الانهيار الأخلاقي في المجتمع الفلسطيني
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
أيام متواصلة كنت أدخل بيتي بعد الثانية ليلا في مشقة لا يعلم بها إلا الله وحده ، كنا نطرق الأبواب على أهالي المصابين بعد منتصف الليل من اجل تحقيق الصلح بين المتخاصمين ، وكنا نتردد بين مراكز الشرطة والمستشفيات وعائلات الجرحى الذين سقطوا على أثر الشجارات العائلية وانتشار ظاهرة العنف المجتمعي .
في أسبوع واحد ستة جرحى سقطوا من عائلة واحدة بين منطقتي الزيتون والصبرة في غزة بسبب إطلاق النار المقصود والناتج عن الشجار ، وشهيدان في منطقة الشيخ رضوان بسبب الشجار أيضاً ، وإصابتين في الرأس بسبب استعمال الآلات الحادة أثناء الشجار في منطقة الدرج في غزة ، وفي منطقة الرمال الجنوبي جار يضرب جاره على رأسه بعصا فيدخل في غيبوبة دخل على إثرها غرفة الإنعاش في المستشفى ليموت بعد ثلاثة أيام ، وآخر في منطقة المحطة يلكم جاره على أسنانه فيجرح لثته ويحطم له ضرسين ، ثم يذهب ليقف واعظا بين المصلين في صلاة الفجر !!! . وآخر في منطقة الدرج يلكم زوجته على فمها فيكسر لها ضرسا من أضراسها مما أدى إلى المطالبة بطلاق الزوجة وتعاسة أطفالها.... ومشكلة أخرى مع الأخوال فيصاب فيها خالين بجراح متوسطة ومن عائلة واحدة في حي الدرج في غزة ، وأخرى في منطقة التفاح بين الأصهار بعضهم في بعض .
كل ذلك في غزة و في أيام شهر رمضان المبارك وفي مدة لا تتجاوز الأيام العشر، وقد صفدت الشياطين ولكنني لا اعلم شياطينا في الكون مثل شياطين الإنس .
كنا نذهب للعمار بين العائلات المتشاجرة تارة بمبادرة من عند أنفسنا ، وتارة أخرى بتكليف من طرف عائلة المعتدي ، علما بأننا جميعنا لسنا تابعين لأي جهة سياسية ، ولا نتقاضى راتبا من احد مطلقاً ، بل كنا في أحيان كثيرة ندفع أجرة السيارات التي تنقلنا على نفقتنا الخاصة بالإضافة إلى ثمن فاتورة الجوال التي نستهلكها ونحن نجري اتصالاتنا مع كثير من الوجهاء والأعيان والمخاتير وذوي المصابين من اجل رأب الصدع ، ولا نبتغي أجرا من احد ، مدفوعين بحس وطني كبير من اجل حقن الدماء وتحقيق الصلح بين الناس ، ولا توجد مشكلة واحدة خرجت من أيدينا من غير تحقيق الصلح والخير ، وذلك بفضل الله ورحمته ، بل كنا نذهب إلى أكثر من ذلك ، حيث كنا نتابع أمور العائلتين ما بعد الصلح من أجل تحقيق المودة والوئام التام .
لا ادري ماذا أصاب الناس ، انهيار أخلاقي كبير ، ومشاكل كثيرة من هنا وهناك بين العائلات الغزية.... تؤدي إلى إخلاء البيوت من أصحابها وفقا لأحكام قوانين العرف العشائري المجتمعي الظالم والسائدة في غزة ، ويُيتم الأطفال ، ويُزج بالرجال في السجون ، وتنتشر الكراهية والأحقاد في مجتمع فيه النزعات القبلية والأخذ بالثأر ، وتزداد المعاناة من فوقها معاناة ومن تحتها ألم ومرارة ، ولا بد للمعتدي من دفع الدية أو المخاسر أو العطوة العشائرية لأهل المعتدى عليه ، ويبيع أهل المعتدي الغالي والنفيس وفي أحيان كثيرة يلجأون إلى القروض لدفع ما جناه ابنهم عليهم وعلى نفسه فحسبنا الله ونعم الوكيل .
قبل أسبوعين تقريبا من تاريخه ذهبت ثلاث مرات مع وفد كبير مكون من وجهاء وأعيان ومخاتير غزة ، لعائلة قُتل ابنها على خلفية شجار لجار مع جاره ... رفض أهل المغدور أن نتكلم في موضوع ما عرف بالطيب والعمار بين العائلتين ، وفقا لأصول العرف العشائري الدارج في قطاع غزة ، كما رفضوا أن يستقبلوا أي وفد بعد ذلك.
كانت الجلسة لا تخلو من تحريض المفسدين وعبث العابثين ، من الذين شاءت لهم الأقدار أن يكونوا كبار عائلاتهم ووجهائها ليصُبوا بذلك الزيت على النار والهشيم ، بدلا من إطفاء نار الفتنة ، أو الحديث بكلمة طيبة ، وفق ما قاله رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم : طوبي لمن كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر ، وويل لمن كان مفتاحا للشر مغلاقا للخير ، وكما قال الله تعالى : وما أمرت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله . وهم يدركون أن أفضل الأعمال عند الله تعالى هي إصلاح ذات البين ، وأن إفساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الحسنات وهي الطامة الكبرى ، وهؤلاء وجهاء اللعنة والسوء ، هم إما جيران لذوي المغدور أو تربطهم بهم علاقة النسب والمصاهرة أو الجيرة أو المصلحة من نوع ما , لم يُقدروا ما آلت إليه أوضاع عائلة القاتل من دمار وتشتيت وحزن وألم .
جلسنا مع عائلة القاتل لنجد ما يحزننا ، وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال ، فالنساء مشردات في مكان ، والرجال في مكان آخر، وأصحاب المكان الذي فيه النساء أو الرجال يطالبون بالمال من اجل إطعام المشردين ، والعائلة بدأت تتمزق ، وبدا كل طرف من أطرافها يُحمل الآخر المسئولية ؛ لعله ينجو بنفسه وأسرته ، ولكن هيهات فلا نجاة له ، الوجوه كئيبة ، والهم ظاهر على ملامح الجميع ، والكل يغرق في بحر من التفكير والحيرة والقلق ، وكأنهم ليسوا في نظر المجتمع من المسلمين ولا من العرب ، فلا احد من بني البشر يشاركهم مصيبتهم المشاركة الحقيقية التي ترتقي إلى حجم المسئولية في إطارها الإنساني والقانوني ، لا من المؤسسات الرسمية ولا الشعبية ولا حتى من الأفراد .
كان أشد ما يؤلمني هو النفاق المجتمعي ، فأجد بعض الوجهاء والمخاتير يصبون الزيت على النار ويحرضون طرفا على آخر ، ومنهم من كان يرفض نشر الوجه على العائلات المتخاصمة خاصة تلك التي يسقط منها القتلى ، وهذا ضعف فاضح في علم العرف والعادة الذي يدعو إلى الخير والصفاء في بعضه ، فيتركون العائلتين من دون عمار؛ مما يسبب ذلك في إشعال النيران بينهما في كل وقت ، ومنهم من كان كبيرا في قومه وذو شان ومكانة ، لكنه لا يفقه أصول وأركان علم العادات والتقاليد ، ثم يدعي شمولية معرفتها ، ومنهم من لا يسير بغير الدينار والدولار، والويل كل الويل لمن يقع تحت أيديهم من الفقراء والمساكين .
يا سماسرة الدماء اتقوا الله في شعبكم ، واتقوا الله في أنفسكم ، وارحموا لعل الله يرحمكم ، وتذكروا بأن الأيام دول ، وأن الدهر يومان ، يوم لك ويوم عليك ، فاتقوا شر ذلك اليوم ، وكما تدين تدان ، ولا يظلم ربك أحدا ، تذكروا بأنه ما بكم من نعمة فمن الله ، وأنه من يرحم من في الأرض يرحمه من في السماء ، وأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، وأن ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، وما عند الله خير وأبقى ، والعاقبة للمتقين ، فأنيروا قبوركم بصالح أعمالكم لعل الله يرحمنا . ألا يكفي ما يحل بنا من مصائب وويلات ؟ ألا يكفي الحصار ؟ ألا يكفي الانقسام الأفقي والرأسي في المجتمع الفلسطيني ؟ . لك الله يا شعب فلسطين.