الثقافة الجنسية الجامعية : دعوة للتأمل

د.محمد سالم سعد الله

الثقافة الجنسية الجامعية : دعوة للتأمل

د.محمد سالم سعد الله

أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل

تنهض البنية المؤسساتية الجامعية على مقومات وأسس تقليدية هدفها الحفاظ على سلوكيات النخبة المثقفة ، وتكوين المعرفة العلمية التي توصف بميزتها للتحول والتطور والتفاعل مع المستجدات العالمية ، ثم ضخ هذه المعرفة في مسيرة المجتمع المتطلع إلى الاطمئنان على بناء دفاعاته تجاه الجهل والفوضى ، والمندفع نحو تحصين الذات الأكاديمية من المعوقات والأفكار الوافدة المفتقرة إلى خصيصة التحول من الظاهرة إلى الخبرة بسبب تغير البيئة مكاناً وزماناً .

إنّ التحول من الظاهرة إلى الخبرة يتطلب أنساقاً منهجية تتسم بالخصوصية في كلّ بيئة تنتمي إليها ، وإنّ المسافة الزمنية التي يستغرقها تخضع للنسبية ، لذا فإنّ انتقال المادة العلمية من بيئة إلى أخرى دون مراعاة الحاجة الاجتماعية والاستعداد النفسي للتلقي ، تقود حتماً إلى انعطافات في التوجه الفكري ، وتغيرات في القناعات المتحصلة لدى الفرد ، فضلاً عن ظهور نماذج تدين بالولاء للوافد الجديد من غير معرفة بالخلفيات الفكرية المنطلق منها .

ومن الجدير بالذكر أنّ فعل التكوين المعرفي الجامعي قائم على أساس فعل الهدم والبناء ، فلأجل بناء الهرم الواعي المنتظم بسلسلة لا نهائية من التنوعات العلمية لابد من هدم أو خلخلة الترتيب التقليدي ، ومن أجل إيجاد الطرق الفاعلة في تطوير النهج الجامعي ونقله من السكون إلى الحركة ، ومن الخمول إلى النشاط ، لابد من إعلان البراءة من سلوكيات الجهل ، وكشف عيوب التوجه الكلاسيكي ، ووضع الإصبع على موضع الألم ، والانتقال إلى الفكر الحرّ ضمن سياقات تدور في فلك العقيدة السليمة ، والخُلق المتزن القويم .

إنّ المقدمة السابقة ستغدو عقلانية إذا علمنا أنّ الجامعة بوصفها مؤسسة تربوية أولاً ، وعلمية معرفية ثانياً ، تتعرض الآن إلى حملة منظمة تتسم بالهدوء ، وشعارات التغيير والإصلاح الذي غدا سمة مميزة للدول الجانحة نحو الديموقراطية ، وإرساء دعائم حريـة الفرد الغائب الحاضر : غائب بوصفه مواطناً ، وحاضر بوصفه جسداً ، وتهدف هذه الحملة إلى فتح الباب أمام كلّ التوجهات المتعلقة بالعاطفة الإنسانية ، بدعوة مساعدة الفرد الملتف بعباءات المجتمـع وتقاليده ، ومحاولة تخفيف الكبت المسيطر عليه ، وتشجيعه للحديث عن موضوعات باتت إلى وقت قريب عنوانات لا يجرؤ المرء الحديث عنها ، بسبب الحياء ـ ربما ـ أو بدافع التدين ، أو الالتزام بالنهج العرفي الذي يمنع فتح قنوات الحديث هذه .

إنّ السعي وراء تطوير العلم ، وتكوين المعرفة المعاصرة لا يعني بشكل من الأشكال التدمير النفسي للمتلقي ، والجنوح نحو أفكار تحمل في مضمونها فلسفة هدامة ، ومدركات تجعل الفرد في حالة شك ودهشة مستمرين ، لذا توجب على المعنيين ـ الموكل إليهم وضع مناهج التعليم ـ تمحيص الخطط الموضوعة ضمن جدول الأعمال ، ودراسة المناهج المحددة في المراحل الدراسية كافة الأولية منها والعليا ، لأن التهاون في تمحيصها هو دعوة لتمرير المناهج التي لا تنتمي لبيئتنا ولا تناسب طبيعة مجتمعاتنا ، لا سيما ونحن نرزح تحت احتلال يهدف إلى زعزعة التزام الفرد ، ونزع قيم انتمائه لبلده ووطنه ، وإفراغ قيم التدين والخلق القويم التي ما زال جمهور من المجتمع يتمتع بها ويفاخر بأصالتها .

تتعرض جامعاتنا اليوم إلى دعوة متسارعة الفكر متريثة الخطى ، هدفها تأسيس طبقة مثقفة تدعم مشروع إيجاد مادة ( الثقافة الجنسية ) بوصفها مادة علمية حضارية تفتقر إليها الجامعة في مناهجها !! ، ويحتاجها الطالب في حياته العلمية والاجتماعية والنفسية ، والغرض تصحيح الفكر الموروث عن الجنس ، وفتح الأذهان وتنويرها في هذا الجانب ! ، وتدخل هذه الدعوة الآن أروقة المثقفين العرب ، وتشغل ميدان محاوراتهم بين مشجع ومناقش ومتبنٍ ومعارض ، وحسبنا في هذا المقام بيان الإيجابيات والسلبيات المرافقة لدعوة إيجاد مادة الثقافة الجنسية الجامعية وتعميمها ، والسبل الكفيلة المتوجهة نحو محاورة هذه الدعوة توافقا ومخالفة.

وقبل الدخول في تفاصيل مناقشة الدعوة ، يمكن القول : أنّ مادة الثقافة الجنسية الجامعيـة هي من المفردات المهمـة في المدارس الثانوية الغربية ـ الأوربية منها والأمريكية ـ وتعطى هذه المادة بشقيها النظري والعملي ، النظري من خلال دراسة الأفكار وأبرز النظريات والكشوفات العلمية المستجدة ، والعملي من خلال الحديث عن تجارب الطلبة وخبرتهم في هذا الميدان ، وللبيئة الغربية دافع مهم في إعطاء هذه المادة ، وذلك بسبب طبيعة الحياة المنفتحة ، التي لا تخضع لمعايير دينية أو عرفية أولاً ، وبسبب غياب الواعز الفردي الذي ينهي عن هذه التمثلات ثانياً ، ولحاجة الفرد الغربي لإشباع غريزته الهائجة ثالثاً ، فضلاً عن أنّ السلوك العام يشجع هذه المسألة ويحث عليها .

أما في البيئة العربية والإسلامية المحاطة بخطوط حمراء كثيرة ، وبحواجز ينتمي بعضها إلى الدافع الديني ، وبعضها ينطلق من التوجه العرفي أو الاجتماعي ، وبطبيعة حياتية معيشية تروم حفظ الخُلق وتمدحه ، وتقيد الانحلال وتمقته ، وتتسم بمعايير سلوكية تزدان بالترغيب حيناً وبالترهيب حيناً آخر بوصفهما أسلوبين مؤثرين بالأفراد ، فإنّ الفرد العربي قد لا يكون في حاجة ملّحة لدراسة الجنس ـ بوصفه مادة روحية وعملية ـ بميادين عامة ومعرفية كالجامعة ، بل قد لا يتفهم الهدف الحقيقي من وراء إقحام هذه المادة المفترضة في المناهج الأكاديمية ، فضلاً عن أنّ النهج السلوكيّ العام لا يشجع على بسط الحديث في هذه الجوانب إلا في ميادين ضيقة جداً ، وعليه فإنّ التعامل المتوقع من الطلبة تجاه ذلك سيسير باتجاهين مختلفيـن : ( الأول : المقاطع ، إذ سيتجه بعض الطلبة إلى مقاطعة هذه المادة ونعتها بالسلبيـة ، وبناء موقف معادٍ للأستاذ الذي سيقوم بتدريسها ، وستغدو مادة ثقيلة بائسة يهرب منها الطلبة ويأسفون لوجودها ، والثاني : المشجع ، إذ سيقوم بعض الطلبة بتشجيع إعطاء هذه المادة والحديث عن أهميتها ، ودورها في تنوير الأذهان ، وتوسيع مدارات الخيـال ، ومقت دوائر الجهل التي تخيم على المسائل المتعلقة بموضوعات الجنس ، وستغدو هذه المادة بالنسبـة للطرف الثاني من أروع المواد الدراسية وأجملها ، وسيحرص الطلبة على عدم تفويت أي دقيقة من ساعاتها المقررة .

ويمكن الحديث عن الجوانب الإيجابية المفترضة لمادة الثقافة الجنسية الجامعية بالنقاط الآتية :

1.       قد تنجح مادة الثقافة الجنسية الجامعية في إعطاء مادة علمية للطالب الجامعيّ ، على صعيد سلوكيات ممارسة الجنس ، وبيان مواضعه وطرقه وأصنافه ، ومحاولة اجتناب مزالقه المؤدية إلى بعض الأمراض كالزهري والسيلان والإيدز ونحو ذلك .

2.       قد تمنح هذه المادة متلقيها نصائح مهمة تتعلق بكيفية الاهتمام بالأعضاء التناسلية ، ومحاولة الابتعاد عن كلّ المظاهر والسلوكيات المضرّة في هذا الإطار .

3.     قد تعطي هذه المادة تعليلات مناسبة لبعض الأسئلة التي تدور في فلك التغيرات الفسلجية الحاصلة عند المراهقين ، وتعليل ذلك بشكل علميّ ـ ربما ـ .

4.           قد تقدم هذه المادة للطالب فرصة إنعاش الأجواء الأكاديمية ، بسبب تفاعله معها كونها مادة غير تقليدية .

5.           قد تترك مساحة مهمة للحوار والحديث عن مسائل تتسم بالخصوصية الفردية ، مما يمكنها من تقديم فرص لإيجاد حلولٍ مناسبة .

6.    قد تساعد الطلبة المقبلين على الارتباط الشرعيّ من تجهيز عوامل الاطمئنان ، وإعادة التوازن النفسيّ لمشكلة اختيار الشريك الآخر .

أما الجوانب السلبية المفترضة فيمكننا الحديث عنها بالنقاط الآتية :

1.           تعمد هذه المادة إلى تحريك مشاعر الطلبة وأحاسيسهم المكبوتة ، فتجرهم نحو عدم الاستقرار النفسي .

2.           تولد ميولاً جنسية لدى الطلبة ، مما تسبب عادة تفكيراً مضطرباً ، وتوجهاً غير محمود .

3.           قد يلجأ بعض الطلبة ـ بعد دراستهم الجانب النظري ـ إلى البحث عن الجانب التطبيقيّ ، وهنا تبدأ المتاعب وتتنوع المزالق .

4.       تسهم في خلق أجواء التوتر النفسي السلبيّ بين الطلبة المختلفين جنساً ، وتبدأ نظرات الإعجاب غير البريء بين الفريقين .

5.           ستسهم هذه المادة بنزع الحياء الذي يزدان به طلبتنا ، وستعمل على إيجاد فرص الجرأة في الحديث والاستفسار والسؤال .    

6.     أما إذا توفر بين الطلبة من حمل بذور الشذوذ الجنسي أو اتصف به ، فإن هذه المادة ستشكل فرصة ذهبية لهذا النوع من ممارسة أفكاره بشكل غير سويّ .

7.     قد تسهم هذه المادة بتحويل الميدان الجامعي من ميدان معرفي ثقافي ، يزود الجيل الناشىء بالعلم والمعرفة المتنوعة بشقيها الإنسانيّ والعلميّ ، إلى بيئة يخشى الآباء المحافظون إرسال أبنائهم إليها خوفاً عليهم من الانحدار نحو الهاوية .

وبعد تقديم افتراضات حول ايجابيات مادة الثقافة الجامعية وسلبياتها ـ حال كونها مادة منهجية مقررة في الجامعة ـ يمكن القول أنّ هناك طرفيـن مهميـن في التعامـل مع هـذا المنهج ـ ومع غيره ـ هما : الأستاذ والطالب ، فإن كان الأستاذ الواقع على عاتقه تدريس هذه المادة متزناً متديناً غيوراً على الجيل الناشىء ، عارفاً حقوق الله عزّ وجلّ ، قائماً بأحكامه مجتنباً نواهيه ، فإنه سيقوم بتدريس هذه المادة وفقاً للسياق القرآني في عرض المشاهد الجنسية : " وَرَاودتْه التي هُو في بيتِها عَن نَفسِه وَغَلّقتِ الأبوَابَ وقَالتْ هَيتَ لَك قالَ مَعاذَ اللهِ إنّهُ رَبّي أحسنَ مَثوايَ إنّهُ لا يُفلحُ الظَالمونَ وَلقد همّتْ بهِ وهمَّ بهَا " ( سورة يوسف ، الآية : 23-24 ) ، ووفقا للنهج النبويّ في تعليم المسلمين الجنس وأحكامه ( فلتذقْ عُسيلتَهـا ولتذقْ عُسيلتـكَ ) ، ووفقاً لسياق علميّ ذي حدود دقيقة عن طريق التلميح لا التصريح ، والإشارة لا التجريح ، وفي مقابل ذلك طالب متزن يدرك أهمية الأحكام من خلال منظار شرعي ، ويعرف الغثّ من السمين ، ويزِن الأقوال والأفعال من حيث موافقتها أو عدم موافقتها لأوامر الله سبحانه ، هذا الطالب يعي أنّ الجنس هو طريق لمواصلة الحياة ودفع عجلتها إذا رُسم بإطار شرعي ، وهو وسيلة لا غاية ، ونعمة من الله لا نقمة ، وأنّ على الفرد ممارسة الجنس بوصفه منطلقاً للتأسيس والتكوين والبناء الأسري ، لا بوصفه مبدءاً للغريزة والإشباع ومشاعية العلاقات ، وعند توفر هذه المعاني سيكون التلقي للمادة ايجابياً ، لكن يبقى السؤال قائماً : هل يمكن ضمان توفر هذين النموذجين ؟! .

وفي مقابل ذلك إذا كان الأستاذ منفتحاً غير متدين ، لا يفقه من الدين وأحكامه إلاّ ما تبثه وسائل الإعلام غير البريئة ، ذو علاقات وتصرفات تثير علامات استفهام عدة ، فإنه سيتصرف بإعطاء هذه المادة بحرية كبيرة متخطيا حواجز الدين والعرف والحياء والبيئة الأكاديمية ، منطلقاً من بيان أهمية الجنس ، معرجاً على أصنافه في التواصل ، منتهياً بالحديث عن مشاهد تطبيقية ـ ربما ـ أو على الأقل قد يحفز الطلبة على الدخول في ميدانـه ، وإلى جانب هذا الأستاذ قد يكون هناك بعض الطلبة من تعجبهم طريقة العرض هـذه ،إذ يُقدم لهم العرض الثقافي للمادة ، ليجدوا من ثَمَّ طرقاً معينة لتطبيق ما تعلموه .

وفي الختام يمكن القول : أنّ وضع المناهج العلمية الأكاديمية يتطلب حاجة اجتماعية ، ومسوغات معرفية تسهم في بلورة فلسفة الفرد المتعلم تجاه الحياة ومتطلباتها ، كما أنّ نسقية اقتراح المناهج الجديدة تمر بعملية اكتشاف البديل المناسب للرفض القائم للمنهج السابق ، فإن تمّ هذا فهو تحقيق لوظيفة المنهج وخصيصته في تقديم النهج الأفضل للمتعلم ، وإن لم يكن فإنّ النتائج ستكون عكسية على صعيد الذات أولاً ، وعلى صعيد المجتمع ثانياً ، ومن هذا المنطلق فإننا نعمد إلى إطلاق صرخة عقلانية تتوجه بتكوين رؤية فاحصة وثاقبة للمقترحات التي ستوضع على أجندة المواد الدراسية في الجامعات العراقية ، التي نتمنى أن لا تخضع لضغوطات البنيات الثقافية القادمة مع المحتل بلا استئذان ، بدعوى مجاراة العولمة أو بدافع المعاصرة التي لا تمتلك من الدلالة إلاّ الادعاء ، ولا تتقن من الإجراء إلاّ الاستهلاك .