بيزنطة مثلما رآها العرب
"بيزنطة مثلما رآها العرب"
مبحث لناديا الشيخ
رؤية موضـوعية الى العلاقة الدينامية و المعقدة
محمود شريح
الدكتورة ناديا الشيخ، المحاضرة في التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت، تصدر عن جامعة هاررد مبحثا بالانكليزية ذا صلة وثيقة بتاريخ العرب على الجملة، وإن في صورة مميزة بين الثلث الاول من القرن السابع الى العام 1453 الذي شهد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح بعدما دكّها بالمنجانيق، وعليه فالمبحث "بيزنطة مثلما رآها العرب" Byzantium Viewed by the Arabs مفصل اساسي في تاريخ العرب، فقيصر الروم – صاحب القسطنطينية – كان يعد حامي ذمار النصرانية في الاراضي قاطبة، والقدس لم تكن بعيدة عنه، فلما كان العهد الجاهلي تسنى للغساسنة وهم عرب اقحاح اصبحوا سوريين ان يصلوا العربة والهلال الخصيب ببيزنطة، ولما قدم هرقل زعيم الامبراطورية الرومانية الشرقية الى بيت المقدس للاحتفال برفع الصليب يوم 14 ايلول عام 629 بلغه ان جيش المسلمين في مؤتة الى الشرق من البحر الميت وبايعاز من النبي الكريم هاجم جنده المرابط ناحية البلقاء الاردنية، فكانت الواقعة الشرارة الاولى من نزاع استمر حتى 1453 حين سقطت العاصمة البيزنطية في ايدي آل عثمان حماة الاسلام فحلّ اسم النبي محل اسم المسيح المنقوش على جدران آياصوفيا افخم كاتدرائية في العالم المسيحي عهدذاك. في611 من قبل شكل توسع الفرس في سوريا تهديدا لسلطة هرقل لكنه هزمهم في 627. لكن لم يدر في خلده ان يقهره في 629 فوج مؤمنين جدد، فنزلت سورة الروم ومطلعها:
" غلبت الروم. في ادنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم".
كتاب ناديا الشيخ اذن مبحث في تدرج وتنامي رؤية العرب المسلمين لبيزنطة كما تطورت عبر قرون من الاتصال والتبادل والحروب. كانت الباحثة عكفت على دراسة هذا المفصل التاريخي منذ اعدادها اطروحة الدكتوراه عن الموضوع نفسه في جامعة هارفرد ثم اجرت عليه تعديلات جوهرية طوال العقد الاخير.
منطلق الدكتورة الشيخ انه مع سقوط الامبراطورية الفارسية في القرن السابع وتوسع الاسلام شرقا وغربا وشمالا، تحولت حدود بيزنطة الى جبهة صدام مع المسلمين مما حدا بالمؤرخين العرب المسلمين في العصر الوسط الى الاخذ بهذا النزاع على محمل الجد، فكانت الشؤون العسكرية والسياسية تحتل مكان الصدارة في الحوليات والمدونات، فها هو الطبري [توفى 923] ينصرف صوب نهاية كل حرب الى وضع جداول تسرد غارات كان يشنها المسلمون على اراض بيزنطية.
انما ترى الباحثة ان الحدود مع بيزنطة لم تكن دائما ساحة وغى بل احيانا نقاط تلاق اذ ازدهرت التجارة بين الجانبين، ناهيك عن تبادل البعثات الديبلوماسية، مما ترك اثرا واضحا على تطور بنية الحضارة الاسلامية، ومن هنا الحاحها على ان الاسلام وبيزنطة كانا على مدى تلك القرون الثمانية في علاقة جدلية متبدلة ومتغيرة، وانها بلجوئها الى منهج نقدي ادبي تتمكن من دراسة رؤية المؤرخين العرب المسلمين لبيزنطة في تطورها عبر قرون من الحرب والتبادل التجاري والديبلوماسي في اطار التغيرات التاريخية الاقليمية. تقرّ الدكتورة الشيخ أن المصادر حول هذا الموضوع محدود وإن أشارت الى أن الدراسات التي تتناول مختلف جوانب العلاقات بين الشرق والغرب آخذة في التكاثر، ولاسيما في أعقاب المناقشة المستفحلة حول الاستشراق وتجدّد الحوار المسلم–المسيحي.
ثمّ تشير الى الدور الذي جسّدته بيزنطة في المخيّلة الجماعيّة للمجتمعات العربية الاسلامية، ذلك ان بيزنطة كانت على الدوام موضوع اهتمام لامتناه من حيث القرارات السياسية والعسكرية التي كان يتّخذها الخلفاء، ومن هنا فان التقارير الاسلامية عن بيزنطة لم تكن تخلو من إشارات ضمنية أو علنيّة الى العالم العربي الاسلامي وإلى تعريف المسلمين لأنفسهم في علاقتهم ببيزنطة.
من هذا المنظار فإن الكتاب يتقصّى أهميّة بيزنطة للخلافة العربية الاسلامية وتقدير المسلمين للثقافة البيزنطية، ويساهم بالتالي في الجهود الرامية الى ايجاد الخطاب الأساسي الكامن خلف صوغ العرب المسلمين لمفهوم الآخر.
تأمل الباحثة إذن في فحص النظرة العربية الإسلامية إلى العالم والمجتمع والمسلك الأمثل بغية الخلوص إلى أن المصادر العربية الاسلامية في ما تضمّنته من تمثّلات ساعدت في تشكيل الواقع، وأنّ مسعى الحضارة الناشئة الى منح هوية متميزة حدد بقدر لا بأس بحجمه وجهة نظر الإسلام عن بيزنطة، وفي مساهمتها هذه تفلح الكاتبة في بناء حجتها على أساس أنّ النص لا يصف الواقع فحسب بل ان الواقع قائم أيضاً في ثنايا النصّ، في معنى أن العلاقة بين النص والواقع جدليّة.
ومن هنا عودة ناديا الشيخ الى المصادر الأولية، وفي مقدمها الحديث الشريف في الجامع وصحيح، والسيرة النبوية لابن هشام، وكتب المغازي نظير كتاب فتوح الشام للآزدي وكتاب الفتوح للكوفي، فضلاً عن تاريخ اليعقوبي وتاريخ الطبري والكامل لابن الأثير ومروج الذهب للمسعودي ومعجم البلدان لياقوت، ناهيك عن بحثها في أمهات الرسائل الأدبية من مثل "الحيوان" للجاحظ و"عيون الأخبار" لابن قتيبة و"الأغاني" للأصفهاني و"صبح الأعشى" للقلقشندي، مما يضفي على كتابها أجواء متعة ومؤانسة في تقصّي الخبر وتفنيد العبر.
في 271 صفحة من القطع الوسط وإخراج أنيق مع قائمة مراجع وفهرس وحواش دَسِمة تتوفّق ناديا الشيخ في اتّحاف رفّ البحث التاريخي برؤية موضوعية تميط اللبس عن العلاقة الدينامية والمعقّدة بين العرب وبيزنطة.