍ للقرآن الكريم متهمًا إياه بأنه قد استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود، وفى ثانيهما للرسول عليه السلام يغمز منه ومن الإجلال الذى يشعر المسلمون به تجاهه ويحاول دون أى أساس أن يقلل من شأنه صلى الله عليه وسلم!!!! وقد حُذِف هذان النصان من الطبعة الثانية من كتابه "فى الشعر الجاهلى" سنة 1927م بعد أن غُيِّر عنوانُه وسُمَِىَ: "فى الأدب الجاهلى". وبطبيعة الحال لا يمكن أن يردّد هذا الكلامَ من يؤمن بأن القرآن وحى من عند رب العالمين أو يشعر بالتبحيل للنبى الذى نزل عليه: فالله لا يصطنع الأساطير لأغراض سياسية أو غير سياسية، ولا هو بحاجة للتقرب من اليهود أو الأمريكان، كما أن الرسول الكريم كان فى الذؤابة من قومه نسبًا وشرفًا كما قالت كلمة التاريخ!!!! وقد نقلنا هذين النصين من أحد المواقع التى تظن أنها تستطيع أن تحارب الإسلام بكتاب الدكتور طه وتهزمه!!!! نقلناهما حتى يتبين الحقُّ من الباطل ويعرف القاصى والدانى ما فى كلام الذين يشنّون الغارة على ناقدى الدكتور طه من مكرٍ والتواءٍ حين يقولون إن الرجل لم يتعرض للقرآن ولا للنبى بشىء، وإن من ينتقدونه إنما يرددون كلاما لا أصل له!!!!
الشعر الجاهلي واللغة
على أن هناك شيئا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الشعر الجاهلي ، ولعله أبلغ في اثبات ما نذهب اليه . فهذا الشعر الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد على أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه والأمر هنا يحتاج إلى شيء من الروية والأناة . فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه ، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها ، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى ، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة .
نقول أن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية . ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي ، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه . أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز .
وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة . وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبهم باسماعيل بن ابراهيم . وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية ، خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن ابراهيم .
على هذا كله يتفق الرواة ، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضا أثبته البحث الحديث ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) . وقد روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا .
وفي الحق أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية ، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذا البلاد . ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا . وإذن فلابد من حل هذه المسألة .
إذا كان أبناء اسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة ، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول إنهما لغتان متمايزتان ، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكا ولا جدالا ! والأمر لا يقف عند هذا الحد ، فواضح جدا لكل من له المام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية .
للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات . فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد ، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة . فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام ، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل ؛ فأولئك وهؤلاء ساميون .
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب ، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود .
فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة ، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض ، كلها ترمي إلى التوحيد ، وتعتمد على أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية . ولكن هذه الصلة الدينية معنوية وعقلية يحسن أن تؤيدها صلى أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وبين أهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود ؟
وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وماحولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من العربية الوثنية . وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة ، والدين من جهة أخرى .
فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج اليها العرب المشركون في كل عام ، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا ، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى . فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران . ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذكرت في القرآن .
فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ، ونهضة دينية وثنية . وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية .
وإذا كان هذا حقا – ونحن نعتقد أنه حق – فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير . وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم ، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة باينياس ابن بريام صاحب طروادة .
أمر هذه القصة إذن واضح . فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عند ما يريد أن يعترف أصل اللغة العريبة الفصحى . وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي أنت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم ، كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه .
والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين ، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا . ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن ، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء : إن لغتها مخالفة للغة العرب ، والتي أثبت البحث الحديث ، أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية .
ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية . نستغفر الله ! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن . فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير ، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء ، لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام .
الدين وانتحال الشعر
... ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش . فلأمرٍ ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش ، وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها . وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبد الله وعبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة . وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص ...