الأولويات في الإسلام ( 1 )
أفكار مشاكسة
الأولويات في الإسلام ( 1 )
د.فواز القاسم / سورية
إن من أهم الخصائص التي تميز ديننا الإسلامي الحنيف هي : الواقعية الحركية . فهو دين يهتم بالواقع ، ويتحرك مع الحياة فيعالج مشكلاتها ، ويتفاعل مع أحداثها ، ويعطي لكل حالة من حالات الواقع التي يعيشها المسلمون ما يكافئها من النصوص والأحكام ، ويتعامل مع كل مرحلة من المراحل التي يمرّ بها المسلمون بما يناسبها من البرامج والحلول ...
ومن يتعمق في دراسة المسيرة الإسلامية منذ لحظة نزول الوحي على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحتى هذه اللحظة ، يجدها قد مرت بمراحل متعددة ، ويجد لكل مرحلة خصائصها وملامحها التي تتميز بها، فالمرحلة المكية ، هي غير المرحلة المدنية . والخلافة الراشدة ، هي غير الخلافة الأموية .
وهي قطعاً غيرها في المرحلتين العباسية والعثمانية ... وهكذا ...
وعلى العاملين للإسلام اليوم من أبنائه ، الذين ينشدون إعادة النشأة الإسلامية إلى ظهر هذا الكوكب ، بعد أن غُيّبت عنه لعقود ، أن يعوا هذه الحقائق جيداً ، وأن يعملوا بمقتضياتها ، إذا أرادوا لجهودهم أن تتكلل بالنجاح،إذ لا تكفي النيات الطيبة وحدها – على أهميتها – بل لابد أن تقترن بالفهم الصحيح والعمل المجدي .
ولعل أول وأهم خطوة في الاتجاه الصحيح هي : أن نحدد مكاننا – نحن في هذا الجيل – على خارطة المسيرة الإسلامية ، وأن نتعرف بدقة على موقعنا الحقيقي على خط الدعوة البياني ، لكي نتعامل مع ذات النصوص التي تعامل معها أبناء المرحلة المطابقة لمرحلتنا …
فلو أخذنا مثلاً المرحلة المكية التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، والتي سأطلق عليها مرحلة الاستضعاف ، لوجدناها تتصف بصفات معينة ، وتتميز بسلم محدد من الأولويات ، قد يكون في أعلاها : الدعوة إلى الله ، وبناء القاعدة الصلبة المؤهلة لحمل تبعات هذا الدين .
لكن لم يكن مطروحاً في هذه المرحلة موضوع الجهاد مثلاً – على أهميته – ولا موضوع العلم ، أو الفقه( بمعناه الذي يتعارف عليه الناس اليوم )، ولا حتى إقامة العبادات بتفاصيلها المعروفة ، إلا بما يخدم الأهداف الأساسية لهذه المرحلة ، وعلى رأسها بناء الشخصية الدعوية الربانية التي تفهم الإسلام وتصبر على تكاليفه.
ليس لان مثل هذه الأمور غير ذات أهمية في مسيرة الدعوة الإسلامية ،بل لان فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، اقتضى مثل هذه الجدولة في سلم الأولويات والأسبقيات .
ولما جاءت المرحلة المدنية ، والتي سأطلق عليها مرحلة التمكين ، تغيرت المعطيات بتغير الزمان والمكان والظرف . فمع استمرار الدعوة والبناء ، برزت حاجة المرحلة للجهاد في سبيل الله ، وذلك لحماية الدعوة الناشئة ، والذود عن الدولة الوليدة .
ولذلك فقد جاءت النصوص والأحكام والتوجيهات ، منسجمة مع هذا الواقع الجديد ، ومنظمةً له أيما تنظيم.
وتدور عجلة الزمن ، وينتقل الرسول الكريم ( ص ) إلى الرفيق الأعلى ، وتتعمق حركة الفتح ، وتتقدم الدولة الاسلامية على كافة المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية . وتبسط أجنحتها على القسم الأكبر من الأرض المعمورة في ذلك الوقت ، فتظهر الحاجة الى حركة العلوم ، والتأليف ، والتدوين، والترجمة ، بما يوازي ذلك التقدم الهائل ، ويستوعب ذلك التوسع الشاسع . عندها عكف الآلاف من أصحاب الطاقات ، الذين لم يجدوا باباً يصرفون فيه طاقاتهم – بعد أن كُفوا الدعوة والدولة والجهاد- إلا في طلب العلم ، فعكفوا عليه، وأبحروا في لججه ، وغاصوا في أعماقه ، يستخرجون ما طاب لهم من كنوزه ودرره .
فهذا يؤلف متناً مختصراً في باب من أبواب العلم . ويأتي من بعده من يشرحه . ثم يأتي آخر فيضع له حاشيةً . ثم يأتي من يعلق على الحاشية . ثم يفطن آخر لاختصاره من جديد ...
ومنهم من أستنفد القضايا المعروفة في عصره ، فبدأ يتصور قضايا أخرى ليست موجودة أصلاً ، ليضع لها الحلول المناسبة ، وهم الذين أطلق عليهم (الأرأيتيون) .! وهكذا ...
حتى وصل إلينا ذلك التراث الهائل من علوم الفقه والحديث والفلسفة والكلام وغيرها …
ومع استقرار الدولة الاسلامية وبطرها ، وانفتاح أبواب الدنيا على المسلمين ، ظهرت المزيد من الأصوات المخلصة ، التي تحذر الأمة من مغبة الركون الى الدنيا . وتدعو المسلمين الى العودة الى النبع الصافي ، والتمسك بالمنهج الأصيل ، والعمل للآخرة والرغبة في الزهد والعزلة .
ولقد أطلق هذه الصيحات في وقتها نخبة من خيرة أبناء الامة ، ومجموعة من أفضل علمائها في تلك المرحلة، من أمثال : الحارث المحا سبي ، والجنيد البغدادي ، وعبد القادر الكيلاني ، وغيرهم الكثير رضوان الله عليهم.
وتدور عجلة الزمن ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً ، ويختلط العجم بالعرب ، وتبدأ إفرازات ذلك الاختلاط على شكل رواسب و دواخل عقائدية وسياسية . وتظهر الحركات الباطنية والمنحرفة والهدامة التي بدأت تنخر في جسد الامة .
وهنا ينبري كبار علماء الأمة وربانيوها ، من أمثال : الإمام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وغيرهم ، رضوان الله عليهم .
وتدور رحى معركة فكرية هائلة ، تخلف لنا ذلك التراث الضخم من العلوم والكتب والمؤلفات، التي ترد على تلك الفرق الضالة وتعرّيها ...
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ، والذي نستطيع من خلال الإجابة عليه أن نضبط كل أقوالنا وأفعالنا وتحركاتنا على منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الأعلام رضوان الله عليهم هو : أين موقعنا نحن اليوم – في هذا الجيل الذي يدلف إلى القرن الحادي والعشرين الميلادي- من هذا الخط البياني للأمة ؟
وأهمية الإجابة على مثل هذا التساؤل المهم ، تكمن في تمكيننا من تحديد موقعنا ، ومعرفة مرحلتنا، لنتمكن من الاستفادة من ذات النصوص والتعليمات ، ونحتكم لنفس الأوامر والتوجيهات ، التي استفاد منها الرعيل الأول ، الذي عاش نفس ظرفنا ، ومر بنفس مرحلتنا ، .
وتمكيننا أيضاً من تحديد أسبقياتنا ، وترتيب أولوياتنا ، ومعرفة فروض أوقاتنا ، لمقتضيات المرحلة ذاتها، بما يمكننا بعون الله ، من تحقيق أهدافنا والوصول الى غاياتنا، في أسرع وقت ، وأقل جهد ، وأخف تضحيات ممكنة …
فإذا اتفقنا مثلاً ، على أن مرحلتنا التي يمر بها جيلنا اليوم ، مشابهة لمرحلة الأحزاب من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوم اجتمع الكفر كلّه لملاقاة الإيمان كلّه ، ورمت قوى الكفرٍ المسلمينَ عن قوس واحدة، فيجب أن نفقه بمنتهى العمق والدراية ، ظروف وملابسات تلك المرحلة ، ويجب أن نعي جيداً ، النصوص والتعليمات والتوجيهات ، الربانية والنبوية، التي قادت تلك المرحلة . ونستخرج بفقه حقيقي وبراعة اجتهادية ، الدروس والعبر والعظات المستنبطة منها . ونحدد بوضوح تام جدول الأولويات الذي سار عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الميامين رضوان الله عليهم فيها .
فإذا كانت أولويات تلك المرحلة تركز على الجهاد في سبيل الله ، وبذل الأنفس والأموال والأولاد للدفاع عن العقيدة المهدّدة في المدينة المنوّرة المجتاحة والمحاصرة ، فكيف يجرؤ شخص ، كائنا من يكون ، ممن ينتمي الى هذه الأمة ، ويدّعي محبة رسولها ، وفهم سيرته الشريفة ، أن يخرج على هذا المنهج ، ليصرف الأمة عن واجبات مرحلتها الحقيقية ، وفروض أوقاتها المقدّسة ، إلى دعوات قميئة ، ك(السلام ) و ( الصلح ) و ( التطبيع ) ...إلخ .
وإذا وجد _ في غير العراق المحتل _ من تسوغ له اجتهاداته الشخصيّة مثل هذا التصرف الخطير، بدعوى ( الواقعية ) و ( العقلانية ) و ( الموضوعية ) والانبطاحية والانهزامية والاستسلامية ... !!!
فهل يجوز لعراقي نشمي ، رضع لبان عراقية ماجدة ، وأكل من ثمار نخيل البصرة ، وشرب من مياه دجلة والفرات ، وتسمى بأسماء ( ...الراوي ) و ( ... السامرائي ) و ( ... الكبيسي ) وغيرهم ( ولا عليك بالأسماء العجمية ) ...هل يجوز له ، وهو يرى عراقه الحبيب يُذبح من الوريد إلى الوريد في كل لحظة ، وحرائره تغتصب ، ومقدّساته تهان ، ومدنه تدمّر ، وأمواله تسرق ، في واحدة من أفظع الجرائم الخسيسة التي تزلزل عرش الله ، أن يشغل العراقيين والأمة بمحاضرات باردة ، وندوات تافهة ، وبرامج مقززة تثير الإشمئزاز والتقيؤ ، عن ( إعجاز الضوء ) ، و( سحر الكون ) ، و(عظمة الفضاء) ، و(تناهي صغر الذرة) أو عن ( الزهد )و ( التسامح ) و ( العقّة ) و ( جلاء أدران القلوب )..!؟
أي والله ، هذا ما أشاهده على بعض الفضائيات العراقية والعربية ، وأنا في طريقي لتتبع أخبار العراق المذبوح والأمة المبطوحة ، ولطالما انعقدت لديّ مقارنة لا إرادية ، ولكنها كانت مقزّزة ، بين لقطة ( الدماء)و ( الأشلاء ) و ( النساء منثورات الشعور ) و( المنازل المدمّرة ) !!!
وبين ثلة من المعمّمين وأصحاب اللحى ، المتحلّقين حول مائدة مستديرة ، يتدارسون ويتناقشون ويتبارون لساعات وأيام وليالي عن خصائص ( الضوء ) و ( السكون ) و ( الهدوء ) ...!!! أي والله ...!!!!!!!!!
ما أود أن أخلص إليه من هذه الدراسة هو :
1. إن أمتنا عموماً ، وبعض أجزائها على وجه الخصوص ، كالعراق مثلاً ، تمر في حالة حرجة للغاية ، حالة إسعافية ( باستخدام مصطلحاتنا الطبية ) .
2. وفي الحالة الإسعافية تتوجه جهود المسعفين والمنقذين إلى الحالات الخطيرة ، وبحسب أهميتها لحياة المريض ، ومن العيب الشنيع ، والخطأ القاتل (fatal mistake ) أن يتوجه الطبيب المسعف في مثل تلك الحالات الحرجة لتضميد الجروح البسيطة ، قبل أن يطمئن على القلب والدوران والتنفس ، التي هي من أهم أجهزة حياة الإنسان ، ومن يفعل ذلك في عرفنا الطبي ، ليس طبيباً ، وتسحب منه شهادة مزاولة المهنة .!!!
3. إن أفكار الأمم أهم من أبدانها ، وما ينطبق على الطب في أمتنا ينطبق على الدعوة والتربية فيها ، والأمة اليوم في حالة حرجة للغاية ، ولقد رمتها الصهيونية والصليبية والمجوسية في عقيدتها وأرضها وثرواتها عن قوس واحدة .
4. وللأمة أولويات ، ولعل من أهم أولوياتها اليوم أن تشتغل بفقه جهاد الدفع ، وما يتصل به من أحكام ، وفقه الوحدة والقوة والوطنية والشجاعة والبذل والإيثار ... وعشرات العناوين الفقهية المشابهة ، لتوحد شملها وترد الغادرين والحاقدين والمتكالبين عليها ، وكل عمل خارج هذا النطاق ، فهو عبث ومضيعة للوقت ، وتخدير للجماهير ، ما لم يخدم بطريقة ما فقه إنقاذ الأمة ...
5. من وجد في نفسه الكفاءة لهذا الفقه فليتقدم ، ومن لم يجد فليرح الأمة بصمته ، ولا يجوز لمنابر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهون إلى الحد الذي يحق فيه لكل جاهل ومرائي أن يدنسها ، فيعكر مزاجنا، ويضيّع أوقاتنا ، ليرضي بعضاً من غروره وجهله ...!!!
6. ليس كل من وضع عباءة على كتفه صار شيخاً ، وليس كل من لبس عمامة في رأسه صار فقيهاً ، وليس يحق للجهلة أن يتصدوا لمنابر الدعوة ، فلقد قال تعالى بأمره الصريح : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) وأهل العربية يعرفون جيداً أن ( أدعُ ) هو أمر ، والأمر من الله واجب الطاعة ، ومن أبسط معاني الحكمة ، معرفة فروض الأزمنة والأمكنة ، لتضع الشيء المناسب في المكان والزمان المناسب، فمن جهل ذلك فلا يجوز له بأمر الله أن يتصدّر منابر الدعوة ( تحرم عليه الدعوة ، لأن إفساده يكون أكثر من نفعه ) ... ((تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )) !!!؟.
7. أمتنا في أمس الحاجة إلى ( الفقهاء ) من أهل الحكمة ، وليست بحاجة إلى المزيد من ( الخطباء ) الجهلة، الذين يفتقرون إلى أبسط مبادئ الدعوة ، ويسيؤون إلى أهل الذوق من المستمعين بتكسيرهم للقرآن الكريم واللغة العربية والشعر والأدب والبلاغة وأصول الوقف والابتداء والخفض والرفع وعشرات الأصول الأخرى ، أكثر بكثير مما يفيدوا ...
8. لنفترض أن شخصاً ما ساقته الأقدار والظروف الى مواقع المسؤولية والقدوة والقرار والدعوة والإرشاد ، وهو غير مؤهل لهذا الموقع ، أي أنه لا يمتلك القدر الكافي من الصفات والخصائص القيادية والدعويّة ، بشقيها الموروث والمكتسب _ بسبب ظروف استثنائية تمر بها الأمة _ فهل يعفيه جهله هذا من المسؤولية أمام الله والأمة .!؟ الجواب قطعاً لا ... بل عليه أن يبذل كل ما يستطيع من جهد ، للارتقاء بنفسه ، وطاقاته الى المستويات المطلوبة . ولا يعفيه ضعفه هذا ، من المسؤوليات الشرعيّة ، والأدبيّة ، والتاريخيّة ، ما لم يبذل الجهد ، ويستنفد الوسع ، ويمحض النصح ، ويعذر الى الله ...
فإذا ما فعل ذلك ، فإن خطأه ، بعد ذلك لا قبله ، يمكن أن يكون مقبولاً ، وذنبه مغفوراً . أما إذا اكتفى بالقليل وأخلد الى الكسل ، ورضي بالأمر الواقع . ثم قاد الجماعة أو الأمة ، بجهله وتقصيره الى الهزائم والفشل .! فعندها لا مفر من عقاب الله وحساب الأمة ...
وصدق الله القائل : (( ومن يؤت الحكمة ، فقد أوتى خيراً كثيراً ، وما يذكّر إلا أولوا الألباب )) صدق الله العظيم .