الاستشراق الألماني والتأثير العربي
الاستشراق الألماني والتأثير العربي
رضوان السيد *
قد يكون طريفا الاشارة هنا الى ان بدايات العلاقة عن طريق الترجمة بين العرب والالمان تمثلت في قيام احد شباب المستشرقين بترجمة الجزء الثاني من كتاب جورجي زيدان: تاريخ التمدن الاسلامي (1913) الى الالمانية! وقد عرف المصريون على الخصوص اشياء كثيرة عن اعمال المستشرقين الالمان من خلال العلاقات الشخصية في الرحلات والزيارات المتبادلة، ولأهداف علمية. فالمعروف ان المديرين الاولين لدار الكتب الخديوية كانا ألمانيين، وهما شبيتا وفوللرز، وللرجلين اهتمام خاص باللهجات العربية المصرية والفلسطينية.
لكن شبيتا كتب ايضا في التاريخ العقدي، وهو صاحب الفكرة القائلة ان انتصار الاشعرية مثل تراجعا في التفكير الفلسفي في الاسلام، وان المعتزلة هم احرار الفكر في الثقافة الاسلامية. وقد اهتم شبيتا ايضا (والذي توفي صغيرا عام 1883) بفكرة الانحطاط العربي والاسلامي وأسبابها. وتطورت هذه الفكرة في ما بعد على يد الفرد فون كريمر وصولا الى هلموت ريتر في خمسينات القرن العشرين.
ويريد بعض المؤرخين اعتبار المستشرقين الالمان هؤلاء مسؤولين عن فكرة الاضمحلال والذبول في الحضارة العربية، استنادا الى التقسيم الثلاثي الذي ساد في زمن التاريخانية في مجال تاريخ الفكر: نشوء، ازدهار ذبول او انحطاط، لكن ذلك أمر مستبعد، لأننا نعرف اشارات الى «الانحطاط» وضرورة الخروج منه عند الشيخ حسن العطار، شيخ الازهر (1835)، واخرى لدى تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي، وربما سمعها من استاذه الآخر المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي. وقد كانت الفكرة متداولة في دائرة السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده عندما التقيا بباريس أواسط الثمانينات.
والمعروف أنهما تجادلا في أسبابها مع ريناك وهانوتو، دون أن ينكراها.
وقد كان المصريون يذهبون الى اوروبا ويحضرون مؤتمرات المستشرقين، من مثل احمد زكي باشا، واحمد تيمور باشا، والشاعر احمد شوقي، والسياسي محمد فريد، وكانوا جميعا يتقنون الفرنسية، وانفرد اللبناني شكيب ارسلان بمعرفة الالمانية الى جانب الفرنسية. وقد ترجم بحوثا عن الاندلس وعن غزوات المسلمين داخل اوروبا.
وبعد ذلك بقليل قام محمد عبد الله عنان بترجمة كتاب جوزف أشباخ عن الاندلس في عدة مجلدات. وإذا كانت دار الكتب المصرية قد شكلت نقطة أولى ومهمة للتلاقي، وتبادل مصورات ومستنسخات المخطوطات، فان انشاء الجامعة الاهلية (1908) دفع بهذه العلاقة الى آفاق اخرى. إذ جرى استقدام مستشرقين وأساتذة في الآداب الى الجامعة المصرية طوال ثلاثة عقود، وقد كان هؤلاء مثل كارلو نللينو (الفلك) وكازانوفا (الفلسفة)، وفيشر (اللغة والآداب)، وماسينيون (التصوف والفلسفة)، يلقون محاضراتهم بالعربية، ثم تجمع بعد تصحيحها وتحريرها في كتب.
والمعروف ان اوغست فيشر اختير عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1934، وجاء ومعه صناديق البطاقات التي كان يجمعها من اجل معجم اللغة العربية الفصحى.
وقد أفاد منها المصريون في صوغ فكرة معجمهم الكبير الذي صدر منه جزء واحد بعد ذلك بأربعين عاما. أما معجم فيشر فقد تغيرت فكرته بعده، وارتئي ان يكون إكمالا لمعجم وليم إدوارد لين، وبدأت أجزاؤه وملازمه تصدر عام 1957، على يد انطون شبيتالر، تلميذ فيشر، وهو منذ ثلاثين عاما بعهدة مانفريد أولمان بجامعة توبنغن.
ولا نعرف ان كان جورجي زيدان قد اتقن الالمانية، وربما كان يقرؤها على اي حال، لانه رجع الى بحوث الالمان عن تاريخ العرب قبل الاسلام، وبالذات تاريخ جنوب الجزيرة والممالك السبئية، والتي عمل في بحوثها الرحالة والعالم الكبير ادوارد غلازر وتلميذه هومل. وكانت لزيدان، كما سبق القول، علاقات بالالمان، ادت الى ترجمة جزء من كتابه الى الالمانية، وربما كان «تاريخ التمدن»، هذا اول عمل عربي حديث ترجم الى الالمانية، بيد ان بحوث الالمان عن التاريخ العربي القديم لقيت اهتماما لدى الذين تخصصوا بالدراسات السامية بألمانيا في الخمسينات والستينات من مثل يحيى نامي والسيد يعقوب بكر. فقد ترجموا الى العربية «التاريخ العربي القديم» في الخمسينات; وهو عبارة عن مجموعة دراسات مضمومة في الاربعينات من أعمال علماء الساميات والرحالة/المؤرخين الالمان عن الجزيرة العربية وجنوبها.
لكن اكبر الإفادات من بحوث الالمان في التاريخ العربي القديم، تمت على يد الدكتور جواد علي صاحب «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام»، في عشر مجلدات.
فقد رجع الرجل الى ستة وعشرين كتابا المانيا، وحوالي الأربعمائة مقال للباحثين الالمان من بوركهاتر وغلازر والى هومل وماريا هوفنر ورودو كاناكس والتهايم. وما يزال الذين يؤلفون الكتب المدرسية للجامعات عن تاريخ العرب القديم يرجعون الى دراسات هؤلاء العلماء عبر كتاب جواد علي دونما ذكر له في كثير من الأحيان.
بيد ان البحوث الالمانية القديمة هذه حلّت محلها منذ حوالي العقد كتابات عرفان شهيد (بجامعة جورج تاون) عن التاريخ العربي القديم (مع التركيز على العلاقة ببيزنطة) في ثماني مجلدات; وباللغة الانجليزية التي يعرفها الدارسون العرب جميعا تقريبا.
على ان اكبر تأثير للاستشراق الالماني في مجال التاريخ والكتابة التاريخية جاء من خلال كتاب يوليوس فلهاوزن المشهور: الدولة العربية وسقوطها. صدر الكتاب عام 1901، وترجم الى الانجليزية، وبدأ الدارسون العرب يعرفونه من خلال تلك الترجمة.
ثم ترجم الى العربية مرتين بمصر والشام، على يد عبد الرحمن بدوي ويوسف العش، وقد أثر في الكتابة التاريخية العربية تأثيرا كبيرا في عدة مسائل; الاولى:
اعتباره الصراع الأبرز في الدولة العربية الاولى صراعا قوميا (بين العرب والعجم)، وتحديده للحقبة المبكرة او للعصر العربي للدولة الاسلامية ما بين 632هـ ـ 750م تاريخ سقوط الدولة الاموية. والأمر الثالث منهجي وهو استناده بشكل أساسي الى تاريخ الطبري ونصوصه المنقولة عن مصادر اقدم (عن الاخباريين من القرنين الثاني ومطالع الثالث للهجرة). والمسألة المنهجية مهمة. فتاريخ الطبري نشره دي غويه وزملاؤه وتلامذته في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وقد اطلع فلهاوزن على بعض أجزاء النص مخطوطة، لانه استخدمه في دراسات سابقة. وكان المؤرخون من بين المستشرقين قد تعودوا على الرجوع لمصادر متأخرة مثل ابن الاثير وابن كثير، لأنها عرفت أولا. ولذلك كان مهما من جانب فلهاوزن الاهتمام بقِدَم المصدر، ثم بتحليل تركيبة الكتاب: الاكتشاف مثلا ان أهم رواة اخبار الفتنة الاولى أو الكبرى هما: أبو مخنف وسيف بن عمر. وقد شكك فلهاوزن (بغير حق كما تبين حديثا) بحيادية سيف، وسار على رأيه المستشرقون والعرب. واذا كان من المحمود السير على خطاه في الثقة بنص الطبري ومصادره، فما كان من المستحسن اتباعه بشكل أعمى في الفهم «القومي» للتاريخ العربي الاول. كان فلهاوزن من مؤيدي الوحدة القومية الالمانية، ومن انصار المشروع البسماركي، بينما لم يكن ممكنا في القرن السابع الميلادي الحديث عن دولة قومية «عربية». بيد ان كل المؤرخين العرب تابعوه في تحليله هذا لطابع الدولة، وكتبوا عشرات الدراسات في
الشعوبية. وتبعا لميله الاول اعتبر فلهاوزن العصر الأموي استمرارا للعصر الراشدي من حيث الطابع العام: العربي. وقد سايره في ذلك مستشرقون من مثل هنري لامنس اليسوعي الفرنسي، لكن لأسباب مختلفة. فموقفه الايجابي من الأمويين كان لاعتقاده بأنهم «قليلوا الدين». وان هذا سبب حسن علاقتهم بالمسيحيين! اما العرب: فان القوميين المتحمسين فقط نظروا الى الأمويين تلك النظرة الايجابية ثم ثار عليهم (أي على الأمويين) التقدميون في الستينات والسبعينات على الأقل، اذ في القبيلة او العشيرة نفسها كان هناك من هم من انصار علي وأهل بيته، ومن هم ضدهم. والامر نفسه يمكن قوله عن ذهابه الى «عروبة» الخوارج، و«اعجمية» الشيعة.
فالطرفان او الحزبان، وطوال العصر الاموي تقريبا، عرب اقحاح. وما ذهب اليه دوزي في ما بعد ـ استنادا الى بدايات فلهاوزن ـ من تشابه بين افكار الزرادشتيين والفرس القدامى من جهة، وغلاة الشيعة من جهة ثانية، لا يستحق الاعتبار، الا بعد القرن الرابع الهجري، وهو زمان يتجاوز بكثير حقب النشوء الاولى، والتي اعطت تلك الفرق طابعها الباكي.
وما قام احد من العارفين بالألمانية من العرب بترجمة دراستي فلهاوزن عن حياة النبي (ص) في المدينة، وعن تنظيمات الجماعة الاولى بالمدينة.
وقد أراد فلهاوزن من وراء دراسته الصغيرة عن النبي تجاوز تهويمات ومبالغات فايل وشبرنغر، بالاستناد بشكل كامل للمصادر وقراءتها نقديا. أما في «الجماعة الأولى» فقد درس نص كتاب النبي أو عهد النبي بين المهاجرين والأنصار. وربما كانت ترجمته لو تمت مفيدة في الاطلاع على أسلوب فلهاوزن في قراءة النصوص الدينية ونقدها.
الهامش :
* كاتب لبناني متخصص بالفكر الإسلامي