فتنٌ من إسرائيل
د. بلال كمال رشيد
لن تهدأ إسرائيل وقد خرجت من الحرب حاسرة خاسرة صاغرة محملة بالخزي والعار مما حملها عتاب شعبها وأصدقائها ، وأثلج صدر أعدائها ،بل ستعيد النظر فيما كان ، وتعد الخطط لما يجب أن يكون حسب رؤيتها ومنطقها ، لذا ستعمل جاهدة أن تشعل جذوة الحرب من جديد ، وستسعى لتربح سياسيا ما خسرته عسكريا ، وستوظف الإعلام والأقلام لتحقيق ذلك .
ولن يتحقق ذلك إلا بالفتنة ، والفتنة سلاح إسرائيل الدائم ، لا تُهمله ولا تُمهله ، فهي الروح التي لا تفارق جسدها ، والراحة التي تطمئن إليها وتخلد بها، فلن يرضيها اتفاق مصالحة ووئام بين أطياف وأطراف الشعب الفلسطيني ، لن يريحها اتحاد الدول العربية ، ولن تكون لها قوة بقوة العرب ، فتعمل بالفتنة على تقطيع الأوصال ، واختلاف الكلمة والمواقف ، وعلى الاقتتال الداخلي ، وعلى إضاعة الحقوق بإضاعة الوقت وتشتيت الجهود ، تضرب بيدٍ وتصافح باليد الأخرى ، تبرم المواعيد والاتفاقات فتناقضها وتنقضها ، وتجعل العربي رهين المفاوضات ولا يطول حقاً من طاولة إلى أخرى .
اختلف العرب على حرب غزّة ولم يقولوا فيها كلمة سواء ، واختلفوا على الظالم والضحية ، وهو اختلاف لا ينقصه ذكاء ، بل ضمير وصدق انتماء وولاء، بل سعت أن تكون حيث تكون أو لا تكون ، فكانت لها عينٌ تراقب ، ويدٌ تبطش ، ولسانٌ يتكلم ، وكانت موضع خلاف أو اتفاق بين العرب .
ها هي الحرب تضع أوزرارها لتشتعل التصريحات النارية هنا وهناك ، ولتتجه أصابع الاتهام بالخيانة والعمالة على هذا وذاك ، فلا تكون لأهل النصر فرحتهم بانتصار ، بل تمضي الفتنة لتنزع الفرحة وتوقظ ما وقر في قلوب البعض من حقد وغل وحزن لتواجه من استيقظ في قلوبهم الأمل وانتعش ، ممن أدركوا طريقهم وعرفوا مسارهم ، وتركوا الطاولات والمفاوضات ، وساروا على صراط الجهاد المستقيم سعيا للحسنيين وهدفا للتحرير والتطهير .
ما أفسد الأمرَ إلا ولاةُ الأمر ممن غيّروا الحقائق واستأثروا بالكراسي والمناصب ، أولئك الذين أمنوا حياتهم بإراقة دماء شعوبهم ، الذين أدمنوا السب والشجب والاستهجان والاستنكار ، الذين حفظوا وجودهم بالمحافظة على إسرائيل فكانوا لها عوناً ، وخلدوا بخلودها ، حتى جاءنا نبأ منهم وعنهم وقد استشاطوا غضباً لقتل العملاء ،وأخذتهم الرأفة بقلة حقيرة وانتصروا لهم ، ولم ينتصروا لكثرةٍ نقية طاهرة نالتها إسرائيل بالقتل والتدمير ، فماذا يمكن أن تقول إلا أن ملة الفساد والعمالة واحدة !!
هي الفتنة في أن تجد ولاة الأمر والقادة وبطانتهم يتكلمون بلسانٍ ذي عوج ، ويُبدون غير ما يخفون ، حين تجد الشيخ يتفوه بالآية الكريمة ويُسيّرها كيفما يريد ، حين تجد العميل قائداً ورائداً ونصيراً وتجد الوطني الأصيل –كما يروجون –كاذباً خائناً وعميلاً ، حين تجد يَدَ الدفاع لا تُدافع عنك ولا عن أرضك بل تدافع عن عدوك ، حين يتكلم العربي بلسان الإسرائيلي ويتكلم عن الإنسانية والحقوق !!
علمتنا المفاوضات أن نبقى مكاننا حيث نحن إن لم نفسح المجال أكثر لبني صهيون في التوسع والتمدد ، علمتنا أن نتجول في كل الأوطان إلا وطننا ، علمتنا أن نلدغ من نفس الجحرمرات ومرات حتى أدمنا عليه ، واستطبنا اللدغ والطعم، علمتنا أن لا نقوم من مكاننا وأن لا نقاوم ، حتى نشأ فينا جيل رفض ما فرض علينا ، وانتهج نهجاً غير نهج المفاوضات ، وتكلم بلسان قوة وعزة ، وترك النباح لأهل النباح ، وصنع السلاح وقاوم وفرض واقعاً جديداً ، اجتمعت عليه الشعوب الحرة ورفضه ولاة أمرمن مدمني الكراسي والمناصب والمكاسب الشخصية وقادة الرأي من أزلامهم وأقلامهم التي تنعق حيث تلعق .
الشعوب أصدق لساناً وحالاً من قادتها ، وهي التي تتوحد عند كل خَطّبْ ، وهي المتجددة بدمائها وخطابها ، وهي الثابثة على حقوقها ومبادئها ، وهي التي لاتغفل ماضيها ولا حاضرها وتبني مستقبلها ، وهي التي توازن بين حكمة شيوخها وحماس شبابها ، أما بعض القادة فلا يملكون حماسة شباب ولا حكمة شيوخ ،لا يغيرون ولا يتغيرون إلى حق ، بل من ضلال إلى ضلال ، ويقودون شعوبهم إلى الهلاك ، وهم فتنة وينفذون فتن إسرائيل ما ظهر منها وما بطن.