تأملات في الحداثة الأدبية العربية

إبراهيم القهوايجي

تأملات في الحداثة الأدبية العربية

إبراهيم القهوايجي/االمملكة المغربية

[email protected]

" ...إنما الحداثة ، في المحل الأول ، موقف من الحياة والوجود ورؤيا جديدة للمستقبل..."

ريتا عوض

يظل مصطلح الحداثة من أكثر المصطلحات إشكالا وغموضا ، بسبب سفره من تربته الأصلية وارتباطه بأمكنة ذات خصوصية سوسيوثقافية تختلف جذريا عن منبته الأصلي، وأيضا بسبب توزيعه وتغطيته لمجموعة  هائلة من الحقول المعرفية السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ،الفكرية ،العسكرية والأدبية....إنه بهذا المعنى العام يهم تحول بنيات المجتمع بأكملها.أما في مجال استعماله الأدبي والنقدي فقد اتخذ أبعادا شعارية وتصنيفات جدالية في أدبنا العربي .... ولعل الحداثة هي موقف وعقلية وطريقتي نظر و فهم على حد تعبير أدونيس، لكن كيف تمثلت في الأدب العربي شعرا ورواية؟

الحداثة كمفهوم عام : 

إن مفهوم الحداثة من أكثر المفاهيم غموضا والتباسا ، نظرا لما ينطوي عليه هذا المصطلح من صعوبات معقدة تجعله مراوغا ومتقلبا)1(، وصعوبة تحديده بدقة  مردها إلى ارتباطه بتعريفات صنعتها ظروف معينة ،غير أنها تكون عرضة للتغيير ، و" يستخدم هذا المصطلح تاريخيا  لتحديد مرحلة ] [ آخذة في التلاشي ، فيظهر ما يعارضها مثل : ما قبل الحداثة ، الحداثة القديمة ، الحداثة الجديدة ، ما بعد الحداثة")2(. ولا شك أن الحداثة ، كمفهوم عام ، ولدت في الغرب وفق شروط ارتبطت بمرحلة هامة من تطور أوربا ، وكانت مرحلة مليئة بالصراعات والتجاذبات ،إذ كانت أوربا تغادر القرون الوسطى وتخلف الإقطاع وراءها ، لتبدأ عصر النهضة وبداية المرحلة الرأسمالية.

ويرى بعض النقاد أن الحداثة بمعناها العام "تعني فترة زمنية في تاريخ الثقافة الغربية ، يعود تاريخها إلى عصر النهضة في إيطاليا مع الإصلاح الديني ، أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية في القرن السابع عشر إلى الثورات السياسية في أواخر القرن الثامن عشر)3(، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل هابرماس " يربط الحداثة بمؤسسها في الفكر الحديث ، خصوصا "ماكس فيبر" ، الذي ربطها بالمبادرة الرأسمالية الجهاز البيروقراطي ، و"هيغل" ، الذي يقرنها بمبدأ الذاتية وبمفهوم الحرية الذي يشكل عظمة الزمن الحديث ")4(، ومن ثم نلاحظ تلك القطيعة مع الماضي كشعار حمله منظرو الحداثة من خلال مشروعها ، المعبر عنه من قبل فلاسفة الأنوار ومن جاء بعدهم ، وهو يتحدد من خلال العمل على تطوير علم موضوعي ، واخلاق وحقوق ذات طبيعة كمونية.

وتأسيسا على ما سبق ، يمكن اعتبار الحداثة ذلك التصور الجديد للحياة ،أو هي ذلك الوعي الجديد بمتغيراتها ومستجداتها ، الذي يستجيب استجابة حضارية للقفز على الثوابت القديمة والأنماط التقليدية ، فهي تعد تيارا جارفا يطال كل ميادين الحياة في نموها المتواصل ، وبذلك يكون الحاصل أنها ليست " تقليعة أو فلتة ، بل هي تاريخ حضاري)سياسي واجتماعي( وثقافي)فلسفي وإبداعي (")5( . وانطلاقا من هذا كله ، يجب أن نفهم الحداثة ، وان نتعامل معها على أنها روح اكثر  مما هي شكل ، وإنها حالة أكثر مما هي صيغة ،إنها ضمن أبسط المفاهيم ، الاتساق مع العصر والضرورة والحاجة ، وهي في حركة تطور وتقدم مستمرين ، وعليه تكون الحداثة بمفهومها العام ، هي ذلك النمط الحضاري الخاص ، الذي يتعارض مع النمط السابق عليه.

إن الحداثة ،إذا، تيار جارف يمتد إلى كل ميادين الحياة ، نظرا لإيقاعها السريع ، الذي جعل "التغيير سمة العصر الطاغية . فالمعرفة الإنسانية تتقدم وتتضاعف بسرعة هائلة ، وهذا ما سيجعل هذه المجالات ، ومنها الفن والأدب عرضة لرياح الحداثة ، ويرى أدونيس إن جميع مستويات الحداثة المحسوبة على ميادين الحياة تدخل في شراكة ، مبدئيا بينها في ".. حقيقة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة ، وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج:تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد ، فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر ، أي التناقض والتصادر بين البنى السائدة في المجتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها (6)

الحداثة في الشعر العربي:

من المعلوم أن الحداثة ارتبطت بالتحول العميق الذي هم أساليب التفكير الناتجة عن تطور المجتمع البرجوازي الغربي إبان القرن التاسع عشر ، حيث سادت قيم وأبعاد كونية خدمت تطور الإنسان ، ومن ثم أصبحت الحداثة أفقا للتغيير بعد أن تراكمت شروط وعوامل تنذر بإمكانات لتحول جذري .

   إن ملامح الحداثة العربية في الأدب العربي حتما ستختلف عن شقيقتها الغربية منبتا وملامح واتجاهات ، فعلى اعتبار أن الحداثة " أفقا للتفكير النظري وممارسة النقد" يغدو مشروع الحداثة العربية في الأدب أمرا ضروريا بالنسبة لنا – نحن العرب – من أجل إبراز خصوصيتنا وهويتنا " اللتين لا تستطيعان الإفلات من" منطلق العصر وقبضة الصيرورة" ، ومنذ مطلع هذا القرن انبرت ثلة من الباحثين العرب لدراسة الحداثة في الإبداع الأدبي لدى العرب ، ولعل أبرزهم أدونيس ، الذي بحث عن ملامح الحداثة الأدبية في الموروث الشعري العربي ، ولعل ما يمتاز به هذا الباحث في بحثه " الاركيولوجي "بصدد مشروع الحداثة العربي هو الجهد التنظيري المتصل بالبحث الحداثي ، المتجلي في عدد من الدراسات المنشورة ، إضافة إلى انخراطه في الكتابة الحداثية المنطلقة مع مجلة " شعر"تأسيسا ، والممتدة مع مجلة " مواقف" فيما بعد.

  يقدم يوسف الخال تعريفا للحداثة الأدبية قائلا هي " حركة إبداع تماشي الحياة في تغييرها الدائم ولا تكون وقفا على زمن دون آخر فحيثما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها فتتبدل نظرتنا إلى الأشياء،] [فالمضامين والأشكال تمشي جنبا إلى جنب ، لا في الشعر وحده ، بل في مختلف حقول النشاط الإنساني أيضا"(7).وما يستفاد من هذا التعريف أن يوسف الخال يربط الحداثة بالإبداع أي بالخروج على ما سلف من تجارب شعرية ، والحداثة الأدبية عنده لا ترتبط بزمن دون آخر، غير أن هناك جديدا ما يطرأ على نظرتنا للعالم من حولنا مما ينعكس ذلك معه في إيجاد طرائق تعبيرية غير مألوفة.

ويرى أدونيس أن الحداثة الأدبية " تجربة ورؤيا ، والتي تفترض نشوء حقائق عن الأشياء والعالم ، جديدة لم يعرفها القدم ، ليست بحسب هذا التنظير نقدا للقديم الأصلي وحسب ، وإنما هي خروج عليه ، وفي موضع آخر يؤكد  أن الحداثة  لا تقتضي حرية الفكر فقط ، وإنما تقتضي وتتضمن حرية الحسد أيضا ، إنها انفجار المكبوت وتحرره(8) إن ما يؤكد عليه أدونيس ، هنا ، هو كون الحداثة  الأدبية رؤية إبداعية تعمل على زلزلة القيم والثوابت وتجاوزها إلى التفكير في " ما لم يفكر فيه حتى الآن و"كتابة" ما لم يكتب حتى الآن. 

لقد تبلورت حداثة عربية في الأدب ، باعتبارها خطابا يتجه نحو أفق جديد للتفكير ، وكتابة لتاريخ المجتمع العربي من زاوية مغايرة لتاريخ أحداثه وإنجازاته المستوردة للنماذج الشكلية الغربية ، وتجلت في جهود أعلام مثل " الطهطاوي ، وعبدا لله النديم ، وأحمد لطفي السيد ، وخير الدين ، وطه حسين ،وشبلي شميل ، وجبران خليل جبران ، والشاعر عبد الرحمن شكري ، والشابي ، ونجيب محفوظ ،وحنا مينه وغائب طعمة فرمان ، وصلاح عبد الصبور ، وأدونيس ودرويش ، وعبد الرحمن منيف وغالب هلسا .. والقائمة طويلة.

وتكمن أهمية هؤلاء الأعلام في خطاباتهم " .. الملتصقة بالذات الفاعلة الواعية ، التي تنطلق من الحاضر وأسئلته لتبحث عن مستقبل للمعنى " ولتشغيل التخييل والتغيير، ذلك أنهم يعيشون سؤال أو أسئلة الحداثة في مناخ يغيب " صوت المواطن وملاشاة ذاتيته لصالح بنيات كليانية سياسية كانت أم لاهوتية، لذا رفعت الحداثة في الأدب العربي شعارا مؤداه إبراز الذات الفاعلة وسط هذه البنيات " القامعة والمخصية للفكر والإبداع ، إضافة إلى استحضار مسؤولية الغرب الذي غزانا بثمار حداثته الأولى عبر قنوات متعددة ، مما حذا بمفكرينا إلى المناداة بإعادة النظر في فهمنا لهذا الآخر/الغرب ، وإعادة ترتيب علاقاتنا وتعالقنا به عبر محاورة حداثته.

يبقى ،هناك، سؤالا مشروعا يتمثل في الكيفية التي تعامل بها الإبداع العربي في ظل التحولات الحداثة للمجتمع والفرد والعالم ، وبالتالي ماهي ملامح هذه الحداثة؟

يجيبنا محمد برادة أن المثاقفة  قد وضعتنا وجها لوجه أمام قيم وأساليب ورؤيات تفرض علينا المقارنة والتفاعل والانغمار في أسئلة العصر)9(، وظهرت هذه التأثيرات على الإنسان العربي ، حيث أبرزت الحداثة " دور الذات الفاعلة والرافضة لاستمرار الكبت وطمس الذاتية الفردية "، و أعيد الاعتبار للفرد كذات دخلت في صراع مع مؤسسات المجتمع الكليانية ، وتزلزلت كنتيجة لذلك البنيات التقليدية ، وكان الإبداع العربي هو المعبر الأمثل عن الفرد وذاتيته :حيث انتقل " من خانة الأرقام إلى مجال الفعل والرفض وإسماع الصوت الداخلي "، وكما همت تأثيرات الفرد كذات ، فقد تبدت تأثيراتها ، أيضا، على المجتمع العربي، الذي تحول إلى حلبة للصراع والعنف ، وتدنست قداسة السلطة المتمركزة فيه على القيم المتوارثة ، فكان أن اعتمدت " الأنظمة على السلطوية و مصادرة الحوار والصراع الديمقراطي "، وكان صدى الأسئلة المستجدة والوضعيات الطارئة يطرح على صعيد جميع المجالات التعبيرية والفكرية ، وبخاصة على مستوى الإبداع الأدبي ، الذي بدأ " يعيش أسئلة الحداثة  من خلال إعادة النظر في اللغة والشكل والأيديولوجيا من منظور انتقادي تجريبي ، يسعى إلى الانفلات من الاختناق الذي تفرضه ضوضاء ثقافة التسطيح وغسل الدماغ "(10) ، وتحددت بذلك وظيفة الإبداع في الدب العربي الحديث –  بتعبير أورنو – في عدم ارتكازه" على تقديم بدائل ، بل على المقاومة : أن يقاوم عن طريق الشكل ولا شيء غيره، ، مجرى  العالم الذي يستمر في تهديد الناس وكأنه مسدس مصوب نحو صدورهم"(11) ، وبما أن السلطة  ، ذات الصفات السالفة ، تنهج أساليب وطرقا ملتوية تصل حد التعقيد في مقاومتها للنزوع الفردي الفاعل ، فالمبدع أيضا يحاربها بنفس سمات مقاومتها ، أي عن طريق تعقيد الشكل ولا شيء غيره.

وتجدر الإشارة ، هنا ، إلى أن حداثة الإبداع العربي همت أجناسا أدبية كان في صدارتها الشعر ، إضافة إلى الرواية التي قامت في طبعتها الحداثية على تحققات وتمثلات متباينة للحداثة ، وهنا نذكر بعض الأعمال الروائية المتميزة في هذا الاتجاه مثل " نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم ، و"الزمن الآخر" لإدوارد الخراط، و"وليمة لأعشاب البحر " لحيدر حيدر.

 الحداثة الروائية العربية :

إن ظاهرة الحداثة ، كمفهوم خاص ، في الأدب العربي المعاصر " تعود إلى مطلع هذا القرن ، وقد عبرت عن نفسها بأشكال وإنجازات عديدة ومتميزة"(12)، كان أبرزها الشعر والرواية :

 -  فالأول دخل سؤال الحداثة  على اعتبار انه يشكل الجنس الأدبي ، الذي مثل الاكتفاء الأدبي لدى العربي" التجربة الأدبية العربية الأساسية ، ومؤشر الإبداع العربي الحديث "(13).ولهذا ، كان الشعر العربي هو الأسبق نحو التحول الحداثي ، وحدث ذلك مع مطلع الخمسينات ، غير أني أرى حداثة شعرية مبكرة حصلت في جسد الشعر العربي الجاهلي ، قوامها بعض الاجتهادات الإبداعية الفردية المتجهة نحو تجاوز المألوف ، كان  من تجلياتها – مثلا – الثورة على المطلع الطللي ..ثم تلا ذلك حداثة عامة مع ظهور الدين الإسلامي ، وهي حداثة يحكمها تصور جديد أساسه المبادئ والقيم الإسلامية ، وبعد ذلك شهد تاريخ الشعر العربي صراعا بين " القديم " و"الجديد" /المحدث، وما شعر أبي نواس وجديد أبي تمام  والمتنبي والمعري ..إلا تجارب إبداعية تشكل حالة وعي جديد .لكن الحداثة الشعرية ، بالمعنى الفني المصطلح عليه حاليا ، لم تظهر في الشعر العربي إلا مع مطلع الخمسينات ، حيث " استقطبت جدلا واسع ، وأنتجت مجموعة من المقتربات الفنية الجديدة في الشعر العربي"(14).     وهذه الحركة الحداثية الشعرية لم يكن لتكتب لها هذه الولادة لولا توافر عوامل وشروط النضج والتجديد ، ومن أهمها قيام ثورات وهزات سياسية واجتماعية أيقظت النائمين على القيم البالية ،إضافة إلى توافر نوع من الحريات العامة ، وهنا نفهم لماذا كانت بعض القصائد الحداثية  قرينة " الاحتجاج على القمع ، والتمرد على العنف الذي يفرض به التراتب الاجتماعي على البشر ، والرفض لكل أشكال القيد على حركة الفكر في تطلعه صوب المعرفة "(15) . هذا علاوة عن عامل التلاقي مع ثقافات أجنبية معاصرة .

الثاني ، الرواية ، يعد اللون الأدبي الجديد في المجتمع العربي الحديث ، وغن كانت له أشكال تراثية بسيطة لا ترقى إلى الجنس النوعي الرصين ،ط من قيمة الموروث السردي العربي ، فروح الرواية ، كما يؤكد ميلان كانديرا ، هي روح الاستمرارية :ط فكل عمل [روائي] هو بمثابة جواب على أعمال سابقة ، وكل عمل يتضمن كل تجربة سابقة للرواية "(16) . ومن خلال هذا الطرح يتضح لنا ، جليا ، أن الحديث عن الرواية العربية الحديثة أو النصوص الروائية العربية ذات الحساسية الجديدة لا يمكن أن يكون مقبولا إلا باستحضار ذاكرة الرواية العربية ، خاصة وان هذه التجارب الروائية العربية الحديثة لم تنشأ من فراغ ، فبعد رحلة مضنية من المحاولات والتجارب الروائية استطاعت الرواية العربية الوقوف على قدميها ، حيث بلغت قمتها الكلاسيكية ، وهنا يكفي أن نورد اسم نجيب محفوظ ، على اعتبار أنه الروائي العربي الوحيد الذي أوصل الشكل الروائي الكلاسيكي إلى قمة بحثه الاجتماعي والفكري ، يضاف إلى ذلك أن تصور الروائيين العرب ذوي التوجه الحداثي انطلق من وقوفهم على الموروث الروائي العربي وقفة الفحص قصد تجاوزه لانتاج " أسئلة مضادة للأسئلة التقليدية التي تحدد مضمار عملها في نصوص سردية تؤخذ مكتملة ، ناجزة ، مسلما بتجنيسها ، وبالمفاهيم والأدوات التي لا تخرج في أفضل الأحوال عن ثنائية الشكل والمضمون "(17) .وبعد أن فتح نجيب محفوظ الباب واسعا أمام عدة أجيال من الروائيين الشباب ، واستطاع أن يؤسس الرواية العربية ، بدأت مرحلة جديدة من تطور الفن الروائي العربي ، وهذه المرحلة تعرف بالحداثة الروائية أو مرحلة الرواية العربية ذات الحساسية الجديدة . ولا نقصد بالجديدة صفة الجديد المتصلة بالزمن ، والمستعملة كنقيض للقديم ، " ولكنها مرتبطة بمدى إنتاجيتها المتميزة عن إعادات الإنتاج السائدة ، ومدى فعلها في إقرار متغيرات جديدة في ممارسة الإنتاج الأدبي"(18) عموما والروائي بشكل خاص .وعليه، فإننا نقصد بالحداثة الروائية مجموع تلك التحولات الواقعة في الحساسية الفكرية والفنية في الممارسة الروائية العربية ذات " التوجه الجاد من قبل بعض الروائيين المبدعين إلى كتابة الرواية ، وبالتالي يمكن أن نعتبر " تحولات الرواية العربية هي تحولات الوعي العربي لعلاقة الكتابة بالزمن أي السرد بالحقيقة وعلاقة الوعي بالتاريخ(19) . وتجدر الإشارة ، هنا ، إلى أن هذا لتوجه الحداثي في الكتابة الروائية العربية عرف انطلاقته مع كتاب فترة السيتنات ، الذين تشكل لديهم وعي بسؤال الحداثة ، الذي كان " ..يمثل لحظة وعي على صعيد الكتابة الروائية وفي عملية تلقيها ، غذ  يقر ضمنا بلا حداثة كتابة السلف السابق على السؤال مع التنبيه ، الواقع بين الجهر والإضمار ، إلى أن ما سيكتب مستقبلا ينبغي أن يشكل صورة غده وأتيه لا أمسه وماضيه "(20) . وقد تظافرت مجموعة من العوامل حتمت ظهور هذه الحركة ، من ذلك ما خلفته هزيمة1967 "..الطاحنة ، والتي هزت مجموعة من القيم الأساسية[...] ، وكشفت في- في الوقت نفسه – عن زيف هذه القيم ، أو على عدم أصالتها وفعاليتها في الواقع ، وعن استشراء الفساد الطبقي – الشريحة الجديدة – في كافة أجهزة الدولة ومرافقها "(21) ، فهذه الهزيمة بفاجعيتها وفداحتها أثرت عميقا في لوعي العربي ، إذ جعلته يعيد النظر في كثير من مسلماته وتصوراته، وعليه ، فإن الرواية العربية الحديثة جاءت " ..صدى لواقع التكسر الاجتماعي العربي "، وما عرفته المجتمعات العربية من تحولات مأساوية على الصعيدين : السياسي والاجتماعي ، مما زاد من تعميق واقع اليأس والإحباط " نتيجة سيادة سلطات قمعية ، تسحق الجماهير "(22) ، ومن تم كان على الخطاب الروائي العربي أن يستجيب لمثل هذه التحولات الجديدة التي " ..كانت تستلزم أشكالا فنية جديدة في طرائق التعبير "(23) . ولعل هزيمة1967 ، وما تلاها " من توابع فاجعة من أعمق و أفدح هذه الهزائم جميعا وأشدها تأثيرا في الواقع العربي عامة ، وفي تطوير الوعي التاريخي في الإبداع العربي عامة ، وفي الرواية بوجه خاص "(24) .إن هذا القول يؤكد أن الكتابة الروائية العربية الحديثة ترتبط بالمجتمع والواقع العربيين ، في علاقة جدلية ، عبر تحولاتها الكبرى رغم الاعتراف بالمكانة الخاصة لمرحلة الستينات ودور عواملها التاريخية والاجتماعية وتأثيرها على العملية الأدبية عامة ، والكتابة الروائية بشكل خاص في طبعتها الحداثية ، غير أن إدوارد الخراط يعترض على ذلك ، ويعتبر" ظهور ورسوخ حساسية جديدة في الفن – مهما كانت أصوله في التراث الثقافي الأدبي والأيديولوجي ، ومهما كانت علاقته بالتغير الاجتماعي والوعي بهذا التغير – ليس مشروطا لا بهذا التراث ، ولا بهذا التغير ، ومن الممكن أن يكون طفرة في المزاج الإبداعي لحقبة من الزمن ، وتطورا داخليا في فلك عملية الإبداع الفني نفسه ، بقوانينها الداخلية الخاصة " (25)

   إنه لمن الغلط الأخذ بهذا الرأي ، لأن الأدب  - وضمنه الرواية – وثيق الصلة بالظروف السوسيوثقافية بشكل معقد للغاية ، ثم إن فترة الستينات تعد بالفعل عقد فريدا ".. من عقود القرن العشرين على المستويين : المحلي والعالمي ..تغيرت فيه موازين القوى بين قوى العالم ، وتغيرت سياسات الشرق والغرب[...] وانحسر المد الاستعماري العسكري بشكله القديم لتبدأ دوائر النفوذ في الشرق والغرب تستقطب دول العالم لتشركها قسرا في اغلب الأحوال في دوائر فلكها الفكري والاقتصادي والثقافي وبالتالي الحضاري.. وهو ما لم يكن على هذه الصورة قبل الستينات"(26)

   هناك عامل آخر ساهم بشكل فعلي في التحول الحداثي للخطاب الروائي العربي يكمن في الاتصال بالغرب ، إذ أمكن لثلة من الروائيين العرب الشباب أن يحتكوا بتيارات أدبية وتجارب روائية أجنبية ، كان من أبرزها التجربة الروائية الحديثة في بلاد الغرب ، وبخاصة في فرنسا وإنجلترا ، فاطلعوا على آدابها وتياراتها ، واكتشفوا أن ملامح التحول والتجديد هناك تتمثل في طرائق التعبير وتقنيات السرد: اللغة ، المنظور السردي ، الحوار ، المونولوج...ولم يكن هذا التوجه نحو الكتابة الجديدة ليتبلور بالملموس لو لا فضل هؤلاء الشباب الذين" كان لهم اطلاع أكبر على أحدث التيارات الأدبية والروائية في الغرب ، والذين رأوا ضرورة التغيير والتجديد في النص الروائي العربي ، كما يبدو ذلك مع صنع الله إبراهيم في روايته" تلك الرائحة" ، والطيب صالح في روايته" موسم الهجرة إلى الشمال" ، وحليم بركات في روايته" الأيام الستة"(27)، وقد تبلورت هذه الحساسية الجديدة أيضا في أعمال إدوار الخراط في " رامة والتنين" ، والميلودي شغموم في " الأبله والمنسية وياسمين" ، ومحمد عز الدين التازي في "رحيل البحر"وغيرهم .

   لقد رام الروائيون العرب في توجههم الحداثي الارتقاء بدرجة الأداء الفني في النص الروائي ، فأعطي الاهتمام لجوانب الخطاب على جوانب المضمون، حيث مالوا إلى تجريب كل الأساليب التي تدفع بهم إلى آفاق رحبة ، خارجة عن قيود ومواصفات الخطاب الروائي الكلاسيكي ، فتحطم السرد الرتيب والحبكة المصنوعة ورسم الأنماط الروائية، وبذلك اتخذت الكتابة الروائية " .. تحريرا للذات ، وتفجيرا للطاقة الشعرية الكامنة في أكثر المشاهد تعاسة وبؤسا [...] ، يمكن عدها إنجازا على طريق تأسيس النص المفتوح ، الذي يفجر طاقة الشعر ويطوعها لخدمة الحدث القصصي ، ويستخدم لغة الحلم ، ويعتمد الزمن النفسي ، ويعنى بالبحث عن الرموز والدلالات.."(28). وكان أيضا، من تجليات هذه الموجة الجديدة أن انفتح الروائيون العرب على " ثراء العوالم الداخلية، فصار يستفيد من إنجازات القصة النفسية ، ويستخدم تيار الوعي ، وأسلوب التداعيات ، وتداخل الأزمنة ، والاستعانة بالرمز والاسطورة والمواريث الثقافية الشعبية ، في تعزيز نصه القصصي ، دون أن يتنازل ، وهو يعنى بتطوير أدواته ، رغبة في التغيير(29)

   إذا كان النص الروائي العربي نحا نحو أشكال حداثية في طرائق التعبير ، فإنه أيضا أعطى في حقل الكتابة جديدا ، وكان جديده ربط الكتابة بالصراع الوطني والصراع الاجتماعي ، وربط الكتابة بمسار الحرية، وبرهنت الرواية العربية الحديثة على قدرتها على " التقاط تفاصيل المشهد المعقد ، القمعي لعالمنا ، ودقائق النغمات المتنافرة ، المزعجة لعصرنا ، وإيقاع التحولات المتدافعة "(30). وإيمانا منا بكون التفكير في الحداثة الروائية تتناسل تجلياتها لتشمل الحداثة كظاهرة عامة تصل " حدود مسألة التنظيم المؤسسي للمجتمع ولموقع الدولة الحديثة في عملية التنظيم والعقلنة وفتح المجال العمومي للنقد والحوار" ، فالكتاب العرب الحداثيين ، وبحكم علاقتهم وتفاعلهم مع الظروف السوسيو ثقافية لبيئاتهم المقموعة ، كان بحثهم ينطلق من إيجاد" لغة تراوغ المردة ، وتستأنسهم بحيل القص ، كي تبعد سيف الجلاد عن رقبة القاص ، أو تستأنس الجبابرة العماليق ، فتدخلهم سجن القص الذي هو أشبه بمصباح علاء الدين "(31) وسحر حكي شهرزاد ./.

          

 الهوامش والإحالات :

(1)د فيصل دراج :" الواقع والمثال " ، ط 1 ، 1989 ، دار الفكر الجديد ، بيروت ، لبنان ، ص :19.

(2) عبد الله المهنا :" الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة" ، عالم الفكر ، مج 19 ، ع3 ، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر1988 ، ص :58.

(3) د عبد الله المهنا :"الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة"، مرجع مذكور ، هامش ص:6.

(4) موريس أبو ناصر :"التفكير في التواصل والتثاقف تفكير في مسالة الحداثة ": أنوال ،ع1198 ، الأحد/ الاثنين 17/18 أكتوبر 1993 ، ص :7.

(5) د أحمد المديني :"الصمت – الحداثة ، عزلة النص وهرطقة التنظير ، الحداثة الأخرى ": مجلة " كتابات معاصرة" ، مج 5/ع18 ، حزيران 1993 ،ص :14.

(6) أدونيس :" فاتحة لنهاية القرن" ، ط 1980 ، دار العودة ، بيروت ، ص :321..

(7)  يوسف الخال :" الحداثة في الشعر "، ط1 ، كانون الأول1978 ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ص :17.

(8) أدونيس :" الشعرية العربية " ، ط2 ، 1989 ، دار الآداب ، بيروت ، ص :83.

(9) د محمد برادة :ط الحداثة في الإبداع ، ملامح الإشكالية في الأدب العربي" :مجلة "على الأقل" ،ع7/1992 ، س1 ،ص : 13.

(10) المرجع نفسه ، ص :14.

(11) المرجع نفسه

(12) د عبد الرحمن منيف :"الكاتب والمنفى "، ط1، 1992 ، دار الفكر الجديد ، بيروت ، لبنان ، ص:63.

(13) إلياس الخوري :" الذاكرة المفقودة " ، ط2 ، 1990 ،دار الآداب ، بيروت ،ص :36.

(14) إلياس الخوري : "الذاكرة المفقودة" ، مرجع مذكور ، ص :35.

(15) د جابر عصفور :" مفتتح :، فصول ،مج 11 ، ع4 ، شتاء 1993، الهيئة العامة للكتاب ، ص :6.

(16) ميلان كانديرا :ط فن الرواية " ، غاليمار ، باريس 1986 ، ص :34 ، نقلا عن "كتابات معاصرة "، مرجع مذكور ، ص :13.

(17) أحمد المديتي :"الصمت – الحداثة ..." ، مرجع مذكور ، ص : 14.

(18) سعيد يقطين :" القراءة والتجربة "، ط1 ، 1985 ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، ص :8.

(19) إلياس خوري :" العلم الثقافي/ في حوار معه ، ع874، س 18 ، السبت 14 ماي 1988 ، ص :2.

(20) أحمد المديني :" الصمت .." مرجع مذكور ، ص :14

(21) سيد بحراوي :" يحيى الطاهر عبد الله كاتب القصة القصيرة " ، ضمن كتاب :ط دراسات في القصة القصيرة ، وقائع ندوة مكناس " ، ط1 ،1986 ، مؤسسة الابحاث العربية ش.ج.م ، بيروت ، لبنان ، ص :196.

(22) الياس خوري :ط الذاكرة المفقودة " ، مرجع مذكور ،ص :57 .

(23) جمال الغيطاني :العلم الثقافي /في حوار معه ، ع928 ، س20 ، السبت 20يونيه 1989 ، ص :4 .

(24) محمود أمين العالم :"  الرواية بين زمنيتها وزمنها " ، فصول : مج12 ، ع1 ، ربيع 1993 ، ص :18.

(25)إدوارد الخراط " مختارات القصة القصيرة في السبعينات" ، القاهرة 1982 ، ص :5 ، نقلا عن "فصول، ،مج12 ، مرجع مذكور ،ص :159.

(26) حلمي بدير :"الرواية الجديدة في مصر "، القاهرة 1988 ، نقلا عن "فصول" ، مج12 ، مرجع مذكور ، ص :160.

(27) محمد عفط :"الرواية الحديثة : بنيات وتحولات الرواية المغربية الحديثة)روايات الثمانينات( نموذجا، رسالة مرقونة بإشراف د حسن المنيعي ، السنة الجامعية91/92 ، جامعة مولاي اسماعيل/ كلية الآداب ، ص :138.

(28) د أحمد ابراهيم  الفقيه:" الدخول إلى بهو المرايا" ،مجلة" العربي"، الكويت،ع376 ، مارس 1990 ، ص :113.

(29)الرجع نفسه.

(30) د فيصل دراج :" الواقع والمثال" ، مرجع مذكور ، ص :130.

(31) د جابر عصفور: " مفتتح " ، فصول ، مرجع مذكور ، ص:6.