مستقبل قاتم للعراق رغم سوط المالكي
لبنان ليس بعيداً عن التداعيات:
فادي شامية - اسطنبول
بات واضحاً ارتباط المسار والمصير بين كل من سوريا والعراق. أسباب الانفجار تكاد تكون واحدة. في سوريا قهر استمر لعقود؛ انفجر في العام 2011. في العراق قهر مشابه تلا الاحتلال الأميركي وتعمق بعد انسحابه؛ انفجر في العام 2013 وتطور في العام 2014. البعد الطائفي في كلا البلدين متشابه. الدور الإيراني أيضاً. الاتجاه نحو العنف، وظهور الجماعات المتشددة... الأسباب والعوارض متشابهة. ومع سقوط الحدود بين البلدين، وتفكك كلا المجتمعين إلى مكونات طائفية وإثنية، واقتسام الأطراف المتصارعة للأراضي؛ بتنا أمام مشهد سوداوي واحد.
مع الأسف؛ فإن القناعة السائدة في العراق – عن حق أو غير حق- أن رحيل نوري المالكي بعد ثماني سنوات عجاف – وهو المسؤول عن ممارسات طائفية إقصائية للسنّة خلال السنوات الأخيرة- ومجيء حيدر العبادي؛ لا يعدو كونه تغييراً لسائق القطار، وأن العملية السياسية بالمعطيات المطروحة ليست حلاً، ما لم يعاد تركيب مؤسسات الدولة العراقية من جديد-وهذا أمر غير متاح عملياً- فضلاً عن الانقسام المذهبي الرهيب بين العراقيين... ذلك كله يدفع إلى تأكيد التشاؤم بخصوص مستقبل العراق.
لدى سؤال شخصيات عراقية رفيعة؛ اجتمعت في اسطنبول مؤخراً لبحث ما يجري في العراق؛ فإنه لا يمكن إخفاء خطاب اليأس من الواقع. يتحدثون عن ممارسات إقصائية بحق السنة على نحو يدفع للرعب. مذبحة مسجد مصعب بن عمير في العراق -التي ارتكبتها إحدى المليشيات الشيعية وراح ضحيتها اكثر من 70 عراقياً قبل أيام- ليست إلا حلقة واحدة من سلسة موصولة، منذ الاحتلال الأمريكي، وتأسيس نظام طائفي؛ تفاهمت كل من أميركا وإيران عليه؛ أقصى السنّة، وعرضهم لحملات تطهير وجودي وسياسي في الجنوب وفي بغداد، وتنكيل في محافظات الوسط السنية. لا وجود لدولة حقيقية في العراق؛ قد تبدو الشعارات وطنية لكن الأدوات طائفية، والجيش والشرطة ليست إلا ميليشيات "مثقفة" مذهبياً. السنة خارج المعادلة العسكرية والأمنية تقريباً. الارتهان لإيران بالغ الوضوح.
تتحدث أوساط السنة في العراق عن؛ مساجد مصادرة أو مدمرة (بينهما 200 مسجد هُدم في العام 2006 فقط)، وعن تُقية إجبارية للسنة تحت طائلة التنكيل أو الاعتقال أو الخطف، بمذكرات قضائية أو دون مذكرات، وعن آلاف قُتلوا تحت التعذيب بتهمة الإرهاب وفق قانون مكافحته رقم 13/2005، وعن نساء اعتُقلن لقرابتهن مطلوبين وقد تعرضن للاغتصاب (1030 حالة موثقة في العام الماضي فتح برلمانيون عراقيون ملفها)، وعن الاحتجاز التعسفي، والسجون السرية (السجن المكتشف عام 2010 على سبيل المثال)، وسجن الأطفال والأحداث، وعن تهجير مليون وستماية ألف نسمة من أهل سامراء، وتهجير آلاف العوائل من بغداد وديالى وذي قار، وعن "نكبة" قبيلة السعدون في البصرة العام الماضي، وعن ملايين المهجرين قصراً إلى إقليم كردستان أو إلى تركيا (نحو 3 مليون)...
في سرد ما يجري يتحدثون عن حراك شعبي لمدة سنة؛ لم يستجب له نوري المالكي، ما دفع لاعتماد الخيار العسكري شبه المنظم؛ والمكوّن من العشائر، ومن التشكيلات التي قاتلت الاحتلال الأميركي للعراق، ومن الفلول البعثية.
انهيار الجيش العراقي في الموصل ثم في باقي المحافظات السنية لم يكن مفاجئاً لمن يعرف حالة الغليان في الشارع العراقي، وقد حذر كثيرون من حدوث ذلك سابقاً. داعش لم تكن وحدها في الموصل، لكنها هي المسيطرة الآن. لم يكن العراقيون المتسامحون ليشكلوا حاضنة للجنون الداعشي لولا شدة القهر الذي تعرض له السنّة. ومع ذلك فإن داعش حالة عابرة، ليست لأنها لا تشبه العراقيين فقط، وإنما لأنها لا تحسن التعامل معهم راهناً، ولأنها متخلفة عن الزمان الذي نعيشه، ولأن تحولها إلى دولة حمّلها مسؤوليات لا قِبل لها بها.
يسأل محدثي؛ كم داعشي جديد انضم إلى تلك المنظمة الرهيبة بعد مجزرة مسجد مصعب بن عمير؟ داعش منظمة إرهابية؛ فماذا عن عصائب أهل الحق وجيش المختار وغيرها من الميليشيات العراقية التي تقتل السنّة بدم بارد؟ وهل الإرهاب له هوية مذهبية واحدة؟ وتالياً؛ ومن يقنع الشباب الذين يأتون من كل العالم للالتحاق بداعش بدعوى "الدفاع عن الإسلام" ألا يفعلوا وهم يسمعون عن قدوم المقاتلين اللبنانيين إلى العراق، وعن تواجد الحرس الثوري الإيراني في العراق؟ ومن يستطيع أن يتحدث بعقلانية في العراق اليوم وسط حفلات الجنون الدموية السائدة؟
كيف يتأثر لبنان بتأجج الحرب المذهبية في العراق؟
لبنان ليس بعيداً من ذلك كله وهو يتأثر حكماً. ثمة أربعة عناوين لهذا التأثر على الأقل:
أولاً: ازدياد الاحتقان المذهبي الداخلي على وقع الاحتراب العراقي، وصور المجازر من كلا طرفي الصراع.
ثانياً: احتمال تعرضه إلى هجمات إرهابية من قبل داعش وأخواتها، تستهدف "حزب الله" – الذي ذهب ليقاتل في العراق أيضاً-، أو بيئة الحزب، أو الدولة اللبنانية نفسها، باعتبار اتهامها من قبل هؤلاء بأنها تحمي الحزب أو أنها أداة بيده، ويزداد هذا الخطر سخونة فيما لو تمكن البشمركة الأكراد والحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية، وبدعم أميركي جوي، من دحر داعش عن العراق، وانتقالها إلى سوريا، حيث يمكن أن تتمدد وتقترب من مناطق المتاخَمَة الحدودية مع لبنان.
ثالثاً: تسميم العلاقات البينية في لبنان ما بين السنّة والمسيحيين، باعتبار الأخيرين ضحية للعنف الأعمى في العراق، وباعتبار أن أطرافاً مسيحية؛ عن رعونة أو بقصد دعم تحالفها مع "حزب الله"؛ تحاول تحميل السنّة عموماً المسؤولية عن اضطهاد المسيحيين (جرت اشتباكات كلامية فعلية مؤخراً بين رجال دين مسيحين وسنة على خلفية ذلك).
رابعاً: تولّد طائفة جديدة من النازحين، وهم النازحون العراقيون (وجلهم مسيحيون)، بعدما اضطهدتهم داعش وسلبتهم أموالهم، وهؤلاء – كما النازحون السوريون من قبل (وجلهم سنة)-، يشكّلون حالة إنسانية من جهة، وعبئاً اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً من جهة أخرى.
بالنظر إلى فهم خطورة ما يجري حول لبنان؛ فإن ما يعانيه هذا البلد الصغير من اضطراب يبقى مفهوماً، غير المفهوم أن لا نتعظ – نحن اللبنانيين- مما يجري من حولنا، فالدروس واضحة وكثيرة، وأولها وأهمها منع تشكل بيئة حاضنة للإرهاب، وهذه البيئة لا تُمنع بقرار ولا بمدفع، وإنما بمنع الشعور باليأس والانكسار أن يتسلل إلى أي من المكونات اللبنانية. هذا هو الدرس الذي رسب فيه النظامان السوري والعراقي معاً، فكانت النتيجة ما نرى اليوم.