المرجعية الدينية شكل آخر للصراع

المرجعية الدينية شكل آخر للصراع

يوسف يوسف

  البعض قالوا: إنه صراع ديني، وآخرون من أجل تخفيف الوطأة قالوا إنه الصدام بين الحضارات وثمة بعيداً عن هذا وذاك، من ينفي وجود مثل هذا الصراع، فيعزوه إلى أسباب لا ارتباط لها بالدين أو بالحضارة، فكيف نفهم الحقيقة؟

  من المعروف بين المهتمين بالشأن الصهيوني أن أولئك اليهود الطامعين بقطعة أرض يحتلونها، لم يفكروا بفلسطين

كمكان لإنشاء وطن قومي لليهود، وقد وقعت أنظار المفكرين الصهاينة الأوائل على بدائل في الكونغو وأوغندا والأرجنتين وكندا وغيرها، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على زيف دعوى الارتباط الروحي لهؤلاء بفلسطين، أما لماذا تم اختيار فلسطين لاحقاً، فذلك بسبب اقتناع ( ثيودور هرتزل ) بأهمية ما أطلق عليه المفكر ( روجيه غارودي) سلطة الأسطورة في كتابه ذائع الصيت ( الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).(1)

  ذلك أن هرتزل الصحفي اليهودي، والمثقف الحالم، لابد أن يكون قد قرأ التوراة، على الرغم من ميوله العلمانية، وإلى جانبها أيضاً، لابد أن يكون قد قرأ ما ظهر من سرديات، فرأى تأثير التوراة ـ الأسطورة في مؤلفيها، ونحن في افتراضنا هذا، لا ننطلق من تصور يخلو من المنطق وعامل الإقناع، فطبيعة هرتزل الشخصية، وتكوينه كيهودي مثقف، ثم ميوله السياسية الواضحة، كلها أمور تحتم عليه النظر إلى ما حوله من سرديات، ومرجعيات، ستكون أساساً له، في حركته الفكرية اللاحقة فيأخذ منها ما يفيد، ويضع جانباً ما لا يفيد.

إنه على سبيل الافتراض مثلاً، لابد أن يكون قد قرأ " قصيدة الصليب المقدس" التي كتبها ( روبرت براوننج) عام 1855

سيرحم الله يعقوب

وسيرى إسرائيل في حماه

عندما ترى يهودا القدس

سينضم لهم الغرباء

ويتشبث المسيحيون ببيت يعقوب

هكذا قال النبي، وهكذا يعتقد الأنبياء(2)

كما أنه لابد أن يكون قد توقف أمام خطبة نابليون، فشده الحماس الذي تثيره الكلمات التي قالها (أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبهم اسمهم ووجودهم القومي ، وإن كانت قد سلبتهم أرض الأجداد فقط، أدركوا أن عتقاء الله سيعودون لصهيون وهم يغنون، وسيولد الابتهاج بتملكهم لإرثهم دون إزعاج فرحاً دائماً في نفوسهم) (3) .

لقد لفت نابليون انتباه هرتزل إلى قوة الصرخة، وما يعنيه استدراج الأسطورة في حياة الناس، لذا فإنه لاحقاً ظل يؤكد على أهمية الضجيج في العمل السياسي، الذي عليه تحويل الوهم إلى حقيقة، واللاوجود إلى وجود، والمختلق إلى واقع، وبمعنى آخر، فإنه بقراءاته، يكون قد وجد نفسه أمام جدوى الخطاب الشفاهي والمكتوب.

في إطار هذه الجدوى التي يكتشفها، لابد أن يكون قد توقف بإعجاب شديد أمام رواية " آلروي " 1853 لبنيامين دزرائيلي، وكذلك أمام رواية " دانييل ديروندا " 1874 لجورج إليوت، لابد أنه أيضاً تابع باندهاش وقوف بطل الأولى فوق جبل صهيون، الذي سيطل معه من فوقه على خارطة أحلامه ـ إسرائيل التوراتية، وبالحدة ذاتها فإنه ظل يراقب تماهي بطل الثانية مردخاي في التوراة، ليردد معه في النهاية: إن فلسطين ضرورة تاريخية لليهود، كما أن عودتهم إليها حتمية إلهية، يجب العمل لتحقيقها حتى بدون انتظار المسيح كما تقرره التوراة.

لابد، وليس هذا من قبيل التوقع المجرد، أن يكون قد قرأ بعضاً من تلك الترانيم التي شاعت في أوروبا إبان القرن الثامن عشر، فاستوقفته في تغنيها بالقدس اليهودية الجديدة، لابد وان خطاب (وليم بليك) إلى اليهود في نهاية ذلك القرن، وصل إليه:

(استيقظي يا إنجلترا، استيقظي، فأختك القدس تناديك، لماذا ينام هؤلاء المؤمنون كالأموات، ويغلقونها عن جدرانك القديمة) (4) .

وإذا كنا نحن الذين يفصلنا أكثر من قرنين عن زمن ظهور ( ناثان الحكيم 1779) لليهودي الألماني جوتهولد أبهريم لسنغ نمتلك القدرة على قراءتها فهل يمكننا القول بأن يهودياً مثل هرتزل بالذات لم يقرأها؟ إن افتراضاً كهذا يبدو مخالفاً للمنطق، ومن الصحيح القول: إن الأب الروحي للصهيونية كان قد صفق للرواية، كعادته في ممارسة الضجيج، وأنه شد على يد ( لسنغ) بقوة وهو يمنح اليهودي ناثان سلطة الحكمة والنصح والمشورة، لكنه وهو الذي لا يجهل أن زمن ظهور هذه الرواية يتزامن مع ما تسمى بحركة الإصلاح الديني في أوروبا، يدرك من جهة أخرى، أن بروز ( فارس الهيكل المسيحي) واختيار القدس مكاناً للأحداث، سيضعانه في صلب المشكلة التي كان عليه التفكير بوضع الحلول لها كيهودي يفكر هو الآخر بقطعة أرض ليقيم فوقها وطناً، صحيح أن رؤية فارس الهيكل المسيحي عكرت مزاجه كما يقال في المثل، إلا أنه من خلاله وجد المدخل المناسب للتحايل على الغرب المسيحي الذي ينافسه على القدس، فكان حديثه في يومياته الشهيرة عن ( الجزء من السور الأوروبي في قارة آسيا) وعن الأمة اليهودية الجديدة التي يجب أن تكون ( توليفة من مرح باريس وفينا، وكفاءة لندن، وعظمة برلين العسكرية)، هذا الحديث  هو الذي سيوظف هذا الفارس ( المسيحي) لاحقاً في خدمة أهداف هرتزل والحركة الصهيونية ودولتهما اليهودية.

إن سلطة الأسطورة بحسب فهم هرتزل تماثل صرخة الاصطفاف ذات السلطة التي لا تقاوم، وعلى هذا الأساس فسرها في كتابه ( الدولة اليهودية) ، وبمعنى آخر فإن من كانوا يبحثون عن أمكنة لاستثماراتهم العديدة في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين سرعان ما اكتشفوا أن توجيه الأنظار إلى فلسطين، بدل الأرجنتين وكندا وأوغندا وغيرها سيأتيهم بكل ما يحلمون به، ولم يعد أمامهم أسهل من بعث الأسطورة لدى اليهود وفرسان الهيكل المسيحيين معاً، وقد وجدت عملية البعث هذه المدخل الذي خفف من حدة اصطدام اليهودية بالمسيحية، فكيف كان ذلك؟

بخصوص القدس مثلاً، التي هي المكان الحيوي الأهم، لم تكن توصف الديانة المسيحية بأنها صهيون اليهودية، وإنما مدينة العهد الجديد المقدسة، ولم تتضاءل أهميتها كمدينة مقدسة عند النصارى

إلا بعد عام (590)، حينما أصبح عرش البابا غريغوري هو مركز السلطة المسيحية، إذ أصبحت لروما الحظوة على القدس، وأصبح أسقف القدس يحتل المرتبة الخامسة في السلسلة الهرمية لهيئة الكهنوت الكاثوليكية.

كما أن الفكر الكاثوليكي الذي لم يكن يؤمن بوجود أمة يهودية، ولا بما يسمى الشعب المختار أو بمقولة أرض الميعاد، قد حل به التغيير بعد حركة الإصلاح الديني، فانقلب الأمر إلى نقيضه تماماً، فإذا اليهودي حامل الإثم الذي تصب عليه اللعنة يصبح جزءاً من أمة مفضلة.

لقد مثلت تلك الحركة انعطافاً حاداً في التعامل المسيحي مع اليهود، بل إن النزعة اليهودية فيها، بدت واضحة للكثيرين، وهي ـ تلك الحركة ـ بدأت تركز على الدعوة إلى ما تسمى بإعادة اكتشاف التوراة، وقد برزت هذه الدعوة بشكل خاص في الحركة البروتستانتية البادئة بالإصلاح، وهكذا ظهر مفهوم ما يسمى بالإرث المشترك، ووجدت التوراة طريقها للظهور الواسع إلى جانب الإنجيل، داخل ما يسمى بالكتاب المقدس، بعهديه: القديم ـ التوراة، والجديد ـ الإنجيل، وهو ما اعتبره بن غوريون لاحقاً صك اليهود المقدس لملكية فلسطين، وهكذا نرى كيف وافق الغرب المسيحي على تجريد فلسطين مما تسميها سردياته الدينية الدلالات المسيحية، ليمنحها دلالات يهودية، كان هو البادىء بتعميمها، فانشغل هذا الغرب لاحقاً، وتحديداً البروتستانتي منه بصورة متطرفة، لدعم فكرة إنشاء دولة لليهود، وتهجير من يسمون بـ( يهود الشتات) إليها، هذه الدولة، هي التي ستعتبر الإعداد الذي لابد منه لعودة المسيح، بحسب ما يفهمه أصحاب الديانتين عن هذه العودة.

وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد الحديث عن أوجه التماثل بين المسيحية واليهودية، إلا أنه من المهم الإشارة إلى مسألتين: الأولى تؤكد أن حكايات العهد القديم أصبحت زاداً يومياً للعقل البروتستانتي، والثانية ترتبط بما توضحها المؤرّخة اليهودية باربارا توخمان (5) ، ومفادها أن عودة اليهود كأمة إلى فلسطين، وبناء الهيكل، يمثلان عصب الإيمان البروتستانتي المبني على العهد القديم.

وهنا قد يتساءل القارىء الكريم: هل تعتبر عملية تجريد فلسطين مما تسميها سرديات الغرب الدلالات المسيحية فعل حقيقي أم أن أحفاد ميكافيللي كشأنهم في العديد من أفعالهم القذرة يطبقون قاعدة الغاية تبرر الوسيلة وما هي غايتهم من وراء هذا الفعل؟

عند الافتراض أن الأمر فعل حقيقي، لابد أن نطرح العديد من الأسئلة، ولعل أهمها السؤال الذي يقول:

هل نسي المسيحيون أسطورة اليهودي التائه التي نشأت لأول مرة في سردياتهم ومروياتهم هم، باعتبار أن يسوع هو الذي حكم على اليهودي بالتشرد حتى يوم القيامة؟

وهل غاب عن أذهانهم إنذار المسيح لأورشليم بالخراب ( هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً)؟

هل ألقوا وراء ظهورهم أقواله العديدة مما يرد في الإنجيل كتابهم المقدس ومنها ( يا أولاد الأفاعي، كيف تتكلمون بالصالحات وأنتم أشرار) و( إن خيوطهم ـ اليهود ـ لا تصير ثوباً، إلى الشر يزحفون، وكل من سار في طريقهم سار في ضلال)؟

  يقول صول بيللو (6) في روايته ( مغامرات اوجي مارش) على لسان الكاتب اليهودي الأمريكي اوجي مارش الذي يعيش متنقلاً بين عدة مدن في كندا والمكسيك وإيطاليا:

( إن أمريكا هي القدس الجديدة، وهي إسرائيل البلد الصغير الذي يناضل ليعيش).

وليس معنى هذا أن بيللو سوف يستبدل القدس بأمريكا، فهو ممن يرفضون الاندماج، ولكنه بالتأكيد يشير إلى التأثير اليهودي هناك، وإلى اندغام أمريكا في المشروع الصهيوني اليهودي، وهذا ما يذهب إليه أيضاً رفيق حبيب في حديثه عن أمريكا المعاصرة التي يرى أنها ( بدأت تعود للبحث عن جذورها العبرية، في محاولة للبحث عن هوية خاصة ممتدة عبر التاريخ) (7) .

فأية هوية هذه التي يبحث الأمريكيون عنها؟

لقد انفجرت أزمة الهوية تلك في الستينيات من القرن الميلادي المنصرم، أي مع الشعور بالهزيمة في فيتنام، ولما كان ذلك العقد قد شهد انتصار الدولة اليهودية في حرب حزيران 1967 ، فإن الأمريكيين سعوا إلى زيادة التصاقهم بالشعب المنتصر لأنهم فسروا ما حققه اليهود على أنه عون من الله ، في الوقت الذي فسروا فيه هزيمتهم على أنها عقاب من الله. بتعبير آخر، فإن الأمريكيين بتمثل الهوية اليهودية، بدأوا  يؤمنون بأنهم سوف ينالون تأييد الله لهم، وهو ما ستدور في فلكه لاحقاً، تلك العقيدة المسماة " القدر المتجلي" الذي أعاد اكتشافها القس الصهيوني " بات روبرتسون " بعد أن كان قد أطلقها قبله بما يزيد على القرنين " جون كوتون " الأب الروحي للبيوريتانية التطهرية كما يحب أن ينعتها روادها من المهاجرين البروتستانت الأوائل الذين تركوا الجزر البريطانية إلى قارة المجاهل أمريكا ـ كنعان الجديدة.

من المعروف أن غالبية الشعب الأمريكي من البروتستانت، وهؤلاء ولا سيما الإنجيليون ومن يسمون بأتباع مذهب العصمة يؤمنون بما في التوراة من نبوءات، وفي كتابها " النبوءة والسياسة " تشير غريس هالسل إلى الاتفاقية التي عقدها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مع الدولة اليهودية،وهي الاتفاقية التي تؤكد حرص الولايات المتحدة على مساعدة إسرائيل في تحقيق رغبتها بضم مدينة القدس وتهويدها، وبهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل اليهودي في مكانه، وهذا الإيمان البروتستانتي، هو نفسه الذي كان قد دفع اللورد بلفور رئيس وزراء بريطانيا سابقاً إلى إصدار وعده الشهير عام1917 ، يقول حاييم وايزمان في كتابه " الخلفية التوراتية ":

أتظنون أن لورد بلفور كان يحابينا عندما منحنا الوعد بإنشاء وطن قومي لنا في فلسطين؟ كلا، إن الرجل كان يستجيب لعاطفة دينية يتجاوب بها مع تعاليم العهد القديم (9) .

بيد أن ما سبق وسواه الكثير مما لم يرد، لا يضع حداً للسؤال الذي يظل يراود الأذهان حول المخفي والمعلن، والقرآن الكريم من جهته يدعونا للتدبر في قول الله سبحانه وتعالى:

( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (10) وقوله أيضاً ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذن لمن الظالمين) (11) .

وهكذا فإن ما يراه البعض تماهياً، إن هو إلا نوع من التحايل يقوم به الواحد منهما ضد الآخر، بهدف الاستعداد للانقضاض عليه، فاليهود يريدون من الغرب المسيحي العون والمساعدة وهذا يريد من اليهود أن يكونوا القرابين إلى أهدافه من خلال ما ستفرضه الحروب بينهم وبين العرب والمسلمين .

على سبيل المثال، فإن أكثر صفات بنيامين دزرائيلي بروزاً، مثلما يقول هاني الراهب، هي يهوديته، ومع أنه عمد كمسيحي في العام الذي كان ينبغي له أن يعمد فيه كيهودي، إلا أن معموديته ظلت عاجزة عن التقليل من مشاعره اليهودية، سواء في المدرسة أو في المجتمع ذاته، فقد بقي أجنبياً (12) ، وإذا كانت عودته إلى إنجلترا ـ كان قد غادرها مضطراً ـ تشير إلى تفضيله لندن على القدس، إلا أنه لن يقبل أن تكون لندن بابل جديدة، وسوف يحارب بجماع طبيعته المتدفقة لكي يجعلها وطناً لدزرائيلي اليهودي) (13) .

وروايته " آلروي " المشار إليها آنفاً، تصلح مثالاً نموذجياً لاكتشاف حالة التربص التي يشير إليها القرآن الكريم، لكننا لا نريد الخوض في تفريعات هذا الموضوع، ولكن: هل كان آلروي الوزير ـ الذي أرهص باتفاقية سايكس ـ بيكو، قبل ستة عقود من تاريخها، هو نفسه الذي كان يرسم بريشته صورة الأفعى الرمزية التي ستطوف العالم في البروتوكولات وهي تحرك رأسها إلى أورشليم، ولو على حساب العالم الغربي المسيحي الذي نشأت الصهيونية في أحضانه.

( العالم ملكي. فهل أترك الجائزة؟ الجائزة العالمية والبطولية لأنجز تقليداً بليداً لقسيس حالم، ولأطوب خرافة؟ هل يغور هذا الوهج السريع للإمبراطورية في غسق شاحب فوق أرض تافهة؟ أيكون رب الجنود رباً صغيراً إلى حد أن نضع حاجزاً أمام سلطانه، ونرسم حدود القدرة الإلهية بين الأردن ولبنان؟ بغداد ستكون صهيوني) (14) .

ليس من التطرف القول أن كلاً من الحركة الصهيونية والبيوريتانية التطهرية، كانتا بحاجة إلى هوية: إحداهما يهودية تبني دولة في فلسطين، والثانية مسيحية تبني دولة في  قارة أمريكا الشمالية، الأولى ستسمى " دولة إسرائيل " والثانية سوف يصبح اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، والاثنتان كانتا بحاجة إلى سرديات قومية ودينية، إذا كان لهذا المصطلح معنى واقعي في حياتهما، وفي حين عملت الأولى بأقصى طاقاتها من أجل إعادة الاعتبار للتوراة، الأساس الفكري والعملي لكل ما ستقوم به لاحقاً، فإن الثانية تماهت هي الأخرى في التوراة، لترسم بريشتها خارطة الدولة التي تحلم بها، فالاثنتان التقتا على هذا الأساس، وفوق قاعدة من الدين، تؤمن لهما الامتيازات، التي ستحاولان تكريسها، باعتبارها من الأوامر الإلهية.

فاليهود على أساس هذه القاعدة يربطون الأرض المقدسة بالشعب المقدس، كما أنهم يسمون الأرض الموعودة بـ " أرض الربّ " (15) ، وقد سميت أيضاً في " سفر زكريا " بالأرض المختارة التي اختارها الرب المزعوم يهوه لشعبه المختار، وضمن مسلسل الزعم، فقد اختار لنفسه " أورشليم " ومن هنا سميت " مدينة الرب "، وأما بالنسبة للهيكل، فإن اليهود ظلوا عبر تاريخهم يتجهون إليه في صلواتهم، يدفعهم الشوق للوصول إلى الحالة التي تمكنهم من إعادة بنائه، ويقابل ذلك اعتقاد النصارى بأن المسيح سينزل في القدس، وأنه سوف يمارس دعوته من الهيكل، ولهذا فإنهم يؤمنون بأهمية المشاركة الفعالة في بنائه، وصولاً إلى تعانق الديانتين: اليهودية والنصرانية، أو بالأحرى اندماجهما معاً (16)، وإن كنا لا نتفق مع هذا الرأي تماماً.

صحيح أن غريس هالسل تتحدث في فصلين من كتابها " النبوءة والسياسة " عن المؤامرة التي يمارسها المسيحيون الجدد ضد المسجد الأقصى مثلاً، لكن هذا الإقرار لن يدفعنا إلى الإذعان لطروحات الاندماج التي تشترط التقليب والنظر إليها من زاوية أخرى، وهي الزاوية التي تتحدد بفهمنا للنص القرآني، الذي ينفي إمكانية التقارب بالمعنى الاندماجي بين الديانتين.

وبعيداً عن التفاصيل العديدة، لعل رواية دزرائيلي الأخرى " تانكريد" تساهم في بلورة فهم واضح، لما نؤمن به من صحة ما يذهب إليه النص القرآني، ذلك أن طلب تانكريد ليد إيفا هو طلب للزواج بين اليهودية والمسيحية، وهو زواج في اعتقاد دزرائيلي السياسي، مبني على أساس أن الديانتين، ديانة واحدة، باعتبارهما نابعتين من عرق واحد، وأن الثانية تكمل الأولى ) (17)، ولكن مما يجب أن نعرفه قبل الاستسلام لظاهر النص، أن إيفا التي ترفض الانخراط في المسيحية عندما يطلب تانكريد منها ذلك، تقول: عن أي كنيسة تتكلم يا تانكريد؟ فهناك كنائس متعددة في القدس، وما هو أكثر من ذلك، فقد أنقذ البشرية أمير يهودي هو المسيح.

ما سبق يوضح لنا ما نقصده من معنى عدم الاندماج وحالة التربص.

عاموس عوز الروائي الصهيوني المعروف / يمنحنا فرصة أوسع لاكتشاف الحقيقة، وذلك من خلال روايته الشهيرة " الحروب الصليبية " (18) ، إذ على رغم أن الأحداث لا تدور في القدس، ولا حتى في فلسطين إلا أن الكاتب لم يستطع أن يخفي طمعه بالقدس، وهو هنا يدخل في منافسة مع الصليبيين قاسية إلى أبعد الحدود، إن الغالبية العظمى من القراء لا يجهلون أن تلك الحروب كانت ضد المسلمين لكن عوز بوقاحة مفرطة، يحاول إقناع القارىء، أو إيهامه بصورة مباشرة تماماً، بأنها كانت ضد اليهود، وإن أياً مهما كان لا يمكنه أن يزعم بأن تلك الحروب كانت بين الصليب واليهود، في أي من حملاتها العديدة على فلسطين والمشرق العربي، ومما يكتسب أهمية في هذا المجال، التذكير بما تعنيه مفردة الصليبية في الموسوعة البريطانية، فهي تستخدم للإشارة إلى الحملات العسكرية التي نظمها المسيحيون الغربيون ضد القوى المسلمة، بغية السيطرة على المدينة المقدسة: القدس.

إن عاموس عوز في حروبه الصليبية، كشف ربما دون أن يخطط لذلك، عن التنافس المسيحي اليهودي، بل إنه كان على استعداد لإعلان الحرب من أجل القدس لاحقاً، يقول على لسان الكونت ـ قائد الحملة:

( كل من يسير نحو الضوء فهو يسير نحو المدينة المقدسة).

ثم يقول في وصفه:

وبقدر ما قدر لهذه الروح المرهفة أن تحب، كان يحب القدس، كان يعتقد أنه في القدس يولد الإنسان ثم يولد مرة أخرى طاهراً) .

في الوقت نفسه يقول عن الزمار اليهودي الذي كان ضمن الحملة إلى القدس: ( وقد أطلق على نفسه المستحق الموت، ورغب في أن يقتل في الطريق إلى القدس، بيد أن عاموس عوز الذي يتظاهر بأنه يساري يدافع عن حقوق الفلسطينيين، لم يستطع أن يخفي انحيازه لأبناء جلدته اليهود، وسرعان ما ينفي عن المسيحيين تعلقهم بالقدس ( وبهذا توقفت القدس عن أن تصبح كمقصد للحملة، أو كمسرح لأعمال مجيدة، حدث تغير)، ونفي هذه الرغبة، ثم استبدالها بالرغبة اليهودية، هو هدف عوز الأساسي، عندما يقارن بين حيويتين: إحداهما المسيحية الناضبة كما يقول والثانية اليهودية القوية والنشطة إنه الاستبدال في الدور والمهمة حيث يقول عن الأولى:

( رجل واحد من بينهم أخذ يتبين من خلال الكشف التدريجي للإضاءة الداخلية، بأن القدس التي ينشدونها ليست مدينة، بل الأمل الأخير لحيوية ناضبة): 

ويقول عن الثانية على لسان الكونت:

( هؤلاء اليهود ينهشوننا متلصصين، مثلما ينهش الماء الحديد، إنها اللمسة المهدهدة التي تذيبنا دون أن نلحظ حتى السيف ـ سيفنا ـ يخترق أجسادهم وكأنه يخترق ماء عكراً، ماء ينخره ويذيبه ببطء) و ( حتى الأرض ذاتها، تبدو مطواعة تحت أقدامهم، كما ينبعث منهم ليغطي كل شيء، صمغ دبق شفاف، يستطيعون أن يثيروا في قلوب المسيحيين الحنو أو الثقة، الرعب أو الانبساط، حسبما يعن لهم، هم الزمارون ونحن المزمار في أيديهم) و ( باختصار فإن هؤلاء اليهود قد خلقوا دولة خفية تحت أقدام الصليب، موسعة سلطان القوى المعادية في أرض المسيحيين، إن اليهود مثل عصابة من المغنين يتجولون بصخب في غابة بدائية).

لقد حدث كل ذلك بسبب القدس، وحرصاً منه ربما لسبب قادم سيقف فيه الغرب الصليبي إلى جانب اليهود، فإن عاموس عوز قبل أن يصدر حكمه على الكونت بالانتحار، فإنه يضعه أمام نفسه لمراجعتها ( أغمض الكونت عينيه، ونظر نظرة عمياء إلى الزمار اليهودي، حدثه قلبه أن هذا المكان غريب، وأنه حتى القدس ليست هدف رحلته على الإطلاق، ولا وجود لمدينة الله).

لم يكن عبثاً إذن أن يحكم عوز على الكونت بالانتحار، وعلى الحملة بالتراجع، ذلك لأن أطماعه في القدس، تفوق أطماع النبيل جولوم، ولعل حديثه عن اللحن اليهودي الخاص، وعن القدس اليهودية التي يطمع بها، يوضح لنا كل ما سبقت الإشارة إليه، من أن التناغم بين الديانتين، ليس هو نهاية المطاف، وأن أتباعهما يتربص بعضهم بالبعض الآخر.

لكن يبقى من المهم في نهاية هذه المقاربة، أن نفهم طبيعة الدين الذي يتظاهر اليهود بالانسياق وراءه، والإذعان لأوامره، إنه بشكل أو بآخر، ذلك الدين الذي جاء بيهوه كرب مزعوم، ليوظفه في شركة عقارية، مهمتها سرقة الأرض من أصحابها الشرعيين، أو لينصبه قائداً عسكرياً يقود المجاميع اليهودية لارتكاب المجازر، أما دعوى الرسالة التوحيدية،فإنها محض افتراء، فالتوراة التي أمامنا، ليست نفسها توراة موسى (عليه السلام)، وإنما هي نفسها التي كتبها الحاخامات، الذين مارسوا أكبر عملية تزوير في التاريخ البشري

( فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) (19).

صحيح إن هذا الدين هو إحدى مرجعيات الصراع وأنه قد يكون المرجعية الأهم من المنظورين: اليهودي والمسيحي، إلا أن الفهم الدقيق للنص القرآني الذي يتعامل مع اليهود، يخفف الشعور بغياب الوسيلة عند المسلمين في صراعهم مع الآخر الديني الذي يتمترس وراء أطروحات كشف القرآن الكريم زيفها، لقد وضح لنا القرآن مثلاً أن علاقة اليهود بفلسطين ظل يشوبها الخوف تارة، والضعف تارة أخرى، فأما الخوف فإنه الذي نكتشفه من قصة خروج بني إسرائيل من مصر مع موسى:

( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) (20).

ومما نلاحظه، أنه على الرغم من وجود النبي بينهم، ووعوده لهم، وهي وعود إلهية بالتأكيد، تشترط لإيفائها الوفاء بالعهد مع الله ، إلا أن فلسطين ـ الحلم بدت لهم أرضاً صعبة المنال، وأما الضعف، فإنما بسبب الإحساس بأن الأنبياء يقودونهم إلى أرض ليست لهم، وإنما لأقوام أخرى، إذ لو كان يراودهم أدنى إحساس بأنها لهم، فإنهم بالتأكيد سيدخلونها حتى لو لم يكن النبي بينهم، وإن إحساساً كهذا ما كان يمكن أن يراودهم لو كانوا يؤمنون برسالة موسى (عليه السلام)، وهم بما فعلوه آنذاك، وما سوف يفعلونه في القادم من الأيام، يؤكدون ابتعادهم عن الأمر الإلهي، وسرعة تراجعهم عن العهد بقولهم لموسى:

 (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (21).

أي أن ضعف العلاقة بالأرض، وانعدامه على المستوى الشعوري، ليس ناتجاً حتمياً للخوف من العمالقة، كما يصفون أهل فلسطين وإنما لانعدام الإيمان بالله ، وفقدان تلك العلاقة القوية التي تربطهم بالأنبياء الذين أسهبت التوراة المنحولة في التشنيع بهم.

وكمحصلة أخيرة فإن دعوى الدين ستظل دعوى باطلة، وإنها مجرد سور للتخفي وراءه، لكن من المهم أخيراً أن يسأل الواحد منا نفسه كمسلم:

ماذا عن عهدي مع الله؟

ذلك أن اليهود بتخليهم عن العهد، تحولوا إلى قردة وخنازير، ولن يستطيع يهوه، الإله القبلي المفتعل، أن يحقق لليهود المعاصرين، ومن يواليهم من المسيحيين الغربيين، ما عجز عن تحقيقه للأجداد الأوائل، الذين كفروا برب موسى وهارون الذي هو رب العالمين.

 

                     

الهوامش:

(1) روجيه غارودي / الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية / ترجمة حياة الحويك عطية/

الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب: عمان 1997

(2) ريجينا الشريف / الصهيونية غير اليهودية ـ جذورها في التاريخ الغربي / ترجمة أحمد عبد الله عبد العزيز / سلسلة عالم المعرفة        (96) الكويت 1985 ص 97

(3) يلاحظ تأثر نابليون بطريقة التعبير الواردة في سفر إشعيا

(4) عن / الشريف م المرجع نفسه، ص 77

(5) عن / رضا هلال / الدين والسياسة في أمريكا / مجلة العصور الجديدة / القاهرة 2 / 1999

(6) يهودي أمريكي الجنسية له العديد من الروايات

(7) د. رفيق حبيب / المسيحية والحرب / يافا للدراسات والأبحاث 1999، ص 27

(8) عملت هالسل خلال عهد ريغان في البيت الأبيض.

(9) د. معروف الدواليبي / أمريكا وإسرائيل / الدار الشامية ـ بيروت 1990 ، ص 101

(10) سورة البقرة / 12

(11) سورة البقرة / 145

(12) هاني الراهب / الشخصية الصهيونية في الأدب الإنكليزي / مركز الأبحاث ـ بيروت 1974 ، ص 35

(13) الراهب / نفسه، ص 37

(14) الراهب / نفسه ص 42 ـ 43

(15) جاء هذا في سفر يشوع 9 / 3

(16) عبد العزيز مصطفى كامل / حمى سنة 2000 / كتاب المنتدى، اليمن، ص 85

(17) الراهب / نفسه، ص 52

(18) عاموس عوز / الحروب الصليبية ( رواية ) / ترجمة غالب هلسا / مجلة الأقلام (بغداد) 9 / 1979

(19) سورة البقرة / 59

(20) سورة المائدة / 20 ـ 22

(21) سورة المائدة 24